«نتائج الإرهاب»: سلاحٌ ذو حدّين يقتل ضحاياه والجلّادين

إبراهيم العريس

 

 

... وفي العام الخامس للثورة الفرنسية، في وقت كان فيه إرهاب الثـــوريين بدأ يصــــل إلى ذروته، مهـــدّداً بأن يذرو معه في عاصفته الهـــوجاء، كلّ مكتسبات تلك الثورة وأفكارها التحرّريّة، تحت وطأة الصّراعات التي ستكون هي لاحقاً في خلفيّة القول الذي ساد حول «الثورات التي تأكل أبناءها قبل أن تأكل أعداءها»، أصدر المفكّر والـــكاتب بنجامين كونستان كتابه الذي من المؤسف أنّه بات منسيّاً إلى حـــدٍّ ما في أيّامنا هذه: «آثار الإرهاب»، مع أنّ ثمّة ألف دليلٍ ودليلٍ على أنّنا نحتاج قـــراءته اليوم أكثر ممّا احتجناها في أيّ وقت آخر؛ ومن هنا قد يكون من المفيد المسارعة بترجمته إلى العربية وتوزيعه على أوسع نطاق ممكن، ولا سيّما في أوساط الثوريين قبل أيّة أوســاط أخرى، مع أنّ هذه حكاية قد لا تهمّ كثيراً هنا في سياقنا التاريخيّ الفكريّ هذا! -... بل إنّ سِيَراً عدّة تُكتب لكونستان، تتجاهل هذا الكتاب، مركّزةً على إنتاجاته الأدبيّة والتاريخيّة. ومع هذا، فإنّ قراءتنا لـ «نتائج الإرهاب» ستضعنا في مواجهة كاتب جريء وحكيم، أدرك منذ البداية أنّ الإرهاب لا يوصل إلى أيّ مكان... بل إنّه يقــضي أوّل ما يقضي، على أصحابه.

 

وإذا كان هذا الكلام صادقاً من زمن كونستان، فلا شكّ في أنّه في أيّامنا هذه سيبدو صادقاً ألف مرّة، إذ حيثما قلّبنا أنظارنا سنجد ضروب إرهابٍ ترتدّ في نهاية الأمر على الإرهابيين أنفسهم مسبّبةً لهم خسران قضاياهم، ومعزّزةً من موقع أعدائهم الذين كان يفترض بهم أصلاً أن يكونوا هم ضحايا هذا الإرهاب ودافعي ثمنه.

هنا طبعاً نكتفي بهذا القدر من المقارنة بين زمنين، لنعود أكثر من مئتي عام الى الوراء، أي إلى الزّمن الذي كتب فيه كونستان نصّه هذا، وكان في ذلك الحين يُعتبر من كبار مفكّري الثورة الفرنسية. لكنّ الرّجل، بسبب موقعه في التحرّك الثوريّ، والمناخ السياسيّ الذي ساد من بعده، أدرك أنّ ما يحدث ليس في مصلحة الثورة، ولا في مصلحة الجمهورية، فكتب ذلك في نصّه هذا، ولكن أيضاً في بضعة نصوص أخرى.

والحال أنّ الذين لم يقرأوا هذه النّصوص لا يمكنهم أبداً أن يفهموا ما يسمّونه «تقلّبات» كونستان اللاحقة. إذ إنّه بعدما كان مناصراً للجيرونديين - الذين كان يراهم معتدلين إلى حدٍّ ما، مدافعين عن قيم الجمهورية -، وقف فترة إلى جانب نابوليون، ثمّ عاداه تماماً، ليعود ويضع نفسه في خدمته، كاتباً وخطيباً مفوّهاً، قبل أن يتركه من جديد، ليُصبح لاحقاً زعيماً للحزب الليبراليّ أيّام عودة الملكيّة. لكلّ هذه التبدلات قد تبدو، في المطلق، نوعاً من انتهازية مثقّف رغب - على شاكلة أفلاطون وابن خلدون بين آخرين - في أن يؤدّي دوراً سياسيّاً فلم يوفّق... لكن هذا ليس إلّا في الصورة الخارجيّة، أمّا في الأعماق، فإنّ كونستان، ومنذ «نتائج الإرهاب»، أي منذ العام 1797م، حدّد مواقفه واستشفّ ما سيأتي لاحقاً منها: إنّه مع السياسة والتقدّم، ضد الإرهاب والدّماء، انطلاقاً من أنّ الإرهاب لا يخدم قضيّة، ومن أنّ مبادئ الثورة الفرنسيّة الفكريّة، في الأصل، تتناقض مع جوهر الإرهاب.

وهنا قد يكون مفيداً أن نُشير إلى أنّ بنجامين كونستان قد وضع كتابه هذا، بتأثير واضح من عشيقته - بين 1794 و1808 - الكاتبة مدام دي ستاييل، التي كانت ليبراليّة النزعة. بل يُقال إنّ مدام دي ستاييل تدخلت في الكثير من نصوص الكتاب، كما أنّها كانت لاحقاً في جذور كتابة كونستان لنصّ الخطاب الذي ألقاه بعد ذلك بشهور، خلال زراعة شجرة الحريّة، حيث أعلن في شكلٍ لا غموض فيه وقوفه إلى جانب مبادئ الثورة والجمهوريّة، ولكن بالترابط التامّ مع المبادئ الثقافيّة والفكريّة، لأنّها «القوّة الحقيقيّة التي يمكن أن تقف خلف كلّ تكوينٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ لأيّ بلد».

والحقيقة أنّ كونستان كان في هذا كلّه قد حدّد بعض المواقف الواضحة التي تضعه على طرف النّقيض مع زملاء له ثوريين، من طينة دانتون، أو سان جوست، أو روبسبيير، من الذين في شكلٍ أو في آخر، وعلى رغم الخلافات التي اندلعت في ما بينهم آمنوا بالإرهاب - لا بالفكر أو بالسياسة - طريقاً لانتصار الثورة. وهنا علينا أن نُشير إلى أنّ الفنّان والأديب في داخل كونستان كان هو الذي يُملي عليه مواقفه المبدئيّة... كما كان هو ما دفع مدام دي ستاييل ناحيته.

في ««نتائج الإرهاب» يأتي بنجامين كونستان كمفكّر ثوريّ ليبراليّ حقيقيّ وذي نزعة إنسانيّة لا لبس فيها، لكي يؤكّد منذ البداية إيمانه المطلق بالقيم والأفكار التي انبنت عليها الثورة الفرنسيّة، ثمّ نراه، وانطلاقاً من إيمانه بـ «الميثاق التأسيسيّ القانونيّ» يؤكّد أن الثورة خرجت، على رغم كلّ شيء، من دون كبير خسارة من عصر الرّعب والإرهاب الذي سيطر على سنواتها الأولى. وهو ينتهز فرصة هذا التأكيد ليقول إنّ عصر الإرهاب ذاك لم يفعل إلّا زرع القسوة في الأنفس، مراكماً الضّحايا والأخطاء والخطايا... وإذ يتوسّع كونستان في الحديث عن هذا الأمر يستدرك ليقول: «... لكنّ الثوريين الحقيقيين، وأعني بهم الجمهوريين الحقيقيين عرفوا كيف يُحافظون على احترامهم للقوانين وكراهيّتهم للعنف والإرهاب». فالإرهاب، في رأي بنجامين كونستان، لم يخدم، في نهاية الأمر، إلا أصدقاء الفوضى، اما تذكر الإرهاب بالخير اليوم، فإنّه لا يقدّم خدماته إلا لمناصري الطغيان والاستبداد... فكيف يمكن مواجهة هذا؟ بالنسبة إلى كونستان يمكن مواجهته «بفعل سدّ الدروب في وجه الثورة المضادة، لكي يمكن إنقاذ المبادئ الجيّدة، عبر جعلها ممكنة التّحقيق من النّاحية التاريخيّة، في شكلٍ يخدم تقدّم الشّعوب وكرامة المواطنين».

إنّ امتداح بنجامين كونستان لـ«الثوريين الحقيقيين» (أي للجيرونديين المتمسّكين بالمثل العليا الدستوريّة والجمهوريّة الصّلبة)، وإحالة كونستان في كلامه إلى «مؤلف فصيح ومشهور» (هو مدام دي ستاييل التي يعيد إلى الأذهان هنا كتابها «حول تأثير الأهواء»)، وأخيراً أسلوب كاتبنا هذا، وهو ذو الأصل السويسريّ، في الدّفاع عن نفسه ضدّ الذين يتّهمونه بأنّه أجنبي؛ كلّ هذا، يشكّل جوهراً أساسيّاً في هذا الكتاب، كما أنّه يُحيل بالطبع إلى خطاب «شجرة الحريّة» الذي ذكرناه أعلاه، والذي لا يفصله مؤرّخو الفكر عن «آثار الإرهاب».

وبنجامين كونستان (1767 - 1830) المعتبر من مفكّري الثورة الفرنسيّة وسياسييها الكبار، هو سويسريّ الأصل. ولد في لوزان... ودرس في ألمانيا كما درس في اسكوتلندا، قبل أن يعيش حياة تجوال ونضال طويلة لم يسترح منها إلّا حين احتضنته مدام دي ستاييل في باريس، خلال الفترة نفسها تقريباً التي ارتبط فيها بزيجتين فشلتا - وتحدّث عن تجربته معهما في روايتيه «سيسيل» و«أدولف» -. ومنذ بداياته كان كونستان تواقاً إلى القيام بدور سياسيٍّ كما أسلفنا، فكتب كثيراً وخاض التّجارب الحزبيّة، بل كانت له أيضاً مؤلّفات في الدّين والفلسفة (ولعلّ أشهر كتبه هو الذي يجمع هذين المجالين معاً «الدين منظوراً إليه في منبعه وأشكاله وتطوّراته»)، وكتب يوميّات غنيّة تؤرّخ للمرحلة والتقلّبات التي عاشها. ولقد اشتهر كونستان أيضاً، وخصوصاً بكونه كاتباً روائيّاً وبمراسلاته... وكان موريس باريس يرى دائماً أنّ كونستان، في كلّ ما كتبه إنّما كان يُعبّر عن روحه «الرهيفة والبائسة التي كان ينفق وقته كلّه وهو يرصد تقلّباتها في سخريّة ما بعدها سخريّة».

المصدر: الحياة.

الأكثر مشاركة في الفيس بوك