الإسلام والحضارة الإنسانيَّة.. مفاهيم غائبة الإسلام والحضارة الإنسانيَّة..

أحمد التلاوي
تأتي قضيَّة التفاعل بين الإنسان والآخر على رأس قائمة الأولويَّات التي حدَّدتها قوانين العمران البشريّ التي استنّها الخالق عزَّ وجلّ فينا، وتعدُّ أهمّ الأهداف التي لأجلها خلق الخالق عزَّ وجلَّ الإنسان على هذه الصورة لأجلها، من كون النَّاس قد تفرَّقوا شعوبًا وأممًا وقبائل، وفي أيّ شكل من أشكال العمران الإنساني أو الجماعات البشريَّة.

ويقول اللهُ تعالى في كتابه العزيز في سُورة "الحُجُرات": {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}، وهنا يحدّد الخالق عزَّ وجلَّ الهدف من تفرّق الإنسان في الأرض إلى قوميات وألسُن متفرّقة، وهو التَّعارف والتفاعل البناء.

وعندما نتكلَّم عن قضيَّة الحضارة؛ فإنَّنا أولاً يجب علينا التأكيد على حقيقتَيْن؛ مفادهما أنَّه وباعتراف الكثير من الأمم والحضارات الإنسانيَّة، فإنَّ الحضارة الإسلاميَّة تتوالد حياتها وحيويّتها من داخلها، ومن إيمان أصحابها بها، وهي لا تخصّ إنسانًا دونَ آخر، ولا جماعة دون أخرى؛ وإنَّما هي حضارة إسلاميَّة شاملة، تنطلق من رؤيَّة إستراتيجية للعالم، كما إنها هي حضارة القرآن الكريم الذي قال فيه اللهُ عزَّ وجلَّ إنَّه قد كرَّم بني آدم على سائر المخلوقات.

الحقيقة الثانيَّة أنَّ الإسلام كدين وحضارة؛ إنَّما هو بالأساس دعوةٌ لإنصاف المظلوم وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه من غير تمييز بين هذا أو ذاك، باعتبار أنَّ من يعيش بين ظهرانيي الإسلام؛ يصبح له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

ولا تعدُّ مشكلة الانهيار الأخلاقيّ والقيميّ حكرًا أو وقفًا على العرب والمسلمين في الوقت الرَّاهن؛ وإنّما هي مشكلة موجودةٌ وقائمةٌ على مستوى عموم العمران البشريّ والجماعة الإنسانيَّة في الوقت الرَّاهن، وتتمظهر في أكثر من صورةٍ، مِن بينها نهب ثروات الشعوب وزيادة معدّلات الفقر في العالم وانتشار مرض الإيدز والمخدرات والانحرافات الأخلاقيَّة المختلفة، بالرّغم من أنَّ القرن الحادي والعشرين قد صاحبته الكثير من الآمال الطوال من جانب شعوب العالم في أن يكون العالم أكثر عدالة ورفاهيَّة.

إلاَّ أنَّ مظاهرَ الفقر والجوع والمرض الموجودة حاليًا في العالم، تشير إلى حالة الافتئات والظلم الموجودة في العالم في الوقت الرَّاهن، والتي سببها الرَّئيسي قوى الاستكبار والاستعمار العالمي، وعلى رأسها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، والتي ما فتئت تستولي على ثروات الشعوب ومقدراتها.

مقوّمات الحضارة

ترتبط الحضارة بعددٍ من المصطلحات؛ مثل الثقافة والمدنيَّة، وهي كلّها ذات ارتباطٍ ببعضها البعض، وخصوصًا مصطلحَيْ الحضارة والمدنيَّة؛ حيث كلا المصطلحين له جذر واحد في اللغة اللاتينيَّة، فالحضارة تعني "Civilization"، بينما المدنيَّة تعني "Civil"، أي لو نظرنا إلى طبيعة قواعد الاشتقاق في اللغة اللاتينيَّة؛ فإننا سوف نجد أنّ الحضارة هي الجانب الحركيّ أو التفاعليّ لمفهوم المدنيَّة.

كما إنَّ هناك الكثيرَ من الرَّوابط التي تجمع ما بين هذَيْن المفهومَيْن وبين مفهوم الثقافة "Culture"؛ فالثقافة هي الكل المُركَّب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات، وعلى ذلك فهي شديدة الارتباط والتداخل مع مصطلح الحضارة ذاته وأحد أهمّ مكوّناته؛ حيث إنّها طبقًا لهذا الكلام، هي فعل تراكميّ يرتبط بالتاريخ وله جانبٌ معرفي، وإن كانت قضيَّة المعرفة هنا أكثر التصاقًا بالثقافة عن قضيَّة الحضارة.. كلاهما- أي الثقافة والمعرفة- مكونان أصيلان من مكوّنات الحضارة الإنسانيَّة أيًّا كان مصدرها.

وهناك مجموعةٌ من العوامل الأساسيَّة التي ما إن توافرت؛ فإنَّه يُمكن أنْ يتمَّ إطلاق مصطلح "حضارة" على مجموعة من البشر، وهي بمعنى آخر مقوّمات الحضارة الإنسانيَّة، وهي: الدين والثقافة واللغة المشتركتان، وكذلك التواصل الجغرافي والتاريخ الذي صنعته هذه الحضارة الواحدة، بالإضافة إلى النظام السياسي السائد والأصول العرقيَّة المشتركة.

ومن وجهة نظر إسلاميَّة؛ فإنَّ هناك مجموعة الحقائق أو الثوابت الكونيَّة التي تقوم على أساسها الحضارات الإنسانيَّة، وعلى رأسها أن الله سبحانه وتعالى هو خالق هذا الكون ومدبّر أمره بلا شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد، وأنَّه خلقه بطريقة تثبت وحدانيته؛ حيث لكل شيء مثيل وشبيه؛ إلا الله سبحانه وتعالى.

وترتبط بهذه الحقيقة مجموعة أخرى من الحقائق من بينها أنّ الخالق الأعظم هو الأدرى بخلقه، وهو الأقدر على معالجة أوجه الخلل، التي تعتري الكون الذي خلقه، وهو يردّ بذلك على بعض النظريّات التي تظهر من آنٍ لآخر، والتي تحاول التشكيك في هذه الحقيقة الكونيَّة التي لا شكَّ فيها؛ مثل نظريَّة النشوء والارتقاء، والتي تحاول تفسير خلق الكون والإنسان بصورةٍ لا تردّها إلى هذه الحقيقة.

وعندما يحاول الإنسان السَّيرَ في الآفاق ومراقبة الكون من حوله يجد فيه الكثير من السِّمات، من بينها اختلاف التركيب العضويّ بين مكوّناته، ولكن بشكل يحقّق التَّواصل والتوازن فيما بينها، وكذلك التكامل والتكافل فيما بين المكونات المختلفة لهذا الكون.. يقول تعالى: {مِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)} [سُورة الرُّوم]، ويقول أيضا جل وعلا: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [سُورة فُصِّلَتْ].

مشكلات الحضارة الإنسانيَّة

أصل المشكلات والأمراض المختلفة التي يُعاني منها الإنسان هو تجاوزه لبعض هذه الحقائق، ومن بينها حقيقة التكامل والتكافل؛ حيث يبدو ذلك في مظاهر عدة مثل الفقر وسوء توزيع الثروة، حتى في البلدان التي تصنَّف على أنها دولاً غنيَّة، مثل الولايات المتحدة؛ حيث توجد ظواهر مثل عمالة الأطفال وأطفال الشَّوارع، كما إنَّ هناك نسبةً كبيرةً من الفقر داخل الولايات المتحدة برغم كلِّ مظاهر الترف القائمة هناك.

كذلك تخالف الأوضاع القائمة الآن في العالم الكثير من النَّواميس التي وضعها الله سبحانه وتعالى لخلق الكون، مثل الاستقلاليَّة والتعاون، ولذلك هو ينتقد ظواهر مثل الاستعمار والحروب والقطبيَّة والحزبيَّة؛ حيث تخالف في ذاتيتها وفي مجملها العام هذه النواميس التي خلقها اللهُ تعالى لتسيير الكون.

ولعلَّ السِّمة الأهم التي يجب على جميع الأمم والحضارات الالتزام بها في هذا الإطار، هي سمة العدل أو صفة العدل؛ حيث إنَّ غيابَ العدل عن التعامل فيما بني الإنسان يقود إلى الحروب والدمار وسعي الحضارات الأكبر والأقوى إلى غزو واستغلال الأمم الأخرى والحضارات الأضعف.

المصدر: البصائر.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك