"خوف أوروبا من الدّين": مخاوف دينيّة وهواجس علمانيّة

لويس غروب

 

يحاول عالم الاجتماع الدينيّ المعروف، خوسيه كازانوفا، تفنيد فرضية أن العلمانية تعدّ شرطاً لقيام مجتمع منفتح ومتسامح، لذلك يطالب الباحث الإسبانيّ في كتابه "خوف أوروبا من الدّين" بعدم وجوب الفصل القاطع بين الدين والسياسة.

فهو يُشدّد في كتابه "خوف أوروبا من الدين" على أنّ العلمانية ليست شرطاً أساسياً لقيام مجتمع منفتح ومتسامح. "خوف أوروبا من الدين"، تحت هذا العنوان وجد خوسيه كازانوفا صيغة استفزازية مفيدة لأطروحاته. ويعيش العالم الإسباني المتخصص في علم الاجتماع الديني في الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة، ومن خلال عمله في مجال التدريس عرف عن كثب أنّ الدين يمكن أن يقوم بدور محوري بصورة مستدامة في المجتمع المتحضر أيضاً. لكن هذا الرأي يمثل النقيض تماماً لما يحدث في أوروبا، حيث ترى غالبية السكان هناك أنّ الدين "غير متسامح"، كما يؤكد كازانوفا منبهاً في دراساته المختلفة.

وفي الحقيقة يجب أن يوصف إثبات هذه الأطروحات غير ذي فائدة، فما من أحد ينكر اليوم بجديّة أنّ التأثير السياسي والاجتماعي للكنيسة في أوروبا تراجع كثيراً في العقود المنصرمة. لكن هذا التغيّر له خلفياته المعقدة والطويلة. ويعرف خوسيه كازانوفا تلخيص هذه الخلفيّات في صيغة قصيرة مقتضبة بشكل ساخر.

"كان هناك في أوروبا في العصور الوسطى- كما هو الحال في مجتمعات ما قبل الحداثة، دمج بين الدين والسياسة. لكن بسبب ظروف التنوّع الدينيّ والمذهبيّة المتطرّفة والصراع الذي نتج عن الإصلاحات البروتستانتية قاد هذا الدمج إلى حروب دينيّة دمويّة وبشعة، استمرت طويلاً وأحالت أوروبا رماداً وخراباً. فكانت علمنة الدولة الإجابة الناجحة لهذه التجربة الكارثية، التي يبدو أنها تركت بصماتها بشكل نهائي على الذاكرة الجماعية للمجتمعات الأوروبية."

التجربة العلمانية

"الحروب الدينية لم تمهد إلى عمليّة العلمنة، بل أدت إلى أقلمة الطائفيّة، إضافة إلى نشوء الدولة الإقطاعية الاستبدادية الحديثة"

ويعرف المرء من هذه اللهجة الساخرة أنّ عالم اجتماع الدين لا يتفق مع هذه القراءة للتاريخ. بل على عكس ذلك يهتم كازانوفا بتفنيد هذا النموذج الفكريّ، الذي تصبح العلمانيّة بموجبه شرطاً لقيام مجتمعات منفتحة ومتسامحة، يقود بصورة تلقائية إلى الديمقراطية.

ومن خلال ذلك يمكن لكازانوفا التوصّل إلى صيغة لهذا الاستنتاج الدقيق أو ذاك، فعلى سبيل المثال يوضح العالم الإسباني أنّ الحروب الدينية وحرب الثلاثين عاماً لم تمهد إلى عملية العلمنة، بل أدّت إلى أقلمة الطائفية، إضافة إلى نشوء الدولة الإقطاعية الاستبدادية الحديثة. لكن البراهين التي يقدّمها كازانوفا ضد العلمنة والفصل بين الدولة والدين، ليست جديدة، كما أنّها غير مرتّبة بشكل معقول. لذلك يخرج كازانوفا بتنبيه مفاده أنّ إلحاد أوروبا صب في النهاية في مصلحة الشمولية ووجد ذروته في حروب الإبادة الوحشية التي دارت رحاها في القرن العشرين. ويعلق العالم الإسباني على ذلك بالقول: "إنّ كلّ هذه الصراعات كانت [...] نتاجاً للإيديولوجيات العلمانية الحديثة".

معاداة السياسة للدين

"شهد القرن العشرون نشوب أكثر حروب الإبادة بشاعة بحق البشرية من قبل إيديولوجيات ملحدة". وكبرهان آخر على القوة المعادية للديمقراطيّة التي تنطوي عليها العلمانيّة يتطرّق كازانوفا إلى السياسة المعادية للدين، التي انتهجها الاتّحاد السوفياتي. ومهما كانت هذه الإشارة صحيحة ولا يمكن إنكارها، إلا أنّه يبقى من غير اللائق بالفعل أن يتمّ هنا خلط مفاهيم متناقضة تحت رداء العلم. ومن المعروف عموماً أنّ القرن العشرين شهد نشوب أكثر حروب الإبادة بشاعة بحق البشرية من قبل "إيديولوجيات ملحدة". لكن إرجاع هذه الجرائم بحقّ الإنسانية إلى مبدأ الفصل بين الدين والسياسة، يجب أن يوصف كخطأ استنباطي بدائيّ، أكثر فداحة من الإهمال الأكاديمي، إذ لم يدخل هتلر وستالين التاريخ بوصفهما من حماة العلمانية.

ومن خلال قيامه بدعم حججه بصورة انتقائية وغير منهجية، يرسم المؤلف لعلاقة بين أفكار التنوير وفظاعة الفاشيّة والستالينية. كما أنّ الأكاديمي المعروف يسجل لزعمٍ مفاده أنّ الكنيسة والأحزاب الدينية كانت في نهاية المطاف هي من وضع أوروبا على طريق الديمقراطية. "لطالما كانت المجموعات الدينية والسياسة الدينية هي من –أحياناً بطريقة بديهية وغير مقصودة- ساهم في دمقرطة وعلمنة السياسة في الكثير من الدول الأوروبية. [...] وحتى تلك الأحزاب، التي نشأت في الأساس بوصفها معادية لليبرالية أو على الأقل معادية للديمقراطية من الناحية العقائدية [...] أدّت في نهاية المطاف دوراً مهماً في دمقرطة المجتمعات".

منجزات الحياديّة العقائديّة

يبحث هذا الكتاب بشكل موسّع في العلاقة بين ما يطلق عليه بالأديان الخاصة والأديان العامة قد لا ينكر أحد أنّ الرفض المبالغ فيه للدين يمثل مشكلة أوروبية وأن الدين يمكن أن يقوم بدور بناء في الثقافة والمجتمع. لكن الإشكالية التي ينطوي عليها كتاب كازانوفا تكمن في أنّه يضع موضع التساؤل منجزات الدولة المتنورة والحيادية من الناحية العقائدية، التي تضمن لمواطنيها حرية الممارسات الدينية، كما هو الحال في ألمانيا، إضافة إلى ذلك فأنه يسيء إلى سمعتها. من دون أن يوضح بشكل أساسي وملموس أي دور يجب أن يؤدّيه الدين الآن.

قد يكون من السهل تفنيد أطروحة كازانوفا التي تقول إنّه لا يجب الفصل بين الدين والسياسة. ..

وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وهي الدولة التي يقدمها كازانوفا كمشروع بديل للنموذج الأوروبيّ، فإنّ تأثير الدين على السياسة لا يعدو أن يبقى بعيداً عن الريبة. ولا يسع المرء إلا أن يتذكر التبرير ذا الدوافع المسيحية الذي قدمته إدارة بوش لغزو العراق...

المصدر: القنطرة.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك