هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله

تسابق الشعوب إلى خلع ربقة الاستعمار من أعناقهم يعد فتحا لطريق إنجاز ما وعد به الله سبحانه من ظهور دين الحق على الأديان كلها، بيان ذلك أن الاستعمار في جوهره نظام حربي في الباطن ديموقراطي في الظاهر، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، المحور الذي يدور عليه هذا النظام (إرادتي هي القانون) والهدف الذي يرمي إليه تذليل ظهور الأهالي وإسلاس قيادهم ليصيروا مجرد فلاحين عند الحكومة بشهادة ما كتبه مشاهير مؤرخي القوم أنفسهم، أذكر من بينهم الكاتب الكبير أوجين كاط، وأقتطف من كتابه "تاريخ إفريقيا الشمالية" ما نصه: «إن سياسة فرنسا(ولا مفهوم لفرنسا؛ أولاد عبد الواحد كلهم واحد) تحذو حذو السياسة الرومانية التي رسمت خطة لها تصيير الأهالي فلاحين وأجراء عن الحكومة».
لذلك كان من أصول هذه السياسة ضرب نطاق الحصار على البلاد الواقعة في ثقاف جدول القوم ثم السعي كل السعي إلى إقامة نظام يضمن الراحة والهناء للدخلاء وأعقابهم وأعقاب أعقابهم، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى إخماد كل ما من شأنه أن يحفظ للأهالي تقاليدهم ومقدساتهم، لهؤلاء الراحة والاحترام مع الوسائل التي تكفلها لهم، ولأولئك الكد والامتثال:
ولجندب سهل البلاد وعذبها                ولي السباخ وحزنهن المجذب
على حد ما قال أحد دهاقنة الاستعمار المعتمد السابق اربا بلان أثناء جلسة المجلس الشوري بمسمع من جميع الأعضاء مغاربة وفرنسيين: «نحن الدماغ المفكر، وأنتم الأعضاء العاملون» يضاف إلى هذا ما هنالك من خبايا في زوايا الاستعمار، أذكر منها للعبرة أني كنت يوما في القطار ما بين تلمسان والجزائر العاصمة فسمعت من راهبة تقول لرفيقة لها أوروبية عندما رأت بعض البنات المسلمات لابسات للزي الأروبي: «وصلنا مع الجزائريين إلى طور التجنيس، ثم ننتقل إلى طور آخر طور التمسيح»، فلم أتمالك أن لاحظت عليها أن التمسيح الذي ذكرت كشف عنه اللثام علماؤكم بكيفية تدعو أهله أنفسهم إلى الخروج منه أكثر مما تدعو الجزائريين أو غيرهم إلى الدخول فيه، من بين هؤلاء العلماء المؤرخ الشهير بيار رهم في كتابه "تاريخ الديانات العام"، والفيلسوف ليون دوني صاحب التآليف الجمة، والفيلسوف ديدرو، فلاحظت علي مقطبة الوجه أن أقل ما يقال عن الديانة المسيحية أنها ديانة التمدن والترقي، فأجبتها على الفور بأن قولها هذا بأن المسيحية هي ديانة التمدن مصادم لتعاليم الكنيسة المدونة في سفر السيليوس؛ لائحة الأقوال التي يحكم على قائلها بالردة) ونص ما جاء في هذه اللائحة: «ملعون من يقول أو يعتقد بأن البابا رئيس الكنيسة يمكنه أو يجب عليه أن يتصالح مع التمدن ويبارك في الرقي»، على هذا تفرقنا عندما نزلنا من القطار، فذهبت مع رفيقتها وهي تلتفت إلي من حين لآخر في استغراب وامتعاض.
نظرت إليك بحاجة لم تقضـها              نظر المريض إلى وجوه العود
أعود الآن إلى الموضوع المترجم له في العنوان فأقول:
من وسائل الاستعمار الأساسية ضرب نطاق الحصار على الشعوب التي وقعت في ثقاف جدوله وترويضهم على استحسان ما يحسنه لهم واستهجان ما يهجنه، والحق يقال لقد صدق إبليس الاستعمار ظنه على شعوب إفريقيا السوداء، دخل أوطانهم فاتحا بالجيوش والرشاشات، ومن ورائه جحفل المبشرين. شاهدت بعيني هذه الحقيقة المرة أثناء رحلة قمت بها إلى سويسرة في جمعيات عمومية ثم من سويسرة إلى أمريكا، وهل في تمسيح أمثال هذه الشعوب الساذجة ما يدعو إلى العجب إذا فكرنا فيما يجنده الاستعمار من مرتزقة المبشرين، وما ينفقه من الأموال، وينشئه من المؤسسات على حساب الشعوب المحتلة نفسها، وبعبارة جامعة: إن الغاية التي يرمي إليها الاستعمار هي تذليل ظهور الأهالي لأجل استخدامهم في مصالحه الخاصة والعامة أولا، ثم الإجلاب عليهم بخيله ورجله لأجل تمسيحهم ?وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ? [البقرة: 120]، ?وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء? [النساء: 89]، لكن لكل غائب قفول، ولكل نجم أفول، لقد طلع النهار، وارتفعت الشمس في الأفق ساطعة وهاجة، وأخذ زبد الباطل يتبخر والسحب تنقشع، فأصبحنا نرى الشعوب على تفاوت درجاتها في الوعي والاستعداد تتسابق مثنى وثلاث ورباع إلى الدخول في حظيرة الأمم الحرة، ونرى الحواجز من حولها تهوي وتتساقط، تلك الحواجز التي كانت بالأمس تحول بين أمثال أمير البيان شكيب أرسلان وبين الدخول للمغرب.
على هذا الطريق درج الاستعمار من أول نشأته إلى اليوم، بالرغم عما لا يزال الزمان يمليه عليه من الدروس، ويسديه إليه من العبر، وبالرغم مما وصل إليه المجتمع البشري من تعارف وتقارب، لا يزيدهما كر الغداة ومر العشي إلا التحاما وإحكاما، حتى كأن الزمان أصبح يتكلم بجميع الألسن مثل المجانة التي يتكلم حلقها النحاسي جميع اللغات يفهمها كل أحد.
بعد هذا الاستعراض الوجيز لدولة أبي هول الاستعمار وملتويات طرقه وأساليبه أقول إن أجل نعمة نذكرها لهذا العهد الجديد أننا أصبحنا نرى فيه صروح الاستعمار تتقوض الواحد بعد الواحد، وانجلى ليله البهيم عن شعوب هبت متسابقة في حلبة الاستقلال بعد أن نسفت نطاق الحصار الذي كان مضروبا عليها، حصار كان قد أقفل الأبواب وسد النوافذ للحيلولة دون كل ما من شأنه أن يبعث على اليقظة وينبه الشعور بالقومية والجنسية. والآن وقد أصبحت جنة الحرية مفتحة أبوابها، فسيحة رحابها، دانية قطوفها، يحق لنا أن نقول للاستعمار:
إن قاضي الزمان قد سوى بين الخصمين، كنت بالأمس أنت الآمر الناهي، كنت كما تقول دهاقنك أنت الدماغ المفكر ونحن الأعضاء العاملون الكادحون، لقد نفضنا أيدينا من تراب دفن الاستعمار، وأصبح السائد والمسود على قدم السواء، نزولا على حكم الفطرة، وتحت سمائها، وفوق أرضها تكون المسابقة بين الجميع في الخيرات، يحفزنا نحن معاشر المسلمين ما أمر به كتابنا الذي يقول: ?وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ? [المائدة: 48] ونبينا من جهته يقول (اليوم الرهان، وغدا السباق، والجائزة الجنة؛ الناس رجلان، رجل يعمل لمحو السيئات، ورجل يعمل لعلو الدرجات، ولا خير في سواهما).
قلت فيما تقدم إن الاستعمار نال بغيته وبلغ أمنيته من إفريقيا السوداء فعمم التمسيح بين أهلها، والتمسيح كما هو معلوم في عرف الاستعمار بمنزلة الجنسية الروحية؛ أعانه في هذا السبيل عدم المزاحم بسبب التطويق المضروب على تلك الشعوب، الأمر الذي مكنه من بسط شبكة التبشير بكل اطمئنان، وبكل ما لديه من وفرة الإمكانيات الحسية والمعنوية، فجال ما شاءت غفلة الشعوب أن يجول، وصال ما شاء له دهاؤه وحنكته أن يصول، تلكم صفحة طواها الزمان فيما طوى ولم يبق لها ذكر، اللهم إلا ما كان من أمر مناقشة الاستعمار الحساب. يحكى عن أهل البادية أن ذئبا من الذئاب كان يأتي لأولاده مرة بخروف يخطفه، ومرة بجدي، فقال له أحد أولاده: يا أبي هذه اللحوم هل تدفع ثمنها؟ فأجابه: إذا لم أرجع فذاك وقت الأداء.
تقديما للأهم أفتح مناقشة هذا الحساب بالكلام على أنكى وأعمق طعنة وجهها الاستعمار للمسلمين في دينهم، وهي ما شاهده أهل الجزائر أثناء احتفال القوم باحتلال الجزائر سنة 1830؛ شاهدوا يومئذ اللافتات في أيدي رجال الكنيسة موشاة منمقة بما لفظه: (أتدرون مغزى هذا الاحتفال؟ مغزاه تشييع جنازة الإسلام في هذا القطر!!) بمثل هذا طاعت ألسنة القوم جهارا علانية، وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون. إن الإسلام يجيبكم:
هي الشمس مسكنها في السماء              فعـز الفـؤاد عــزاء جميلا
فلن تستطيع إليهـا الصـعود                  ولن تستطيع إليـك الـنزولا
وإن شئتم زدتكم شهادة أحد أبنائكم المارشال بيجو القائد الأعلى لجيش الاحتلال الذي يقول في مذكراته: (لقد خبرت أهل الجزائر واختبرتهم طيلة سبع عشرة سنة؛ غاية ما أقوله عنهم: أنه لو طبخ رأس جزائري مع رأس فرنسي في قدر واحدة لافترقت مرقة هذا من مرقة هذا).
وبعد هذا وذاك أقول للقوم: إني آنست من خلال رماد الاستعمار جذوة ستطير منها الشرارة المبشرة بإنجاز ما وعد به الكتاب حيث يقول: ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ? [التوبة: 33]، والبوادر المبشرة هي ما حكم به الزمان من انهيار صروح الاستعمار وتهافت الحواجز التي سور بها إقطاعاته فتفتحت بذلك الأبواب في وجوه الدعايات والاتصالات ليصبح الكلام للحجة لا للقوة، لا سيما والحجة زيادة على ما لها من قوة وسلطان قد حباها الزمان بعاملين من أقوى العوامل، عامل حسي وعامل معنوي: العامل الحسي روسيا ومن إلى جانبها شاهدنا برهان سطوتها في قضية العدوان الثلاثي حيث كفى مجرد إنذار منها لرد المعتدين الثلاثة على أعقابهم بريطانيا وفرنسا وثالثهم كلبهم، والعامل المعنوي: ما استفدناه من علمائك أنفسهم من تضعضع أسس المسيحية وانكشاف الجرف الهاري الذي تتماسك عليه. كلا العاملين جاءا حاملين لهذه الرسالة من عندكم، وهما منكم وإليكم ويرحم الله القائل:
ولكل شيء آفة من جنسه           *           حتى الحديد سطا عليه المبرد
وسوف تعلمون أن من كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجر. ولا عجب، بهذا وبمثله جاءت السنن الاجتماعية (بقاء الباطل في غفلة الحق عنه)، وكذا السنن الإلهية (إن الباطل كان زهوقا)، ومثله قول بعض العارفين: (إن الله يدفع في كل زمان مدبرا بمقبل ومبطلا بمحق وفرعونا بموسى ودجالا بعيسى فلا تستبطئ).

المصدر: http://www.habous.net/daouat-alhaq/item/830

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك