المال في الخطاب الإسلامي: حاجة موضوعية وازدراء ثقافي
يحضر ذكر الأموال كثيراً في يوميّات البشر عامّةً، وفي يوميّات المسلمين خاصّة، بدءاً من المستوى العقائدي، وصولاً إلى المستوى الاقتصادي، وما بين ذلك من مستويات ومجالات، من دون أن يعي كثير من المسلمين أهميّة الأموال في حياتهم البشريّة، كما تُظهر ذلك القناعة السلبيّة الراسخة تجاه كلّ ما يمتّ إلى المادّة بصلة، لا بل يعتقد المسلمون في غالب الأحيان أنّ كلّ ما هو ماديّ عامل من عوامل الانحراف، لكأنّما الخِلقة تمّت من دون مادّة، فهي روحيّة خالصة. ثمّ هم يزدرون المال وينفرون منه في خطابهم الثقافيّ، ويُقبلون عليه في واقع الأمر والحياة، ما يستدعي التساؤل عن مكمن الخلل الحاصل في الفهم، والذي أدّى إلى التباين ما بين الاعتقاد والإيمان والتعامل اليوميّ.
لقد أعلى الله تعالى من شأن المال (بجميع تسمياته) حينما جعل زكَاته وخُمسه من فروع الدين، فمن تخلّف عن تأدية حقّ الله والنّاس في المال كان قاب قوسين أو أدنى من الكفر، لا بل هو في الكفر وقع؛ وما ارتداد المسلمين الأوائل بأغلبهم سوى نتيجة تمنّعهم عن دفع الحق إلى ولاة المسلمين وقيادتهم التي خلفت رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأجاز المسلمون قاطبة قتالهم من دون استثناء، بمن فيهم أمير المؤمنين علي عليه السّلام، بالرغم من تباينه مع القيادة الإسلاميّة في ذلك الزمن، وفي ذلك يقول، وفق ما ورد عنه في نهج البلاغة: "فَأَمْسَكْتُ يَدِي[عن البيعة] حَتَّى رَأيْتُ رَاجِعَةَ النَّاس قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسْلاَمِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلاَمَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّام قَـلاَئِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ; فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ".
لقد توحّد المسلمون قاطبة على قتال مانعي الزكاة والمرتدين، واعتبروا الحرب جهاداً في سبيل الله، فمن قُتل فيها كان شهيداً، إذ لم تكن الأموال شيئاً عابراً في حياة المسلمين كما غيرهم من النّاس، منذ اليوم الأوّل للدعوة الإسلاميّة، بل كانت دعامة من دعائم المجتمع الإسلاميّ الذي راعى الملكية الفرديّة والإنتاج ووزّع الفائض والعائد، ما اعتبره حقَ السائل والمسكين وابن السبيل، في ظلّ التشديد الإلهيّ على اعتبار المال قياماً للناس إذ قال سبحانه: "وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً [النساء:5]، وكان لا بدّ من التعاطي بكلّ جديّة ممكنة مع تلك الأموال، من خلال تأكيد استحقاقها، ومقدار الاستحقاق، وأمكنته، وكيفيّة تحصيلها وصرفها واستثمارها، وتنظيم عائداتها والقائمين عليها...
ولقد شهد التاريخ الإسلاميّ حرصاً من الدول المتعاقبة على حكم المسلمين في جباية الأموال الشرعيّة، من الزكاة والخمس والخراج والرسوم المختلفة. كما استمرّ الاهتمام الإسلاميّ في جباية المال الشرعيّ حتّى التاريخ الحديث، حين كانت الدولة العثمانيّة تقوم بجباية "الميره"، وفق المعايير الشرعيّة، فتفرض الحق العام وتستوفيه على الماشية والغلال...وإن كانت السلطات المتعاقبة في البلاد الإسلاميّة لم تعمل بالعدل في الجباية والصرف، إذ كان الإسراف والتبذير من سمات تلك المرحلة في رعاية الأموال، إلى أن حلّت الكارثة العظمى بانحلال عقد البلاد الإسلاميّة، بعد تحوّلات عميقة في الاقتصاد والسياسة والعلوم على المستوى العالم، وجمود كلّ ذلك لدى المسلمين الذي استمرّ نظامهم الاقتصاديّ قائماً على التّجارة ولم تتعزّز لديه الصناعة على غرار أوروبا، فكان أن استقلّت أقطار المسلمين وقوميّاتها، وبدّلت نظامها الضريبيّ الشرعيّ إلى آخر كان نظاماً رأسماليّاً غربيّاً.
إذاً، حضرت الأموال وذكْرها على الدوام في يوميّات المسلمين وفي نشاطاتهم، وكانت جزءاً من عباداتهم ومن ثقافتهم، لكنّهم لم يُحسنوا التعاطي معها بما تستحقّ من العناية والاهتمام، وخلطوا على الدوام بين المال بطبيعته التكوينيّة ودوره الاقتصادي، وبين المال كوسيلة من وسائل السلطة والاستكبار والطغيان، ولم ينتبه كثير من المسلمين إلى أنّ المال كسواه من مفردات القوة في المجتمع يمكنه أن يكون سبباً في القرب إلى الله، أو للبعد منه، وفق استعماله واستغلاله، مثله مثل القوة التي قد تغري الإنسان فيغترّ بها، وقد تسلك به سبيل الطغيان إن لم يكن مراقباً لله في نفسه ومتّقياً... وأمثلة ذلك كثيرة، والسبب هو في التربية التي لم تفرّق بين المال وحقيقته الموضوعيّة وبين ثقافة المال التي قد تكون ثقافة جاهليّة، يكون المال مادّتها المفضّلة.
وعليه، يبدو من الأهميّة بمكان إعادة الانسجام ما بين الحقائق الموضوعيّة للأشياء ووعيها من قبل المسلمين، ثمّ إنتاج الخطاب المعبّر عن ذلك الانسجام من أجل إزالة التناقضات التي تُكدّر حركة المسلمين في يوميّاتهم.