الجيل الجديد من المثقفين الإسلاميين وهاجس التّجديد الديني

زكي الميلاد

تطور الفكر التجديدي بين جيلين

إلى أواخر سبعينات القرن العشرين، والفكر الإسلاميّ - في وجهته العامّة- يظهر تخوّفاً وريبة في موقفه تجاه مفهوم التجديد وعلاقة الفكر الإسلامي بهذا المفهوم. ويصوّر هذا الموقف بوضوح كبير الدكتور أحمد كمال أبو المجد الذي افتتح مقالته بقوله: "لا يكاد صوت يرتفع اليوم منادياً بالتجديد في الفكر الإسلامي، شاكياً من الجمود والانغلاق، مناقشاً في ذلك أقوال العلماء من السّلف أو من المعاصرين، أو داعياً إلى مراعاة ظروف الزمان والمكان، حتى تتناوشه من كلّ جانب صيحات المحذرين والمنذرين، يذكرون بالمزالق والمخاوف والمحاذير، ويؤكّدون أنّ الدعوة إلى التّجديد مدخل لإسقاط الالتزام بالشريعة، وباب شرّ ينفذ منه الحريصون على تمييع حقيقة الإسلام، وإذابة جوهره في جوهر حضارات وثقافات مناقضة لأصوله، معارضة لمبادئه. ويتجاوز بعض هؤلاء حدود هذا التذكير، مطالبين بالكف عن نقد أوضاع المسلمين في وقت يحتاج فيه الإسلام إلى مدافعين عنه في وجه موجات الإلحاد والشك والمذاهب الوافدة، أكثر من حاجته إلى الناقدين، الذين يأخذهم الحماس أحياناً فيشتدون في النقد، ويحتدون شدة وحدة، يستفيد بهما خصوم الإسلام، الحريصون على توهين سلطانه على النفوس، وصرف الناس عن مبادئه."

وبخلاف هذا الموقف، يرى الدكتور أبو المجد ضرورة المواجهة الصريحة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلاميّ، وفي تقديره أنّ خطر الجمود والعقم هو الخطر الأكبر، الذي ينبغي التنبه إليه، وتحريك المسلمين وعلمائهم إلى خوض معركة التجديد وتحمّل تبعاتها.

هذه الصورة التحذيرية التي شرحها أبو المجد، هي بعض ما يفسّر ندرة الكتابات الإسلامية المعاصرة ومحدوديتها خلال تلك الفترة حول تجديد الفكر الإسلاميّ، القضية التي كانت تحوم حولها المخاوف والمحاذير والالتباسات، إلى جانب ما أحاط بها من ضبابية وغموض على المستويين المعرفيّ والمنهجيّ.

ومع ثمانينات القرن العشرين تغير هذا الواقع، وتغيّرت معه صورة العلاقة بين الفكر الإسلامي ومفهوم التجديد. وذلك بعد ما شهد الواقع الإسلامي تطورات وتحولات وصفتها الأدبيّات الإسلامية بالصحوة واليقظة؛ إذ ساهمت في تغيير رؤية الفكر الإسلامي لذاته، وتشكلت لديه رؤية جديدة إلى العالم، وإلى الواقع من حوله، مغايرة لتلك الرؤية التي كان عليها من قبل، ولم يعد مسكوناً بذهنية الخوف على الهويّة، أو جامداً أمام مقولة الغزو الفكريّ، أو محاصراً لكونه في موقف الدفاع عن الذات.

فقد شهد الفكر الإسلامي في هذه الحقبة، وفي النصف الثاني منها تحديداً، انبعاثاً قوياً لفكرة التجديد، وتراجعت في المقابل وانكمشت، ولكن ليس بصورة نهائية، تلك المخاوف والمحاذير التي كانت نشطة وفاعلة في السابق، لكنها هذه المرة لم تصمد فحسب، بل لم يعد لها ذلك التذكر والاعتبار السابق.

ومع هذه الحقبة وجد الفكر الإسلامي نفسه، ولأول مرة منذ زمن طويل، أمام فرصة حيوية لأن يجرّب ويختبر ما لديه من أفكار وتصورات وأطروحات، وأنه بات قريباً من الواقع ومكوناته وتعقيداته. وقد مكّن هذا الوضع من الكشف عن مناطق الفراغ التي كانت تتسع مع مرور الوقت في بنية الفكر الإسلامي، وعن مضاعفات الانقطاع الذي كان عليه الفكر الإسلامي، والفقه الإسلامي، عن واقع الحياة المعاصرة، وبالتالي الحاجة الملحة لبلورة الأفكار والتصورات والاجتهادات الإسلامية التي تواكب الواقع، وتستجيب له بصورة عملية وتطبيقية. وفي هذا الوضع أيضاً، أخذ الفكر الإسلامي يتعرض وباستمرار، لمساءلات الاتجاهات الفكرية والسياسية المغايرة، وإلى نقدهم وحتى إحراجاتهم المقصودة.

هذه الأرضيات والتغيرات والمساءلات، ساهمت في بلورة فكرة التجديد داخل الفكر الإسلامي وانبعاثها، والتي تجلت بصورة أوضح، وبشكل كبير، مع عقد التسعينات، العقد الذي ظهرت فيه أوسع الكتابات والاشتغالات حول فكرة التجديد الإسلامي، وسجل فيه الفكر الإسلامي تراكماً هو الأكبر من نوعه في هذا المجال...

مستجدات الواقع وتأثيرها في جهود التجديد:

لعلّ من الممكن القول: إنّ هذا التطوّر في علاقة الفكر الإسلامي بفكرة التجديد، له علاقة بتبلور جيل جديد من المثقفين والمفكرين الإسلاميين، وهو الجيل الذي ارتبط بالحالة الإسلامية ما بين حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وركّز نفسه خلال هذه الفترة، كسباً وعطاء في المجالات الفكرية والثقافية، وبدأ عطاؤه الفكري والثقافي بالتبلور، والنضج، والظهور مع حقبة التسعينات، وأخذ في التواصل والتراكم مع بداية القرن الحادي والعشرين، وما زال يشق طريقه، ويحافظ على حضوره.

ويعد ظهور هذا الجيل وانبعاثه، من أبرز ملامح التغير والتطور في مسارات الفكر الإسلامي المعاصر ومسلكياته، فقد استطاع هذا الجيل أن يظهر نشاطاً وحيوية، وينهض ببعض الأعمال والمشروعات الفكرية والثقافية، التي عرف نفسه من خلالها، وكشف عن مواهبه وقدراته عن طريقها، وعبّر فيها عن أفكاره وتصوراته، وعن طموحاته وتطلعاته.

وقد بات هذا الجيل يعبّر اليوم، عن نسق ثقافيّ له بنيته وملامحه ومكوّناته، التي يتميّز وينفرد بها، ويكشف عن هذا النسق مجموع الأعمال والكتابات الفكريّة والثقافيّة، التي أنجزها من ينتمون إلى هذا الجيل، والتي لفتت الانتباه إليها وإليه.

إن هذا النسق الثقافيّ على أهميته وقيمته، لا يقدم في الدراسات والكتابات التي تعنى بمجالات الفكر الإسلامي، وعند الباحثين والمؤرخين في هذه المجالات، بوصفه نسقاً ثقافياً معبراً عن قدر من التماسك والانتظام، بحيث يعرف ويدرس على هذا الأساس، وما زلنا نفتقد الكتابات والدراسات التي تحاول التعرف على هذا النسق الثقافي واكتشافه، وتتناوله بالدراسة والتحليل؛ لمعرفة طبيعته وملامحه ومكوناته.

ولعل من أبرز الملاح الفكرية التي ميزت هذا الجيل، ميله الواضح لنزعة التجديد في الفكر الإسلامي، هذه النزعة التي بقي وما زال مسكوناً بها، وذلك لقربه وتناغمه مع الاتجاهات الحديثة والمعاصرة في الفكر الإسلامي، التي تبرز حيوية الإسلام وقدرته على مواكبة العصر، والاستجابة لحاجات المجتمع المعاصر ومقتضياته، وتأكيد المنحى والمسلك الحضاري، وتبني نهج التواصل والانفتاح والتنوير، والتخلي عن التشبث بالماضي، والانغلاق على التراث، والانقطاع عن المعارف الإنسانية الحديثة.

هذه الملامح والأبعاد والمكونات، هي التي حاول مثقفو هذا الجيل، ومفكّروه تلمسها، والدّعوة إليها في سياق حديثهم عن تجديد الفكر الإسلاميّ.

وهذا ما وجدته بنفسي عند هذا الجيل، الذي كنت وما أزال في تواصل معه، وعلى احتكاك به، وكوني أنتمي إليه. وهو الجيل الذي تفتح وعيه على أساس العلاقة بين الإسلام والعصر، وشكلت له هذه القضية بعداً أساسياً في تكويناته ومسالكه الفكرية والثقافية...

نحو إنجازات تجديدية أكثر نضجاً:

تكمن أهمية وفاعلية ما أنجزه الجيل الجديد من المثقفين والمفكّرين الإسلاميين في مجال تجديد الفكر الإسلامي، في كونه جاء متّصلاً ومتواتراً، بالشكل الذي حقق تراكماً مهمّاً على المستوى الكميّ؛ إذ توالت وتواصلت الكتابات والمؤلفات منذ تسعينات القرن الماضي، وما زالت متوالية الصدور ولم تنقطع، ويبدو أنّها لن تنقطع أو تتوقف. ولست بحاجة إلى تعداد هذه الكتابات والمؤلفات للبرهنة على هذه الحقيقة، التي يفترض أنّها شاخصة وقريبة من إدراك المتابعين والمهتمين بهذا المجال.

وعند النظر في هذه الكتابات، يمكن القول: إنّها عبّرت عن طور مبكر من أطوار النمو والتطور الفكري عند هؤلاء، وبالتأكيد فإن ما أنجزه هؤلاء في هذا الطور، لا يمثل أنضج وألمع ما يمكن أن يقدموه مستقبلاً. وبالتالي فإنّ هذه الكتابات والمؤلفات لا تعبّر، ولا ينبغي أن تعبّر بالضرورة عن القراءة النهائية أو المكتملة حول هذا الموضوع. بمعنى أن لا يكتفي هؤلاء بالقراءة التي قدموها بوصفها قراءة نهائيّة ومكتملة؛ لأن الحاجة إلى تجديد هذه القراءة، ومراجعتها وإعادة النظر فيها، ستظل تظهر وتتأكّد باستمرار مع تراكم المعرفة والخبرة، وأنّ الحاجة إلى تجدد هذه القراءة وتطورها وتراكمها، ستظل قائمة ودائمة.

وقد مررت بمثل هذا الشعور والإدراك، فبعد أن أنجزت كتاب: (الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد) المشار إليه، وجدت فيما بعد أن هذه المحاولة إنما تعبر عن ذلك الطور الفكري الذي كنت عليه آنذاك، وهي قراءة بحاجة اليوم إلى تجديد وتطوير وتحديث، وهذا ما أسعى إليه.

وفي طور فكريّ آخر، قد تكون هناك ضرورة، وسوف تكون مثل هذه الضرورة بالتأكيد؛ لتجديد وتحديث هذه القراءة الراهنة. وهذا هو المنطق الصّائب والفعّال في التعامل مع الفكر والمعرفة، اللذين يشهدان تجدّداً وتراكماً لا يتوقف أو ينقطع، مع بقاء التجربة الإنسانيّة وتواصلها.

وإذا كان ما قدّمه من ينتمون إلى هذا الجيل في هذا الوقت، لا يعدّ الأكثر نضجاً وتميّزاً في مجال تجديد الفكر الإسلامي، فإنه مع ذلك قد كشف عن إمكانية لا تزال مفتوحة، لتقديم مستويات أكثر نضجاً وتميّزاً، إذا حافظ هذا الجيل على مساره الفكريّ الجادّ والمتفوّق.

المصدر: إسلاميّة المعرفة

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك