حوار مع محمد المحفوظ: الحوار الإسلامي-الإسلامي.. نظرة نحو المستقبل
لعل من أهم الحقائق التي تحتاج إلى استيعاب وإدراك تامين، هي حقيقة التعدد والتنوع في هذا الوجود. فهي قاعدة تكوينية شاملة وناموس كوني ثابت. وأي سعي إلى إلغائها بدعوى المماهاة والمطابقة وضرورتهما وفوائدهما، هو سعي عقيم لأنه يخالف الناموس، ويريد تبديل حقائق الوجود وهذا ليس بمقدور الإنسان فعله.
وإن الصراعات والنزاعات الدائمة، لا تنشأ بسبب وجود الاختلاف والتنوع، وإنما تنشأ من العجز عن إقامة نسق مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها .
والحوار بين الإنسان وأخيه الإنسان، من النوافذ الأساسية لصناعة المشتركات التي لا تنهض حياة اجتماعية سوية بدونها. وعليه فإن الحوار لا يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي أو السياسي، وإنما هو لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجددا ومعا في النظر إلى الأمور.
والحوار بين التعبيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية، يفتح آفاق التعاون، ويبلور أطر التضامن، ويدخل الجميع في قافلة الدفاع عن المقدسات ومواجهة التحديات.
كما أن الحوار لا ينحبس في مجرد تداول الأفكار والقناعات والأخبار والأحوال، وإنما يتعدى ذلك من أجل سبر امكانات الواقع، وفتح مجالات جديدة للتفكير والعمل، باتجاه توفير الأسباب والعوامل المفضية إلى تعميق خيار العدل والمساواة في المجتمع.
حول هذه المسائل والقضايا والمحاور، سيتم الحوار المفتوح من أجل بلورة آفاق التعاون والتضامن .
ما المقصود بمقولة الحوار الإسلامي - الإسلامي؟
لعل من المناسب أن نقول أن الحوار الإسلامي- الإسلامي، يستهدف بالدرجة الأولى بناء وتنمية الأنساق المشتركة، التي تجمع بين مجموع القوى والتعبيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية، لكي تمارس هذه المشتركات دورها في بناء الواقع وصياغة المستقبل. والدين الإسلامي أولى العناية والاهتمام بقيمة الحوار والدعوة والمجادلة بالتي هي أحسن، وذلك لأن الدين لا يفرض بالقهر والإكراه كما قال تعالى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم . سورة البقرة آية 256.
بالحوار يكون الإسلام قاعدة للفكر والحياة، ويتسرب إلى دخائل النفس الإنسانية، بحيث تبقى قيمة الحوار هي القيمة السائدة والحاكمة من مجموع القيم التي يحتضنها الإنسان وتؤثر في سلوكه العام.. لذلك فإن عظمة أي فكر هي في انفتاحه وقدرته على تأصيل مفهوم الحوار والنقد في مسيرته. فثمة أشياء ومعارف عديدة يتم الاستفادة منها من جراء التواصل والحوار، والفكر الذي يصطنع الانفصال والانغلاق يبتر التاريخ ويقف موقفا مضادا من الوعي التاريخي. لذلك نستطيع القول: أن الثقافة الحوارية هي المهاد الضروري إلى التقدم الاجتماعي والسياسي والحضاري.
فالحوار يعيدنا جميعا إلى اكتشاف ذواتنا، ويقوي خيارات التواصل والتعارف، ويدفعنا جميعا إلى التخلي عن تلك الخيارات العنفية التي تمارس النبذ والإقصاء والتهميش. ولكي يتضح المقصود من الحوار الإسلامي- الإسلامي، لا بد من بيان وظائف الحوار وهي:
على المستوى السياسي فإن حوار وتواصل القوى السياسية والاجتماعية والثقافية، يساهم في تبديد حالة الجمود التي تعانيها الساحة الاجتماعية، كما يساهم في بلورة آفاق الحل والمعالجة لحالات انسداد الأفق التي نعانيها في مجالات مختلفة. لذلك فإن وظائف الحوار في مختلف الدوائر هي: أولا: لتعارف وكسر حواجز الجهل المتبادل وتعميق عوامل الفكر الحر والسليم.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: بأن الحوار بين البشر هي الوسيلة المثلى للتعارف وإضاءة النقاط المظلمة في العلاقات بين البشر. لذلك أكد القران الحكيم على هذه القيمة واعتبر أن التعدد والاختلاف الموجود بين البشر ليس من أجل الاستعلاء والانحباس والانزواء، وإنما هو من أجل التعارف وكسر الجهل المتبادل، وصولا إلى تعميق عوامل التفكير الحر والسليم قال تعالى﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾(الحجرات ، 13).. لذلك فإن مقولة الحوار تتجاوز السجالات والمجادلات العقيمة، التي لا توفر للأطراف جميعا فرصة التعارف المباشر على بعضها البعض. لذلك فإننا حينما ندعو إلى الحوار، ونعتبره وسيلة الإنسان الحضارية للتعرف على بني جنسه، فإننا نؤسس لغاية حميدة ينبغي أن لا تحيد عنها عملية الحوار، وهي كسر حواجز الجهل وتعميق عوامل المعرفة المباشرة والتفصيلية على الآخر، حتى يتوفر المناخ النفسي والمعرفي والاجتماعي لخلق نمط إنساني وحضاري للعلاقة بين مجموع الأطراف المتحاورة. وذلك لأنه وسيلتنا وخيارنا لتحجيم هواجس بعضنا البعض، ومحاصرة سوء الفهم والظن وموروثات الماضي، كما أنه يبلور وبفعالية عوامل الثقة المتبادلة وأسباب التعاون والتضامن على قاعدة رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
ثانيا : المشاركة في توفير أسباب العدل والمساواة، لأن الحوار لا ينحبس في مجرد تداول الأفكار والأحوال، وإنما يتعدى ذلك من أجل سبر امكانات الواقع وفتح مجالات جديدة للتفكير والعمل باتجاه توفير الأسباب والعوامل المفضية إلى تعميق خيار العدل والمساواة في المجتمع. وبالتالي فإن الحوار مشروع مفتوح على امكانات الواقع والإنسان لتوظيفهما لصالح مشروع العدالة والمساواة في المجتمع. إننا مع كل حوار يتطلع إلى نبذ الهيمنة ونصرة المظلومين ومحاربة الظلم واجتثاث جذوره وموجباته من المجتمع والأمة.
ثالثا: تنمية القناعات والمساحات المشتركة، فالقران الحكيم يعلمنا أن الحوار يستهدف الانطلاق من القواسم المشتركة والعمل على تفعيلها قال تعالى ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون﴾سورة آل عمران 64. فالحوار لا يستهدف بالدرجة الأولى إقناع الآخرين بقناعات الذات، وإنما تعريفها إلى الطرف الآخر. وبالتالي فإنه حوار لا يستهدف الإفحام والقطيعة، وإنما التواصل والتعايش. لذلك نهى القرآن عن المراء والجدال الذي لا يفضي إلى نتيجة، بل قد يزعزع المشتركات، ويوجد مناخا نفسيا يحول دون تنمية القواسم المشتركة. قال تعالى ﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾ الأنعام ، 159
لذلك فإننا مطالبون جميعا أن نمارس فعاليتنا الفكرية وحيويتنا الثقافية، لتوطيد أركان وعوامل المنهج الحواري ، حتى نكون جميعا بمستوى المشاركة النوعية في صنع حقائقنا وصياغة راهننا وإنضاج خيارات غدنا ومستقبلنا ..
أما بالنسبة إلى واقعنا فإننا نعتقد أن اللحظة التاريخية التي نعيشها، تقتضي منا جميعا الإسراع في بلورة خيار الحوار والتواصل مع الآخرين حتى نتمكن جميعا من زيادة وتائر التضامن والتعاون، وإزالة كل عوامل الفرقة وسوء الظن المتوفرة بشكل أو بآخر في الوسط الاجتماعي. لذلك فإننا نرى أن الظرف جد مناسب ولا يحتاج إلا إلى إرادة صلبة لترجمة هذه التطلعات والآمال، والانطلاق في بناء حقائق الحوار والتواصل في المجتمع والأمة.
ولكي تتضح صورة الواقع الذي نراه أنه مؤاتي لعملية الحوار نؤكد على العناصر التالية :
1- حضور التحديات الجسام التي تواجهنا جميعا، وتتطلب منا رؤية مشتركة ، وإرادةواحدة صوب الاستجابة النوعية لهذه التحديات
2- فشل خيارات الإقصاء والنبذوالمفاصلة الشعورية مع الآخرين. فكل الأحداث والتطورات الراهنة تدفعنا إلى الاعتقاد الجازم، بأنه لا مستقبل لأي ثقافة تقصي الآخر وتمنعه من التعبير عن رأيه، وإنما المستقبل هو لتلك الثقافة التي تتسع إلى آراء الآخرين، وتستوعب تعبيراتهم المختلفة، وتسعى نحو بناء الحقائق المشتركة. لذلك فإن الحوار الإسلامي - الإسلامي هو بوابة القطيعة الفعلية مع كل نزعات الإقصاء والنبذ وممارسة القهر التي قد تنطلق من رؤية ثقافية أو من منهج أيدلوجي.
وعليه فإن الإسراع في بناء حقائق الحوار الإسلامي - الإسلامي هو الاستجابة النوعية لتحديات الراهن، والانخراط الفعلي في صياغة ثقافة جديدة قوامها الحوار والتواصل واحترام حقوق الآخر وجودا ورأيا وفكرا.
هل الواقع المعاش بكل زخمه وتعقيداته، يتحمل ويستوعب مقولة ومتطلبات الحوار الإسلامي - الإسلامي؟
لا شك أن للواقع الذي يعيشه الإنسان تأثير وضغط على أولياته ومتطلباته. وحينما نطالب بتعميق قيمة الحوار في فضائنا الاجتماعي والثقافي. لا يعني بأية حال من الأحوال نكران ضغوطات الواقع أو بعدنا عن متطلباته، وإنما المهم هو كيف نتعامل مع الواقع وضغوطاته. كما أننا ينبغي أن لا نتعاطى مع مفهوم الحوار كجهد تكتيكي مرحلي، وإنما كقيمة أساسية من قيمنا وجزء أصيل من منظومتنا الفكرية والمفاهيمية . وعليه فإن الحوار لا ينفي ضغوطات الواقع، وإنما يتعامل معها وفق رؤية مغايرة للسائد.
ولكي تتضح رؤيتنا حول هذه المسائل والقضايا نضيف الآتي:
أولا : من الظواهر اللازمة والثابتة لكل وجود إنساني، هي ظاهرة وجود التطلعات والأمنيات. فلا يوجد كائن إنساني لا يحمل تطلعا ما أو يحدث نفسه بأمنية ما، إلا أن البشر يختلفون في طريقة تحقيق الأمنيات وإنجاز التطلعات. فلا يكفي أن يحمل المرء تطلعا، لأن هذا قاسم مشترك بين البشر الأسوياء جميعا، ولكن ثمة خلل عميق قد يصيب الإنسان في هذه القضية. إذ كثير من الناس تختلط لديهم الأماني والتطلعات بالامكانات والقدرات المتوفرة. لأن العمل والسعي الحثيث هو القنطرة الوحيدة لنقل التطلع من عالم التجريد إلى عالم التشخيص. ولا شك أن اختلاط الأمنيات بالامكانات يأخذ عدة مظاهر في حياة الإنسان منها ما يلي:
أ – الرفض المطلق للواقع: الأمنية والتطلع يشكلان دائما الحد الأقصى لما يصبو إليه الإنسان . لذلك فهما المعادل الموضوعي للمثالية المتعالية على الزمان والمكان. لهذا فحينما تختلط أماني الإنسان بامكاناته، تتحكم الأمنية في ذهن الإنسان، فتؤسس وضعا نفسيا يقوم على الرفض المطلق للواقع الذي يعيشه الإنسان. من هنا من الضروري إيجاد حالة واعية من التوازن بين المثالية والواقعية. ولا نقصد بالأخيرة القبول بالواقع بعلاته ومشاكله والخضوع على ما فيه من هبوط وتخلف وانحطاط. وإنما نعني بالموازنة بين الواقعية والمثالية مراعاة الظروف وأخذ الزمان والمكان طرفا في عملية التفكير والتخطيط والتنفيذ. وعلى هدى هذا المعنى نزل القرآن الحكيم منجما (بالتدريج) والدين الإسلامي في كل توجيهاته الفكرية، وتعليماته الأخلاقية ، وتشريعاته القانونية ، يأخذ بعين الاعتبار واقع الحياة والإنسان. وهذا لا يعني إخضاع المثال والقيم للواقع، وإنما يعني العمل على رفع سيئات الواقع وإحلال حسنات المثال والقيم بشكل تدريجي لا يفاجأ الناس ولا يعطل مسيرة المجتمع. وإن ربانية وإلهية النص القرآني، لا تنفي واقعية محتواه ومضمونه، في انتماءه إلى الوجود الثقافي والاجتماعي الإنساني. بمعنى أنه خطاب واقعي لما يتضمنه من حلول لمشاكل واقعه.
ب – استعجال النتائج: عندما يختلط الواجب بالممكن، يغيب عامل الزمن مما يجعلنا في حياتنا نستعجل النتائج . بينما الشيء الطبيعي هو ربط نتائج أعمالنا بزمن، لأن استواء الحقيقة ونضجها والوصول إلى النتيجة الفعلية لمجموعة الأعمال التي نقوم بها بحاجة إلى زمن ووقت. وقد أشار القرآن الحكيم إلى عامل الزمن وعدم استعجال النتائج وضرورة ربط نتائج الأعمال بالبعد الزمني . يقول تبارك وتعالى:﴿ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ سورة يوسف ، الآية 90، فمعنى الصبرهنا هو أن الأمور والأعمال تحتاج إلى زمن لإنجازها، واستعجال الزمن من الأخطاء التي تحول دون تحقيق النتيجة المرجوة. لهذا فإن علماء النفس يولون عناية خاصة بالزمن ويعتبرونه جزءا من العلاج. فلا يكفي حماس الإنسان حتى تنجح خطته، وإنما لا بد توفر جملة من العوامل لنجاح الخطة أحدها أن يكون تنفيذ الخطة في الزمان المناسب.
من هنا قيل أن قطع الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، كما أن مياه البحر عبارة عن قطرات تتجمع مع غيرها من القطرات فتحقق بحرا عظيما. هذا القانون ليس مرتبطا بالتطلعات الفردية فحسب، بل يشمل التطلعات الجماعية العامة. وعليه ومن أجل علاقة واعية مع الواقع بكل ضغوطاته والتباساته، نؤكد على ضرورة توفير مناخات سياسية وثقافية واجتماعية لتبادل الآراء والأفكار بانسياب. وذلك لأن توفر هذه المناخات، هو الذي يخلق الظروف والتقاليد الضرورية، لإعادة التوازن للعلاقة بين الأفكار والأشخاص. والأفكار لا تتحرك وتتطور في فراغ ، بل هي تنمو وتتطور في إطار واقع اجتماعي تاريخي . وهذا الواقع الاجتماعي التاريخي يعكس تأثيره الطبيعي على عالم الأفكار والتصورات النظرية. لهذا يقول علماء المنطق إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. لهذا فإن تجاهل الواقع والظرف الاجتماعي والتاريخي الذي نشأت فيه الأفكار، لا يوصلنا إلى فهم دقيق لتلك الأفكار. لأن انتزاع الأفكار من سياقها الطبيعي(الاجتماعي التاريخي) والنظر إليها بوصفها فكرة في الفضاء المجرد، يجعلنا إما نتجه صوب تعميم الفكرة، وإعطائها حجما أكبر من حجمها أو نحبسها في إطارها الزمكاني ، فنخسر الدروس والعبر من تلك التجربة الفكرية – الاجتماعية .
ثانيا: الحوار قبل أن يكون أطرا وهياكل، هو روحية واستعداد نفسي، يرتبط بوجداننا وقيمنا الإسلامية، التي أسست لهذا الخيار في كل جوانب وشؤون حياتنا.
فالحوار الذي نتطلع إليه، هو الذي يستند إلى القوة الحضارية الشاملة.. لذلك فإن الحوار ليس بديلا عن العمل في سياق بناء القوة الذاتية، وإنما هو أحد تجليات وضرورات بناء هذه القوة.
وعليه فإن الحوار لا ينهي الاختلافات، وإنما ينظمها بضوابط حقوق الإنسان والمناقبيات الأخلاقية. ولنتذكر دائما وصية لقمان لابنه حينما قال : يا بني كذب من قال أن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقا فليوقد نارين ولينظر، هل تطفأ أحدهما الأخرى، بل يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار.
ما الذي تعنيه بمصطلح الواقع الممقوت؟
فالنزعات الطائفية الإقصائية، لا يمكن مواجهتها إلا ببناء القوة الحضارية القائمة على تحشيد كل الطاقات والامكانات لإزالة كل موجبات التطرف والعنف. والتعصب الأعمى للأفكار ليس هو الوسيلة الإسلامية والحضارية للدفاع عنها وحمايتها، وذلك لأن هذا التعصب ينطوي على مخاطر وتهديدات تناقض في كثير من الأحيان جوهر الأفكار التي تعصبت من أجل الدفاع عنها. والاعتراف المذهبي المتبادل كهدف نبيل ومشروع ينبغي أن يدفعنا إلى المزيد من التواصل والحوار مع الآخرين لخلق الوقائع والحقائق التي تثبت جدارتنا وأهليتنا لكي نكون مع الآخرين على قدم المساواة.
لقد آن الأوان لنا جميعا، أن نقف مع ذواتنا ونعرض قناعاتنا أمام قيمنا الكبرى ومبادئنا العليا، ونراجع ممارساتنا وسلوكنا الخاص والعام لتقويمهما ولردم الفجوة بين الواقع والمثال.
ووجود مشكلة طائفية مقيتة في واقعنا ومجتمعنا، ينبغي أن تواجه من خلال الوسيلتين التاليتين:
الأولى: بناء القوة الذاتية الشاملة والتي تستهدف تحقيق التفوق النوعي. قال تعالى ﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ سورة الأنفال ، الآية 65 . وفي آية أخرى:﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ سورة البقرة ، الآية 249 .
من أين نبدأ في مشروع الحوار الإسلامي – الإسلامي؟
ثمة دوافع وحوافز عديدة تدفعنا إلى القول: أن المجال الإسلامي اليوم هو أحوج ما يكون إلى الفكر السنني والثقافة التي تستند في مشروعاتها وخطبها ومآلاتها إلى نواميس الكون والحياة الاجتماعية العامة.
لذلك نجد أن الذكر الحكيم مليء بتلك الآيات التي توضح جملة السنن الكلية والجزئية التي تتحكم في مسار الإنسان والمجتمع والحضارة.
يقول تبارك وتعالى: ﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ﴾ سورة النساء، الآية 26 .
بمعنى أن كل قانون من قوانين التاريخ هو قانون رباني. وهذا الارتباط يستهدف ربط الإنسان حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون بالله سبحانه وإشعار الإنسان بأن الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين التي تتحكم في هذه الساحات ليس انعزالا عن الله سبحانه، لأن الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن. فهي إرادة الله وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون.
والحقيقة الثالثة هي حقيقة اختيار الإنسان وإرادته وأن لا تعارض بين حرية الإنسان واختياره وبين سنن التاريخ. على هدى هذه الرؤية نعتقد أن البداية الصحيحة لانطلاق مشروع الحوار الإسلامي - الإسلامي هي العمل على تنمية المشتركات والاتفاق على مضمونها ورؤية كل الأطراف تجاهها. فلا يمكن أن ينمو الحوار بدون قاعدة نفسية وفكرية مشتركة. ولعل القواسم المشتركة في الدائرة الإسلامية هي التي توفر المناخ النفسي والعملي لتنمية هذه الجوامع المشتركة.
لذلك نجد القرآن الحكيم يؤكد على ضرورة دعوة الآخرين إلى المشتركات. إذ يقول تبارك وتعالى:﴿ قل تعالوا إلى كلمة سواء ﴾ فبداية الحوار المستديم هو تحديد الأرض المشتركة التي يقف عليها الجميع، ولكي تستمر عملية الحوار نحن بحاجة إلى تنمية دائمة لكل المشتركات التي تجمعنا مع الآخر الإسلامي.
لا شك أن الحوار الداخلي من القضايا الملحة والمطلوبة دائما، والتي ينبغي أن نخطو فيها خطوات نوعية وإيجابية بشكل سريع. وعلى مختلف شرائح المجتمع أن تشارك بشكل أو بآخر في تعميق خيار الحوار الداخلي. وعلى كل حال فإن الحوار قيمة مطلوبة في كل دوائر المجتمع المسلم ، وإنجاز هذه القيمة في الواقع الخارجي هي مسؤولية جميع القوى والأطراف.
وخلاصة الأمر أننا بحاجة إلى تعميق هذا الخيار في أوساطنا، وتذليل كل العقبات التي تحول دون ذلك.
أما واقع الحوار الداخلي فأعتقد أن مجتمعنا شهد في الفترة الأخيرة محاولات جادة ومبادرات إيجابية لتطوير مستوى التفاهم والحوار بين مختلف التعبيرات المتوفرة في المجتمع.
وعلى أبناء المجتمع تشجيع مثل هذه المبادرات والخطوات ورعايتها ومحاولة العمل على تطويرها باستمرار.
أجيب على هذا السؤال المحوري بالنقاط التالية :
أولا: ضرورة الفهم قبل التفاهم حيث أن المطلوب أن يتواصل كل طرف مع الآخر من خلال أمهات كتبه المعتبرة، ويحاول أن يفهم الآخر عقيدة وفلسفة وفكرا وتاريخا، حتى حينما تأتي فرصة التفاهم تكون قاعدة الفهم العميق المتبادل هي القاعدة التي تنجح مشروع اللقاء المباشر.
ثانيا: ضرورة العمل على تطوير العلاقة العلمية بين المؤسسات والمعاهد والحوزات التابعة لمختلف المذاهب الإسلامية.
ومن الأهمية في هذا الإطار أن ندعو إلى تأسيس الفقه المقارن بين المذاهب الإسلامية كمادة رئيسية في كل المعاهد والمؤسسات العلمية الإسلامية.
ثالثا: الفقهاء والعلماء هم الفئة الأكثر جدارة في تحديد المشتركات، والعمل على صياغة الجوامع المشتركة بين مختلف المذاهب الإسلامية. لذلك من المهم أن يتم حوار مستديم ولقاء متواصل بين علماء الأمة وفقهائها. وقد تكون البداية الفعلية لذلك هو التقاء العلماء مع بعضهم البعض في كل منطقة إسلامية. فلو التقى علماء الإسلام من مختلف المذاهب الإسلامية في لبنان مثلا، فإن تطور عملهم المشترك سينعكس إيجابا على مختلف البلدان الأخرى. وعليه فإن العلماء من مختلف المذاهب مطالبون في كل بلد من الحوار واللقاء والتواصل مع بعضهم البعض للمعرفة المتبادلة ولإزالة أسباب الجفاء والتباعد ولخلق مستوى من الانسجام النفسي والاجتماعي.
أعتقد أن من خلال هذه العناصر الثلاثة تتضح مسؤولية من يحدد الأرض المشتركة.
بالإمكان الإجابة على هذا السؤال بالنقاط التالية:
- إن إنسانية الإنسان هي التعبير والحقيقة التي ينبغي للإنسان أن يحافظ عليها في هذه الحياة. وهي من تجليات مبدأين أساسيين وهما:
2- لا ريب أن التعارف نتيجة الاختلاف، ولكن الاختلاف هنا ليس ...
3- المقصود بالحق هو حق الاختلاف، ولتوضيح المسألة أكثر أقول: هناك نوعان للحق: الحق الذاتي كحق العبادة والعمل، والحق الانتزاعي وهو ذلك الحق الذي ينتزع من جملة قيم ومعايير عليا..
وحق الاختلاف هو من الحقوق الانتزاعية من قيم التنوع والاجتهاد (بالمعنى العام). لذلك نجد أن مفهوم الحق يرتبط بمفهوم الواجب ارتباط تناوب وتلازم، ولا يتخصص معنى أي منهما إلا بحرف الجر، والدليل هو الاختلاف البشري من ناحية الجنس(الذكر والأنثى) واختلاف الألسن والألوان واختلاف العقائد .
والمطروح هو في طريقة التعامل مع هذه الاختلافات المتوفرة في تجربة الإنسان في التاريخ.
فالمدينة بعد الهجرة باتت تقوم على أمتين، واحدة مسلمة والثانية يهودية، بينما الدولة مشتركة ينتمي إليها الجميع. فهناك دولة واحدة لأمتين مختلفتين دينيا، وسمت الصحيفة كل عشيرة باسمها ومجموعها ثمان عشائر، خمس من الخزرج، اثنتان من الأوس، وواحدة حليفة الأوس. واشترطت الصحيفة مقابل الإقرار بالحالة السابقة من العادات والتقاليد الخاصة بكل عشيرة القبول بالمعروف والقسط بين المؤمنين. إذ جاء في البند التاسع في الصحيفة ليحدد حقوق المؤمنين(بالصحيفة) من غير المسلمين(وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم)، فاليهود في داخل الدائرة التي رسمتها الصحيفة، جزء أساسي من حالة التعدد الديني وليس العرقي التي شملته بنود الصحيفة الأخرى .
وخلاصة القول: أن صحيفة المدينة من أروع النماذج الدستورية التي أقرت بحقوق المختلفين والمتنوعين على مختلف الصعد والمستويات ضمن إطار زعامة الرسول(ص) والأمة الواحدة..
هل المطلوب في مشروع الحوار، التغاظي عن أحداث الماضي وشخصياته؟
لا شك أنه من الضروري دراسة التاريخ واكتشاف العبر والدروس منه، وتحديد الرؤية و الموقف من أحداثه ورجاله، كما أنه لا يمكننا بأية حال من الأحوال أن نمارس القطيعة التامة مع التاريخ لأنه ببساطة حاضر فينا، وعلى المستوى الحضاري لم يصل مجتمع من المجتمعات إلى ذروته الحضارية أو قمته المدنية، إلا بعد أن أحسن علاقته بتاريخه. ودائما كان حسن العلاقة مع التاريخ المجيد والمضيء، هو الشرط الضروري للانطلاقة الحضارية .
وهذا لا يتم إلا ببلورة منهجية واضحة لدى كل الفرقاء في دراسة التاريخ وقراءة أحداثه. فالمطلوب دائما بلورة المنهجية القادرة على وصل حاضرنا بتاريخنا، بما يوفر لنا الإمكانية الذاتية والموضوعية لصناعة مستقبلنا .
وهناك خيارات عديدة للتعامل مع ظاهرة الاختلاف. وفي تقديرنا أن الخيار الذي يجنب الجميع المتواليات السلبية للاختلاف هو الحوار..
ولهذا الاعتبار فإن الحوار فريضة اجتماعية - ثقافية - إنسانية، تجنب الجميع حالة الاحتقان التي تقود إلى صراعات مفتوحة وعبثية في بعض الأحيان.
وعلى كل حال فإن الاختلافات العقدية تقتضي في تقديرنا الآتي:
ب - الحكمة في التعامل مع المختلفين على المستويين الفكري والسياسي. فالاختلاف لا يساوي بالضرورة القطيعة، وإنما قد يقتضي التواصل الإنساني والفكري، وبالتالي فإن مدنية الاختلاف كمقولة تعني التعامل مع الاختلافات الفكرية والاجتماعية والسياسية وفق المنهج الفقهي الذي يستند على ثنائية (الخطأ والصواب).
التعايش لا يعني بأية حال من الأحوال، أن تتنازل عن ثوابتك ومقدساتك، وإنما وببساطة شديدة التعايش يعني:
أن نحترم بعضنا البعض على قاعدة العدالة والمساواة. فاختلافاتنا العقدية والفكرية مع الآخرين، ينبغي أن لا تدفعنا إلى ظلمهم، كما أن اختلاف الآخرين معنا على ذات الصعد، ينبغي أن لا يدفعهم إلى ظلمنا. فالمطلوب أن نمارس العدالة مع المختلفين معنا، فالعدالة هي الركن الأساس لمفهوم التعايش، فكل طرف يلتزم بثوابته ومقدساته، دون الإساءة إلى الآخرين.
هذا هو المعنى الدقيق لمفهوم التعايش. وإذا أردنا أن نتوسع قليلا في أسس مشروع التعايش فبالإمكان تحديد هذه الأسس في النقاط التالية :
وخلاصة القول: أن مفهوم التعايش بين المختلفين والمغايرين، لا يعني بأية حال من الأحوال التنازل عن الثوابت، والميوعة في الالتزام بالقيم، وإنما هو أن نعتمد في علاقاتنا مع الآخرين، وأن يعتمد الآخرون في علاقاتهم معنا على أسس العدالة وحق الآخر في المعتقد والرأي والتعبير والمساواة وتكافؤ الفرص.
ولا أحد يستطيع الادعاء أن بالإمكان تحقيق مفهوم التعايش في الفضاء الاجتماعي بجرة قلم، وإنما هو مشروع مفتوح على كل المبادرات والخطوات الايجابية والثقافة الحرة، من أجل أن تتراكم كل هذه الأعمال والجهود لتنجز واقع التعايش في المجتمع والأمة.
هل نضحي بالوحدة الداخلية من أجل الوحدة الوطنية، وما هي العلاقة بينهما؟
أعتقد أن الموضوع ليس موضوع مقايضة بين الوحدة الداخلية والوحدة الوطنية. فالوحدة الداخلية من المقدسات ومن الفرائض المطلوبة التي ينبغي أن نعمل جميعا من أجل إرساء معالمها وحقائقها في واقعنا الاجتماعي.
فلا تناقض بين هذين المطلبين، والمطلوب أن نعمل معا في الاتجاهين، فنحن مع كل خطوة ومبادرة تساهم في تعزيز وحدتنا الداخلية، كما أننا في ذات الوقت مع كل خطوة ومبادرة تساهم في تعزيز وحدتنا الوطنية.
ولا أرى أن هناك تناقض وتضاد بين مطلب الوحدة الداخلية وبين مطلب الوحدة الوطنية، فالمطلوب العمل والسعي الدائم لإنجاز وحدتنا في كل الدوائر والمستويات..
هل منطقتنا مشرفة على متغيرات؟ ما هي في وجهة نظركم ملامح هذه المتغيرات؟ وهل نملك رؤية واضحة حيالها؟ أم أن بقاءنا خارج اللعبة متفرجين لأننا لا نملك أدنى مستوى للتأثير فتضيع علينا فرصا أكبر من خسارتنا ونحن داخل هذه اللعبة السياسية؟
ولا ريب أن من أهم مؤشرات هذا التغيير توسيع رقعة المشاركة الشعبية في الشأن العام . وهذا الملمح بحاجة إلى إرادة مجتمعية مستديمة تؤكد على هذا الخيار، وتوفر كل الأسباب المفضية إلى توسيع رقعة المشاركة السياسية، والخروج من نفق الأشكال الشمولية في ممارسة وإدارة الشأن العام.
هل تبعث مثل هذه المتغيرات على شيء من التفاؤل أم التشاؤم وما طبيعتها؟
أعتقد أن عامل التحولات السياسية، ليس خاضعا لقانون التفاؤل أو التشاؤم الشخصي. وإنما هو خاضع لطبيعة القوى المحركة له.
فإذا أردنا أن يكون نصيبنا حقيقيا من هذه التحولات، فينبغي أن ننخرط بشكل نوعي في هذه التحولات، حتى نضمن حصولنا على مكاسبنا السياسية والاجتماعية والثقافية .إرادة المجتمع وكفاح النخبة هما اللذان يحددان مستوى استفادة مجتمعنا من تحولات اللحظة التاريخية ومتغيراتها المتلاحقة.
ما هي الآليات التي يمكن لها أن تكفل حقوق كل تيارات المجتمع مع اختلاف أطيافها بحيث لا تستحوذ من خلالها فئة في تحديد مسار التحرك لتدفع به إلى تحقيق أهداف منفردة؟
بإمكاننا أن نحدد هذه الآليات في النقاط التالية:
أولا: بلورة الأهداف المرحلية والاستراتيجية للمجتمع..
ثانيا: خلق الأطر والمؤسسات الحوارية التي تجمع كل تعبيرات وقوى المجتمع.
ثالثا: مساهمة كل التعبيرات في إزالة كل الاحتقانات وعناصر التوتر، التي تتوفر في الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي.
رابعا: إرساء تقاليد حوارية وأخلاقية تضمن للجميع حق الاختلاف وحق التعبير عن الرأي والموقف مع الالتزام بكل الضوابط الأخلاقية، التي لا تفضي إلا إلى المزيد من تنقية الواقع الاجتماعي من كل عناصر الاحتقان والتوتر.
من خلال هذه الآليات نتمكن من بناء واقع اجتماعي وثقافي، يسمح لجميع القوى والتعبيرات بممارسة أدوارها ووظائفها في المجتمع على قاعدة الحرية واحترام حقوق الآخرين والتسامح تجاه تباين وجهات النظر في الرأي والموقف..
كيف نعزز العلاقة بين قوى وتعبيرات المجتمع؟
لا ريب أن تعزيز الثقة والعلاقة بين الوجودات الاجتماعية من الأهداف النبيلة التي ينبغي أن نجتهد جميعا على تحقيقها في الواقع الخارجي.
ومن الطبيعي القول أن الحوار والتواصل بين جميع الرموز والوجودات الاجتماعية، هو أحد المداخل الأساسية لبناء هذه الثقة وتعزيزها حيث أن الجفاء والتباعد النفسي والعملي يساهمان بشكل كبير في نشوء حالة سوء الظن المتبادل.
بينما المعرفة المتبادلة التي تأتي عن طريق الحوار المباشر والتواصل الثقافي والاجتماعي الدائم ، من الروافد الأساسية التي تعزز مستوى الثقة بين المتنوعين في الداخل الاجتماعي. فنحن مع الحوار والتواصل، لأنه أحد السبل الأساسية لبناء الثقة وتعزيزها، كما أننا بحاجة إلى إشاعة ثقافة الحوار والتسامح وحقوق الإنسان، لأن هذا الفضاء الثقافي هو الذي يؤسس لمناخ اجتماعي يقبل الآخر المختلف دون أن يوصمه بنعوت سلبية.
فمن خلال الحوار والتواصل المباشر وبناء ثقافة الحرية والمسئولية واحترام حقوق الإنسان وحق الاختلاف، نتمكن من بناء الثقة بين مجموع التعبيرات الاجتماعية المتوفرة في الساحة. وهذه مسئولية الجميع، إذ أننا مطالبون جميعا من مختلف مواقعنا، على نبذ سوء الظن وتجاوز حالة الجفاء والتباعد النفسي والاجتماعي وإرساء حقائق مجتمعية تدفعنا جميعا للالتحام مع بعضنا البعض على قاعدة المشتركات واحترام التنوعات..
وأعتقد إننا كمجتمع خطونا خطوات إيجابية باتجاه التلاقي والتفاهم بين مجموع التعبيرات والقوى . لذلك فإننا نسير في هذا الطريق. صحيح أننا بعد لم نصل في تفاهمنا وتلاقينا إلى مستوى التحديات التي تواجهنا، ولكن ينبغي أن ندرك جميعا أن التفاهم والتلاقي وتعزيز العلاقات المشتركة وبناء الوحدة الاجتماعية على قاعدة احترام التنوع، هو سبيلنا الوحيد لإنجاز قوتنا، ولإخراج مجتمعنا من كل مواقع الضعف والتراجع.
ومن الضروري أن لا ننتظر الأزمات حتى نندفع باتجاه الوحدة، فالمطلوب دائما وأبدا أن نتعامل مع مفهوم الوحدة في مجتمعنا بوصفه من المقدسات التي لا يجوز لأي طرف من الأطراف أن يمسها أو يتعرض لها بسوء أو يمارس الممارسات المضادة لحقائقها في المجتمع. فالوحدة الاجتماعية مطلوبة في كل الأحوال، وعلينا جميعا أن نبذل كل طاقاتنا وجهودنا، باتجاه إزالة كل معوقات الوحدة وبناء حقائق الائتلاف والاتحاد في الفضاء الاجتماعي.
أين تكمن قوة المجتمع؟ هل في إطار مرجعيته المتعددة أم الموحدة وكيف يتم ذلك؟
من الناحية النظرية تتحقق قوة المجتمع، إذا تراضى على صيغة مرجعية واحدة. ولكن لكون اختيارات أبناء مجتمعنا على هذا الصعيد متعددة، لذلك ينبغي أن نبني قوتنا على أساس احترام هذا الاختيار المتعدد في المجتمع. ومن الضروري في هذا الإطار أن ندرك أن التعدد المنضبط بضوابط الوحدة والمسيج بأخلاق الائتلاف والوئام الاجتماعي لا يضر بقوة المجتمع ، بل يرفده بعناصر إضافية، لذلك ومن منطلق واقعي عميق، نرى أن وحدتنا الاجتماعية لا تبنى بدحر التعدد والتنوع، وإنما باحترامه وتوفير كل أسباب العلاقة الايجابية بين أطرافه.
فالوحدة تبنى من خلال هذا الاحترام، وتتعزز قوتنا من خلال العلاقة الايجابية التي ينبغي أن تسود بين مكونات المجتمع..
كيف نردم الهوة ونضبط نزعات الاختلاف بين مكونات المجتمع؟
ما ينقصنا نحن كمجتمع هو وجود الأطر ومؤسسات التفكير الجماعي. لذلك فنحن بحاجة ماسة إلى كل الأطر التي تعزز التواصل بين أبناء المجتمع، وترسي تقاليد الحوار وتداول وجهات النظر بين مختلف توجهات المجتمع .
وكل المظاهر السلبية التي قد تتوفر حاليا في المجتمع هي بشكل أو بآخر لا يمكن معالجتها إلا بالمزيد من الحوار والتواصل وتداول وجهات النظر بين مختلف مكونات المجتمع.
لذلك كله: فنحن مع الحوار الدائم والتواصل المستديم وبناء الأطر الاجتماعية الدائمة لذلك. فالمطلوب منا جميعا أن نخرج من قوقعتنا وعزلتنا، ونبني معا أطر التواصل وأخلاقيات الانفتاح وتقاليد الحوار الناجح.
لا شك أننا لا يمكن أن نحصل على قراءة واحدة للنص الشرعي، ما دمنا دون مرتبة العصمة. ولكوننا نقرأ النص الشرعي من مواقع متعددة وأفهام متنوعة، النتائج تكون من سنخ تعدد الأفهام والقراءات.
والمشكلة الحقيقية في تقديرنا ليس في وجود قراءات متعددة للنص، أو توفر تنوع مذهبي وفكري في الفضاء الاجتماعي والمعرفي، وإنما في عجزنا جميعا عن إدارة هذا التنوع بصورة حضارية. وبطبيعة الحال هذا لا يعني أن القبول بتعدد القراءات يساوي التفلت من ضوابط الاستنباط للآراء والأحكام الشرعية. إنما نحن نقول إن مع الالتزام بالضوابط الشرعية في عملية الاستنباط وفهم النص تتعدد الأفهام للنصوص الشرعية، وذلك راجع إما لطبيعة البيئة الثقافية والاجتماعية والحضارية التي يعيشها هذا الإنسان، أو بفعل منهجية الاستنباط التي تختلف من مفكر إلى آخر ومن فقيه إلى آخر.
لذلك نجد أن تعدد القراءات يكون حتى بين أبناء المدرسة العلمية الواحدة ، ويكون بين فقهاء ينتمون إلى مدرسة فكرية واحدة ووجود إشكالات وأزمات في الواقع الخارجي السياسي والثقافي والاجتماعي، ينبغي أن لا يدفعنا إلى ترذيل حقيقة التنوع والتعدد. إننا مع التنوع المنضبط بضوابط القراءة السليمة للنص، والمشكلات المترتبة على هذا التنوع والتعدد ، ليست وليدة القراءة المتعددة أو الفهم المتنوع، وإنما وليد واقع سياسي - اجتماعي - ثقافي أفرز بشكل أو بآخر أزمات في طبيعة التواصل بين المختلفين والمغايرين.
وعلى مستوى التجربة التاريخية لم نجد في تاريخنا الإسلامي الحديث أي ضير من التعدد والتنوع النابع من قاعدة الفهم الدقيق للنصوص والاستنطاق السليم لجملة المفاهيم الإسلامية الكبرى..
كما أننا من الأهمية أن ندرك أن معرفة ملاك الحكم الشرعي، لا يمنع التعدد والتنوع بفهم هذا الحكم. الكثير من الأحكام الشرعية معروفة لدى الفقهاء ملاكاتها وعللها، إلا أن الفقهاء تتعدد آراءهم في هذه المسألة أو تلك وعلى ضوء هذا نستطيع القول: أن التنوع في فهم النصوص الشرعية، حقيقة قائمة وظاهرة حضارية لو أحسنا إدارتها والتعامل معها، ووجود إشكالات واقعية ينبغي أن يدفعنا للبحث عن أسبابها ومكوناتها بعيدا عن تعدد القراءات للنصوص الشرعية. وأكرر هنا أن التعدد لا يساوي الميوعة في تمثل القيم، كما أنه لا يساوي التفلت من ضوابط الاستنباط الشرعي، بل هو (تعدد القراءات) وليد شرعي لمبدأ الاجتهاد في الإسلام.
هل يمكن لقيم العفو والتسامح أن تؤتي ثمارها بلا قانون يحميها ويدافع عنها؟
إننا حينما نتحدث عن قيمة التسامح أو العفو، لا نتحدث في فضاء اجتماعي مجرد، وإنما نتحدث في فضاء اجتماعي مركب وفي مخزوننا القيمي جملة من القيم إحداها قيمة العفو أو التسامح. وعليه من الضروري حتى تكتمل هذه الرؤية، أن نثير موضوع التفاضل بين القيم حيث أن جميع هذه القيم الإسلامية الكبرى كالعدالة والقانون والحرية والسلطة والتسامح كلها قيم محمودة ومطلوبة، ولكن حينما نريد أن ننزلها على الواقع، لا بد من نظام أولويات بين هذه القيم أو نظام تفاضل بين هذه القيم، بمعنى متى تبدأ قيمة الحرية وأين تنتهي، وعلى سبيل المثال فإن الحرية قيمة أصيلة من قيم الدين حيث أن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم، وفي المقابل أن السلطة في الاجتماع الإنساني ضرورة ، فكيف نوفق بين ضرورات الحرية ومتطلبات السلطة.
ومصطلح الحكومة في علم الأصول هو أحد الإبداعات الأصولية الأساسية لتحديد نظام الأولويات والتفاضل بين القيم الإسلامية الكبرى. وعلى هدى هذا نقول:أن التسامح أو العفو ليس قيمة مطلقة في كل الأحوال وفي كل الأزمنة والأمكنة، وإنما هي مفردة من منظومة قيمية متكاملة. والمطلوب هو بلورة هذه المنظومة وبيان موقع وأفق كل منظومة على مستوى الواقع الاجتماعي.
فالتسامح مثلا كقيمة لن يمارس إلا في نطاق القانون والعدالة بل إذا أردنا الدقة فإن القيمة الأصلية للتسامح والعفو والتعايش هي قيمة العدالة ، فهي أم هذه القيم، وفي نطاقها تتحرك هذه المفردات. ومن المهم أيضا الإشارة إلى أن التهذيب النفسي وتغيير ما بالنفس، هو القاعدة الأساسية التي تخلق إنسانا يلتزم بالقانون أو يخضع لمتطلبات العدالة. فالقانون لا يمكن أن يطبق في ظل فرد ليس مهذبا لنفسه ومغيرا لذاته، كما أن العدالة لن تترجم في السياسة والاقتصاد والاجتماع، إلا إذا مارس الإنسان تغييرا في ذاته باتجاه تجسيد هذه القيم.
ويبدو أننا على مستوى الاجتهاد الفكري والثقافي والإنساني، بحاجة إلى بلورة نظام التفاضل بين القيم، حتى لا نتعامل مع هذه القيم بوصفها قيما مجردة وبعيدة عن ظروف الزمان والمكان..
هل هناك حاجة واقعية أم مثالية للحوار في الدائرة الإسلامية؟
من الضروري أن لا نرذل مفهوم المثالية، ونتعاطى معه بوصفه بعيدا عن الواقعية.
فالمثالية في المنظور الذي نتحدث حوله، هي الإطار النظري والمرجعي ، الذي ننطلق منه لبلورة مفهومنا للحوار والتواصل مع الآخرين. وواقعية الحوار لا تتم إلا بممارسته، وكل فكرة لا تتنزل على الواقع بسبب ذاتي أو موضوعي، لا تكون غير واقعية، وإنما دائما هناك مسافة بين الأفكار والواقع، ومهمة الإنسان في هذه الحياة السعي والكفاح لتجسير المساحة بين المثال والواقع.
وحينما نقرر أن الثقافة الفاعلة هي التي تتسع لجميع الآراء وتستوعب أفكارهم، ينبغي أن لا نغفل وحدة المرجعية العقدية والفكرية التي تتسع للقراءات المتعددة. وهناك تمايزا دقيقا بين مفهوم الحوار ومفهوم المناظرة، حيث يتجه مفهوم الحوار إلى تنمية الجوامع والمشتركات والمصالح للوصول إلى صيغ تعايشية قابلة للحياة، أما المناظرة فهي تتجه إلى إبراز أحقية وصوابية معتقدي تجاه عقيدة الآخر. لذلك فإن المناظرة تحمل مستوى من مستويات الإفحام وتضعيف المباني المنهجية للطرف الآخر، كما أن أحادية الصواب في الحقيقة لا يلغي دور الإنسان في الحوار مع أخيه الإنسان لاكتشاف هذه الحقيقة وتجليتها. فنحن لا نقول أن الحقائق متعددة ، وإنما الذي نقوله أن طرق الوصول إلى هذه الحقائق متعددة، كما أن قدرتنا نحن البشر غير المعصومين على امتلاك الحقائق المطلقة ليس متوافر لدينا ، لذلك فإن التواصل مع المعصوم والتعبد بما يقول هو وسيلتنا للاستناد إلى حقائق دينية مطلقة.
فالحوار المتجه صوب تنمية المشتركات ليس حوارا سياسيا فحسب، بل هو حوار ثقافي واجتماعي وحضاري أيضا حيث أن أمننا الخاص والعام واستقرارنا السياسي في دائرتي الوطن والأمة، بحاجة إلى الحوار لبلورة صيغ التعاون والتعامل بين مختلف مكونات الوطن والأمة.
وإذا أردنا الدقة فإن الحوار السني- الشيعي هو في حقيقته حوار بين أهل السنة وأهل الشيعة، ليس من أجل الإفحام وبيان ضعف المبتنيات العقدية، وإنما من أجل ضبط الخلافات وتنظيمها ومجابهة التحديات المشتركة وبلورة أسس التعايش السلمي. فإذا أردنا العيش المشترك فنحن بحاجة إلى الاحترام المتبادل والعميق والمعرفة الواعية بالآخر، ويبقى الحوار هو بوابتنا جميعا لبناء الوعي والمعرفة تجاه بعضنا البعض.
هل المطلوب حوار عقائدي أم سياسي؟
1- المنهج العقائدي: الذي يلغي تاريخ الأفكار وحركة تطورها عبر الأزمان والأمكنة المختلفة، ويصل عبر عملية التجاوز هذه إلى بيان أن هذه الفكرة هل تنتمي إلى دائرة الباطل أو إلى دائرة الحق.
ولعل الكثير من مشاكل التطرف في الدائرة الإسلامية اليوم، هي من جراء إسقاط المنهج العقائدي على عالم الأفكار.
2- المنهج الذي يستند على تاريخ الأفكار ولا يطلق أحكاما بعيدا عن علاقتها بالواقع. إذ أن هناك علاقة جدلية تربط الأفكار بالواقع، حيث لا يمكن أن توجد فكرة وتنمو بدون الواقع بأضلاعه الثلاثة (الزمان والمكان والإنسان) فالأفكار لا تتحرك وتتطور في فراغ، بل هي تنمو وتتطور في إطار واقع اجتماعي - تاريخي. وهذا الواقع الاجتماعي - التاريخي يعكس تأثيره الطبيعي على عالم الأفكار والتصورات النظرية.
وقد أخذت جدلية العلاقة بين الفكر والواقع نصيبها من صراع الفلاسفة. فمنذ الفكر اليوناني القديم يتحدث أفلاطون في محاورة السفسطائي عن الصراع بين اتجاهين في الفلسفة يقول أنصار الأول منها أنه لا يوجد إلا الملموس والمحسوس، ويزدرون القائلين بوجود ما هو غير جسمي في حين يؤكد فلاسفة الاتجاه الثاني على أن الوجود الحق مثل معقوله ومفارقه. وعليه فإن مثالية معايير الحوار المطروحة ليست هي مثالية فلسفية، بل هي مثالية فكرية تتطلب إرادة إنسانية مستديمة لممارستها وتنزيلها على الواقع.
وعليه فإن مثالية تصورات الحوار ومعاييره، لا يمكن أن نجعلها في دائرة الخطأ والصواب، وإنما في دائرة الإطار الذي يتطلب كدحا إنسانيا متواصلا لإنجازه.