المؤسسة الدينيّة في الإسلام موضوعاً للدارسة بين التمركز على الذات وأسر النموذج الغربي
عبداللطيف الهرماسيّ
الإسلام التاريخي ومفهوم الوساطة
يتعين ابتداء التمييز بين مفاهيم وظواهر غالباً ما يقع الخلط بينها، نعني بذلك وظيفة التوسّط والوظيفة الكهنوتيّة, وظاهرة احتكار التأويل الشرعيّ للنصّ المقدّس: فقد تجتمع هذه الأبعاد في مؤسّسة واحدة أو في يد واحدة وقد لا تجتمع، ومن هنا تأتي أهميّة التفريق بينها. وسنضع أنفسنا في دائرة ديانات الوحي ونجعل من الإسلام التاريخيّ والمعيش مصدرنا الرئيس للتمثيل على ما نقرّره.
ويتمثل مقترحنا الأوّل في أنّ مفهوم التوسّط بين القوّة المقدّسة والمؤمنين يشير إلى ثلاث فئات من الوقائع ومن ثمّ ثلاثة مستويات من الوساطة:
1- ينبع المدلول الأوّل من كون المقدّس لا يتجلّى مباشرة للبشر بل عن طريق وسيط، وفي ديانات الوحي فإنّ الوسيط هو النبيّ الذي يبلّغ الوحي، ويمكن القول أيضاً بأنّ الكتاب المقدّس يحتلّ موقع الوساطة بما أنّه يتضمّن فحوى الخطاب الإلهيّ. بهذا المعنى فإنّ وجود الوسيط يتنزل منزلة الضرورة ولا يمكن الادّعاء بأنّ ديناً لا يعرف هذا النّوع من الوساطة.
2- إنّ الوحي ما إن ينقل شفوياً أو يسجّل كتابياً ويتداوله المؤمنون حتّى يصبح موضوعاً للتفسير والتأويل، أي السّعي لفهم معانيه وتطبيق تعاليمه وتبليغها. وتستدعي المحافظة على هذه الرسالة ونشرها وشرح مضامينها بالضرورة وجود فئة معترف لها اجتماعيّاً بالكفاءة في هذا الميدان وهم رجال الدين. فكلّ عمل من قبيل تجميع التراث المقدّس وتفسيره وصياغته في عقائد ومعايير أخلاقية وأحكام تشريعيّة فهو وساطة. إلا أنّ طبيعة هذا الصّنف من الوساطة تختلف عن الحالة الأولى، وكذلك عن الحالة التي ستلي: فعالم الدين هنا لا ينقل عن الله أو عن مبعوث من ملائكته، وبالتالي فإنّ وساطته ليست بين الله والعباد، وإنّما بين الكتاب المقدّس وبينهم. هذا على الأقلّ من حيث المبدأ، وفي هذا المعنى يندرج ما قام به أهل السّلف من المسلمين والعلماء السنة والإباضية وكذلك الشيعة ـــــ من دون الأئمة الذين نسبت إليهم العصمة ــــــ واعتبروه ضمن دائرة الاجتهاد العقليّ البشريّ في فهم كلام الله. وسنعود إلى هذا النوع من الوساطة الذي اتخذ في بعض الظروف والحالات طابع التفسير الملزم بل أعطى لنفسه سلطة في التشريع من موقع ادّعاء المعرفة بحقيقة المراد الإلهيّ.
3- أمّا المدلول الثالث للوساطة فيرتبط بتلك الظاهرة التاريخية التي عرفتها ديانات قديمة على غرار الفرعونيّة والبابليّة والإغريقيّة كما عرفتها اليهوديّة والمسيحيّة. عنينا بذلك مؤسّسة الكهنوت كإطار عارف بالأسرار المقدّسة، ومكرّس بمقتضى طقوس محدّدة ومحتكر لسلطة الاتّصال بالقوّة المقدّسة، في هذه الأديان تشمل الوظيفة الكهنوتيّة سلطات الكهانة وتعليم الشرائع وتقديم القرابين كوسيلة للارتباط بالإلهي. فالكاهن هو الذي يضمن صلاحيّة الضحيّة وفعاليتها التشفعيّة. أمّا في الإسلام فكلّ مسلم يستجيب للشروط المطلوبة من ناحية العقل والطهارة يمكنه أن يؤمّ النّاس ويعقد الأنكحة ويذبح الأضحية. ولذلك يلاحظ محمد أركون أنّه (لا يوجد كهنوت في الإسلام حيث إنّ كلّ مؤمن في تواصل مباشر مع الله).
على أنّه ينبغي من وجهة نظر علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الدينيّة التمييز بين (الإسلام العالم)، و(الإسلام الشعبيّ) في معالجة أدقّ لهذه المسألة. من البيّن أنّ المؤسسة العالمة لا تعرف فئة من رجال الدين الذين يتعاطون (الأسرار المقدّسة). وينطبق ذلك على كلّ الوظائف الدينيّة بالمعنى الاجتماعيّ لهذه العبارة، ومن بينها الوظيفة الطقوسيّة المتمثلة في إمامة الصّلاة. فالأئمة لا يتلقون أيّة أسرار، وتقديمهم على غيرهم يعود إمّا إلى معرفة أكثر بالدين وإمّا إلى عامل السنّ، وأحياناً لاعتبارات خاصّة بالحكّام في حالة الأئمة المعيّنين. كما أنّهم ليسوا مكرّسين بمعنى أنّهم لا ينذرون حياتهم لله، خلافاً للكهنة، وهم أشخاص يمارسون حياة عاديّة فيتزوّجون ويعيشون من ثمرة عملهم في أنشطة اقتصاديّة أو تعليميّة وما إليها، وكذلك لا يعاملون كشخصيّات مقدّسة حتّى وإن كانت لهم مهابة وحرمة. إن الإمام يرمز بالأساس إلى وحدة الجماعة الدينيّة ويمكن القول بأنّه لا يكتسب قداسة إلا خلال اللحظات التي يُصلّي فيها بالنّاس، وهو في ذلك لا يختلف جوهريّاً عن حالة المصلّي صلاة جماعيّة أو فرديّة. فقدسيّته هنا متأتية في الحقيقة من قدسية الموقف: بما أنّه في حضرة الله. ويختلف الأمر بالنسبة لما يُعرف في أدبيات العلوم الاجتماعيّة بالإسلام الشعبيّ، وهو مصطلح غير دقيق، ويُشير بالخصوص إلى ظاهرة التقرّب للأولياء ممّن تُنسب لهم البركة والقدرة على إتيان الكرامات، والتوسّط لقضاء الحاجات. فمنذ عدّة قرون دأبت فئة غير قليلة من المسلمين من أتباع التقليد السنّي على التقرّب لهؤلاء (الصّلحاء) بزيارتهم وتقديم النذور إليهم وزيارة مقامات أو أضرحة الموتى من بينهم، حيث توقد الشموع وترتفع أصوات التضرّع والتوسل إليهم. ومعلوم أنّ الفقهاء واجهوا هذه المعتقدات والممارسات بالإنكار عند ظهورها، وأنّ الاتّجاه السلفيّ مازال يعتبرها بدعاً ضالّة. ولكن الهيئات العالمة انتهت في الغالب إلى التعايش معها، بل إنّ عديد العلماء، في منطقة المغرب العربيّ خاصّة، انتموا إلى الطرق الصوفيّة، علماً بأنّ الكثير من مؤسّسيها ومشايخها كانوا يُعتبرون في عداد (الصّلحاء)....
المؤسسة الدينية الإسلامية بين الانتشارية والتنظيم البيروقراطي
حاولنا قراءة الواقع التاريخيّ للمؤسّسة الدينية في الإسلام بالتمييز بين المفاهيم العامّة والمفاهيم التاريخيّة والمفاهيم التي تحتلّ منزلة وسطاً، وضمن الصنف الأخير تعاطينا مع مفهوم الاحتكار الشرعيّ لتأويل النصّ المقدّس مؤكّدين ضرورة تنسيبه وربطه بخصوصيّات الأديان والسياقات الاجتماعيّة التاريخيّة. وفي هذه الفقرة الأخيرة نتطرّق إلى العلاقة بين سلطة المؤسّسة الدينيّة وبنيتها التنظيميّة من خلال المقارنة بين الأنموذج الكنسيّ والأشكال التنظيميّة التي اتّخذتها المؤسّسة الإسلاميّة في المرحلة الثانية من تطوّرها.
ولعلّ خير ما نستهلّ به مناقشتنا للمتعلّقين بكونيّة أنموذج الكنيسة التحليل الذي قدّمه محمد أركون، وهو كما نعلم من أبرز دعاة العلمنة، فضلاً عن امتلاكه للمعطيات المقارنة بين (مجتمعات الكتاب). يتطرّق أركون في كتابه عن (العلمنة والدين) إلى ظاهرة إنتاج العقائد والقوانين المشتقّة من الوحي، وتشكّلها ضمن سياج عقديّ مغلق، ينحصر داخله العقل البشريّ. وفي ما يهمّ رجال الدين المسلمين أو الفقهاء يرى أنّهم يتشكّلون كسلطة عقديّة، ويقومون بتفسير المصحف ليستخرجوا منه الفقه أو القانون، واللاهوت أو علم الكلام، ولينجزوا منظومة أخلاقيّة ومؤسّسات، ثمّ يُضيف إثر ذلك: (الواقع أنّه يوجد عدد من التفاسير بقدر ما يوجد من المفسّرين، بل حتّى من القرّاء، فالقرّاء أيضاً مفسّرون على طريقتهم الخاصّة. وبهذا المعنى فإنّه لا يوجد سياج مغلق. في الكنيسة توجد سلطة تسيطر بشدّة على كلّ تفسير للنصوص، وأمّا في الإسلام فلا توجد، ويمكن للتفسير أن يجيء من أيّ شخص، ولكن عليه أن يسمع صوته ويقنع الآخريـن، وإلا فإنّه يبقـى مع قراءته الشخصيّة من دون أيّ تأثيـر على الأمّة أو الطّائفة)...
كنا رأينا ضرورة المأسسة ونشأة المراتبيات في كلّ دين يطمح إلى الاستمرار والانتشار، كما لاحظنا اختلاف بنيات المؤسّسة الدينيّة وأشكال تنظيمها. ففي الإسلام السنيّ، ولدى الإباضيّة، وحتى في الإسلام الشيعي اللاحق لمرحلة (الأئمة المعصومين) اتّسمت المؤسّسة الدينيّة على العموم بطابع انتشاريّ. لقد تشكّلت مرجعيّات متعدّدة حول شخصيّات ومدارس وأحياناً تحوّلت إلى تقاليد فرضت نفسها بفعل عوامل تاريخيّة وسوسيولوجيّة، ولكنّها لم تقم بكلّ وظائف السلك الكهنوتيّ، ولا اتّخذت صيغ التنظيم المعروفة لدى الكنائس. ولكن هل يبقى ما قررّناه صحيحاً باعتبار التطوّر الذي شهدته المؤسّسة منذ عهد المماليك؟.
لنلاحظ بادئ ذي بدء أنّ عزيز العظمة ـــــ وهو يتطرّق إلى الإدارة التي يرأسها قاضي القضاة ـــــ تجاهل مغزى التفريق الذي أقامه تاج الدين السبتي بين العلماء، كالمحدّث والمفسّر ونحوه وأرباب الوظائف، كالقاضي والمحتسب والمدرّس. فقد أقرّ شكلاً بوجاهة ذلك التمييز ثمّ ألغاه بحجّة أنّ (كلّ أرباب الوظائف كانوا من العلماء)، وهو ما يدعو إلى التساؤل: كيف يمكن أن نتحدّث عن (كنيسة دولة) في مجتمع إسلاميّ، ونستثني من صفوفها العلماء الذين ليست لهم صفة الموظفين، أو الذين لا يقعون تحت سلطة موظفي الجهاز الدينيّ؟ ثمّ هل يصحّ اعتبار قاضي القضاة وبصورة آليّة بمثابة السلطة الدينيّة العليا، برغم وجود عديد العلماء الكبار المستقلين عن الهيئة الرسميّة، والذين يشكّلون سلطات موازية أو معارضة...
ولنفترض الآن أنّ الشكل الإداريّ الذي اتّخذه جناح من المؤسّسة الدينيّة في عهد المماليك لم يكن سوى حالة انتقاليّة نحو شكل (مكتمل البناء) هو مؤسسة شيخ الإسلام العثمانيّة، وهو ما يفهم من كلام العظمة، فما هي الشروط التي حفت بإنشاء هذه المؤسّسة، وهل تصحّ المماثلة بينها وبين كنيسة الدولة؟
يلاحظ وجيه كوثراني أنّ منصب مفتي العاصمة أو مفتي المملكة العثمانيّة ظهر في منتصف القرن الخامس عشر. وبرغم أهمية هذا المركز والتقدير الذي يحظى به متقلّده، فإنّه لم يكن في بداياته طرفاً ضمن أعلى هيئة سلطانيّة حاكمة وهي الديوان، خلافاً لقاضي العسكر مثلاً. وكان مفتي العاصمة في البداية جزءاً من الحركة العلميّة الدينيّة الناشطة ومن حالة الزهد والصوفيّة. وقد حدث التحوّل في أواسط القرن السادس عشر عندما سمّي أبو السعود أفندي شيخاً للإسلام، وشغل هذه الخطّة في عهد السلطانين سليم وسليمان القانونيّ، ومنذ ذلك الوقت تحوّلت وظيفة الإفتاء (من دور ذي طابع إسلاميّ اجتهاديّ ومستقلّ ومنفتح إلى دور ذي طابع إداريّ ومؤسّسي منضبط داخل قوانين الدولة). من جهة ثانية، لم يكن حقّ الفتوى حكراً على المفتي الرسميّ وظلّ يمارس علناً حتّى نهاية مشيخة أبي السعود وربّما بعده. أمّا في المرحلة اللاحقة فلم يقف الأمر عند إقفال باب الاجتهاد بل (تعداه مع تفاقم أزمة السلطنة ودخولها مرحلة التقهقر إلى حظر كلّ قراءة خارج كتب الأحكام الفقهيّة الناجزة).
وعلى العموم، يُسْتَخْلَصُ من تحليل هذا الباحث أنّ مشيخة الإسلام العثمانيّة كرّست حالة من الارتباط العضويّ بين المؤسّسة الدينية والمؤسّسة السياسيّة، بل حالة من تبعيّة الأولى للثانية وتحوّلها إلى (سلطة إيديولوجيّة للنظام العام) و(سلطة بيروقراطيّة دينيّة تخاف الاجتهاد وتمنعه).
أمّا عن هيكل هذه المؤسّسة البيروقراطية فإنّ شيخ الإسلام يرأس هيئة العلماء في العاصمة، وهو الذي يتولى تعيين الفئة العليا منهم. وهو كذلك رأس الهيئة الإسلاميّة المؤلفة من مُفْتِي عواصم الولايات وقضاة المناطق والمدرّسين وأئمة المساجد السلطانية والدراويش من رؤساء الطرق الصوفية، وهو تنظيم استوحاه البايات والدايات العثمانيّون في تونس والجزائر مع بعض التعديلات. ويبدو من هذا البناء الهرميّ أنّ الدولة العثمانية تأثرت بموروث الكنيسة البيزنطيّة فأحدثت مراتبية رسميّة داخل الإسلام السنيّ مشابهة لنظام الكنيسة، إلا أنّ الشبه هنا شكليّ وجزئيّ. نعم، لقد عرفت المجتمعات السنّية الخاضعة للسيطرة العثمانية وظيفة شيخ الإسلام (والباش مفتي) ومجالس الشّرع المكوّنة من المفتين والقضاة، وفقاً لانتمائهم المذهبيّ، إلا أنّ هذا التنظيم البيروقراطيّ لقمّة المراتبيّة الدينيّة لم يكن يجد ما يضارعه في قاعدة الهرم، ولم يحل دون وجود نخب وسلطات دينيّة موازية ومستقلّة. لذلك فإنّ الجزم بالتماثل بينه وبين السلك الكهنوتيّ ومؤسّسة الكنيسة ليس سوى محاولة للتعسّف على الواقع وانشداد إلى نموذج يبقى خاصّاً مهما ادّعى الكونيّة.