حول تسيير التعليم الديني
يقول الرسول عليه السلام: (علموا ويسروا ولا تعسروا وإذا غضبتم فاسكتوا) كررها ثلاث مرات.
بعث الله سيدنا محمدا (ص) معلما للأميين الكتاب والحكمة فزكى هذه الأمة الأمينة بتعليمه وتأديبه، حتى سادت الأمم بدينها وفضلها، وصعدت الشعوب بأخلاقها وعدلها، وبكرمها وبذلها، وأمتن الله عليها ببعثه النبي الأمي وتبليغ رسالته الخالدة حيث قال سبحانه: (لقد من الله على المومنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة).
وفي آية أخرى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة). فالتعليم أول مهمة من مهمات الرسول، وقد تلقى عنه هذه المهمة شباب وكهول وشيوخ، رجال ونساء فانتفع كل واحد من المتعلمين بهذا الخير العظيم، كل واحد على قدر استعداده، وإذا كان التعليم في الصغر أرسخ في الذهن وأثبت في النفس وأمكن في قلوب آخذيه حتى قال النبي عليه السلام: من تعلم العلم وهو شاب كان كوشم في حجر، ومن تعلم العلم بعد ما يدخل في السن كان كالكاتب على ظهر الماء، رواه عبد البر، وطور الشباب معلوم ما هو، فإن العلم كذلك مطلوب في الكبر، وغير مذموم في أي حال، وقد كانت عادة أسلافنا الترحيب بكل الشباب الذين يطلبون العلم، قال الحافظ ابن عبد البر: روينا عن عبد الله بن مسعود من طرق أنه كان يقول إذا رأى الشباب يطلبون العلم: مرحبا بينابيع الحكمة ومصابيح الظلم، خلقان الثياب، جدد القلوب، حبس البيوت ريحان كل قبيلة.
وكان مبدأ الازدياد من العلم المستفاد من قول الله تعالى، وقل رب زدني علما، هو شعار النبي العربي العظيم في جميع أطوار حياته، روى ابن عبد البر بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله (ص): إذا أتى علي يوم لا ازداد فيه علما يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم. ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ص) ما اهدى المرء لأخيه المرء هدية أفضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدى، أو يرده بها عن ردى.
وقال الفراء – من أئمة اللغة – لا أرحم أحدا كرحمتي لرجلين رجل يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه، وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم. وقد سار أسلافنا الكرام على أثر مهمة الرسول في البداية بتعليم القراءة ونشره فكان التعليم الإسلامي في مختلف أمصار المسلمين يبتدئ بالقرآن الذي هو أصل الدين، ومنه يأخذ الولدان طريقهم إلى مختلف العلوم الإسلامية، وهذا هو المذهب الواضح المعمول به في سائر المعاهد الإسلامية حتى الآن لا في خصوص معاهد المغرب كالقرويين وغيرها من المعاهد، ولكن في غير المغرب أيضا، وقد حدثني شيخ المعهد الإسلامي بأم درمان فضيلة الشيخ محمد المبارك عبد الله الذي يزور المغرب اليوم أن معهد أم درمان العلمي يقبل الطلبة في القسم الابتدائي في السنة الرابعة عشرة من عمرهم نظرا لتقديمهم حفظ القرآن، أعانهم الله على حفظه. كما ذكر فضيلته أن 75في المائة من مواد التعليم هي من العلوم الدينية و25 من العلوم المسماة بالحديثة بما في ذلك اللغة الأجنبية كما تحظى المدارس العصرية ب 25 في المائة من العلوم الدينية، وفي صدد البداية بتعليم القرآن يقول المؤرخ الاجتماعي ابن خلدون في مقدمة تاريخه «اعلم أن تعليم القرآن للولدان شعار من شعار الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث وصار القرءان أصل التعليم الذي ينبني عليه مما يحصل بعضا من الملكات وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه. انتهى. وعلى هذه الطريقة درج أكابر علماء المسلمين الذين ضربت بعلومهم الدينية الأمثال وإلى القارئ الكريم ما ذكره الإمام الشافعي عن بداية تعلمه بحفظ القرءان فقد روى ابن عبد البر عن الحميدي: قال محمد بن ادريس الشافعي: كنت يتيما في حجر أمي فدفعني إلى الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، فكان المعلم قد رضي مني أن اخلفه إذا قام، فلما ختمت القرءان دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث أو المسألة فأحفظها، ولم يكن عند أمي ما تعطيني اشتري به قراطيس، فكنت إذا رأيت عظما بلوح آخذه فأكتب فيه، فإذا امتلأ طرحته في جرة كانت لنا قديما. انتهى. وكذلك ذكر الحافظ بن العربي طريقه تعليم الولدان في الأندلس فقال: وصار الصبي إذا عقل وسلكوا به أمثل طريقة لهم علموه كتاب الله تعالى ثم نقلوه إلى الأدب ثم إلى الموطأ ثم إلى المدونة إلى آخر ما قال. وبالجملة فإن أساس التعليم الإسلامي الذي يبلغ العلماء درجة التضلع في الشريعة المحمدية والتفوق في اللغة العربية إنما يقوم على مدارسة القرءان قبل كل شيء، وكذلك دراسة الأحاديث التي تبين مجمله، وتوضح مراميه ومقاصده وتستقل أحيانا بتشريع جديد.
ولن تكون الإمامة في الدين إلا كما نشأت في الماضي على هذا الأساس المتين وأن الجامع الأزهر الشريف ليتبوا الآن بسبب محافظته على شخصيته الفذة في التاريخ مكانة الصدارة بين معاهد الأمم الإسلامية شرقا وغربا، وذلك لمزيد اختصاصه بالعناية بالقرءان والحديث وعلومهما، وباللغة العربية كذلك، ونرجو أن تتبوأ القرويين مكانتها في التاريخ بفضل رعاية جلالة ملكنا الصالح لها حتى تبقى لها شخصيتها التقليدية، وتقوى موادها الإسلامية إلى جانب العلوم الحديثة لتؤدي رسالتها الخالدة، إذ لا يخفي أن التضلع في اللغة العربية رهين بمدارسة أساليب القرءان وحديث سيد البلغاء الذي أوتي جوامع الكلم عليه السلام منذ الصغر، حتى يكون رصيد الطالب العلمي من هذه المواد موفورا، وبذلك ترقى ملكات العلماء في العلوم الدينية كما تسبق معارفهم ويجود إنتاجهم في اللغة العربية لغة الدين والوطن، ولقد سجل ابن خلدون بكل إعجاب تحسن أسلوب الأدباء الذين مارسوا أساليب القرءان وأحاديث الرسول عليه السلام حيث قال في مقدمته: أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية في منظومهم ومنثورهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان ذي المة والأحوص وبشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدرا من الدولة العباسية في خطبهم وترسيلهم ومحاورتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاورتهم، والطبع السليم، والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة، والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما، لكونها أي تلك الطبقة من الكلام ولجت في قلوبهم، ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم، وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة، وأصفى رونقا من أولئك، وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة، وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة. انتهى.
وبناء على هذا نرى أن الترحيب في المعاهد الدينية بالشبان البررة الذين حفظوا القرءان وأن وقع التساهل معهم في السن إنما هو تقدير لمن يحمل في المستقبل لواء اللسان العربي المبين، ومشعل الهداية المحمدية القرءانية في هذا البلد الأمين، لتؤدي معاهدنا الدينية رسالتها الروحية الخالدة والله ولي المتقين.