إعلام الجماعات: تعصّبٌ وانغلاقٌ وعلاجه الحوار

طارق قبلان
يزدهر إعلام الجماعات في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، باحثاً عن الخصوصيّات، ومشدّداً على التفاصيل الدقيقة في حياة الجماعة وثقافتها، رافعاً من شأنها إلى الدرجة التي تُتيح له ادّعاء التفرّد والتميّز، مكرّساً قاعدةً تكاد تكون عنصريّةً حول التفاوت بين الأفراد والجماعات البشريّة، دون الإذعان لصوت العقل والدين القائل بتساوي الخلق ابتداءً، وتفاوتهم في العمل من أجل بلوغ الغايات العظيمة.

والغريب أنّ إعلام الجماعات كثيراً ما يتبنّى فكراً إسلاميّاً، ويبني رؤيته على النّص الدينيّ، أو بالأحرى ما يعتقده من النّص الدينيّ، لكنّه في واقع الأمر شيءٌ آخر؛ مزيجٌ من الشتم واللعن، مفقترٌ إلى المضمون الراقي؛ لكنّه لا ينفكّ عن التشبّث بادّعاء رسالةٍ ما موكولةٍ إليه لينشرها بين النّاس، غير مدركٍ حقيقة أنّه في واقع الأمر أبعد ما يكون عن الإعلام وأدواره الاجتماعيّة، ما يطرح سؤالاً جدّيّاً حول مبرّر وجود هذا النمط من الإعلام "الإسلاميّ".

ينغلق الإعلام المشار إليه بانغلاق الجماعة على نفسها، من خلال آليّات اللعن والسبّ والشتم والتكفير، على مدار الساعة واليوم والشهر، ويجعل قضيّته توهين الآخر وتحطيمه، بدل أن يكون الآخر نقطة القوّة في مسيرة التثاقف والتبادل المعرفيّ والاجتماعيّ.

لا يفعل هذا الإعلام الكثير في مسيرة المجتمعات، لكنّه يستمرّ في توتير الصفو الاجتماعي، لصالح بعض القوى السلطويّة، وفي تثبيت الحال الماضويّة في الأوساط الاجتماعيّة، بدل أن يعيش أبناء المجتمع حال المعاصرة والحداثة الضروريّة لمحاكاة العصر والحياة، معتمداً على دعم بعض المدارس الدينيّة والتيارات، في مختلف المذاهب الإسلاميّة، التي تُشكّل العماد السكّاني في مجتمعاتنا الشرقيّة، ما يطرح سؤالاً حول الكيفيّة السليمة للتعاطي مع هذه الوسائل الإعلاميّة والتيّارات والمذاهب التي تقف وراءها؛ فهل السبيل الأنجع هو تفكيك هذه التيارات بشكلٍ "إيجابي"، أم أنّ الأنجع اللجوء إلى أساليب مبتكرة على صعيد التنمية الاجتماعية والفكريّة، وصولاً إلى الغاية، ألا وهي تبديل حال الانغلاق إلى حالٍ من التَّسامح والحوار؟

في التجارب العديدة التي شهدتها المجتمعات على اختلافها، كانت حالات الانغلاق تُثير أحياناً كثيرةً تشنُّجاتٍ اجتماعيّة خطيرة، ربّما أدّت في حالات الذروة إلى شرخٍ أو انشطارٍ في المجتمع الإسلامي، غالباً ما كانت عواقبه قاتلة.

في العصر الحديث، يمكننا الإشارة إلى تجربتين من التجارب التي عالجت الانغلاق في التفكير الإسلاميّ، ليس على المستوى الفكري فحسب، بل على المستوى العملي الواقعي، وهما تجربتا العلّامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله والفقيه السيد حسين إسماعيل الصدر اللتين تنهلان من مصدرٍ فكريٍّ أصيل، ومن مدرسةٍ إسلاميّة كان القرآن مرشدها على الدوام، والنصّ الذي ينضح يوماً بعد يومٍ بكلّ آيات الاختلاف والتنوّع والحوار والمشترك الإنساني. وقد مارس رائدا هاتين المدرستين الاستنباط على أساس الدين وليس المذهب، باعتبار الدين دين جماعة المسلمين، والمذاهب مدارس ضمن الدين الواحد، لا تُعطي لأبنائها أيَّ حقٍّ في إخراج عباد الله من رحمة الله ودينه، كما لا تُعطي أحداً حقاً بمنع الخير عن عباد الله المكرمين.

ترتكز التجربتين على منطق الحياة، وعلى اللقاء المستمر في كلّ مواقع اللقاء الحياتي، دون الانغلاق "دوغمائيّاً" على الفكرة، ثمّ التعصّب لها، ما أوجد حياةً مشتركة بين أبناء المسلمين تنبض بمعاني الأخوّة والشعور بالمصير المشترك، لاسيّما معَ التركيز من جانب العلمين المسلمين على الحوار كغايةٍ من غايات الوجود الإسلامي.

إنّه لمن الحريّ بنا أن نستلهم التجربتين المذكورتين في سياق نشاطنا الدعوي والإعلامي، حتى يكون الإعلام باباً من أبواب الرقيّ، لاباباً من أبواب التحريض على القتل، تربويّاً وفكرياً، قبل أن يكون ماديّاً.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=6798

الأكثر مشاركة في الفيس بوك