عبقرية العرب في العلوم والآداب والفنون منذ عصر ما قبل الإسلام حتى النهضة
لقد آن الأوان لتأريخ الحضارة العربية تاريخا صادقا، وحان الوقت لتعريف الناس عنا وعن تراثنا وعما قدمناه فيما مضى من قيم عالية ولعلوم شتى وفنون رفيعة طالما كسفها المغرضون وحجبها عن الأعين المشوهون فحرفوا وزيفوا الحقيقة حتى حسب الناس أننا أمة طفيلية تعيش على موائد الحضارات العريقة ونحن الذين قدنا العالم قرونا حينما كان الظلام والضلال سائدين في أطراف المعمورة.
الآن والعملاق العربي على وشك الانطلاق ليسمع صوته مدويا يتحتم علينا أن نعيد النظر في وسائلنا التربوية وأن نغير المناهج العتيقة التي تغرس في جيلنا الشعور بالنقص والشك في مقدراتنا الذاتية على الخلق والإبداع، وأول هذه الخطوات إنارة دهاليز الماضي وكشف الغطاء عن الكنوز العقلية التي تركها الآباء ليزيد فيها الأبناء، وكم من حق مهضوم، وكم من جحود ونكران ونحن نقرأ اليوم الأخبار تلو الأخبار عن صاروخ محلق في الأجواء، وعن أقمار صناعية تكشف أسرار الكون ولم نعلم أن لبنات من هذا الصرخ الهائل وضعه هؤلاء الأجداد أمثال ابن الهيثم والباروني والرازي في الحساب والجبر وكمياء المعادن وأخلاطها وفي طرق البحث العلمي التجريبي المنظم، ولكن الحقيقة مهما شوهت فلا بد لها من يوم تطلع فيه فتية في عمر الزهر إن لم تكن إشراقات منها قد ظهرت فعلا ولم تعد مطمورة في طيات الكتب والأسفار، ويرجع بعض الفضل في دراسة حقيقة النبوغ العربي إلى كثير من المستشرقين والمستعمرين الذي بحثوا ونقبوا في المخطوطات المبعثرة هنا وهناك في مختلف مكتبات العالم فشرحوا الكثير منها وفهرسوها وبوبوها تبويبا منظما جعل الرجوع إليها متيسرا حتى لغير المختصين وصدرت منذ نهاية القرن الماضي دراسات وبحوث قيمة حول التأثيرات المتبادلة بين الشرق والغرب وحول فضل العرب في نقل التراث اليوناني إلى اللغة العربية، على أن الدراسات لا زالت قائمة حول حقيقة هذا النقل وسر عبقرية العرب ونصيبهم الأصيل من هذا التراث بعد أن سمعنا الكثير من النقاد ينكرون عليهم هذا الإبداع معترفين لهم بالنقل والترجمة فحسب دون الأصالة والخلق، وإذا كانت هذه الفكرة غير مقبولة اليوم حيث أن نصيب العرب العلمي والفلسفي بدت ملموسا أو شبه ملموس فإن الكتابة في هذا المجال لم تبلغ تمامها بعد، وما حقق حتى اليوم هو حصر الأسماء والكتب التي تناولت هذه الجوانب العقلية دون إبراز الروح العلمية والبيئية العقلية العربية في عصورها المزدهرة.
والمؤرخ الباحث في هذا السبيل يجد صعوبة جمة عندما يباشر هذا الموضوع بروح علمية موضوعية فاغلب المراجع ضاعت والكثير من الحقائق لم تزل في بطون الكتب ثم صعوبات التفسير والتأويل وتفهم النصوص عقبات أخرى تحول دون الدراسة اليقينية، ولذلك وجب علينا أن نتغلب على هذه العقبات ومواجهتها بالصبر على العمل الفكري المجهد والتساند مع مختلف العلماء العرب وغيرهم لأن البحث الفردي أصبح غير مجدي مهما كان هذا الفرد متطلعا فلا بد لنا أن نتقبل الاشتراكية العلمية والتعاون الدولي متوخين في كل هذا كشف حقيقة الحضارة العربية.
قبل أن يذكر الجوانب العديدة للنبوغ العربي يحسن أن نوضح كلمة«العرب» الكثيرة التناول على السنة الناس دون التفهم الدقيق، فمن هم العرب ؟ أي شعب يطلق عليه هذا المسمى وحضارة من هؤلاء الذين أسقطت عليهم الأضواء وباتوا على وشك تكوين كتلة ثالثة بين الشرق والغرب ؟ كثر الحديث حول أصل العرب خاصة والساميين عامة ووجدنا من يفرق بين الساميين أي سكان ما بين النهرين(العراق) وشمال الجزيرة العربية(سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين) وبين العرب سكان وسط الجزيرة العربية، وقيل بأن العرب هم غير الساميين(الكنعانيين، الأشوريين، الكلدانيين)بحجة أن لغة هؤلاء تحتوي على أسماء نباتات وأزهار لا تعرفها العرب وكذلك على أسماء انهار ومياه غريبة على موطن جنوب الجزيرة – والقول الفصل في هذا الموضوع أن الساميين أصلهم من وسط الجزيرة العربية أي أنهم والعرب من أرومة ونوع واحد، وتدل الحفريات والآثار والعادات الاجتماعية على أن العرب القدماء هو الذين هجروا من موطنهم إلى الشمال وأن الكثير منهم بقي في فلسطين والأردن والعراق وسوريا كما نسمي هذه الأقطار اليوم، وهنالك دليل آخر على وحدة الأرومة بين العرب والساميين، وهو الشبه الكبير الموجود بين اللغات السامية والعربية من حيث الاشتقاق ووزن الفعل الثلاثي والضمائر والتصريف والإعراب فكلها تتبع طريقة مشتركة واحدة، وبالإضافة إلى الدليل اللغوي هنالك دليل تشريحي فسيولوجي من حيث تشابه الوجوه والتقاطيع والقرينة الراسية(وهي العلامة ما بين طول الدماغ وعرضه منظور إليه من أعلى) فالحضارة العربية هي إذا حضارة سكان جنوب ووسط وشمال الجزيرة إلى حدود فارس شرقا وحدود الدولة العثمانية غربا.
وبعد هذه الفكرة التحليلية للمفهوم الحقيقي للحضارة العربية أريد أن القي سؤالا آخر: هل هنالك حضارة عربية قبل الإسلام، هل يصح لنا أن نصرح بأن النبوغ العربي نبوغ أصيل بدت ملامحه قبل الإسلام بقرون ؟ الجواب على هذا السؤال يتخذ مظهرين:
1-مظهر ضيق لا يرى الذين يتبنونه أي وجود حضاري للعرب قبل الإسلام وهم يقصدون بطبيعة الحال عرب وسط الجزيرة ولذلك أطلقوا على عرب ما قبل الإسلام بعرب الجاهلية لتفشي الجهالة بينهم والانحطاط المدني والعقلي ويرى المدققون في هذه الدراسات الحضارية أننا لم ندرس بعد واقع الحضارة العربية لسكان وسط الجزيرة دراسة شاملة وانه لم يصلنا اثر وآثار عن تلك العصور« الجاهلية» إلا ما يتعلق منها بالشعر أو اللغة أو الحكم والأمثال هذا هو التعليل المنطقي والحجة الصارمة لمن اسموا العرب بالجاهليين قبل الإسلام، ونحن لو رجعنا إلى القرآن فقط لوجدنا آيات عديدة تدل دلالة قاطعة على أن العرب كانت لهم حضارة عقلية رفيعة وكذلك نستطيع أن نتبين هذا من خلال القصائد الشعرية المروية عن شعراء ما قبل الإسلام وكلها تشير إشارة واضحة أن العرب كانت لهم أخلاق إنسانية سامية وعادات تؤكد المستوى العقلي الواعي لشعب عريق في الحضارة وإلا كيف يخاطب القرآن الكريم قوما لا يفقهون، وكيف يدركون حقيقة الوجود والحياة والكون بأسره وهم في مستوى الجاهل الغبي ؟ بل كيف يكون القرآن بليغا حينما يخاطب قوما لا يدركون ؟ والشرط الأساسي للكلام البليغ هو أن يفهم من السامع وأن يجد لديه أذنا صاغية وعقلا واعيا، ومن المؤكد كذلك أن القرآن لم يأت بأفكار كانت العرب تجهلها جهلا كاملا، فالتوحيد كان معروفا لدى العرب قال الله تعالى: « ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم» وقال أيضا جل علاه: «ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيى به الأرض من بعد موتها ليقولن الله، قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون» وكذلك الصلاة فقد كانت معروفة لديهم قال الله تعالى: «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون» وكانت العرب تصوم في العاشر من المحرم(يوم عاشوراء) وأن النبي كان يصومه قبل بعثته، وكذلك الأمر بالزكاة فكانت العرب تعطي للفقراء أو الحكام كما يفهم من قول الرسول العظيم:( يا معشر العرب احمدوا الله الذي وضع عنكم العشور) ولا داعي لتأكيد أمر الحج وقد كان العرب يعظمون الكعبة فكانوا يحجون ويعتمرون، وليس هذا القول هو كل الرد على من لا يرى للعرب أي وجود قبل الإسلام بكل الأدلة تؤكد أن العرب كانوا في شأن حضاري حقيقي وإذا أطلقت عليهم كلمة الجاهلية فلأنهم كانوا يجهلون الدين القويم والإسلام الحنيف.
2-على أننا لو أخذنا وجهة النظر الثانية أصحاب المظهر أو المفهوم الواسع للعرب لوجدنا أدلة محسوسة تؤكد حضارة العرب قبل الإسلام فإذا كانت حضارة عرب نجد غير معروفة فحضارة عرب اليمن في الجنوب، وحضارة الشمال في تدمر والجزيرة (العراق) والشام شاهدة للعيان حتى يومنا هذا، وقد كتبت عن الحضارتين الأخيرتين كتب عديدة وكشفت الحفريات في جنوب الجزيرة وشمالها عن مستوى رفيع في العمران والهندسة والزراعة والتنجيم بل يرى بعض المؤرخين أن حضارة العراق والشام أقدم زمنا من حضارة مصر وأن الفراعنة كانوا على اتصال بهاتين الحضارتين بل هم تأثروا إلى حد بعيد بأساليب البناء والحساب والتنجيم وهذا الرأي بدأ يتغلب على الزعم بأن حضارة مصر هي أم الحضارات.
وهكذا فما كاد الإسلام ينزل على العرب حتى وجد التربة خصبة والعقول مهيأة مستعدة لحمله ونشره على كافة الناس، فجاء الإسلام فشجع التعليم والتعلم ومن سخف الرأي أن نجاري بعض المستشرقين الذين رأوا أن الحركة العقلية والفلسفية توقفت في عهد الرسول والخلفاء الراشدين والحقيقة أن هذه الفترة كانت فترة استعداد وتفهم للسلام وحده وتعميق معانيه بالاستناد إلى الحديث والسنة دون أي فلسفة أخرى، ولما استولى بنو أمية على الحكم استمر الاعتناء بالإسلام وكانت كل العلوم تقوم لخدمة غرض من أغراض توضيح تعاليم الدين الحنيف ولكن شيئا فشيئا بدأت العلوم العربية والحضارة بصفة عامة تستقل وتتميز شخصيتها حتى إذا ما جاء العصر العباسي وجدنا استقلال العلوم كاملا أو يكاد.
ومن الغريب أن تجد في كتاب« فجر الإسلام» للأستاذ احمد أمين رأيا يزعم بأن الأمويين لم يعنوا أصلا بالدراسات العلمية والبحوث التاريخية والفلسفية وإنما كان همهم الشعر وما إليه من علوم اللغة، يقول احمد أمين:( والذي يظهر لي أن المؤمنين لم يشجعوا من الحركات الدينية والتاريخية والأدبية إلا الحركة الأدبية والقصص الرسمي ففتحوا أبوابهم للشعراء والخطباء وبذلوا الأموال وعينوا القصاص في المساجد ولم يفعلوا شيئا من ذلك للعلماء والفلاسفة ولعل السبب في ذلك أمران(الأول) أن حكم الأمويين بني على الضغط والقهر فكانت حاجتهم على الشعراء والقصاص اشد لأنهم هم الذين يبشرون ويشيدون بذكرهم ويقومون في ذلك مقام الصحافة...و(الثاني) أن نزعة الأمويين نزعة عربية جاهلية لا تتلذذ من فلسفة ولا من بحث ديني عميق إنما يلذ لها الشعر الجيد، والخطبة البليغة والحكمة الرائعة، قال المسعودي: كان عبد المالك بن مروان يحب الشعر والفخر والتقريط والمدح وكان عماله على مثل مذهبه وشأن أكثر بني أمية شان عبد الملك نستثني منهم خالد بن يزيد بن معاوية فقد كانت له نزعة دينية وقد شقي به الشعراء...إذا عدونا هذين(خالد وعمر) لم نجد كبير اثر للأمويين في تشجيع الحركة الفسلفية والدينية والتاريخية كالذي نجده عند العباسيين مثلان ومع ذلك فقد نشطت هذه الحركات من نفسها)(1) .
يمكن الرد على الأستاذ احمد أمين بأن عهد الظلم السياسي ودكتاتورية الحكم لا تؤدي دوما على انحطاط حضاري. في العهد العثماني مثلا كان الظلم شاملا ولكن حركة البناء والترجمة والتأليف لم تفتر، والمعروف كذلك عن خلفاء بني أمية أن الكثير منهم كان يحترم العلماء ويشجع الإنتاج العقلي الصرف فقد كان عمر بن عبد العزيز يقدر الإمام رجاء بن حيوة، وكان يناقش فرقة الخوارج في معتقداتها الفلسفية وكان الإمام الاوزاعي محاطا بكل إكبار واحترام، وقد احضر معاوية بن أبي سفيان البطريرك اليعقوبي تيودوروس وأسقف قنسرين ليناظر نصارى لبنان، بل يقال أن هشام بن عبد الملك كان أوصى غلامه سالما الرومي بالتنقيب عن بعض كتب الحكمة اليونانية القديمة بجمعها وترجمتها إلى العربية وأن ما ترجم سالم هذا هو بعض آثار أرسطو(2) ، وكذلك من الخطأ النظر إلى العهد الأموي مقرونا بالعهد العباسي الذي نضجت فيها الدراسات والبحوث العلمية والفلسفية بفضل الترجمة والاتصال بالحضارات الأخرى والرأي السديد هو اعتبار العصر الأموي مقدمة وتوطئة للطفرة الحضارية الهائلة في العصر العباسي.
(1)-فجر الإسلام، الطبعة الثالثة ص 187 و 208.
(2)-انظر الفهرست لابن النديم ص 117.