نشأة الفن الإسلامي وأصوله وتأثيره على فنون أوربا
نشأة الفن الإسلامي وأصوله :
خرج العرب من صحرائهم وليس عندهم من مقومات الحياة الاجتماعية، إلا عناصر بسيطة، وقد انتصروا بفئتهم القليلة وحضارتهم الساذجة على تلك الأمم العظيمة العريقة في القدم، وقد آثروا أن يبدأوا حضارتهم الجديدة من حيث انتهى السابقون عليهم، فلم تستخفهم نشوة النصر إلى القضاء على ما لم يكن مألوفا لديهم. بل ثبتوا أركان النظم التي كانت سائدة بين الأمم التي أخضعوها، ما دامت لا تتعارض مع المثل العليا للإسلام، يقول فيليب حتى في كتابه (تاريخ العرب) (فأبناء الصحراء قد ورثوا الحضارات القديمة وما فيها من تقاليد طويلة، ترجع على أيام اليونان والرومان، والإيرانيين والفراعنة واليابليين والآشوريين ولم يكن لدى العرب الأصليين أي شيء يعلمونه للآخرين وكان أمامهم كل شيء ليتعلموه، ولله ما كان أشدهم فهما، إن أولئك العرب المسلمين بما فطروا عليه من رغبة شديدة في العلم، وبما انطوت عليه جوانحهم من قوى كامنة، لم تثر بتاتا من قبل، قد بدأوا الآن بفضل تعاونهم مع رعاياهم، بفضل مساعدة أولئك لهم، يهضمون ويكيفون وينبشون تراثهم العقلي والفني). فعندما ارتاح الفنيون من أهل الذمة إلى تسامح العرب واعترافهم بمهارتهم الفنية، قام الفن الإسلامي على أسس من الفن الساساني في العراق وإيران، وعلى أسس من الفن البيزنطي ف يمصر والشام وبلاد المغرب، كما عاون الدين الإسلامي بما تضمنه من نظم وتوجيهات على نضوج هذه الحضارة، وسمو ذلك الفن، فكانت هذه هي الأسس الكبرى التي استمد منها الفن الإسلامي أصوله.
أما الفن الساساني الذي يعتبر مصدرا من المصادر الرئيسية للفن الإسلامي، فهو فن دولة الكاسرة، التي تعتبر أعظم الدول التي حكمت بلاد العجم قبل الإسلام، وكان لها في نفوس الفرس مكانة لا تدانيها مكانة.
وتنسب الدولة الساسانية، إلى ساسان، الذي كان قيما على معبد النار بمدينة اصطخر في إقليم فارس. وقد كان ابنه بابك، حريصا أشد الحرص على بعث القومية الإيرانية، التي كادت تموت بعد الفتح المقدوني، وقد نجح بابك كما نجح ابنه ازدشير، في التوسع على حساب جيرانه وتأسيس ملك عظيم عاصمته المدائن (التي تسمى في الكتب القديمة والكتب الأروبية المعاصرة (اكتسيفون). وقد يعد حكمه في الواقع ختاما لعهد الفوضى، ومبدءا لعهد مجيد، إذ عمل هو وخلفاؤه على تشييد عظمة إيران، تشييدا جديدا، وجعلوا من دولتهم في حسن السياسة وتقدم العلوم ونضوج الفن، مثالا صالحا استفاد به العرب على الخصوص، إلا أن الفن الذي أحيوه لم يكن إيرانيا خالصا كما كان من قبل، بل نسرب إليه الكثير من العناصر الفنية اليونانية، بالحضارة الشرقية، كما أن الحروب الطويلة بين الدولة الساسانية والدولة البيزنطية، كانت من عوامل التبادل الفني بين الدولتين، فتسرب إلى بيزنطة كثير من الموضوعات الزخرفية الإيرانية، ولم تلبث أن اندمجت هذه الموضوعات في الفن البيزنطي اندماجا تاما، ثم انتقلت إلى أقاليم البحر المتوسط، التي كانت تابعة للدولة البيزنطية في ذلك الوقت. كما تأثر الفن الساساني نفسه ببعض مؤثرات الفن البيزنطي.
صورة أعداء الإسلام بقصير عمره ونقرأ من اليسار فيصر ثم لودريق ثم كسرى ثم النجاشي، وعلى أساسها نسب قصير عمره إلى الفترة ما بين 92 و96هـ، لاعتبار تلك الشخصيات أعداء الوليد بن عبد الملك خاصة.
ونلاحظ من الناحية الفنية أن تأليف الصورة ساساني، وإن رسم اليدين مرفوعتين إلى النصف ومفتوحتين إلى الأمام من شارات الخضوع المعروفة في النقوش الساسانية، كما أن طراز الصورة هلنستي لوجود الشبه بين الملابس وزخارفها، وبين مثيلاتها في الكنائس والقبور السورية الهلنستية مما يوضح تأثير الفن الساساني والفن البيزنطي في الفن الإسلامي الأموي.
وكان المصدر الثاني من مصادر الفن الإسلامي هو الفن البيزنطي، وكلمة بيزنطة من بيزنطيوم، التي كانت اسم ولاية إغريقية قديمة تقع على بحر مرمرة، منذ القرن الثامن قبل الميلاد. وقد ظلت حتى اختارها قسطنطين سنة 330 م عاصمة للعالم المسيحي بدلا من روما، وسميت العاصمة الجديدة «القسطنطينية» نسبة إلى مؤسسها. ومع هذا فقد ظل الاسم القديم مستعملا، إلا أن استعماله في هذه الحلة لم يكن يعني موقعا جغرافيا، بل لبس رداء الثقافة المسيحية التي بدأت 330 ميلادية حتى مجيء الأتراك العثمانيين في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، حينما دخلوا القسنطينية وسموها «إسلام بول» أي مدينة الإسلام.
وقد تضاربت آراء العلماء في تحديد زمان ومكان (الفن البيزنطي)، ونتج عن هذا التعقيد ما يسمى (بمشكلة الفن البيزنطي) واعتقد أن أحسن تعريف للفن البيزنطي، يتضح لنا إذا عرفنا أن الفن الإغريقي ينقسم إلى ثلاثة أساليب : الأسلوب القديم، من القرن السابع الميلادي إلى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، ثم الأسلوب الكلابنيكي، من منتصف القرن الخامس قبل الميلاد حتى وفاة الإسكندر سنة 323 قبل ميلاد المسيح، وهو مصدر الفنون التي تلته مثل الفنون الرومانية وفنون عصر النهضة والفنون الحديثة، ثم الأسلوب الهلنستي الذي اتصل بفنون البلاد التي فتحها الإسكندر شرقا وانتشرت فيها الحضارة الإغريقية، وقد عاش حتى 30 قبل الميلاد، بينما يسمى الفن الرمزي الذي ولد في الإطلال من الميلاد حتى سنة 330 ميلادية بالفن المسيحي الشرقي.
وبعد الاعتراف بالدين المسيحي كدين رسمي للدولة سنة 330 ميلادية على يد قسطنطين، بدأ الفن الذي صهر الأسلوب الكلاسيكي مع الأسلوب الشرقي.
وقد ساعد الدين الجديد على هذا المزج، وعندما نقل قسطنطين معه من روما إلى بيزنطة روائع الفن الإمبراطوري الوثني، ظل الفن الجديد في بيزنطة قرنين من الزمان، حتى ساير روح الإمبراطورية الجديدة، فظهر الفن البيزنطي فعلا في القرن الخامس الميلادي وتم صوغه في منتصف القرن السادس على يد جرستنيان، الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لهذا الفن، كما يتجلى في كنيسة أيا صوفيا بما فيها من قباب وفسيفساء وتصوير.
والغريب أن كثيرا من الغربيين حين ينسبون شتى العناصر الفنية الإسلامية، إلى بعض الفنون القديمة، يلحون في ذلك، كأنهم يعلمون على الحط من شأن العرب، والحق أن هذا ظلم فادح، فالأمم كالأفراد لا تستطيع أن تحيط بكل شيء، وأن طبيعة بلاد العرب وبداوتهم لم يكن من شأنهما أن يشجعا على ازدهار العمارة والفنون الزخرفية بين ظهرانيهم، وقد قامت بينهم فنون أخرى كالشعر والخطابة والأدب، كما استطاعت جحافلهم أن تخضع لسلطانهم الجزء الأكبر من العالم المعروف في ذلك الوقت، وفضلا عن هذا، فإن سنة الفنون واحدة، كل يأخذ من الفنون التي سبقته، ولا يمنعه هذا من تكوين شخصيته ومميزاته، فقد امتاز الفن الإسلامي بتنوعه العظيم، تنوعا أصاب نواحيه وأشكاله، وصناعاته وزخرفته وأقاليمه ورجاله، تنوعا بلغ من الشدة حدا يصعب فيه كثيرا، أن نجد فيه تحفتين متماثلتين، ومع ذلك فإنه يمتاز بوحدته، ويؤكد الدكتور ديماند في كتابه القيم عن الفنون الإسلامية، هذه الظاهرة العجيبة في الفنون الإسلامية وان هذا الفن العظيم الذي رضع في طفولته شتى اللبان، وهام بين مختلف أنواع الفنون والجمال، حتى استأثر بإعجاب العالم الأوربي، وغدا بدوره مصدرا من مصادر اقتباساتهم، وأقبل ملوك أوربا ورجال الدين فيها على ملء خزائن قصورهم وكنائسهم بروائع الفن الإسلامي، هذا هو الفن الإسلامي أوسع الفنون انتشارا وأطولها عمرا إذا استثنينا الفن الصيني.
وما كاد العرب يضعون عن كواهلهم عتاد الحرب، حتى تدفقت عليهم الثروة من كل حدب وصوب، وهموا يخرجون عن بداوتهم، ولكن أبا بكر وعمر كانا لهم بالمرصاد، فكبحا جماحهم ما استطاعا إلى ذلك سبيلا، ثم جاء عثمان وكان حييا لينا، فأفلت الزمام من يده، وكانت البيئات الجديدة التي استقر فيها العرب قد أخذت تؤثر في نفوسهم وتغريهم بالحياة المترفة، فاندفعوا مع التيار، وحرصوا على الاستمتاع بالحياة، فتأنقوا في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم، لقد كان مسجد المدينة أول مسجد يلبس ثوبا من الجمال الفني، على يد الخليفة الثالث عثمان بن عفان الذي أعاد بناءه بالحجارة المنقوشة والجبص، وجعل عمده من حجارة منقوسة وسقفه بخشب الساج وحسنه، وجعل منه أثرا فنيا جميلا، وهكذا ولد الفن الإسلامي على يد عثمان بن عفان.
وأقبل المسلمون في عصر الدولة الأموية على التشييد والتعمير، وقد اتخذ الأمويون دمشق عاصمة للعالم الإسلاميـ وكانت السيادة الفنية في عصرهم للفتيين السوريين، فكان طبيعيا أن تتحلى تحفهم ومبانيهم بزخارف الفن البيزنطي، وأصبح الطراز الأموي مرحلة انتقال بين الفنون المسيحية في الشرق الأدنى، وبين الطراز العباسي، ومع هذا فلم يخل من الأساليب الفنية الساسانية التي كانت مزدهرة في الشرق الأدنى عند ظهور الإسلام، وإن الآثار الإسلامية في الشام، وهي أقدم الآثار الإسلامية وجودا، تفصح بتصميمها وزخارفها عن امتزاج عناصر من الفن البيزنطي، بعناصر من الفن الساساني، حيث كان الفن الإسلامي الصحيح ما زال وليدا لم يستق عوده بعد.
وعندما آلت الخلافة إلى العباسيين سنة 132هـ، نقلوا مقر الحكم إلى العراق، فاتخذ الفن الإسلامي اتجاها جديدا، وغلب على الطراز العباسي الأساليب الفنية الفارسية، ثم نضج هذا الطراز وبلغ أوج عظمته في مدينة سامرا في القرن الثالث الهجري، حيث كشفت الحفائر الأثرية بها، عن زخارف جديدة لها طابع خاص يميزها عن غيرها، قسمها علماء الآثار إلى طرز شتى، وقد ذاعت هذه الطرز في معظم العالم الإسلامي على الجص والأخشاب، والمنسوجات والزجاج، وأصبحت وسيلة تساعدنا على تاريخ ما قد يصادفنا من أبنية وتحف مجهولة التاريخ.
ضعفت الدولة العباسية وانقسم العالم الإسلامي إلى دول كثيرة يجمعها الدين، كما تجمعها اللغة أحيانا، وبدأت الفنون المحلية تتطور وتنضج ونشق طريقها معتمدة على ما ورثته من تقاليد فنية قديمة، وما أتى به المسلمون عند الفتح، حتى أصبح لدينا طرز إسلامية شتى، تختلف في مظهرها تبعا للوطن الذي نشأت فيه، وتتفق في كمون الروح الإسلامية فيها، فهنا الطراز المغربي والطراز الأندلسي، وهناك الطراز المصري والطراز الإيراني، والطراز الهندي، وغيرها من الطرز التي يفتقر كل منها إلى بحث قائم بنفسه.
أما في الأندلس، فقد ازدهر الطراز الأموي المغربي إلى القرن الخامس الهجري وقد احتفظ بمعظم أساليب الطراز الأموي الشرقي وبعض الأساليب العباسية، بينما احتفظت بلاد المغرب بأساليبها الفنية القديمة فترة طويلة بعد الفتح العربي، وكانت صلة هذه الأساليب بالفن الروماني واضحة إلى حد بعيد، ولم تتأثر الأساليب المغربية بأساليب الطراز العباسي إلا تأثرا بطيئا لا يكاد يظهر تماما قبل القرن الرابع الهجري، ثم أتيح للأندلس والمغرب أن يتحدا تحت حكم المرابطين الذين ضموا الأندلس إلى دولتهم عام 483هـ كما مد الموحدون سلطانهم على الأندلس، وظلوا يجاهدون المسيحية فيها إلى سنة 632هـ، عندما اقتصر نفوذ المسلمين على مملكة غرناطة، وعندما سقط بنو نصر سنة 897هـ انتهى حكم المسلمين بالأندلس.
ومن الطبيعي أن المرابطين ثم الموحدين، كانوا حلقة اتصال بين الأندلس والمغرب، فكان الجند المغاربة يرحلون للقتال بالأندلس، بينما كان يحمل الصناع والفنيون من أهل الأندلس إلى بلاد المغرب، الأساليب الفنية التي ازدهرت في بلادهم، وهكذا أقام الطراز الاسباني المغربي على يد الموحدين في القرن السادس الهجري، وقد بلغ أوج عظمته في غرناطة في القرن الثامن الهجري.
وقد كانت الزعامة في هذا الطراز، للأندلس ومراكش (المغرب الأقصى)، إلا أن مراكش أمكنها أن تحتفظ حتى العصر الحاضر بكثير من الأساليب الفنية لهذا الطراز، بينما دبت الأساليب التركية والأوربية في الجزائر منذ القرن العاشر، وحاولت تونس أن تقاوم تلك الأساليب فترة طويلة من الزمن.
أثر الدين في الفن :
وعندما ورث الإسلام فنون البلاد التي اكتسحها جيوشه المنصورة، أثر الدين في مختلق نواحي الحضارة المادية، من صناعة وفن أثرا لا سبيل إلى إنكاره عن طريق : الحج، والوقف، والحسبة، وموقف الإسلام من فنون الخط والزخرفة والنحت والتصوير.
أما الحج، فهو أحد الصول الخمسة التي بني عليها الإسلام، وهو فرض على كل مسلم يستطيع القيام به دون إرهاق، أي أنه أمر للأغنياء بالسفر إلى مكة، حيث يجتمعون بغيرهم من المسلمين فيرون ألوانا شتى من الحضارة المادية، ممثلة في السلع المختلفة المصنوعة من القماش أو الخزف أو الخشب أو المعادن أو العاج، فيتبادل الحجاج هذه السلع عن طريق الإهداء أو التجارة، وقد يجتمع رجال الصناعة بعضهم ببعض ويتشاورون في طرق الصناعة لديهم، ويحملون معهم أسرار تلك الصناعات إلى البلاد المختلفة، فيؤثرون بذلك في موضوعاتهم المحلية، وهذا وفقا لقوله تعالى (وإذن في الناس بالحج يأتوك رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله).
والوقف، نظام نشا في الإسلام، استنادا إلى أحاديث عدة أثرت عن النبي، من أشهرها ذلك الحديث الذي ملخصه أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي يستأمره فيها، فقال له : «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بريعها»، ومنذ عهد عمر ونظام الموقف مستمر، وقد اتسعت أغراضه فحسبت الأعيان على المساجد والمدارس والبيمارستانات، وعلى المساكين وعلى الذين وهبوا حياتهم للعلم أو للدين، والذي يهمنا من هذا النظام، هو أن أول قواعده هي عمارة الأعيان المحبوسة لضمان بقائها واستغلالها، فله الفضل فيما وصل إلينا من روائع العمائر والتحف الإسلامية، فضلا عما نجده في الوقفيات من وصف دقيق لهذه العمائر، وما نعثر عليه من اصطلاحات فنية، والحقيقة أن هذا النظام ضمن استمرار نشاط الصناع والفنانين، كما ضمن اضطراد حركة التطور في الفنون المختلفة، ولولا تلك الأموال التي أوقفت على العناية بالمنشآت، لضاع هذا التراث العظيم.
والحسبة، وظيفة أوجدها الإسلام عندما أدرك أنه لكي يستقيم أمر الجماعة لابد من إيجاد سلطة تلزم كل إنسان حده، ولا تترك مجالا للعبث بمصالح الناس، إرضاء لشهوة جامحة أو نزوة طارئة وقد استمدت وجودها من آيات قرآنية عدة نجدها مفصلة في كتب الحسبة، وقوام أعمال المحتسب، جميع ما يتصل بحياة الناس المدنية والدينية، فنجدها تدخلت في شؤون جميع الصناعات، ورسمت للصناع السبيل السوي، فللنساج والنجار والخزاف وغيرهم منهج خاص عليهم أن يتبعوه، حتى يأمنوا عقاب المحتسب في الدنيا وغضب الله في الآخرة، ولهذا أثره في تحسين المنتجات الصناعية والعمل على رفع مستواها، فخطت الصناعات الإسلامية بفضل إشراف المحتسب خطوات واسعة في سبيل الرقي قسمت عن دائرة الصنعة المألوفة إلى مستوى الفن الجميل.
هذا وقد وقف الإسلام مواقف سالبة وأخرى موجبة بالنسبة لأنواع الصناعات والفنون المختلفة، أدت إلى ابتداع الفنانين المسلمين لأنواع وطرز جديدة من المصنوعات والتحف.
فبالنسبة للأواني المصنوعة من الذهب والفضة، فالتحريم فيها ورد صريحا في الأحاديث –وإن لم يرد في القرآن- وقد كان هذا التحريم دافعا للصناع على ابتداع الخزف ي البريق المعدني الذي امتزجت فيه دقة الصانع مع عبقرية الفنان، والذي يتمتع من يستعمله بجمال الذهب ورونقه دون أن يخرج على أحكام الدين.
أما الحرير، فلم يحرم الدين لبسه كما يدعي كريسني خطأ، ولكنه نظم استعماله فأباحه للنساء دون قيد أو شرط، ورخصه للرجال إذا كان بالثوب قدر أصبعين أو أربعة من الحرير، وكان أثر ذلك ظهور طريقة «التابستري» في زخرفة المنسوجات، وكان من أثر هذا التنظيم، أن ملك المسلمون زمام صناعة الحرير وتجارته في مشارق الأرض ومغاربها في العصور الوسطى.
كما وقف الإسلام من فنون الخط والزخرفة والنحت والتصوير مواقف مختلفة.
أما الخط فقد آثره الإسلام برعايته، قال تعالى «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم».
كما أقسم الله تعالى بقله (نون والقلم وما يسطرون) فذكر أدوات الكتابة، كما قال «وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين» وقال «بأيدي سفره، كرام برره» وسفره بمعنى كتبه.
ولهذا تعتبر الكتابة العربية حيثما وجدت دليلا على سيادة الإسلام وعظم تأثيره، ولما كانت هي الخط الذي دون به القرآن الكريم، فقد ظلت مقدسة في كل بلاد الإسلام وفي كل عصوره، وعندما انتشر الخط العربي في الإمبراطورية الإسلامية كلها أتيح له أن يصل في نحو أربعة قرون إلى جمال زخرفي لم يصل إليه خط آخر في تاريخ الإنسانية قاطبة، ولقد أصبحت الزخرفة الكتابية من أبين مميزات الفنون الإسلامية عامة، كما اشتركت فيها أمم الإسلام كلها، فعرفت ضروبا شتى من الخطوط العربية.
منها الخطوط اللينة أو المدورة مثل النسخ والثلث والرقعة والريحاني والديواني والمغربي وغيرها، ومنها الخطوط اليابسة مثل الكوفي بأنواعه، الكوفي البسيط والكوفي المورق والكوفي المضفر والكوفي المربع وغيرها.
وقد زين الفنانون المسلمون كل ما أخرجته أيديهم من المصنوعات وما شيدوه من العمائر بالآيات القرآنية والعبارات الدينية –وأصبح الخط عاملا مشتركا في جميع فروع الفن الإسلامي- نجده على الخشب والعاج، والخزف، والزجاج، والأقمشة والطنافس وجدران المساجد والقصور.
وكما شجع الإسلام على الخط، فقد حبب إلى الفنان الزخارف النباتية والزخارف الهندسية، فقد روى في صحيح البخاري أن رجلا أتى ابن عباس رضي الله عنه قال : «يا ابن عباس، إني إنسان إنما أعيش من صنعة يدي وإني صانع هذه التصاوير»، قال ابن عباس : «لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول : من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبدا» فلما أصفر وجه الرجل قال ابن عباس «ويحك، أن أبيت إلا أن تضع فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه روح»، وفي هذا الحديث توجيهان للفنان : الأول أن يعني برسم الشجر، أو بعبارة أدق برسم الزخارف النباتية، فابتدع الفنان المسلم نوعا من الزخرفة النباتية عرف باسم (الأربسك) أو (التوريق). والثاني أن يقبل على ما ليس فيه روح، فاهتم بالزخارف المعروفة باسم المقرنصات(1) من أبرز خصائص هذا الفن.
ولم يشجع الإسلام على النحت والتصوير، والواقع أن الفن الإسلامي لم يصل في فن النحت، أو صناعة التماثيل، على الدرجة التي سمت إليها كثير من الفنون السابقة عليه، كالفن اليوناني مثلا، وليس في هذا ما يؤخذ على الفن الإسلامي، لأن لكل فن بيئته التي نشأ فيها والعوامل التي تحكمت في نشأته، فلم يكن في بيئة العرب الصحراوية رخام يشجع على نحت التماثيل، وكان يحيط بالعرب قبل ظهور الإسلام فنان : هما الفن البيزنطي والفن الساساني، ولم يكن كلاهما يعنى بالتماثيل عناية الفراعنة أو اليونان أو الرومان بها، وعندما جاء الإسلام أعلن الحرب على الوثنية، واعتبر القرآن الكريم الأنصاب رجسا من عمل الشيطان، وعلى المؤمنين أن يجتنبوه، كما بينت الأحاديث النبوية إثم من يصنع التماثيل.
وبعد، فهذه هي العوامل الثلاثة الرئيسية التي استمد منها الفن الإسلامي أصوله وحدد بها اتجاهاته.
والواقع أن العالم المتمدن في القرون الأولى بعد الميلاد، كان قد سئم الفن اليوناني القديم الذي ينقصه التنوع والابتكار، وتطلع إلى تقاليد وأساليب فنية أعظم أبهة وأكثر حرية في الزخارف والموضوعات، وجد العالم المتدين تلك الأساليب الفنية المنشورة، عند الساسانيين أولا، ثم في الفنون الإسلامية بعد أن امتدت الإمبراطورية العربية واتسعت أرجاؤها وتسرب إلى الأوربيين فن جديد بل فنون إسلامية، أثرت بدورها في فنون الغرب تأثير لا يزال ظاهرا حتى اليوم.
(Lustre Pettony.-(1