الأقليات المسلمة في البلقان: الواقع والتحديات
في النظرة الأوروبيّة يشكّل البلقان جسماً غريباً عن أوروبا المسيحيّة, وبالتالي فهو المنطقة الفاصلة التي لا بدّ من عزلها إلى أبعد ما يمكن؛ فالبلقان أصبح مرادفاً للمنطقة القذرة، ولذلك الجسم الغريب عن أوروبا, وهكذا كانت النظرة إلى شعوبه المسلمة.
وتطرح هذه المقاربات المبنيّة على نظرة أوروباويّة مركزيّة, إشكاليّة تفهّم الغرب للإسلام البلقانيّ وحقائقه.
يمثّل مسلمو البلقان خليطاً مجتمعيّاً متنوّعاً سياسيّاً وإثنيّاً ولغويّاً وثقافيّاً, بل وحتّى دينيّاً (بمعنى الاختلاف المذهبيّ). وهم في الغالب سكّان المنطقة الأصليون اعتنقوا الإسلام على امتداد قرون طويلة.
يتوزع مسلمو البلقان إلى إثنيّتين كبيرتين، هما: الإليريّة (الألبان)، والسّلافينيّون الذين يضمّون البوشناق, والتُّربشيين, والغورانيّين، ومسلمي بلغاريا البوماك. ويتحدّث مسلمو البلقان عشر لغات مختلفة، أوسعها استعمالاً الألبانيّة والبوسنيّة والتركيّة ولغة الغجر والبلغاريّة.
يتّبع مسلمو البلقان المذهب الحنفيّ, كما يوجد حوالى 20% من البكتاشيّين في ألبانيا، وبعضهم في مقدونيا, إلى جانب وجود أقليّة علويّة في بلغاريا, وينتمي جُلّ مسلمي البلقان إلى الحضارة والثقافة العثمانيّة.
عامل التاريخ في تشتيت مسلمي البلقان
يعود أوّل لقاء بين الإسلام وجنوب شرق أوروبا إلى القرن الثامن الميلاديّ على خلفيّة حصار مدينة تساري غراد وتمكّن بعض سرايا الجيش الإسلاميّ من بلوغ الجزر اليونانيّة وأدرنة.
أمّا مسلمو البلقان الحاليون فيعود وجودهم إلى زمن الفتح العثماني عندما اعتنق عدد كبير منهم الإسلام, ثمّ ما لبثوا أن تحوّلوا بعد الانسحاب العثمانيّ من المنطقة إلى أقليّات مبعثرة بين دول عدّة، وباتوا أقليّات مهمّشة ومضطهدة, باستثناء مسلمي ألبانيا وكوسوفو والسنجق والبوسنة الذين حافظوا على وحدتهم ودينهم، برغم ما تعرّضوا له بدورهم من عمليّات تصفية عرقيّة, وقد أحصى بعض المؤرّخين عشر مجازر كبرى تعرّض لها مسلمو البلقان منذ الانسحاب العثمانيّ...
المسلمون في البلقان: إحصاءات غير دقيقة
لا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد المسلمين في البلقان, لكن أكثر الترجيحات تحدّد أعدادهم ما بين 8,5 إلى 11 مليون نسمة, أو ما يُعادل 11-15% من مجموع سكّان المنطقة البالغ 77 مليون نسمة.
يشكّل مسلمو ألبانيا وكوسوفو أغلبية مطلقة في بلديهما, في حين تبلغ نسبة مسلمي البوسنة أغلبية نسبية مقارنة بأعداد الصرب والكروات الذين يقاسمونهم نفس الأرض, والمسلمون أغلبية أيضاً في إقليم السنجق الذي لا يتمتّع باستقلال ذاتيّ، وقد أصبح مسلمو السنجق يتوزعون على دولتين، هما: صربيا والجبل الأسود, ويبلغ المسلمون في مقدونيا حوالى نصف مجموع السكان, وفي بلغاريا حوالي 15%, أمّا في رومانيا واليونان وكرواتيا وسلوفينيا والمجر فيشكّل المسلمون أقليّات لا ثقل لها.
لم يكن يُعرف تحديداً عددُ المسلمين في يوغسلافيا قبل انهيار جدار برلين وما تبعه من تشظّي الاتّحاد اليوغسلافيّ إثر الحرب التي أحرقت المنطقة ما بين 1991-1995, ويعود ذلك أساساً إلى أنّ الإحصاءات التي تمّ إجراؤها حينها لم تعتمد البعد الدينيّ في تصنيف سكّان الاتّحاد, لكن هناك بعض التقديرات التي تُشير إلى أنّ عددهم قد يبلغ أربعة ملايين أو أكثر قليلاً في بلد يصل عدد سكّانه إلى حوالى 22,5 مليون نسمة، بحسب إحصاء 1981, ومع قولنا ذلك فإنّ عدد المسلمين الممارسين لعقيدتهم بين هؤلاء لا يمكن تحديده على وجه الدّقة.
تُوجد أولى الجماعات المسلمة الثلاث الكبرى في البوسنة والهرسك, ومسلموها سلافيو الأصل في أغلبهم, اعتنقوا الإسلام على امتداد القرون الماضية, إلى جانب وجود أعداد من أصول تركيّة وعربيّة وغيرها, ويبلغ عدد مسلمي البوسنة حوالى مليوني نسمة من مجموع أربعة ملايين ونصف.
الجماعة المسلمة الكبرى الثانية توجد في كوسوفو، ويبلغ عددها الإجمالي حوالى 1,2 مليون نسمة, أمّا المجموعة الثالثة فتتواجد في مقدونيا، وتتوزّع بين مسلمين مقدونيين يُجهل عددهم على وجه الدّقة, مع وجود تقديرات ترجّح أنّ عددهم يبلغ حوالى 100 ألف نسمة, يُضاف إليهم نصف مليون نسمة من الألبان و100 ألف من المسلمين الأتراك, ويُضاف إلى هذه المجموعات الكبرى أعداد أخرى من المسلمين يتوزّعون في الجبل الأسود، ويُقدَّر عددهم بعدّة عشرات من الآلاف, وحوالى مائة ألف مسلم آخرين من أصول غجريّة وأصول أخرى تنتمي إلى كلّ الأعراق المشار إليها أعلاه، وتتوزع على مختلف المناطق والمدن والقرى اليوغسلافيّة...
واقع مسلمي البلقان، وأهمّ التحديات
إذا كان عقد التسعينات قد مثّل لمجمل شعوب أوروبا الوسطى والبلقان عقد استعادة الحريّات المغتصبة من قبل الحكومات التسلطيّة الشيوعيّة, فإنّ تلك العشريّة كانت بالنسبة لمسلمي البلقان إحدى الحقب التراجيديّة الأكثر سواداً وإيلاماً وخطورة في تاريخهم منذ فترة ما بعد سقوط الخلافة العثمانيّة.
ففي الوقت الذي بدت فيه بوادر تُشير إلى استعادة الأقليّة التركيّة المسلمة في بلغاريا بعض حقوقها الأساسيّة، وبدأت أعداد منهم تعود إلى المناطق التي هجروها مختارين أو مرغمين, فإنّ تشظّي الاتحاد اليوغسلافيّ وانفجار الصّراع البوسنيّ الذي استهدف اقتلاع المسلمين هناك من جذورهم قد أعاد إلى الأذهان مآسي البلقان وشعوبه المسلمة....
إن تواجد المسلمين في قلب الصّراعات التي ضربت دول جنوب شرق أوروبا في العقد الأخير, قد غذّى عدداً من الشكوك حول حقيقة وجود صراع بين الحضارات أو الثقافات, وقد وجدت أطروحات صامويل هنتنغتون وروبرت كوبلان في هذا الصدد أرضاً خصبة في منطقة البلقان؛ حيث يلتقي مثل هذا الخطاب المشحون والشّاحن مع الصورة النمطيّة المرسومة سلفاً للخلافة العثمانيّة أو حول دور دول البلقان في حماية المسيحيّة من هجمات الإسلام.
وقد يجد هذا الخطاب المخوِّف من الإسلام بعض امتداداته في نظريّات تدّعي العلميّة وتحذّر من خطر أخضر داهم أو من محور إسلاميّ, أو أيضاً الخوف من إعلان ما سُمي بالجهاد الديموغرافيّ في البلقان، وهو ما يخفي وراءه فكرة مخيفة تهدف إلى نزع المشروعيّة عن الوجود الإسلاميّ في البلقان، وتغذّي النهج الطامح إلى محاولات اجتثاثهم من المنطقة ... وهو ما أدّى وسيؤدّي في الغالب إلى عمليّات التطهير العرقيّ التي أضحت بضاعة بلقانيّة بامتياز...
إنّ الجماعة المسلمة في البلقان لا تمثل وحدة متلاحمة، بل تقدّم نفسها في أشكال جماعات مناطقيّة, تختلف علاقات كلّ منها سواء الرسميّة أو غير الرسميّة, مع سلطات البلدان التي تعيش فيها, كما أنّ حقيقة أوضاع الجماعات المسلمة على الأرض ليست واحدة وتختلف اختلافاً كبيراً سلباً أو إيجاباً.
يمكننا هنا طرح التساؤل التالي: هل مكَّنت الصّراعات التي عرفتها فترة التسعينات المسلمين في البلقان من تحقيق أهدافهم القوميّة وإنجاز مشاريعهم الوحدويّة؟ والإجابة لا يمكن أن تكون قطعيّة, برغم أنّ البوسنة وكوسوفو حقّقتا استقلالهما عن بلغراد, لكن يبدو أنّ ألبانيا لم تتجاوز بعدُ أزمتها التي عصفت بها عام 1997 وطالت وحدتها القوميّة. أمّا في ما يتعلّق باستقلاليّة إقليم السنجق وغرب مقدونيا التي طالب بها متشدّدو المسلمين في هذين الجيبين، فلم تعد اليوم على الأجندة المطلبية, فيما تظلّ المسألة القوميّة مطروحة وبقوة لدى البوشناق، وبالأخصّ لدى الألبان. وعموماً فإنّ الأمور شهدت تطوّراً في اتّجاهات عدّة.
واقع الحال والمآلات المحتملة
في العقد الأخير بدأ مسلمو مقدونيا ذوو الأصول السّلافية يحظون بدعم واضح من السلطات المقدونيّة من أجل هيكلة مؤسّساتهم وتنظيم أوضاعهم للحصول على جسم مستقلّ عن إخوانهم من المسلمين الألبان في مقدونيا, وهم يحاولون النأي بأنفسهم والخروج من السيطرة المؤسّساتية التي تفرضها الأغلبيّة الألبانيّة المسلمة التي تهيمن على الحضور المسلم في مقدونيا، بعد أن زادت أعدادهم خلال العقود القليلة الماضية بحكم موجات الهجرة الكثيفة التي قام بها مسلمو كوسوفو من الألبان إلى مقدونيا, لكن يبدو أنّ هذه الاستقلالية التي يسعى إليها المسلمون المقدونيون بعيدة المنال بسبب قلّة عددهم وغياب قيادات قويّة بينهم.
أمّا في كوسوفو, فإنّ فورة القوميّة الألبانيّة تخفي إمكانيّات تحليل الأهميّة الحقيقيّة للبعد الدينيّ الذي يميّز الجماعة المسلمة هناك, وتتلخّص الخطوط العريضة لتوجّهات المسلمين في كوسوفو في: إظهار انتماء ألبانيّ قوميّ قويّ يغلب عليه الطابع العلمانيّ مع وجود مسحة إسلاميّة غير خفيّة, ومقاطعة للمؤسّسات اليوغسلافيّة وللدولة قبل الاستقلال عن صربيا, واتّباع سياسة الندّ للندّ بعد الاستقلال الذي أعلنته "بريشتينا" من جانب واحد ورفضته بلغراد، برغم اعتراف ما يزيد عن ثمانين دولة عبر العالم بهذا البلد الوليد. وقد جاءت آخر انتخابات رئاسيّة في صربيا بالقوميّ المتشدّد, توميسلاف نيكوليتش إلى كرسي الرئاسة في العشرين من مايو/أيار 2012, وكان أوّل ما صرّح به أنّه لم ولن يعترف باستقلال كوسوفو، وسيسعى إلى استعادة الأرض التي يعتبرها صربيّة خالصة, بكلّ الطرق المتاحة, كما كانت أوّل زيارة خارجيّة له, في السادس والعشرين من مايو/أيار 2012 إلى الكرملين حيث تلقّى دعماً مهمّاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ فكوسوفو هي المقياس الدال على استقرار المنطقة من عدمه وأيّ انفجار للأوضاع هناك سيشعل المنطقة بأكملها ويعيد ترتيب الأوراق داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً.
الأكيد أنّ أوضاع المسلمين في البوسنة أصبحت أكثر تراجيديّة, فقد أدّت أوّل انتخابات عرفتها البلاد بعد الحرب العالمية الثانية إلى انهيار وإفلاس تام للحزب الشيوعيّ الذي كان يحكم البلاد وفوز كاسح للحزب الإسلاميّ حديث العهد، والذي استطاع حينها أن يجمع كلّ القوى السياسيّة المسلمة في تحالف مقدّس. لكن وبعد وقت قصير من ذلك تشظّى الحزب المسلم القويّ إلى عدّة أحزاب أبرزها ثلاثة يمكن تصنيفها إلى دينيّة وعلمانيّة ويساريّة, وقد شهدت العلاقة بين هذه الفصائل الثلاث مواجهات واحتقانات عديدة، خاصّة أثناء الاستحقاقات الانتخابيّة المهمّة, وتميّزت العلاقة بينها بالتأزم ومحاولات كلّ منها إقصاء الآخر من الحياة السياسيّة, كما أنّ لكلّ حزب منها أهدافاً واستراتيجيات مختلفة قد تصل إلى حدّ التضارب.
يبقى وضع المسلمين في البوسنة غير واضح المعالم ولا يمكن توقع ما ستؤول إليه الأوضاع بعد رحيل القوات الغربيّة, خاصّة في ظلّ تصاعد موجة مطالبات صرب البوسنة, في ما يُعرَف بريبوبليكا صربسكا, بانفصالها عن البوسنة والتحاقها بالدّولة الأم صربيا, وقد يُغذّي هذه المطالب اليوم وجود رئيس صربيّ ورئيس وزراء في ريبوبليكا صربسكا يسعيان إلى تحقيق حلم الصرب القديم الجديد في إقامة إمبراطورية الصّرب الكبرى, لكنّ أية محاولة للانفصال بالقوة ستؤدّي إلى انفجار مسلّح يعيد البوسنة إلى المربّع الأول ويخلط الأوراق الإقليمية والدولية في المنطقة من جديد, وقد تكون الحرب المحتملة هذه المرّة أكثر دموية وستخلّف دماراً واسعاً وعدم استقرار قد تصل ارتداداته الخطيرة إلى الجار الأوروبي الغربي.
خاتمة
لفهم أكثر موضوعيّة لإشكاليّة وضع المسلمين في البلقان اليوم علينا مراعاة الملاحظات التالية:
لقد أنهى سقوط الاتحاد السوفيايتي وتشظّيه إلى دول عدّة سيطرة المركز على الأطراف وإلى الأبد, كما وضع هذا الانفجار حدّاً لعمليّات التهميش التي عانى منها المسلمون, خاصّة على مستوى الهويّة الدينيّة والإثنيّة والقوميّة, ويبدو أنّ فترة الاضطراب والتذبذب هذه ستستمرّ لعقود طويلة يغذيها الانهيار الاقتصاديّ غير المسبوق الذي يضرب بلدان البلقان...
أخيراً ومهما يكن من أمر، فإنّ مسلمي البلقان, ما عدا أولئك الذين يعيشون في ألبانيا, سيظلّون أقليّات دينيّة وإثنيّة تعيش داخل بلدان تعادي الإسلام وترغب في إنهاء وجوده أو على الأقلّ إبعاده عن الحياة العامّة للمجتمعات البلقانيّة. وفي رأيي, فإنّ ذلك الحوار غير المتكافئ بين السّلطات في البلدان البلقانيّة والأقليّات المسلمة الخاضعة لها ستفضي إلى إرضاء نسبيّ للجماعات المسلمة, لكنّها ستحملهم عاجلاً أو آجلاً على إظهار عدم رضاهم، وبالتالي عودة الاحتقان، وربّما التصادم مع تلك الحكومات، وهو الأرجح.
المصدر: الجزيرة نت