حوارٌ بين أهل الدّيانات؟

سعيد بنسعيد العلوي

 

 

هل في الإمكان الحديث - في ضوء ما نرى ونسمع، وبما شهدته السّاحة الدوليّة عموماً - عن حوارٍ بين أهل الديانات؟ وهل في الإمكان أنْ نتحدّث، خاصّةً، عن حوارٍ بين أهل الديانتين السماويتين (الإسلام والمسيحية) في وقتٍ نرى فيه التهم تكال للمسلمين، دون أن يكون لها سندٌ فعليٌّ في الواقع، وفي الوقت الذي يتمّ فيه اللمز - من جهاتٍ مسيحيّةٍ - إلى خلوّ الإسلام من روح الحوار وقبول الديمقراطية، وهذا في أدنى الاتّهامات؟
 

 

 

الحقّ أنّ خلطاً كثيراً، ليس في كلّ الأحوال متعمّداً، يشوب الحديث عن الإسلام والمسلمين في المنتديات الغربيّة، وذلك راجعٌ لأسبابٍ كثيرةٍ متداخلةٍ. والحقّ أنّ هناك ضيقاً في النّظر وانصرافاً عن الرؤية السليمة لفظائع الإرهاب في تجليّاته المختلفة. غير أنّنا لا نقول إنّ الحديث عن الحوار بين أهل الديانات ممكنٌ (مع ما نرى ونسمع ممّا يحمل على التّشكّك والرّفض واعتبار المتحدّث ينمّ عن سذاجةٍ غريبةٍ)، بل إنّنا ندّعي أنّه ضروريٌّ من حيث إنّه السبيل الوحيد الذي نمتلكه اليوم، من أجل محاولة تطويق الإرهاب، بالكشف عن طبيعته من جهةٍ، وبالإبانة عن الويلات والشّرور، التي تلحق بأهل الديانات جميعهم، من جهةٍ أخرى. ذلك أنّ الإرهاب، في تجليّاته الشّريرة كلّها، يركب الموجة الدينيّة، ويُسخّر الحميّة الدينيّة، من أجل تنفيذ مخطّطاته الدنيئة.
نودّ أنْ نقف عند حادثةٍ فظيعةٍ، ودلالتها، ثمّ عند واقعٍ ومقتضياته؛ وذلك من أجل الاحتجاج للقضيّة التي نصدر عنها (القول بوجوب الحوار بين أهل الديانات مع ما نرى ونسمع، ممّا يحمل على التّشكيك في إمكان الحوار وجدّيته).
أثارت فاجعة كنيسة القديسين في الإسكندرية، ما قرأنا وسمعنا من ردود الفعل المنطقيّة والطبيعيّة، في الشّرق والغرب، على السّواء. غير أنّ مضامين تلك الردود جنحت جهة الإسراف في القول، فحادت عن جادّة الصّواب ووقعت في أخطاء فادحة في ما تطلقه من أحكامٍ، على غرار ما ورد على لسان رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة في خطاب التّهنئة بحلول السنة الميلاديّة الحالية، الذي ألقاه في حفل استقبال ممثّلي المجتمع المدنيّ في قصر الإليزيه، تعليقاً على ما حدث، وما قدّر أنّه ينال المسيحيين في الشّرق الأوسط. غير أنّ ما استوقفنا أكثر من خطاب الرئيس ساركوزي، ومن عبارةٍ مسؤولةٍ وردت فيه («التطهير الدينيّ»، في إشارةٍ إلى أعمال الإرهاب التي وقعت في الأشهر الأخيرة في كلٍّ من مصر والعراق وباكستان) هو ردود فعل بعض الصّحف والمجلّات في فرنسا. نذكر من هذه الأخيرة أنّ أسبوعيّة «لوبوان»- إحدى أكثر المجلات الأسبوعيّة انتشاراً - قد خصّصت حيّزاً غير يسيرٍ من عدد الأسبوع الأوّل، من الشّهر الحالي، للحديث عن «مطاردة المسيحيين»، فضلاً عن صورة الغلاف، حيث كتبت بالبنط العريض:«حربٌ إسلامويّة في مصر والعراق وباكستان.. مطاردة المسيحيين».
 
وفي قراءتنا للمقال الرئيسيّ في هذا العدد، تستوقفنا العبارة التالية:«إنّ هذا الفعل الهمجيّ ليس حادثاً منعزلاً، ذلك أنّ العشريّة الأخيرة تميّزت بأفعال عنفٍ كانت تستهدف كلّها المسيحيين في مصر». وتستوقفنا عبارةٌ أخرى تُفيد أنّ الإسلام، عكس ما يدّعي أهله، يضيق ذرعاً بالحريّة وباحترام معتقدات الغير، ومن ثَمّ، فإنّ مبدأ «الدولة الديمقراطيّة» لا يتوافق مع طبيعة الإسلام. ثمّ إنّ الأغرب، والأشدّ خطورة من ذلك، هو أنّ المقال، بعد الدّعوة إلى التآزر مع «مسيحيّي الشّرق» ينتهي بطرح فكرةٍ ثمّ تساؤلٍ بعد ذلك.
فأمّا الفكرة، فهي التّقرير بأنّ «مسألة الحضور المسيحيّ في المشرق ليست قضيّةً دينيّةً فحسب، بل إنّها، بالأحرى، قضيّة سياسيّة واستراتيجيّة وحضاريّة». وأمّا السؤال، الذي يُذيّل به صاحب المقال خطابه الهائج فهو: «كيف ندعو إلى التّعايش تحت سمائنا، في الوقت الذي يغدو فيه ذلك التعايش مستحيلاً في الضّفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط؟».
لندعِ التعليق على الفكرة والسّؤال معاً، بعد التنبيه إلى خلطٍ أو نسيانٍ (أو هما معاً)، في النّظر إلى حادثة «كنيسة القديسين»، وما عرفته البلاد العربيّة قبل الحادثة من فظائع، سعى فيها الإرهاب إلى التوسّل بالحميّة الدينيّة وركوب موجتها، من أجل القتل والفساد في الأرض.
غنيٌّ عن البيان أنّ ما وقع في الإسكندرية، وما حصل في القاهرة قبل ذلك، في السنة ما قبل الماضية، وما شهدته أسيوط ومناطق من الصعيد من فظائع، كان يستهدف أمن واستقرار مصر، من حيث إنّها دولةٌ ومجتمعٌ تتعايش فيها الأكثرية المسلمة والأقليّة المسيحيّة، ويتمازج المواطنون في وحدةٍ رائعةٍ. فمصر كيانٌ روحيٌّ ورابطةٌ سياسيّةٌ ونسيجٌ ثقافيٌّ عظيم الشّأن...
فأمّا القول بأنّ «الحضور المسيحيّ» في المشرق العربيّ قضيّةٌ استراتيجيّةٌ وسياسيّةٌ وحضاريّةٌ، فذلك من قبيل السّفه الذي لا يُردّ عليه، أو قلْ إنّها تنفث آيديولوجيا استعماريّة تُذكّرنا بالخطاب الكولونياليّ في المغرب العربيّ في العقود الأولى من القرن الماضي. وأمّا التساؤل حول ما إذا كان من الجائز قبول التعايش (بين الأديان، نقولها تصريحاً لما يُضمره المقال المشار إليه) تحت «سمائنا»، والحال أنّه مستحيلٌ في الضّفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسّط، فالجواب فيه أنّ ذلك حديثٌ يتّصل بواقع الإسلام والمسلمين في أوروبا، من حيث إنّه يطرح قضيّةً لها حدّان اثنان: حدّها الأوّل قبول الغير (= المسلمون) في ظلّ «المواطنة» والانتماء والاندماج في البلد الذي تمّ اختياره وطناً للإقامة والانتماء بحكم قوانين الجنسية، وتلك قضيّةٌ ترجع إلى الهجرة والمُهاجرين. والقضية في حدّيها الاثنين تُثير إشكالاتٍ عديدةً، تنتهي بنا كلّها إلى القول بأنّ رفع قضيّة الحوار بين أهل الديانات أمام محكمة العقل والعقلاء لها مكاسب عظمى، ليس أقلّها شأناً السّعي إلى مُحاصرة الإرهاب وإشاعة الوعي بالزيف الرابض في تحميل الحميّة الدينيّة ما كان خفافيش الظلام، في كلّ زمانٍ ومكانٍ، يجعلونه سبيلاً لتحقيق أغراضٍ سافلةٍ ومكاسب تسترخص كلّ المبادئ الروحيّة والقيم الإنسانيّة السامية.
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك