مداخل واقعيّة لنجاح الحوار الإسلامي ـ المسيحي
السيّد محمّد حسين فضل الله (قده)
للحوار بين الإسلام والنصرانيّة، في واقع المسلمين والنصارى، جانبان الأول:لاهوتيّ، وهو يتمحور حول العقيدة في الله والمسيح والنبوّة والإنجيل والقرآن، وما يتّصل بهذه المفردات من مفاهيم الصَّلب والفداء وما إلى ذلك.
والثاني:واقعيّ يتّصل بحركة التعايش بين الدِّينين والجماعتين في الوطن الواحد، أو في العالم كلّه، على صعيد المواقع المشتركة أوالمنفصلة.وبالتبشير الذي يمثّل العنوان العام للنصرانيّة في امتدادها في الإنسان وثنياً أو مادياً أو مسلماً أو يهودياً كان، وبالتبليغ الذي يمثّل الحركة الإسلامية في الدعوة لإدخال الناس في الإسلام إلى أيّ دينٍ انتموا وإلى أيِّ إتجاه تحرّكوا وبالمفاهيم المتنوِّعة المختلفة حول قضايا الشريعة في تفاصيلها المتعلقّة بأهل الذمة، وبالحكم وبالحريّة وبالمرأة وبالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، وبقضايا الشرق والغرب، والمستكبرين والمستضعفين، والعدل والظلم وغير ذلك مما يتّصل بحركة الإنسان في تأكيد وجوده في الأرض وحمايته من أيّ عدوان.
وقد نلاحظ أن مسألة الحوار بين الدينين ليست من المسائل التي يمكن أن تترك ولا تعالج بالطرق العلمية الموضوعية، لأنّ طبيعة العلاقات المتشابكة والتحديات المشتركة تفرض على الأطراف المختلفة الدخول في الحوار المنفتح على الآخر، من أجل المصلحة العامّة لامتداداتهما ووجودهما الحيويّ في ذاتيهما ومع الآخرين.
الحوار بين الذاتيّة والموضوعيّة
ولذلك فقد يكون من الضروري دراسة ذلك كلّه بعيداً عن الذاتيّة الطائفية التي يعيشها كلّ منهما في تصوّراتهما الساذجة التي تدفع إلى استفادة كلِّ منهما من الأوضاع التي تُضعف الآخر أو تُسقط مصداقيّته، لأنّ ذلك لن يحقّق لأيِّ منهما ما يريده لنفسه، بل يؤدّي إلى إضعافهما معاً بفعل التحديات الأخرى المشتركة الرافضة لهما.
إننا نعتقد أنّ من الضروري العمل على إدارة الحوار في المسألة اللاهوتيّة على مستوى دراسة كلّ المفردات التي يُختلف فيها، ومحاولة كلٍّ منهما التعمّق في ما عند الآخر من مصادر ثقافيّة أصليّة كالكتب المقدَّسة، والتراث الفكريّ، للدخول في عملية مقارنةٍ في ما يلتقيان فيه، وحوار في ما يختلفان فيه.مع ملاحظة مهمّة وهي أنّ الحوار لا بدّ أن يرتكز على مواجهة العقيدة المُعاصرة للإسلام وللمسيحيّة، باعتبار أنّ الكثير من مفاهيم العقيدة لكلٍّ منهما ربما تجاوزها الواقع الفكريّ لهذا أو ذاك، ممّا يجعل الدخول في مناقشتها حركةً في الفراغ، كما نُلاحظه في بعض الأفكار التي يُثيرها القرآن عن التفكير النصرانيّ في عصر النزول في مثل "الإبنية المتجسِّدة"أو "التثليث المادّي المتعدّد"أو نحو ذلك مما يقول بعض المسيحيين عنه بأنه لا يمثِّل العقيدة المعاصرة لهم، بل يمثّل لوناً من ألوان التفكير البائد لبعض فرقهم التي يرفضون خطّها العقيديّ، كما يرفضه المسلمون، فلا يجوز لهم أن يلزموهم به كما لو كان يمثّل الحقيقة الإيمانيّة للمسيحية في بُعدها الفكري العقيدي.
إنّ قيمة دراسة اللاهوت الإسلامي والمسيحيّ في حركيةّ الفكر والحوار تتمثّل في النتيجة الإيجابية الثقافيّة والروحية في وضوح الرؤية، ووعي الحقيقة لدى الآخر، مما يبعد الساحة عن سوء التفاهم من خلال ارتباك التصوّرات وضبابية المفاهيم.
ونحن نعلم أن الوضوح في فهم الآخر هو الذي يساهم في تقريب الأفكار وتوازن الأحكام، وانفتاح الإنسان على الإنسان والموقف على الموقف والموقع على الموقع..
وإذا كانت العصبيّة التاريخيّة المتحجّرة قد خلقت لدى المسلمين والنصارى حالةً من التشنّج والخوف والشكّ والحذر ونحو ذلك، بالمستوى الذي ابتعد فيه أحدهما عن الآخر وتحوّل إلى فريق يحرِّك كل إمكاناته في حماية نفسه وساحته وأتباعه من هذا "الآخر"، إلاّ أنّ ذلك لم يحقّق لأيٍّ منهما أيّة نتيجة حاسمة على مستوى الهدف الذي يستهدفانه من الانفصال الفكريّ بينهما، بل ساهم في إيجاد هوّة سحيقةٍ أبعدت كلّ واحد منهما عن الفهم الحقيقيّ للآخر، وعن الوقوف على قاعدة الكلمة السواء التي تتيح لهما - في المسألة الفكرية ـ اختصار الجهد المبذول في مناقشة الآخر فيما قد يلتقي فيه معه.
وإذا كان البعض يخاف من دخول الآخر إلى ساحته في عمليّة تبشير أو دعوة في الأسلوب الفكريّ الذي يثيره في ساحة الحوار فإنّ ذلك لن يكون أمراً سلبياً على صعيد الهدف الذي يستهدفه في تقريب الناس إليه من خلال الفكر الحواريّ، كما أنّ البُعد عن هذه الساحة لا يحقّق الحماية الذاتيّة المطلوبة لهذا أو ذاك، لأنّ التطوّرات الفكرية في قضايا الدِّين وغيره لا بد من أن تترك تأثيراتها على كل الواقع بعيداً عن كل وسائل الحماية الذاتيّة في هذا الموقع أو ذاك.
وقد يجد كل فريق نفسه في فرصةٍ ذهبيةٍ لإقناع الفريق الآخر بما يريد إيصاله إليه.في عملية تقريبه إلى فكره كخطوة أولى لإدخاله فيه من خلال الانتماء.
ونحن نتصوّر أن التطوّر الفكريّ في الواقع المعاصر، والانفتاح الإنساني على القضايا الفكريّة المعقّدة، والروح الموضوعيّة التي أصبحت تعيش في داخل الذهنيّة الثقافيّة المعاصرة في الفكر والأسلوب والآفاق الجديدة التي انفتحت عليها كل المواقع الدِّينية والفكريّة في شمولية النظرة إلى الأمور المختلف عليهاكل ذلك يتيح لأتباع الدينين الدخول في حوار يتمحور حول الهدف الإنساني الكبير في الوصول إلى وحدة التصوّر الدِّيني في المفاهيم العامة أو لقاء الأفكار الدينيّة على القواعد المشتركة، من أجل الانطلاق بالحوار من موقع اللقاء الذي يهيّء الأجواء للحصول على نتائج وحدويّةٍ حاسمة.
وإذا كنّا نعطي الأهمية الكبرى للحوار في المسألة اللاهوتية، فإن الحوار في المسألة الواقعيّة العمليّة لا يقل أهمية عن ذلك، بل قد تكون هذه المسألة هي الأقرب للوصول إلى نتائج إيجابية كبيرة، لأنها تتّصل بالمصالح المشتركة على صعيد الواقع، مما يحتاج فيه كلّ منهما إلى الحصول عليه وملاحقته للحفاظ على وجوده الفاعل في ساحته الوطنيّة أو الإقليمية أو العالميّة، باعتبار أنّ الهروب من مواجهة المشكلة لا يحلّها بل يزيدها تعقيداً.
وقد نلاحظ أنّ هناك أكثر من قضيّة مشتركة يلتقي فيها المسلمون والمسيحيّون في كل الساحات، وهي الكلمة السواء في التوحيد، ورفض الشرك ووحدة الإنسانيّة ورفض الاستكبار والاستعباد الإنساني، وهو الذي طرحه القرآن الكريم على أهل الكتاب في قوله تعالى:{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضناً بعضاً أرباباً من دون الله}.
ليتحرَّك الجميع لمواجهة الماديّة الملحدة، والشرك العبادي والاستكبار العالمي، لينطلق الإيمان بالدِّين بشكل عام قويّاً في ساحة الفكر، ويتحرَّك المستضعفون في مواقع القوّة في مواجهة المستكبرين؛ الأمر الذي قد يتيح للشعوب المستضعفة أن تكتشف في الدين الحركيّ معنى الحريّة والعدالة، فتلتقي بالإيمان به من خلال الجهاد السياسي في خط المواجهة للظلم العالمي كله، ليقف المسلم ضد المستكبر حتى لو كان مسلماً، ويقف المسيحي ضد المستكبر حتى لو كان مسيحياً، فذلك هو الذي يمثّل اختصار المسافة الطويلة للوصول إلى عقل المستضعف، لأنّ الكثيرين من الناس يفهمون الإيمان من خلال المشاكل التي يتخبطون فيها أكثر مما يفهمونه من خلال المفردات اللاهوتيّة التي يفكرون فيها، لأنّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبُه، كما أنّ أقرب الطرق إلى القلب قضاياه وحاجاته الطبيعيّة الملحّة في الحياة.
ونحن نلاحظ - في هذا المجال ـ أنّ ثورة الإمام الخميني"رحمه الله" استطاعت أن تزيل الكثير من الحواجز النفسية والفكريّة والواقعيّة عن الانفتاح الإنساني على الدّين ـ بشكل عام ـ وعن الإسلام بالذات، لأنّه اقتحم بثورته الإسلامية المبنية على أساس الحريّة والعدالة للمستضعفين جميعاً ـ عقول الناس وقلوبهم فاستطاع أن ينفذ من خلال ذلك إلى حياتهم.كما نجد أنّ البابا بولس السادس استطاع أن يحقَّق للروح المسيحيّة الكثير من خلال نشاطه السياسي في حركته من أجل القضايا الإنسانية العامّة في أكثر من موقعٍ أو موقف.
فهم الآخر
إنّ الفكرة التي تقول بأنّ المسلمين أعرف بإسلامهم من غيرهم، دائماً، وإنّ المسيحيين أعرف بمسيحيّتهم من غيرهم، دائماً، هي فكرة غير علميّة وليست دقيقة، فقد بلغ الإنسان المستوى العالي من المعرفة بالأفكار الأخرى للآخرين أكثر ممّا يبلغه أصحابها من خلال توفّر المصادر الأصليّة والملاحظة العلميّة والجوّ العام.
وإذا كانت بعض الأمور، تخضع للإحساس الداخلي في الوجدان العام للمجتمع الإسلاميّ أو المسيحيّ، ممّا قد يحسّه الإنسان من دون أن يملك التّعبير عنه، من خلال الإرث التاريخي الذي تتناقله الأجيال في قناعاتها الذاتية لبعض القضايا الروحية أو الشعورية، فإنّ من الممكن الوصول إلى ذلك ببعض الوسائل من جهة، كما يمكن أن يتولّى الحوار الموضوعي مهمّة تصحيح الخطأ الذي قد يقع فيه الباحث الذي ينظر إلى القضايا من الخارج، بعيداً عن وعي الداخل الخاص الذي يحتفظ به هذا الجانب أو ذلك، لنفسه بخصوصياته الذاتيّة.
الوعي المطلوب
إنّ بعض القضايا التي يحاول الإعلام الاستكباريّ أن يحوّلها إلى عنصر إثارة للغرائز الطائفية، كمظهر من مظاهر النزاع الدِّيني، قد تمنحنا بعض الوعي للدخول في حوارٍ موضوعيٍّ شاملٍ حول علاقة الإسلام بالمسيحيّة وواقع المسلمين والمسيحيين في المناطق المشتركة، أو المتجاورة، وكيف يُمكن أن نتفادى الاستمرار في التّجربة المدمّرة التي لن يجني منها الجميع، أيّ فائدة، على مستوى قوة المواقع، لندخل في محاولةٍ واقعية واعية، تدرس القضايا على صعيد الواقع العملي في قضاياه السياسية والاجتماعيّة وفي الخطوط الدِّينية المشتركة التي تعمل على أساس انفتاح الإنسان على الله في حركة الروح والخير والحق والعدالة والرحمة والمحبة، لنعيش في ذهنية الإنسان الذي يعيش معنى القيمة ولا يعيش فوضى الغريزة في علاقته بالإنسان.
قد يكون من المفيد لنا ـ مسيحيّين أو مسلمين ـ أن نعرف ما نريد في خط المسيحيّة والإسلام، لنتحاور في الوسائل الواقعيّة التي تحلّ المشكلة بدلاً من أن تعقِّدها، وأن نكتشف ما يخطِّطه الآخرون من المستكبرين الذين لا يعني الإسلام ولا المسيحيّة شيئاً لهم إلا بمقدار ما يحققان لهم من مصالح بعيدة عن مصالح المستضعفين من أتباع هذا الدين أو ذاك.
لقد دأب الكثيرون على استغلال الدِّين كمادّةٍ سريعة الالتهاب والاشتعال انطلاقاً من التخلّف الروحي والثقافي في الوجدان الدِّيني للمؤمنين، الأمر الذي أطلق الانطباع بأنّ الدِّين لا يستطيع أن يخدم سلام الإنسان مع الحياة والإنسان الآخر، لأنه يشجّع الصراع، ويخلق التوتّر، ويقود إلى الحروب، ويعمل على إلغاء الآخر واعتبار العنف أساساً للتعامل معه، حتى أنّ بعض العلمانيين حرَّك الدعوة في إبعاد الدِّين عن الحياة وعن حركة الإنسان، وعن النظام الأخلاقي للمجتمع والاستغناء عنه، ليبقى، إذا بقي، مجرَّد حالة ذهنيةٍ أو روحيةٍ فرديةٍ ضائعةٍ في الفراغ، أو غارقةٍٍ في الضباب، للذين يحبّون أن يفكّروا في اللاشيء، أو يعيشوا أحلامهم في الغموض الساحر.
إنّ على المؤمنين في العالم أن يكتشفوا الطريقة المثلى التي يستطيعون من خلالها التخطيط للحركة الدِّينية المنفتحة على قضايا الحريّة والعدالة للإنسان، والمتحركة في دائرة الحوار الفكري على مستوى النظرية والواقع، بحيث لا يفقد المثال معناه في الواقع، ولا يبتعد الواقع عن مضمون القيمة وروحيّته، مع احترام التعدّدية الدِّينية في نطاق المحاولات الجادة للوصول إلى الكلمة السواء في مواقع اللقاء، أو إلى الفكرة الواحدة في ساحة الوحدة لتكون المحبّة في خط الرحمة، ولتتحرَّك الإنسانية في امتداد العدالة ولتكون حركة الحريّة في حدودها الإنسانية التي لا تحوّل الحياة إلى فوضى ولا تُسقط الإنسان في وحول الخطيئة.
التبشير والتبليغ
وتبقى مسألة "التبشير"في الصعيد المسيحي، و"الدعوة"أو "التبليغ"في الصعيد الإسلامي، خاضعة للحوار على مستوى دراسة الوسائل التي يحركها كل فريق في خطّه في دعوة الآخر، أيّاً كان الآخر، لفكره الِّديني، في المناطق المشتركة، أو في المناطق المختلفة، لتكون القضيّة قضية التنافس في نطاق الأساليب الأخلاقية في دائرة القيم الروحية، لا قضية الصراع.فقد نستطيع اكتشاف أساليب جديدة، وعلاقات جديدة في هذا الجانب أو ذاك، بدلاً من استغلال القوى الكبرى أو غير الكبرى في تدمير الواقع كلّه هنا وهناك، لنتحرَّك بالعقل المفتوح، والقلب المفتوح، والحركة المفتوحة على طريق الإيمان، ولنوجِّه الساحة إلى المزيد من الانفتاح على ما لدى كلٍّ منّا، من قيم روحية وأخلاقية، وإيمانية مشتركة.
قد يكون هذا خيالاً يبحث عن وجدان يُخلق فيه، أو أرض ينغرس فيها وقد يكون، فيما يتصورّه البعض، وهماً، ولكن كثيراً من الحقائق الواقعيّة التي فرضت نفسها على الحياة، كانت وهماً في الذهن، وخيالاً في الوجدان، ثم جاءت الحركة وتحرّكت الظروف، وتجمّعت العناصر الإيجابية، فأصبحت حقيقة أقوى من كل الحقائق النظرية، لأنها تحوّلت إلى جذور للواقع كلّه.
كسر الجمود
لذلك، فإننا نتصوّر أن إيجابيّات الحوار، حتى لو كان قاسياً في صراحته، حاسماً في موقفه، فهو يكسر الجمود الفكري والروحي والثقافي، الذي يمثّله الاستغراق في الذات أو في الانتماء أو التقليد، ليتحوّل الإنسان إلى حالةٍ متحجّرةٍ جامدةٍ لا تملك أيّة حيوية، أو حركيّةٍ في اتجاه احتمالات التفكير الآخر، أو إمكانات التغيّر والانتقال، في المستوى الثقافي من موقع إلى موقع، ومن انتماء إلى انتماء.
إنّ اعتبار الدَّين حالة روحيّة لا تبتعد عن الانفتاح الفكري يحقِّق للإنسانيّة، في حركتها الدِّينية الثقافية، الكثير من الغنى والعمق والحركيّة والشموليّة في حركة الاجتهاد المتحرّك أبداً في اتّجاه دراسة ما عند الإنسان المنتمي، وما عند الإنسان الآخر مما قد يكشف لنا الخطأ في بعض ما نفكر به أو ما نتحرَّك فيه أو ما ننتمي إليه.وإذا استطعنا أن نتخلَّص من جمود التقليد، وتحجّر الذهنيّة في مضمون الانتماء فإنّنا سوف ننفتح على أفق جديد، ونتحرّر من همّ مستقبليّ حضاري كبير.