أسس الحوار بين الاسلام والمسيحية
الأب الدكتور يوسف مونّس
الحوار قائم منذ البدء
أي أنّ هناك وحياً قبل الوحي، منثوراً في تنوّع الكشف والتّجليّات الإلهيّة.في اختبار سرّ هذا الوحي المتراقي من عمق التراب إلى بهاء السّماء، ليلتقي الذات المطلقة السامية، وليتمّ الفصل ما بين الدين والوحي.الدين حركةٌ تصاعديّةٌ من قلب الكون والإنسان إلى الخالق.أمّا الوحي فهو نزول الخـالق مجانيّاً وحبّاً لملاقاة البشريّة والإنسان.
المضمون الإيمانيّ في جوهره واحدٌ، أمّا أسلوب التّعبير عنه فمتنوّعٌ.هناك في أساس الوجود حوارٌ قائمٌ على التوق إلى الله وتوهّجه في أعماق الإنسان والباحث عن حمايةٍ ومعنًى لذاته في حوار المُطلق المقدّس.فكرة المقدّس الجاذب والمُخيف ـ كما يقول رودولف اوتو ـ تضرب جذورها في قعر وجدان الكائن البشريّ.
فهناك خالقٌ يكشف عن سرّه وعن ذاته باستمرارٍ، والانسانيّة تشتاق وتتوق إليه، في التّجليّات المتنوّعة لهذا الكشف الإلهيّ الخاضع للزّمان والمكان والظروف الاجتماعية ونضج القلب والعقل.
هذا المقدّس المرهوب والمُخيف، الحامي والمُعاقب المخصب والمكافئ بالموت والحياة، يبان في عبقريّات وذهنيّات ونفسيّات الشّعوب المتأثّرة بمحيطها وأنماط سلوكها وقيم ثقافتها وحضارتها. الاختلاف اللاهوتيّ في تصوّر الله لا يُلغي وحدة إنسانيّة الإنسان، فإنّ ينبوعيّة الحوار تقوم على وحدة المصدر وتنوّع الاختيار.(مشير باسيل عون، الأسس اللاهوتيّة في بناء حوار المسـيـحيّـة والإسلام، دار المشرق، بيروت 2003).
الله لا يستنفذه أو يختزله أو يستأثر به دينٌ، فحبّه وخلاصه ورحمته أعطيت لجميع الناس؛ الاختيار أعطي لجميع الناس وللبشريّة بأسرها، وليس لشعبٍ أو لجماعةٍ لتتميّز عن البقيّة، فالنّاس كلّهم عيال الله.البشرية، هي المختارة الصاعدة من ترابيّة لحمها وأشواقها، مطهّرة بعشقها لأبعد من الصّورة والأيقونة والحواس والطقوس، بذار الحقيقة منثورة في جميع الأديان، فلا أستطيع احتكار الله في ديني ومجتمعي، بل عليّ أن أقرأ ذاتي وأن أقرأ الآخرين لأفهم كيف حاورني، كيف كلّمني الله، ليكشف لي عن حضوره وحبّه. في حالٍ حواريّةٍ تاريخيّةٍ لا تنتهي إلّا مع نهاية الأيام.
التاريخ في صيرورته وجدليّته، يُطوّر العقيدة أو "الدوغما"، يُخصبها، يُطهرها بفعل كاتارسي Catharsie نقديّ، عقليّ،ينطلق من "براكسيس"Praxisجديدة لأناسٍ جددٍ قدموا إلى التاريخ، حاملين إيمانهم وشكّهم، قائمين باختبار جديد لله، لهم الحقّ فيه، ولو شطحوا، فلا يحقّ لنا تكفيرهم أو إهدار دمهم.العقائد أو "الدوغما"ليست متاحف جامدة يحرسها الموظّفون والعلماء والكهّان والفرّيسيون والفقهاء القائمون على حمايتها وخدمتها والدفاع عنها والإفادة منها، كما قال الكاتب الالماني EugہneDrewermanyفي كتابه:"موظفو الله"(Les onctionnaires de Dieu ).
فكلّ شيءٍ يتطوّر ليتطهّر، وإلّا غرق المقدّس في طقوسيّة فريسيّة ابتعدت عن حقيقة الإيمان، وتاهت في مظاهر إيمانيّة، تغلب عليها القساوة والوحشيّة الشرائعيّة، لتصل إلى تبرير قتل الأبرياء باسم الدين، والخلط بين الترويع والإرهاب وحقّ الدّفاع عن النّفس والحريّة والكرامة وحريّة العقل والنّقد لتعود إلى زمن السّحر والمحرّمات.
في الحبّ يقوم الحوار
المسيح يدعونا لفرح اللقاء حتّى بأعدائنا:"أحبّوا أعداءكم".في الحبّ يقوم الحوار، لنتحاور يجب أن نكون اثنان.لا حوار في العزلة، كما أنّه لا نغم في قصبةٍ لم تُشقّ.ولا نهر في ضفّةٍ واحدةٍ.لنتحاور يجب أن نكون، أنا وأنت، في قبولٍ إيجابيٍّ وليس فقط بالتّسامح والتّغاضي.بل بقرارٍ كيانيٍّ بحقّ الآخر بالوجود والاختلاف وبحقه بكينونته، لست هنا بانتظار فرصةٍ لإلغاء الآخر والانقضاض عليه.بل أنا على موعدٍ ليكتمل وجودي بإطلالة الآخر وإقباله لفرح اللقاء والوجود.فابتعد عن مقولة هيغل بأنّي رغبةٌ لقتل الآخر، وشهوةٌ ذئبيّةٌ لنهشه كما يقول "هوبس"، أو إرادة تشيئيّة كما يقول سارتر.أمّا التّسامح مع الآخر فمدخلٌ لشفقةٍ وجوديّةٍ تعدّ لساعة الإلغاء والتدمير.وننسى أنّنا في تدميرنا للآخر لا نُدمّر إلّا ذاتنا ونعمة "الاستخلاف الإلهيّ"التي أعطاناها الله، وكرّمنا بها، كما يقول د.رضوان السيّد، ونهدم فرح التعارف "لتعارفوا"الذي دعانا إليه الله في القرآن الكريم، كما يقول د.محمد السّماك.أنا أحبّ وأعرف الآخر، إذاً أنا موجود.هنا تأخذ الخطيئة معناها الحقيقيّ.إنّها الانكفاء عن معرفة الله وعن معرفة الآخر.والاكتفاء بالذات لأستمدّ من نفسي معناي وقدرتي وغايتي وليس من الله.الجنّة هي الحضور الحواريّ المحبّ مع الله ومعرفته ومعرفة وجه الآخر.والجحيم هي الانغلاق على الذات والقيام في التراب والعودة إليه بالموت في العزلة والانفراد.
هذا الرفض الوجوديّ يُقابله كلامٌ في الإنجيل يدعو إلى الخروج بالمحبّة من هذا الجحيم، أو من مدينة الطاعون كما يقول كامو، فأصغي لكلام الإنجيل:"سمعتم أنّه قيل أحبب قريبك وأبغض عدوّك.أمّا أنا فأقول لكم، أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم ويعنّتونكم"(متّى 5/43-47).
في العدل والتضامن
المسيحيّة تدعو إلى العدل، الإسلام يدعو إلى العدل، الإسلام يدعو إلى محبّة الفقراء.المسيحيّة تدعو إلى محبّة الفقراء.فالحوار اليوم يقوم على أنْ نبني معاً مدينة الله القائمة على العدل والتعاضد، وليس مدينة قيصر القائمة على المجد والقوّة والمال.فنبني معاً حضارة الاقتسام والمشاركة ونهدم هيكليّات الظلم والاستئثار.القضيّة الاجتماعيّة هي المرتكز الحقيقيّ لمستقبل الحوار وشهادة الأخوّة وعلامة بنوّتنا لله الواحد، العطاء هو الأساس الحقيقيّ لرحمة الله وللشّهادة لحبّنا له، حتّى ولو بالتقدمة المستورة المتواضعة كفلس أرملة الإنجيل.
الاقتسام هو المطلوب من الجماعة المسيحيّة، وهو المطلوب من الجماعة الإسلاميّة:يذكر أعمال الرسل في الفصل 2/44"وكان الذين آمنوا جماعةً واحدةً يجعلون كلّ شيءٍ مشتركاً بينهم، يبيعون أملاكهم ويتقاسمون الثمن على قدر احتياج كلٍّ منهم".بيت الخزانة في الإسلام لا يغيب عنه حقّ البؤساء والواجب نحو المساكين والمحرومين.(جورج ناصيف، النهار الاحد 2تشرين الثاني 2003).
العدل هو أساس الحوار
العدل جامعٌ مشتركٌ بين المسيحيّة والإسلام واليهوديّة، وهو مشروع حوارٍ رائدٍ بين هذه الديانات، فلا يُبنى مستقبل على الظلم وهدر حقوق الإنسان رجلاً كان أم امرأةً.
هذا ما تقوله نبوءة إرميا (22/13)"ويل لمن يبني بيته بغير عدلٍ، وعلياؤه بغير حقّ، ويستخدم قريبه بلا أجرة، ولا يوفّيه ثمن عمله".ويضيف إليه أشعيا 10/:1"ويل للذين يشترعون شرائع الظلم والذين يكتبون كتابة الجور ليُحرّفوا حكم المساكين وسلبوا حقّ بائسي شعبي، لتكون الأرامل مغنماً لهم".
العهدان القديم والجديد يتلاقيان في الدعوة، إلى الحق ورفع الظلم.وهذا ما يقوله القديس يعقوب في رسالته في الفصل 5/4"ها إنّ أجرة العملة الذين حصدوا حقولكم تلك التي بخسّتموهم إياها، تصرخ وصراخ هؤلاء الحصّادين قد بلغ أذنيّ رب الجنود".
كما إنّ الإنجيل ورسالة بولس يؤسّسان أيضاً لهذا العدل ولهذه المساواة.ألا يقول بولس "ليس هناك عبد ولا سيد ولا رجل ولا امرأة بل الكل واحد في المسيح"، ويُضيف يوحنا "إنّ من قال إنه يحبّ الله الذي لا يراه وهو يبغض أخاه الذي يراه فإنّه كاذب".وكما قال أيضا السيد المسيح "أحبب الرب إلهك من كلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ ذهنك تلك هي الوصية الكبرى والأولى والثانية مثلها أحبب قريبك كنفسك"(متّى 22/34)ويُضيف "لا تدينوا لئلا تُدانو فكما تدينون تدانون ويُكال لكم بما تكيلون"(متى 7/1).
الخاتمة
فعلى وحدة المصدر الإلهيّ نؤسّس الحوار، وعلى أنّ الله محبة نؤسّس الحوار، وعلى أنّ محبة الله فينا تتجلّى في محبتنا للآخرين نؤسّس الحوار وحضارة المحبّة، ونشهد لهذا الحوار بالعدل واقتسام خيرات الأرض في تضامنٍ اجتماعيٍّ، لا يُميّز بين إنسانٍ وإنسانٍ.فالجائع والمريض والمهاجر والمسكين، والمقهور والفقير والبائس أيقونة الله وأخوة المسيح ولا دين لوجعهم على الأرض.وسنُحاسب في آخر الزمان على المحبّة حتّى لأعدائنا.فلنُحاور إله السّماء انطلاقاً من أخوتنا على الأرض، لنكون حقّاً أبناء الله وعياله، فيقوم على أيدينا تاريخٌ جديدٌ وليس نهاية التاريخ في صراع الحضارات والأديان، بل في حوار الحضارات والثقافات والناس والأديان.هذه هي المغامرة التي نحن مدعوون إليها فنطلّ بها بجرأةٍ وفرحٍ ورجاءٍ على المستقبل الكئيب المضروب بالترويع والتعصب، والذي راح يرتسم على فجر أيّامنا الآتية.