الحوار والمواجهة والأديان
جورج مسوح
كثيراً ما يُحكى عن الحوار الإسلاميّ -المسيحيّ، حتّى أنّه صار دُرجةً على كلِّ شفةٍ ولسانٍ.ولكن هذا الحوار بين مَن ومَن؟ وما هي مواضيعه؟ وما هي أهدافه؟ أسئلةٌ تُضاف إليها أسئلةٌ أخرى قد لا نصل، إذا ما شئنا أجوبةً حقيقيّةً عليها، إلى أيّ نتيجةٍ.ذلك أنّ خلفيّات الحديث عن الحوار تختلف باختلاف الداعين إليه، والمؤسّسات التي يعملون فيها، والعناوين التي يرفعونها لحوارهم.فثمّة الحوار "الوطني"الداخليّ، بين طوائف البلد الواحد، والحوار "الدينيّ"ذو الطابع العقائديّ أو الأخلاقيّ، والحوار "الحياتيّ".
لا بد إذاً، من التأكيد أنّ الحوار الإسلاميّ -المسيحيّ متعدّد المجالات والأهداف.كذلك لا بدّ من القول إنّ الحوار لا يُمكن أن يكون إسلاميّاً - مسيحيّاً، بل هو حوارٌ بين مسلمين ومسيحيين، وشتّان ما بين الأمرين.فلا أحد يستطيع الادعاء أنّه يتحدّث، حصـريّاً، باسم المسيحيّة أو باسم الإسلام.وغير دقيقٍ الكلام على أنّ للمسيحيّة مرجعيّة واحدة تتحدّث باسمها، بينما لا مرجعيّة واحدة للإسلام تتحدّث باسمه. فكما هناك مرجعيّات متعدّدة للإسلام، كذلك ثمّة مرجعيّات متعدّدة للمسيحيّة.
من هنا، لا يُمكن أن نُدرج المواجهات الدائرة حاليّاً في عالمنا كأنّها صراعٌ بين المسيحيّة والإسلام.ذلك أنّها صراعاتٌ بين مسلمين ومسلمين، أو بين مسلمين ومسيحيين، أو بين مسيحيين ومسيحيين، أو بين تكتّلٍ مسيحيٍّ -إسلاميٍّ ضد تكتّلٍ مُماثلٍ.هذا دون أن ننسى حصّة اليهود في بعض هذه المواجهات، وبخاصّةٍ في فلسطين المحتلّة. والبديهيّ أنّ لكلّ مواجهةٍ من تلك المواجهات سياقها التاريخيّ والسياسيّ والاقتصاديّ المختلف.لذلك، ينبغي أن يُدرج كلّ حوارٍ إسلاميٍّ -مسيحيٍّ في سياقه الخاص، حتّى يأتي العمل من أجل حلّ المشكلات العالقة نافعاً. فلا يُمكن أن تكون القواعد التي تحكم مسألة الحوار الإسلاميّ -المسيحيّ في لبنان، مثلاً، هي نفسها التي تحكم الحوار الإسلاميّ - المسيحيّ في الهند أو في غيرها.
هل يجب، إذاً، ألا يكون للمرجعيّات الإسلاميّة والمسيحيّة حديثٌ في ما يجرى في عصرنا الحاضر؟ الجواب على هذا السّؤال لا يُقدّم حلّاً للمسائل المطروحة.فغالب المرجعيّات الإسلاميّة والمسيحيّة دعت وما تزال تدعو، عند اشتداد الأزمات واندلاع الحروب إلى العمل في سبيل السّلام والعدل والحقّ، وإلى إدانة الظلم والإرهاب وقتل المدنيين.وقد قرأنا مراراً مواقف موحّدة في توجّهاتها العامّة تبنّاها البابا يوحنا بولس الثاني وشيخ الأزهر ومجلس الكنائس العالميّ ومجلس كنائس الشرق الأوسط وغيرها من المرجعيّات الدينيّة في العالم.ولكن هذه المواقف تبقى بلا فاعليّةٍ آنيّةٍ لأسبابٍ عدّةٍ، منها انعدام تأثير المرجعيّات الدينيّة في غالب الدول الغربية بسبب فصل الدين عن الدولة، وانعدام تأثير المرجعيّات الدينيّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ، بسبب خدمتها السّلطات الحاكمة ورغبات تلك السّلطات.
أمّا واقع الحال فيُشير إلى أنّ الديانات، أو الحضارات إذا شئنا استعمال التعابير السّائدة اليوم، لا تتحاور ولا تتصارع.بل هناك مصالح متشابكة ومعقّدة يتوسّل أصحابها الدين من أجل خدمة أهدافهم. فتراهم يشنّون الحروب ويُمارسون الإرهاب كلٌّ بحسب موقعه وقوّته، والأبرياء يدفعون الثّمن هنا وهناك.نسوق هذا الكلام لا لتبرئة الأديان ممّا يجرى على السّاحة العربيّة، وبخاصّةٍ في فلسطين والعراق، بل لنؤكّد أهمّية التوعية الدينية على قبول الآخر المختلف.فلا يجوز لمن ما زال يقسّم الدنيا إلى فسطاطين للإيمان والكفر، أو دارين للحرب والسلم، أن يتحدّث بعد ذلك عن التواصل والتسامح والحوار.وهذا الخطاب ما زال هو السّائد، ليس فقط عند غلاة الأصوليين الذين يستعملون العنف لمجرّد العنف، بل عند الكثير من دعاة الاعتدال الدينيّ في العـالم العربيّ.
نحن في حاجة اليوم، أكثر من أيّ يومٍ مضى، إلى خطابٍ متجدّدٍ في الفكر الدينيّ، يجعل الإنسان في محور اهتماماته.فالديانات تتّفق على أنّ غاية الدين الأولى إنّما هي خدمة الإنسان وصون كرامته.والديانات وُجدت لخدمة الإنسان لا الإنسان لخدمتها، ووجوده سابقٌ لوجودها، والله وعد الإنسان وحده، من دون غيره من سائر المخلوقات، بالخلود.لذلك، تميّز تلك الديانات الإنسان عن بقيّة المخلوقات، كونه خُلق على "صورة الله ومثاله"أو "خليفة الله في الأرض".وما يُميّز الإنسان عن غيره إنّما هو العقل وحريّة الاختيار.فالله صنع الإنسان حرّاً، وخيّره بين طريقين، إحداهما تؤدّي إلى الثواب والأخرى إلى العقاب.وأرسل الأنبياء والرسل لكي ترشده إلى طريق الصلاح وتبعده عن طريق الشر، وذلك بواسطة شرائع ووصايا وتعاليم شتّى.
مهمّة المسلمين والمسيحيين اليوم تكمن في إعادة الاعتبار إلى الإنسان وحريّته وكرامته.والحوار بينهما يكون بلا جدوى ولا معنى إذا لم يجعل الإنسان في قلب اهتماماته.من هنا، ضرورة العمل على صوغ مشروع تعاقدٍ عربيٍّ جديدٍ بين المسلمين والمسيحيين.فبعد فشل الحلول العلمانيّة والاشتراكيّة والحزبيّة الشوفينيّة، لا يُمكن أن يكون الحلّ في الأصوليّة المنغلقة على ذاتها، والتي تمنع حريّة الفكر، مثلها مثل أيّ نظامٍ عربيٍّ بادٍ أو سيبيد.هذا التّعاقد الجديد لا بدّ من أن يقوم على المواطنة الكاملة والحقيقيّة، من دون أيّ تحفّظاتٍ فقهيّةٍ أو دينيّةٍ تمنع هذا أو ذاك من أن يكون مواطناً كامل المواطنة.
أمّا كلّ حوارٍ على المستوى العالميّ فلا فائدة منه، إذا لم يكن ثمّة ما يقوله المسلمون والمسيحيّون العرب "معاً"للغرب، بمختلف تمظهراته.فتسمية الحوار بين العرب والغربيين بـ"الحوار الإسلاميّ -المسيحيّ"يجب ألّا تصحّ.فالحوار يكون أكثر فاعليّة عندما يكون المسيحيّون العرب مع المسلمين في جـهةٍ واحدةٍ، والغـرب في جهةٍ أخرى.لذلك، ضرورة العمل على التعاقد العربيّ الجديد الإسلاميّ -المسيحيّ حتّى يكون عندنا ما نواجه به الطامعين في بلادنا.
في هذا التأزّم الحالي، لا بدّ من نقدٍ ذاتيٍّ نصل من خلاله إلى توصيفٍ صحيحٍ لحقيقة واقعنا اليوم، حتّى نوجد علاجاتٍ ناجعةً لمجتمعاتنا.وهذا يتطلّب أوّلاً إعادة اعتبارٍ إلى التواصل والاستماع إلى الآخر وتبادل الأفكار معه، وهذا ما يُسمّى الحوار.