الإسلام ونظرية "جيسل" حول التداول النقدي
اعتاد الماليون ورجال الاقتصاد أن يعطوا لتداول العملة قيمة كبرى، على أساس أن النقد غاية لذاته، فيجب أن يكون قويا في غطائه، وأن يكون هذا الغطاء عملة ذهب لمن يحمل الورقة البنكية أن يطالب بقيمتها الذهبية المكتوبة عليها، وذلك طبقا لنظرية الاقتصاد الحر.
وقد ظهر منذ زمن بعيد أن الغطاء الذهبي ليس هو كل شيء في قوة العملة، وكان للخبراء الألمانيين في عهد الوطنية الاشتراكية فضل إنجاح التجربة التي تقوم على أساس أن العمل هو كل شيء، فغطاؤه أقوى من غطاء الذهب والجواهر، على اعتبار أن الغاية هي تداول النقد، فما دام معمولا به ومضمونا من الدولة إلا وهو ذو قيمة حقيقة وإن لم يكن لديه من الرصيد الذهبي قدر ولو ضئيل.
وقد ظهرت اليوم نظرية جديدة حول تداول النقد للأستاذ(سلفيو جيسل) الذي أفاض الاستدلال لها في كتاب خاص سماه:(النظام الاقتصادي الطبيعي).
والمبدأ الأساسي لهذه النظرية هو أن قيمة النقد وقوته الشرائية، لا تتعلق إلا بالمقادير المتداولة منه، وليس كما يدعيه مسيرو العالم، في غطائه الذهبي المستودع في المخازن.
يرى(جيسل) أن النقد هو وسيلة نقل السلع، ويجب دائما مسايرة مقاديره لحاجة الأسواق،وذلك كما تساير وسائل النقل من سكك حديد وسيارات ونقالات وطيارات وبواخر حاجات منقولاتها. فإذا كان من الواجب أن يهيأ ما يكفي من وسائل النقل لتعبئة السلع، فإن من الواجب كذلك لأجل القيام بتدبير اقتصادي سليم، أن تخفض تلك الوسائل لأقل ما يمكن ولكن هذا التخفيض يعوض بأكثر ما يمكن من تداول وسائل النقل، الأمر الذي يفرض على الدولة وضع عقوبات في شكل اداءات ضرائبية على كل سيارة نقل أو باخرة أو قطار يبقى مدة طويلة دون حمل.
فإذا مضينا على هذا المبدأ نفسه، فإن على العملة أن تتداول بكثرة، بحيث لا يسمح لها بالوقوف، وهذا الشكل النقدي كان معمولا به في وقت قديم، وكانت نتيجته عظيمة، ولكن شقاء الإنسانية أن مبدأ كهذا يلاقي معارضة قوية من كبار العالم، لأن هؤلاء إنما يتحركون حسب رغبات الرأسماليين الدوليين، ومن المناسب أن ننبه إلى أن كبار الماليين الدوليين وحدهم الذين يهددون بمثل هذا النظام، أما البنوك الأخرى فإنما على العكس من ذلك، ترى مقادير أرباحها تتزايد عن طريق هذا النظام، لأنه يؤدي إلى نمو النشاط الاقتصادي العام بصفة زائدة.
وهذه النظرية التي اكتشفها(سلفيو جيسل) وعبر عنها باسم(النظام الاقتصادي الطبيعي) حصلت على نجاح كبير في أهم الأوساط الاقتصادية، وأعلن عن تأييده لصحتها شخصيات عظيمة الأهمية تنتمي لبيئات مختلفة .
ومن أمثلة ما كتبه علماء الاقتصاد عنها ما قاله (ألبير أنشان) من حملة جائزة السلام: أن خلق عملة(INTHESAURISABL )يؤدي إلى تكوين الملكية في شكل جديد وأكثر ذاتية
وقال(أرفنج فيشار) الأستاذ بجامعة(يال): أن نظام التداول النقدي الذي اقترحه(جيسل) يحرر البلاد من الأزمة الاقتصادية في أسبوعين أو ثلاثة
وقال الأستاذ(محمود أبو مسعود) حين كان خبيرا اقتصاديا بالجامعة العربية: أن هذه النظرية تتفق تماما مع ما تقتضيه تعاليم القرآن، وينبغي أن يتحمس لها كل بلاد الإسلام.
وقال الصناعي المشهور(هنري فورد): أن الحل السريع هو إطلاع الأجيال الجديدة على حقيقة مهمة النقد.
وقال السيد(ستافورد كريبس) نائب رئيس حزب العمال البريطاني: أن النظريات والاكتشافات التي جاء بها السيد (سلفيو جيسل) والتي تتعلق بالأرض الحرة، هي بالنسبة الينا من الضروريات.
نظرية مراقبة تداول النقد تفتح طريقنا إلى النصر.
وقال الأستاذ(جوهن مينار كينسس) الاستاذ بجامعة كمبرج و حاكم بنك انجلترا: اعتقد ان المستقبل
سيستفيد من( جيسل) أكثر مما استفاد من ماركس
وهكذا فإن (جيسل) احدث ثورة في التفكير الاقتصادي، حين نبه الى الحقيقة الطبيعية التي للعملة والى مهمتها في نقل السلع وتداولها.
وإذا نحن نظرنا على المبدأ الاقتصادي، الذي جاء به الإسلام نجده متفقا في الغاية مع هذه النظرية، لأن الإسلام وسائر الديانات اعتبرت المال وسيلة لا غاية، وفي الحديث الشريف:( الدراهم والدنانير خواتم الله في أرضه) وبما أن الأصل في التعامل هو تبادل متاع بمتاع، ولما كان الاستمرار في هذا التبادل غير متيسر لأنه يحتاج إلى صعوبات ومضاعفات لوسائل النقل، فقد وضعت الإنسانية المال مكان السلعة المتبادل عليها. فقيمة المال إذن هي قيمة السلعة التي يراد شراؤه بها، فهو وسيلة لنقل السلعة. وتشبيه النقد بالنقل نجده نفسه في كلام الفقهاء الذين شبهوا النقد بالبريد واعتبروا حبسه ظلما.
وقد قلت في كتابي( النقد الذاتي) ص 198 في إيضاح نظرية الإسلام في المال ما يأتي(المال وسيلة، وإذن فيجب أن لا يستعمل غاية، لذلك يتفق الإسلام مع الديانتين اليهودية والمسيحية في تحريم الربا أضعافا مضاعفة، وحينما يقول الناس(إنما البيع مثل الربا) يجيب القرآن بأن الأمر كذلك لو ترك الناس وفقا للطبيعة دون اعتداد بما تقتضيه الإنسانية من مراعاة الحقوق وعدم أكل أموال الناس بالباطل، ولكن الرحمة الإلهية تأبى أن تترك الغني يستغل الضعيف، فلذلك أجاب القرآن(وأحل الله البيع وحرم الربا).
وتحليل البيع لأنه ضروري لتداول النقد، بل إن الشارع رغب في شراء الأشياء حين قال(قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق) فالواجب إذن هو التحلي بزينة الحياة والتمتع بالطيبات، لما في ذلك من تشجيع الإنتاج وتداول النقد. أما تحريم الربا، فلأنه يؤدي إلى الاحتكار وتكديس المال وعدم استعماله في الإنتاج، الأمر الذي ينتج عنه إبقاء الثروة في دي ثلة قليلة من الناس كما قال تعالى( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) أي حتى لا يصبح محصور التداول بين الأغنياء، مع أن الواجب تعميم تداوله بين مختلف الطبقات. وقد ارشد الإسلام لعلاج ذلك بأمرين:أولا:منع الربا، ولاشك أن الإنسان إذا عرف أن ماله سيبقى من غير فائدة بحث عن وسيلة استعماله فيما يرجع إليه بالنفع. وثانيا الزكاة أو الضريبة التصاعدية على كل مال أدخر، وهذا ما يجعل المال المودع في البنوك أو في الصناديق الحديدة ينقص سنة فسنة عوضا عن أن يزيد، الأمر الذي يشجع على استغلاله وجعله متداولا بين الناس.
وهذه الغايات هي التي يرمي إليها(جيسل) بالضريبة التي يطلب فرضها على كل نقد لم ينتقل من يد صاحبه ليد غيره، وذلك عن طريق تنقيص قيمة الورقة النقدية التي يمضي على تاريخها أمد معين، الأمر الذي يجعل كل من حلت بيده تلك الورقة يعمل على إخراجها عن طريق الشراء والتبادل، وهي وسيلة أحسن من وسائل إلغاء الأوراق النقدية جملة بمجرد مضي سنة كما يقع أحيانا في روسيا.
وإذا أردنا أن نبرز التشابه بل التطابق الموجود بين نظرية جيسل ونظرية الإسلام في النقد، فعلينا أن ننقل هذه الفقرات من كلام الغزالي، وقد استدللنا بها في كتاب النقد الذاتي على صحة ما قلنا، ونصها:
(إن معاملة الربا ظلم، لأن الدراهم والدنانير خلقا لغيرهما لا لنفسهما، إذ لا غرض في عينيهما، فإذا اتجر في عينيهما فقد اتخذا مقصودين على خلاف وضع الحكمة. إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم، ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاما،
إذ ربما لا يباع الطعام بالثوب فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل ما سيتوصل به إلى الطعام، فهما وسيلتان إلى الغير، وموقعهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام كما قال النحويون:أن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره، وكموقع المرآة من الألوان، فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل بالنقد غاية عمله، ليبقي متقيدا عنده وينزل منزلة المكنوز، وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم، كما أن حبسه ظلم، فلا معنى لبيع النقد بالنقد، الا اتخاذ النقد مقصودا للادخار وهو ظلم).
فمئال الأمر إذن في الإصلاح الإسلامي هو العمل على ترك النقد في موضعه الحقيقي، وهو اعتباره بمثابة البريد حسب تشبيه الغزالي، أو بمثابة سيارة النقل حسب تشبيه (جيسل)، وكما أن أداة النقل إذا حبست عن القيام بمهمتها وجب فرض أداءات ضرائبية عليها، كذلك النقد إذا بقي مكنوزا وحبس عن الرواج وجب أن تفرض عليه اداءات، والزكاة الإسلامية غنما هي بمثابة إرشاد لما يجب أن يكون عليه الحال حسب تطور الإنتاج الذي يتطور بحسبه النظام المتبع والاداءات المفروضة، أي أن فرض الزكاة بمقاديرها الشرعية، لا يمنع من فرض غرامات أخرى إذا اقتضتها مصلحة تداول النقد والحيلولة دون تجميده، كما لم يمنع فرض غرامات حكومية إذا دعت إليها المصلحة العامة ولم يكن في بين المال ما يكفي لسد حاجات الدولة أو كفاية مؤن التجهيز.
والمهم هو أن المفكرين من رجال المال والاقتصاد في هذا العصر، لم يقفوا عند الاقتصاد الحر، ولا عند الأساليب التي ورثت عنه في اعتبار الحاجة إلى غطاء النقد، كما أنهم لم يقفوا عند النظريات الاشتراكية التي اهتدت على كل حال لمنع الادخار واعتباره جريمة، واحتاطت لمنعه بوسائلها الشديدة.
واعتقد أن أسلوب(جيسل) يضمن الغاية التي يقصدها الإسلام ويرمي إليها الاشتراكيون،وهي عدم تكديس المال الذي يؤدي على راس مالية محتكرة،وإلى ترك وسائل الإنتاج خالصة لكبار الرأسماليين.
ونحن اليوم في المغرب لا نستطيع أن نتحرر من المدرسة الحرة في الاقتصاد، ولو أننا نتبع شيئا ما، الاقتصاد الموجه، لأننا ما زلنا مرتبطين بالأنظمة الفرنسية، ومغتبطين ببقائنا في منطقة الفرنك، ومسجونين أكثر من ذلك في الفكر الذي يدافع عنه المحافظون الفرنسيون، فنحن أحوج ما نكون الى ثورة فكرية تفتح لنا آفاق النظر والبحث والمقارنة، لنتمكن من اختيار التجربة الاقتصادية التي يجب أن نسير عليها في بلادنا.
ولو أننا اعتبرنا بما يجري في العالم لأيقننا بأننا ونحن في المرحلة الأولى من سيطرة الرأسمالية علينا، أقرب الشعوب إلى التحرر من أساليب الغرب، وإتباع طريقة(جيسل) التي تتفق مع تعاليم الإسلام، والتي قال عنها أرفنج: أنها تقضي على الأزمة في بلد ما، في ظرف أسبوعين أو ثلاثة.
إن الثقة بالنفس، والجرأة في العمل هما اللذان ينقصاننا لنتخذ المنهج الذي يعود بالنفع علينا.
ولو أن رجال المدرسة التحررية بالأمس، أو رجال المذهب الاشتراكي اليوم، لم يكسروا مرآة النظر ويتقدموا لتجربة، أكانوا يحققون للعالم طريقة حياة سار عليها ويسير عديد من الأمم حقبا من الدهر، فهل نتعظ بغيرها، أم سنبقى دائما مجددين في التقليد ؟