الأديان التوحيديّة وحدة متكاملة
الشيخ علي طه
من أجمل الكلمات التي يمكن أن ينطق بها ناطق كلمة "السلام". وهي في اللغة والمصطلح السّلامة والأمان والامن. والسلم اسم بإزاء الحرب، والإسلام يعني الدخول في السلم، والإسلام في الشّرع على ضربين: أحدهما دون الإيمان وهو الإسلام الظاهريّ، والثاني فوق الإيمان ويكون مع الاعتراف والإقرار، والإسلام دين جميع الأنبياء.
مع المسيحيّة والإسلام
المسيحيّة دين والإسلام دين. والدّين كلمةٌ تعني الطّاعة والخضوع والجزاء، وبعد التحقيق تأتي بمعنى السيادة والسّلطة والحاكميّة والسيرة والتدبير وسيادة القانون والنظام. والشّريعة تُسمّى ديناً بشرط أن تكون الحاكميّة والالتزام أمراً ذاتيّاً وليس مفروضاً من الخارج. وهذا ما نجده في القرآن: "إنّا أنزلنا التوراة فيها هدى نور يحكم بها النبيون... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، "... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، كما يقول تعالى: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، فاحكم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق، لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً". وعليه فإنّ الدين الإلهيّ منهاج حياةٍ من أجل تحقيق السّلام، لأنّ الدين كان من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل الدين.
إنّنا نؤمن بالوحدة التّكاملية للأديان السماوية على قاعدة أنّها سلسلة واحدة ذات حلقات متكاملة في أهدافها وغاياتها. وأكّد القرآن هذه الحقيقة بقوله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّى به إبرهيم وموسى وعيسى أنْ أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من يُنيب". (الشورى:13)؛ والفكرة نفسها نجدها في الإنجيل، إذ يقول السيّد المسيح "لا تظنّوا أنّي أتيت لأنقض الشّريعة والأنبياء إنّي لم آت لأنقض، لكن لأتمّم". (متى 17:5).
وذكر القرآن أنّ المسيح بشّر بنبوّة محمّد (ص)، كما صدّق ما بين يديه من التوراة، حيث يقول تعالى: "إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى بن مريم، وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقرّبين، ورسولاً إلى بني إسرائيل.." (آل عمران:45). وقال تعالى: "وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إنّي رسولٌ إليكم مصدّقاً لما بين يدي من التوراة ومبشّراً برسولٍ يأتي بعدي اسمه أحمد، فلمّا جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحرٌ مبينٌ". وفي إنجيل يوحنا يقول المسيح لتلاميذه قبل ارتفاعه إلى السّماء ما يُفهم منه بشارةٌ بالنبيّ محمّد (ص): "أمّا الآن فإني ذاهبٌ إلى الذي أرسلني.. إنّه خيرٌ لكم أنْ أذهب، فإنْ لم أذهب لا يأتكم المؤيّد، أمّا إذا ذهبت فأرسله إليكم وهو متى جاء أخزى العالم على الخطيئة والبرّ والدينونة.. فمتى جاء هو (أي روح الحقّ) أرشدكم إلى الحقّ كلّه، لأنّه لن يتكلّم من عنده، بل يتكلّم بما يسمع، ويخبركم بما سيحدث.." (انجيل يوحنا 16/5 - 14) (وهذا مُطابقٌ لما يفهم من قوله تعالى: وما ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحيٌ يوحى).
إّنّ قيم الأديان التوحيديّة، في الأساس، واحدة، والمشكلة ليست بين الأديان، إنّما في عملية استغلالها لمآرب شخصيّة أو فئويّة طائفيّة أو عنصريّة لا إنسانيّة. والإسلام يُسمّي أهل الأديان السماويّة أهل الكتاب (المسيحيون واليهود والمجوس)، كما يدعو الى الحوار والتفاهم والتعاون، بقوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله، فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون". (آل عمران64:) ويقول تعالى: "لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا، ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون". (المائدة: 82)
والواقع ان الروح "الطائفية العنصرية" هي المشكلة. والطوائف حقيقة موجودة في المجتمعات البشرية، ولا يجوز بحال القفز فوق هذه الحقيقة انما المطلوب التفريق بين الطوائف كشرائح دينية واجتماعية، وبين الروح الطائفية التعصبية. اي بين الدين والطائفية التي ما زالت سلاح اعداء الدين والانسان، اعداء الاسلام والمسيحية ولبنان.
الإسلام والمسيحيّة والسّلام
يقول النبي محمد (ص): "من ظلم معاهدا (مسيحيا او يهوديا...) او انتقصه او كلفه فوق طاقته او اخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة" و"ليس منا من دعا الى عصبية، من قاتل تحت راية عميّة يغضب لعصبة او يدعو الى عصبة او ينصر عصبة فقتل قتلة الجاهلية". ويقول السيد المسيح "كما تريدون ان يفعل الناس بكم افعلوا انتم ايضا بهم هكذا، احبوا اعداءكم واحسنوا واقرضوا وانهم لا ترجون شيئا" و"طوبى للساعين الى السلام فإنهم ابناء الله يدعون". ان الطائفيين هم تجار الاديان، والمشكلة هي الروح المادية التي تغزو المجموعات الدينية بعيدا عن تعاليم النبي محمد (ص) والسيد المسيح، وهو ما تمارسه الصهيونية - اليهودية - العنصرية بحق شعب فلسطين، فيما تقوم دول الاستكبار وخصوصا الولايات المتحدة التي تدعي المسيحية بمساعدة المغتصب الصهيوني ودعمه، ويلعب التيار المسمى "المسيحية الصهيونية" في الولايات المتحدة دورا كبيرا في هذا المجال.
المسيح هو الثائر الأكبر
لا شكّ أنّ المسيح جاء ليخلق الوعي، ويصنع حضارة العلم والمعرفة والانسانية، وهو شن حربا على الظلم والغضب والارهاب ومحرّفي الكلم عن مواضعه، كما جاء في انجيل متى (23) عندما يخاطب الفريسيين: "لكن الويل لكم ايها الكتبة والفريسيون المراؤون فإنكم تغلقون ملكوت السماوات في وجه الناس.. الويل لكم ايها الفريسيون المراؤون فإنكم تلتهمون بيوت الارامل وتتذرعون بإطالة صلواتكم، لذلك ستنزل بكم دينونة اقسى". لقد جاء المسيح سلاما للناس المظلومين ، وعلينا ان نحتفل به مع المشردين والبائسين واهالي الشهداء المقاومين للعدوان والظلم الذي يمارسه الصهيوني، ومع الذين يسقطون على يد الجلاد الذي حارب المسيح ويحارب عودته بمختلف الوسائل ومنها منعه اقامة احتفالات الميلاد في بيت لحم، الا تحت الحراب ومنعه انتشار مبادئ السلام الانجيلي والقرآني.
إنّ طريقة احتفالنا بمولد السيد المسيح قد لا ترضيه في حالات كثيرة، لاننا نغيبه عنها، كما نغيب الرسول محمد (ص) في كثير من احتفالات المولد النبوي الشريف، ونحن في حاجة الى ادخال تعديلات على اساليبنا في هذه الاحياءات فهل يرضى المسيح ومحمد (ص) باللهو والقمار والخمر فيسكر الناس وينسون تعاليمهما وينسون واقعهم وحياتهم وهموم مجتمعهم ومتطلبات المواجهة مع اعداء الاسلام والمسيحية من استكباريين وصهاينة؟
إنّ تاريخنا ما عرف ظلماً، بل عرف التسامح والمسالمة، وهذا سيرت ارنولد يؤكد أنّ "القوة لم تكن عاملا أساسيّاً في تحويل الناس إلى الإسلام، فمحمد نفسه عقد حلفاً مع بعض القبائل المسيحيّة، وأخذ على عاتقه حمايتهم ومنحهم الحرية في اقامة شعائرهم الدينية، واتاح لرجال الكنيسة ان ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم بأمن وطمأنينة".
ونخلص إلى ما يلي:
1- إنّ السّلام هو عملية الارتباط على قاعدة المحبّة والأمن والسّلامة بين أفراد المجتمع، بغضّ النّظر عن مذاهبهم وأديانهم وطوائفهم، على أساس قواعد متينة على المساواة والتواضع والرّحمة والأمن والكرامة بين دول العالم، التي تحترم الإنسان والأديان، وتؤمن بحوار الحضارات وتكاملها بدل نظرية "صدام الحضارات" التي روج لها الاستكبار الاميركي كما وضعها هنتغتون.
2- إنّ بذل السلام وإفشاءه يحملان معنى التضحية والعطاء، وهذا يتطلب المواجهة مع الظالم الذي يقف سدا في وجه هذا السلام، فضلا عن تجنب الفتنة في المجتمع. قال الرسول (ص): "الا اخبركم بخير اخلاق اهل الدنيا والآخرة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال (ص): افشاء السلام في العالم". وقال (ص): "ان السلام اسم من اسماء الله تعالى فأفشوه بينكم".
3- إنّ السّلام الحقيقيّ النهائيّ، هو السلام الذي يلغي جميع الصراعات، فتسقط بذلك نظرية "صدام الحضارات"، ويبدأ التاريخ بمرحلة جديدة من الوئام والسلام العالميين، بدل نظريــة نهايــة التاريخ لـ"فوكويوما" على اساس نظــام الرأسمـــالـــية العالمية والعولمة الاميركية.. ان هذه المـرحلة تكون بعودة المسيح الى الارض، كما في النــصوص الاســلامــية، والنصوص المسيحية، فيـقول انجــــيل يوحنا 14/:28 "سمعــتموني اقول لكم: انا ذاهب ثم ارجع اليكم..." وفي القدس يلتقي المسيح بالمهدي المنتظر، ويصليان معا، وتتوحّد الأديان السماوية، تحت راية التوحيد، وتشرق الأرض بنور ربّها، ويعمّ السّلام العالم.
المصدر: النهار اللبنانيّة