الدين والفن
هناك صلة ـ في اعتقادي ـ بين رجل الفن ورجل الدين، ذلك أن الدين والفن كلاهما يضئ من مشكاة واحدة، هي ذلك القبس العلوي، الذي يملأ قلب الإنسان بالراحة والصفاء والإيمان.. وإن مصدر الجمال في الفن الإنسان بالراحة والصفاء والإيمان.. وإن مصدر الجمال في الفن هو ذلك الشعور بالسمو، الذي يغمر نفس الإنسان، عند اتصاله بالأثر الفني.. من أجل هذا، كان لابد للفن أن يكون مثل الدين، قائما على قواعد الأخلاق.
وهذا الرأي !... ولكنه ليس رأي كل المشتغلين بالفن.
فلقد أشتد الجدل من قديم بين طائفتين، طائفة تقول : إن الفن يجب أن يتحرر ـ حتى من الأخلاق، لأن الجمال في الفن ينبع من الإتقان، وأن الإجادة ـ في تصوير الدمامة والرذيلة ـ لا تقل فضلا عن الإجادة في تصوير الحسن والفضيلة... هذا صحيح... وأني لا شد الناس تمسكا بحرية الفن، وإدراكا لقدسية هذه الحرية، ولا أتصور فنا لا يصور الرذيلة، كما يصور الفضيلة، ولا يبرز القبح، كما يبرز الحسن... وأن الدين أيضا ـ في تنزيله ـ يصور لنا رجس المشركين، وإثم الكافرين، وقبح الأشرار والمفسدين، كما يبرز لنا فضل المؤمنين وإحسان المحسنين، ولكن المقصود ليس حرية التصوير، فهذه مكفولة في الفن، ملحوظة في الدين، إنما المقصود هو ذلك الإحساس الأخير، الذي ينقله الفن والدين إلى النفوس !...
ما من ريب في أن الإحساس الأخير، الذي ينقله الدين إلى النفوس ـ مهما يكن لون الصورة، ونوع التصوير ـ هو إحساس أخلاقي.
فهل هذا هو واجب الفن أيضا؟ أو أن الفن حر حتى في أحداث الأثر الذي يريد، غير مقيد حتى في إقرار المشاعر غير الأخلاقية في نفوس الناس؟...
يقول «شوبنهور» إن النية لا قيمة لها في الأثر الفني.. أي أن نيات الفنان الصالحة أو الطالحة لا تقدم ولا تؤخر في القيمة الفنية لعمله...
ويقول «جويو» أن الروح الأخلاقي عند الفنان كعبقريته يجب أن ينبعا معا وفي وقت واحد من أعماق طبيعته... وإن الفن غير الأخلاقي هو على كل حال أحط مرتبة، حتى من وجهة النظر الفنية الخالصة.. ذلك أن الفن العالي ليس ذلك الذي يثير في النفس أحر المشاعر وأعنفها فحسب، ولكنه ذلك الذي يثير فيها أكرم المشاعر وأرحمها. إن خطر الفن يرجع إلى تلك القدرة العجيبة فيه، تلك التي يستطيع بها أن يستدر عطفك على مخلوقاته، ويستلبك إعجابك بصوره، وإن العطف والإعجاب يعيدان كالمرض. فإذا أبدع الفن في تصوير نوع من الشذوذ أو الانحطاط، وحملك بهذا الإبداع على أن تعطف على الانحلال وتعجب بالتدهور: فإن مجتمعنا بأسره يمكن أن تسري فيه العدوى عن طريق هذا الفن.
ما مهمة الفن الحق إذن؟ أهي أن يقف المجتمع واعظا ومرشدا وهاديا إلى سواء السبيل؟
من المجمع عليه أن الوعظ والإرشاد ليسا من وظيفة الفن، لأن وظيفة الفن هي أن يخلق شيئا حبا نابضا، يؤثر غي النفس والفكر.
ما هو نوع هذا التأثير؟.. هنا المسألة!..
إن نوع التأثير هو الذي يحدد نوع الفن، فإذا طالعت أثرا فنيا ـقصيدة أو قصة أو صورة ـ وشعرت بعدئذ أنها حركت مشاعرك العليا، أو تفكيرك المرتفع، فأنت أمام فن رفيع... فإذا لم تحرك إلا المبتذل من مشاعرك، والتافه من تفكيرك، فأنت أمام الفن رخيص.
هنالك سؤال آخر: ما مصدر هذا التأثير في العمل الفني ؟... أهو الأسلوب أم اللب ؟... أهو الشكل أم الموضوع ؟..
إن الأثر الفني الكامل في نظري، هو ذلك الذي يحدث فينا ذلك الشعور الكامل بالارتفاع... وقلما يحدث هذا إلا عن طريق السمو في اللب والأسلوب،
لأن ضعف «الشكل»، وسقم «الأسلوب» يحدثان في النفس شعورا بالقبح والضيق والاشمئزاز، وهذا ينافي الشعور بالجمال، والتناسق، والانسجام.
شأن الفن، هنا أيضا، شأن الدين.. فما من رجل دين، يثير في نفسك إحساسا علويا حقا إلا إذا كان في طريق حياته مستقيم السلوك، وسليم الأسلوب !... يغير ذلك يختل التناسق بين الغاية والوسيلة، وبهذا الاختلال بداخل النفس شعور الشك في حقيقة رجل الدين...
لو علم رجل الفن خطر مهمته، لفكر دهرا قبل أن يخط سطرا !... ولكن الوحي يهبط عليه فيسعفه، ـ ومعنى هبوط الوحي، إن شيئا ينزل عليه من أعلى ـ شأنه في ذلك شأن المصطفين من أهل الدين !... وهل يمكن أن يهبط من أعلى إلا كل منتفع نبيل ؟...
للدين وللفن... السماء هي المنبع!...