الحوار بين الموضوعية وإشكالية التحيز

بقلم: أ. د. إبراهيم أبومحمد
المفتي العام لقارة أستراليا
في تراثنا الإسلامي العظيم ما يبغض الكسل وشلل الإرادة والغفلة عن مجريات الأمور والغياب عن الواقع من ناحية. وفيه أيضا ما يحفز إرادة المسلم على النهوض والشهود الحضاري من ناحية أخرى، ففي كتاب الفردوس بمأثور الخطاب للإمام الديلمي، جاءت دعوة إلى التكامل والارتقاء تقول: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان غده شرا من يومه فهو ملعون، ومن لم يتفقد النقصان في عمله كان النقصان في عقله، ومن كان النقصان في عمله وعقله فالموت خير له من حياته).
وقد أردت أن أبدأ بهذا الحديث ونحن نتحدث عن الحوار الذي يشكل حلقة للتواصل مع الآخر في ظروف تبدو فيها أمتنا بغير حراك من أي نوع سياسي أو علمي أو اقتصادي. فالعالم يدور ويموج وأمتنا ساكنة.
أردت أن أذكِر بأن هذا السكون طارئ وليس هو الموت كما يشيع البعض، فبرغم الضعف والسبات المصحوبان بحالات التخلف والعجز والتبعية الممقوتة -فلسنا أمة تقف في مهب الريح لا جذور لها، إنما نحن أمة لديها رصيد ضخم وعظيم، حرك الدنيا وغير التاريخ، وأعاد للوجود رشده وحرارة الحياة، وهذا الرصيد الملزم لا يمنعنا من الاستفادة من تجارب الآخرين وحكمتهم، ولا يحول بيننا وبين النظر في معطيات الحاضر والأخذ منه، كما أنه يشكل بالنسبة للتراث الإنساني بعمومه أعلى وأغلى وأغنى رأسمال ومن هنا تظهر خطورة الحوار وأهميته على مستويات الفكر توصيفا وتحليلا.
فعلى مستوى الطرح الفكري يجب أن يكون موضوع الحوار واضحا لنا بأولوياته وأن نعرف كيف نصنف اهتماماتنا بعيدا عن الوقوع في شرك بريق المصطلح والجري خلف سرابه، ثم نعود في نهاية الأمر وجعبتنا خاوية الوفاض، لا تحمل معها تينَ الشام ولا عنبَ اليمن كما يقولون في المثل، وكما حدث من قبل في حوارات سابقة.
فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، والمسلم ينبغي أن يكون عارفا بزمانه، وقد جاء في الأثر (رحم الله امرأً عرف زمانه واستقامت طريقته). كما لا يجوز أن تطرح موضوعات الحوار ضمن إشكالية التحيز والحكم المسبق..
والأزهر كمحضن لعلوم الدين - لغة وثقـافة وحضارة - يمثل الطـرف الإسلامي الذي يرمز إليه مجازا بجهة الشرق. فكأن الحوار بين الشرق والغرب، أو بين الإسلام والغـرب، غير أن صفة العموم تستغرق الطرفين معا أي الشرق الإسلامي كله والغـرب المسيحي كله، وهذا في الحقيقة يغاير الواقع، فلا الشرق كله مسلم ولا الغرب كله مسيحي، غير أن صفة التغليب يمكن أن تعفينا من الدخول في تفاصيل ربما لا يحتاجها مثل هذا المقال الذي ينصب جل اهتمامه في التعرف على القواسم المشتركة التي تصلح أساسا للتعايش، واهتداء طرفي الحوار إليها، وتقديمها للعامة والخاصة لدى الطرفين، علها تعفينا من صراع يؤجج ناره طوائف من المتطرفين عندنا وعندهم، وهو صراع يهلك الحرث والنسل، ولا يربح فيه إلا تجار الموت ولصوص الحضارة وسراق الأحلام هنا وهناك، بينما يخسر فيه الغالب والمغلوب على سواء.
كما أن منطلق الحوار يجب أن يبدأ متحررا من ثقافة الكراهية من ناحية، وبعيدا عن روح الاستعلاء من ناحية ثانية. ذلك أن ثقافة الكراهية تولد نوعين من الإحساس.
الأول: إحساس بالصواب المطلق والحق المطلق، يتولد عنه رد فعل رافض مبالغ فيه، يسرف في الهجوم على الغرب ثأرا منه وانتقاما، ويعمم أحكامه على الغرب جملة وتفصيلا ويضع الجميع في سلة واحدة، وسوء الظن لديه هو القانون والقاعدة العامة.
والثاني: إحساس بالضعضعة والوهن والاستضعاف وقلة الحيلة، يتولد عنه رد فعل تنازلي مبالغ فيه، يسرف في طرح معنى التسامح ويجتهد في إرضاء الآخر ونفي تهم الشراسة والعنف والإرهاب عن الذات.
أما روح الاستعلاء فيتولد عنها نوعان من الشعور.
الأول: إصرار على الخطأ مبالغ فيه، وتجاهل لحقائق التاريخ يدفع أصحابه إلى النظر للآخرين نظرة رأسية مستخفة بهم، ومن ثم يتم تجاهل حقوقهم والتجاوز معهم دون مراعاة لشعورهم أو خوف من غضبهم.
الثاني: شعور بالتميز والتفوق يتولد عنه رد فعل مبالغ فيه مصحوبا بغرور القوة رافض لأي تنازل مستعليا على الاعتذار عن أي إساءة ولو كانت مساسا بمقدسات، أو تشريدا لشعوب، وتحطيما لدول، واحتلالا لأرض أو عرض.
ونحمد الله أن المتطرفين في الشرق خارج القانون، بينما المتطرفون في الغرب هم الذين يفتون ويصنعون الأحداث، وهم في مراكز القرار ومن ثم فهم يملكون القانون.
وبين هؤلاء وأولئك شرائح تساعد وطوائف تنفذ وآليات تستخدم ومنها البحث العلمي بطبيعة الحال.
ففي أكثر الأكاديميات العلمية يتم توجيه الأبحاث نتيجة التمويل لتحقيق أهداف معينة، ومن ثم يغيب الضمير، وينحي التجرد في البحث عن الحقيقة، وما لم يكن البحث سلبيا في نتائجه بالنسبة للهدف المطلوب إصابته فلا تمويل، ومن ثم تطال إشكالية التحيز كل شيء حتى مجالات الحقل العلمي.
ومع الإحساس الحقيقي بالخطر الذي يحمله الواقع والدعوة إلى صراع الحضارات نفض الإنسان عن نفسه شعور الانفصال وبدأ يحل محله شعور بضرورة الاتصال للبحث عن وسائل حقيقية للإغاثة والإنقاذ، ولم يجد بدا من أن يمد يده للآخر يحاوره ويتداول معه هموم الحاضر القلق: والقادم المرعب الذي لا يكن خيرا للبشر ويدفعهم دفعا للفتنة والصراع، وكأنهم قطيع من الغنم يجب أن يتفرقوا ويتمزقوا حتى تتوزع قوتهم ويمكن قيادهم والسيطرة عليهم والذبح منهم كلما شاء.
ومن ثم تردد كثيرا مصطلح حوار الثقافات وحوار الأديان ثم حوار الحضارات، وأنشئت له مراكز علمية وبحثية، وتخصص فيه أكاديميون من كل التخصصات في محاولة لوقف زحف الدمار الذي يمكن أن يحدثه الصراع الدولي في زمن ادخرت فيه القوى الكبرى في مخازنها ما يزيد على 10 أطنان من المتفجرات لكل فرد من سكان الأرض.. نسأل الله العفو والعافية.
المصدر: http://www.akhbar-alkhaleej.com/12607/article/52331.html