تجديد الحوار الإسلامي المسيحي الداخلي ضرورة العيش المشترك

الحوار، هو تقليد حضاري، وفعل ثقافيّ رفيع، طالما احتاجت له البشريّة، ورغبت فيه، بهدف التعارف والتعاون وحلّ النزاعات .
الحوار بين أتباع الديانتين الإسلاميّة والمسيحيّة، قديم قدم الدين الإسلامي، وهو أحد مقاصد الشّرع الكبرى. ويتوخّى معرفة الآخر المختلف، في جوّ من الاحترام المتبادل والكلمة السّواء والمعاملة بالتي هي أحسن، وقد مورس هذا الحوار في أزمنة السلم والحرب، ولم يكن دائماً حلو المذاق، ولم يخلُ أحياناً من عنف جدليّ، إلّا أنّه في المحصلة يحول دون استمرار النّظر بعضنا بعضاً من خلال مرآة مكسورة، خاصّة حينما يتمّ الحوار بين ذوي النوايا الطيّبة. وعبر التاريخ كان الحوار بهدف تأكيد الحقائق المشتركة بين الديانتين أولاً، وبيان نقاط الاختلاف ثانياً، ودعوة للتعاون والتلاقي على كلمة سواء ثالثاً.
المحور الأوّل: في خبرة الحوار الإسلاميّ - المسيحيّ
وفي دائرة الحضارة العربية الإسلامية عاش المسلمون والمسيحيّون فهماً مشتركاً للمبادئ الإيمانيّة، فكانوا جميعاً أبناء حضارة واحدة. معتمدين وحدة العيش وشراكة المصير، ورابطة الثقافة المشتركة، والتعاون والتفاهم في شؤون الدنيا.
في العصر الحديث، وربّما منذ نحو نصف قرن تجدد نوع من الحوار بين العالم العربي والغرب في إطار ظواهر وأزمات سياسية واقتصادية، واجتماعية وتشابك في العلاقات الدولية، وفي مراحل ذات طبيعة تعاونية حيناً، وأخرى تنافسيّة أو صراعيّة حيناً آخر، فنشأت أطر ومؤسّسات ومنتديات، وشملت موضوعات الحوار، فيما شملت قضايا "الحوار بين الأديان والحضارات"، واتّسعت هذه الأطر والمنتديات وانتشرت في العديد من الدول والمجتمعات، بعضها تمّ برعاية وتمويل حكومات وبعضها برعاية ودعم مؤسّسات دينيّة تعمل على مستوى فوق قطريّ، وبعض الدول سخّرت الحوار لأغراض سياسيّة خاصّة بها......لكن مع مرور الوقت ومحاولات الفشل والنجاح، أخذ الحوار يتّجه نحو مسائل أخرى مثل: قضايا السلام والعدل والمرأة وحقوق الإنسان والتعدديّة والجاليّات الإسلامية في أوروبا وصولاً إلى قضايا الإسلاموفوبيا (الخوف من الإسلام) والإرهاب الذي ليس له دين.
وبغضّ النّظر عن النتائج المتواضعة لهذه الحوارات، إلّا أنّها شجّعت التعاون والفهم المتبادل، وبدّدت بعض المعلومات الخاطئة النّمطيّة عن الآخر، وساعدت على إنشاء مودات فرديّة بين مفكّرين ومثقّفين ومشتغلين بالعمل السياسيّ والدينيّ من أهل الديانتين في العالم العربي وفي الغرب.
وظلت العلاقات الراهنة والذاكرة التاريخية تلقي بظلالها على دعوات الحوار ومداولاته، فعند الغربيين مثلاً لم يكن من السهل التخلّص من أعباء التاريخ، ومن أعراض معركة "بواتييه" قبل أكثر من ألف ومئتي عام، ولا حتى الحصار العثمانيّ لمدينة فيينا قبل نحو 500 عام، كما لم يكن يسيراً على المسلمين، أن يضربوا صفحاً عن الماضي القريب المثقل بمشاعر الغزو والاستعمار، وما زالت لدى بعضهم أعراض "حروب الفرنجة"، وقد تداخلت وعقدت الحوارات، قضايا مستجدّة مثل الخوف من "أسلمة" أوروبا، في مقابل الخوف من "حملات صليبيّة" جديدة، إضافة إلى افتقاد العلاقات الدولية المعاصرة التوازن، الذي يتيح للحوار أن يكون منزّهاً عن المصالح والاستغلال.
كلّ ذلك، كان يلقي بظلاله على دعوات الحوار ومداولاته، وبخاصّة أن المبادرة في الحوارات المعاصرة، كانت صادرة من مؤسسات كنسية غربية، بدءاً من منتصف الستيّنات من القرن الماضي.
من ناحية أخرى، عادت الدّعوة للحوار، بشكل أكثر انتعاشاً في مطلع القرن الحادي والعشرين، تزامناً مع ما يجري في السّاحة الدوليّة من متغيّرات جارفة وعميقة، إن على مستوى الأفكار والعولمة والسياسة والحركات الجماعيّة للسكّان (الهجرة) وانتقالها عبر الحدود والثقافات، أو على مستوى ثورة وإفرازات ثورات الاتصال والمعلومات وتدفق المعرفة، وتنامي ضروب الكراهية الجماعية والغلو وأفكار "صراع الحضارات"، والتعصب، وصعود الفكر اليميني المتطرّف إلى الحكم في أكثر من مكان، وعسكرة العلاقات الدولية، واستمرار الاحتلال "الإسرائيليّ" لفلسطين، واتّساع رقعة الفقر وتنامي "الأصوليّات" ونزاعات الهويّات الإثنية والطائفيّة، فضلاً عن أحداث 11/9 الأمريكيّة وما تلاها من تداعيات . . . إلخ.
وفي موازاة هذه التطوّرات، سادت أجواء في العالم العربيّ، تدعو حوار الذاتي والمراجعة، بعد بروز ظواهر من الفتنة المذهبية، والاحتقان الطائفي في أكثر من بلد عربي، وإخفاق في إدارة العلاقة والاختلاف بين أبناء الوطن الواحد، وإدراك وجود خلل في الثقافة السائدة المجتمعية وغياب الحوار ومؤسساته الفاعلة؛ وفي الوقت نفسه ظهر نشاط ديني وسياسي كاثوليكيّ دوليّ باتّجاه مسيحيي المشرق، وبخاصّة بعد أحداث العراق المؤسفة بحق المسيحيين، وانعقد من أجل مسيحيي المشرق في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، برعاية وتنظيم الفاتيكان، مؤتمر السينودس، وشاركت فيه كمراقبين شخصيّات سنيّة من لبنان، وشخصيّات شيعيّة أكاديميّة من إيران، وحاخام يهوديّ من نيويورك، ونشرت مداولات هذا المؤتمر وبيانه الختامي.
وعلى مستوى الحوار الإسلامي المسيحي في النطاق العربيّ، بدأ الاهتمام في تعزيز الحوار في العقدين الأخيرين، وعلى أرضية التعايش والعيش المشترك، ومواجهة تحديات التوترات المتزايدة وعزوف المسيحيين عن المشاركة في قضايا المجتمع، وظاهرة تزايد هجرة المسيحيين الخارج، (علماً بأن ظاهرة الهجرة طالت المسيحيين والمسلمين على السواء)، لأسباب اقتصادية في الأساس. وبشكل عام، يمكن القول إنّ الحوار الإسلاميّ المسيحيّ على المستوى العربيّ، ظلّ مركّزاً على الوضع في لبنان، بحكم طبيعة تركيبته الديموغرافيّة والسياسيّة، إلا أنّ هذا الحوار، بدءاً من منتصف التسعينات، أخذ يبحث في ملفات أخرى للعلاقات الإسلامية المسيحية في بلاد عربية أخرى، وبخاصّة في العراق ومصر والسودان، وكان يتحاشى مواجهة الاختلافات العقائديّة، ويركّز على قضايا العيش المشترك وملفات قضايا المواطنة الواحدة ومسائل المشاركة والمساواة ومواجهة فكرة صراع الحضارات والأديان على المستوى الدوليّ.
بمعنى آخر، انشغل المشاركون في الحوارات الإسلامية المسيحية بشكل أساس في "حوار الحياة"، أو "حوار العيش المشترك".
لكن ما ينقص هذه الحوارات حتّى الآن، أنّها مازالت تدور بين النّخب، ولا تصل تأثيراتها إلى القواعد الشعبيّة والشرائح الشبابية والواسعة في المجتمع؛ كما أنّ هذه الحوارات لم تنجح حتى الآن في إشاعة ثقافة الحوار إعلاميّاً وتربويّاً ومجتمعيّاً وإزالة الخوف أو الشكّ من الآخر، والذي يؤدّي إلى العزلة والانغلاق والهجرة أو الهروب إلى وسائل غير سلميّة تحمل أشكالاً متنوّعة من الغلو والعنف ورفض الآخر.
إنّ الحوار الإسلاميّ المسيحيّ المؤسّسيّ والنزيه والفاعل والمجتمعيّ يمكنه المساهمة في معالجة التوترات الدينيّة، وتعزيز التنوّع، كمصدر إثراء وإنماء للمواطنة الواحدة، وتأسيس قواعد مسلكيّة وحالة ذهنيّة واستعداد نفسيّ لبناء العيش المشترك...
المحور الثاني: المسألة المسيحيّة المشرقيّة
من الضروري عدم الخلط بين المسيحيّة العربيّة والغرب، فلا الغرب العلمانيّ يمثل المسيحيّة ولا المسيحيّة العربيّة هي امتداد للغرب؛ فالمسيحيّة في الأساس مثل الإسلام شعتّ من الشّرق العربيّ، وارتبط المسيحيّون العرب بالحضارة العربيّة الإسلاميّة والثقافة واللغة العربيّة، فيما الأصول العرقية والعائلية لأبناء الديانتين واحدة.
وظلّ الولاء عبر التاريخ لأوطانهم ولقضايا الاستقلال والتحرر والتنوير، بل إنّ للمسيحيين العرب مساهمة فريدة على صعيد الفكر الدينيّ، تركت الأثر الإيجابيّ عند مواطنيهم المسلمين، وعند أبناء دينهم في الخارج، وبخاصّة اتّجاه نقد الصهيوينة السياسية والصهيونيّة المسيحيّة ورفض الاحتلال واعتباره إثماً دينيّاً.
ونستحضر هنا البيان الختامي لمجمع بطاركة الشرق (السينودس) الذي انعقد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي في الفاتيكان، كما نستحضر الموقف الوطني الجريء للبابا شنودة في تحريم حجّ الأقباط للقدس المحتلة، إلا بعد تحرّرها. من ناحية أخرى، فإنّه من المفيد تنوير عامّة المسلمين بحقيقة أنّ المسيحيّة اليوم لم تعد هي ديانة الرجل الأبيض أو دين الشّمال الغنيّ وحده، وإنّما أغلبيّة من يعتنقها اليوم هم من الفقراء والملونين والمظلومين في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والهند والفليبين وفي آسيا وغيرها، حيث يعيش نحو ثلثي المسيحيين في العالم، فضلاً عن أنّ ربع عدد المسلمين في العالم يعيش اليوم في مجتمعات دول غير إسلاميّة، مثل أمريكا والهند وأجزاء من آسيا الوسطى والصين وأوروبا وإفريقيا وأستراليا . . إلخ.
ومن هذا المنطلق، فإنّ عمليّة استنزاف المجتمعات العربيّة من كفاءات وقدرات وإمكانات مسيحييها وفقدان التنوّع الذي تميّزت به هذه المجتمعات، جرّاء هجرة أو تهجير أو عزلة أو استئصال أو تهميش لشريك الوطن من المسيحيين، تعني في الدّرجة الأولى إعادة صياغة هذه المجتمعات على قاعدة رفض العيش المشترك مع الآخر المختلف عقائديّاً، الأمر الذي يؤدّي إلى انتعاش واستقواء الغلو والتطرف وسيادة ثقافة الانغلاق ورفض الآخر، كما تعني أيضاً توجيه رسالة إلى العالم مفادها: "إنّنا كمسلمين نضيق بالمسيحيّة في المشرق، وبلادنا التي هي موطن الرسالات السماوية ونشأتها، صارت تضيق بالحريّة وببعض أهلنا وشركائنا في بناء الحضارة، وإنّ بلادنا صارت تختنق بالتنوّع والتعدّد، وإنّها تخنق حريّة التعبير الدينيّ (هل تعلمون أنّ عدد المقدسيين المسيحيين في سيدني هم أضعاف عدد المسيحيين في القدس)، كما تعني أيضاً أنّ المسلمين في العرب سيحملون معهم ثقافة رفض الآخر، وبالتالي فإنّهم غير قابلين للتأقلم مع مجتمعاتهم الجديدة، ممّا يزيد من اشتعال نار ظاهرة الإسلاموفوبيا في العالم.
هذه قضية وطنية مهمّة بل ومصلحة وطنيّة، لها أبعادها الأخلاقيّة والدينية والسياسيّة ....
المحور الرابع: العهد النبويّ لنصارى نجران
إن الوطن العربي حينما يفقد تنوّعه الدينيّ، يفقد خاصيّة وميزة، كما يفقد دوراً وهوية ورسالة، ويقدّم صورة مشوّهة عن جوهر الإسلام وعن صيغة التّعايش الإسلاميّ المسيحيّ؛ وحينما أقول جوهر الإسلام، استحضر هنا نصّ العهد النبويّ الذي قدمه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، إلى نصارى نجران، وهو نصّ خالد، ليس لنصارى نجران حصراً، وإنّما للنّصارى عموماً، كما أنّه ليس محدّداً بفترة صدر فيها، وإنّما هو ملزم لكلّ المسلمين في كلّ زمان ومكان.
ينصّ العهد، في ما ينصّ عليه على حماية النّصارى وكنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، وترميم بيعهم وصوامعهم، أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم، وحراسة دينهم وملّتهم أينما كانوا، ولا تغيير لأسقف عن أسقفيّته ولا راهب عن رهبانيّته، ولا هدم بيت من بيوت بيعهم، ولا إدخال شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين. ولا يحمل الرهبان والأساقفة، شيئاً من الجزية أو الخراج. ولا يجبر أحد ممّن كان على ملّة النّصرانيّة كرهاً على الإسلام، وان أجرم واحد من النّصارى أو جنى جناية، فعلى المسلمين نصره، والغرم عن جريرته، والدخول في الصلح بينه وبين من جنى عليه، فإمّا مَنّ عليه أو يُفادى به.
هذا هو الموقف الدينيّ المبدئيّ الشرعيّ التأسيسي لعلاقات المسلمين بالمسيحيين، "المسلم من سلم النّاس (أي كلّ النّاس بصرف النّظر عن دينه ولونه وعقيدته وثقافته) من يده ولسانه".
وهنا نتساءل:
هل قامت مؤسّساتنا التربويّة والدينيّة والثقافيّة والمجتمعيّة بنشر هذه المبادئ في الثقافة اليوميّة؟
هل هو جهل بهذه المبادئ؟ هل هو تجهيل وتغييب لها؟
لو كانت هذه المؤسّسات وهذه الثقافة والتربويّات والسياسات حاضرة وفاعلة، لما امتدّت يد آثمة لاغتيال كاهن أو متعبّد أو لحرق كنيسة أو بيت أو دكان، ولما صدرت أصوات خرقاء تطالب بتدويل المسألة المسيحيّة المشرقيّة.
المسؤولية مشتركة وقواعد الحوار
في الختام أودّ أن أؤكّد على عدد من المرتكزات والقواعد اللازمة للحوار والعيش المشترك والوعي بالهوية الوطنية:
1- إنّ مبدأ المواطنة الذي يكثر الحديث عنه ليس مجرد علاقة "عموديّة" بين المواطن والدولة، بل هو أيضاً علاقة "أفقيّة" بين المواطنين أنفسهم...
2- إنّ الوعي بالهويّة الوطنية وإدارك التوحيد الوطنيّ والانتماء لا تكفي لتكوينه عوامل الموروث الثقافيّ والاجتماعيّ والدينيّ، وما تنهض به مؤسّسات التنشئة من أسرة ومدرسة وإعلام وقانون ومؤسسة دينيّة أو مدنيّة...إلخ، وإنّما أيضاً يلزم توليد مصالح تبرّر للأفراد والجماعات الارتباط ببعضهم من خلالها والشعور الجماعيّ بالانتماء المشترك.
إنّ التوليد المستمرّ للمصالح الماديّة التي تصنع بين النّاس روابط تشكلّ في نهاية الأمر هويّتهم الجماعيّة وتتجسّد في برامج تنمويّة واجتماعيّة وسياسيّة. إنّ هذا التوليد هو من مسؤوليّات الدولة ووظائفها، بهدف التوحيد الوطنيّ الذي تحميه الإرادة والانتماء، وليس العنف أو القمع.
3- إنّ فكرة التسامح السائدة اليوم في خطابات الساسة والمثقفين في العالم، التي هي من مقاصد الأديان والمعتقدات المعتبرة، ومن مبادئ إعلانات حقوق الإنسان، ومن أهداف الأمم المتحدة والاتفاقات الدولية المختلفة، هي واجب أخلاقيّ وقانونيّ (حقوق) في آن، وتتطلب الوئام في سياق الاختلاف، وتعني القدرة على تحمّل الرأي الآخر، والعزم على حماية حريّة وحقوق الآخرين، وحريّة التّعبير والتّفكير والمعتقد والتّقدير للتنوّع الثريّ في مجتمعاتنا وعالمنا، وإذا غاب التّسامح انتشر التّعصّب والغلو والإقصاء.
4- لا يزيل الحوار والعمل على تعزيز العيش المشترك الواحد مشاعر الخوف والشكّ إلّا إذا اعتمدنا لغة واحدة في معالجة إشكاليّات العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة لا لغتين، تتوجّه إحداهما إلى الطائفة الجماعة التي تنتمي إليها، والثانية إلى الجماعة الأخرى. إنّ اللغة المزدوجة تذهب بجدوى الحوار وبصدقيّته وتعمّق الشكوك والمخاوف المتبادلة.
5- إنّ الهوية الوطنية الجامعة هي التي توحّد بين أبناء الوطن، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، وهي تشكّل الأساس لوحدتهم، ولاحترام خصوصيّتهم الدينيّة والثقافيّة على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات والاحترام المتبادل.
6- إنّ الهجرة المسيحيّة من الوطن العربيّ والتقوقع المسيحيّ على الذات لا يحلّ مشكلة للمسيحيين، مثلما إنّ هذه الهجرة المسيحيّة والتقوقع ليست خسارة للمسيحيين وحدهم، وإنّما في جوهرها شهادة سلبيّة تشوّه التعايش المجتمعيّ، وتسيء لجوهر الإسلام، وتدفع ثمنها الأوطان والمسلمون المنتشرون في العالم في آن. إنّ المسؤوليّة، هي مسؤوليّة مشتركة.
لنعترف أنّ هناك غضباً وسط معظم الطوائف المسيحيّة في الوطن العربيّ، وهناك شعور بالقلق والخوف والتّهميش. وهناك في الوطن شعور عامّ بخفوت الأمل في المستقبل مع تزايد طوابير اليائسين الباحثين عن حياة أفضل وعن جدوى لحياتهم، في ظلّ مسكّنات غير مجدية لمعالجة ملفات التنمية المعاقة والأمن الإنسانيّ المتفاقمة، والتي تزداد حدّتها يوماً بعد يوم.
إنّ حرائق الفتنة والتقسيم والاختراق والتقاتل، قد إلى تمتدّ الوطن كله، وثقافة الكراهيّة والعنف والغلو تنتشر، يرافقها انسداد في آفاق الإصلاح الشّامل، مع ارتفاع لمنسوب الفساد والهشاشة على مستوى المؤسّسات أو على مستوى التربويّات.. والتّقصير يطال الجميع.
وفي ظلّ هذه الأوضاع السلبيّة تعلو الهويّات الفرعيّة على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وتسود الأجندات الطائفية والمذهبية فتتحول الطائفة أو الكنيسة أو المذهب "ملاذاً أو مظلّة" دوليّة تقوم بوظائف الدولة، حماية ورعايةً وضبطاً وتعبيراً وخدمات. إنّ المسؤولية مشتركة لتعزيز الوحدة الوطنية، من خلال الحوار والعمل المشترك وترسيخ العيش الواحد، ومعالجة التوترات الطائفيّة، وإزالة مناخات الاحتقان ومسبّباته، والكثير منها يقع بفعل الظروف السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ويساعد على التوتير والاحتقان، تنامي الخطاب الديني السجالي والتجريحي والتحريضي، وسوء إدارة التنوّع في المجتمعات العربية الذي يؤدّي إلى انحسار في مساحات التمازج والتفاعل والتعاون والخلل في مبدأ المواطنة والتراجع في ثقافة المعرفة المتبادلة والتسامح والسماحة والإنصاف واحترام الاختلاف والتراحم...
لقد عاش المسيحيون العرب جنباً إلى جنب مع المسلمين، لنحو خمسة عشر قرناً وأسهموا معاً في بناء حضارة مشتركة، وواجهوا معاً الغزاة والطغاة والغلاة . وإذا كان الحوار ضرورة تقتضيها متطلبات العيش المشترك الواحد، والمصالح الوطنية بين أبناء الوطن الواحد، فإنّه كذلك مطلب روحيّ وأخلاقيّ وثقافيّ وإنسانيّ ويؤسّس له مبدأ التعارف "يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم".
المصدر: سنكسار