استراحة داخل صومة الفكر
وجه الصباح
سعد البواردي
محسن علي السهيمي
يولد الصباح على الكون.. يطل بوجهه الصبوح.. بإطلالته يولد الأمل.. يبتسم ثغر الحياة.. تتحرك عجلة العمل.. يندحر الظلام ولكن إلى حين.. شاعرنا محسن حسناً اختار عنوان ديوانه.. وحسناً أكثر حين يستوعب الصباح ميلاد يقظة من سبات تسترخي له الأجفان ما بين غفوة وصحوة.. يزقزق لها العصفور دون أن يرتبك:
زارني العصفور يوماً وبكى
لم يطق لحن الهوى فارتبكا
قلت: يا عصفور مرحى هاتها
قصة تروى لقلبي، ولك
وانثر الآه على سمعي. ولا
تبخلن يا صاحبي، قل لي بكرة؟
لم يتمالك عصفوره المرتبك إلا أن يبث شؤونه وشجونه كما هي حال شاعرنا.. كلاهما في الهوى سواء:
قال لي: صبٌّ تولى زمنا
راحلاً في البيد يطوي الحلكا
إن رأى زهراً تثنى طربا
وبدار البون يغدو ملكا
تولد الأفراح في بسمته
لا يبالي إن بقفر هلكا
غير أن الشوق أغراه فلم
يستفق إلا بقيد شبكا
آه من الصيادين وأعمالهم.. إنهم يفرقون في شباك هواهم سواسية لا فرق بين طائر سجين.. وعاشق أوثقته حبال الحب.. ومن ارتباك عصفور إلى «دموع لم يغيبها الزمن»:
ما بال دمعك من عينيك لم يغب؟
يا واحة التين، والزيتون، والعنب؟
أكلّ دمعك أحزان تفجرها
رصاصة الغدر من عكا إلى النقب
أهكذا العمر يمضي دونما أمل
تسلو به الروح أو يقضي على الوصب؟
شاعرنا اتسعت دائرة أحزانه.. وتساؤلاته بحجم المعاناة التي يواجهها أشقة لها على أرض فلسطين السليبة على أيدي المفسدين في الأرض وقد أعطاهم من لا يملك ما لا يستحقون.. إنها لعبة الأمم.. وسياسة القُمم (بضم القاف)
ماذا أقول بني قومي وفي كبدي
نار مؤججة من ظلم مغتصب؟
وفي فؤادي براكين بفورتها
تهوى النجوم نهاراً من لظى الغضب
قلتها.. سألتَ فأجبتَ فأصبتَ
قد شاب في أمتي ما يرتجى طمعا
في النصر، إلا حروف الشعر لم تشب
ومن جراح إلى جراح يأخذنا شاعرنا إلى النوى.. وما أدراك ما النوى:
بقلبي النوى كالمسك بين الجدائل
يفوح جموحا تحت شمس الأصائل
كتمت لظاه في الورى غير أنه
تأبَّى خنوعا تحت نقع الصواهل
تمر لياليه مجنحة تارة.. مرضية سدولها تارة أخرى وهو يواجه من يعرف ومن يجهل غير عابئ ولا مكترث يشم النسيم يستمطر الكره.. النجوم في فضاءاته أشبه بالقناديل العاشقة تدله وترشده على صوت الحداء وقد طابت نفسه، وارتاح قلبه المقيم.
حملت دوائي وانثنيت على المدى
نظمت ولملمت الجوى في دواخلي
وأرسلت في سمع الورى ثمَّ زفرة
يهز صداها وجد آت وراحل
كنا معك سعداء اللحظة.. ما الذي طرأ على حلمك وأملك كي يتحول إلى ما يشبه الميتم؟ الطيور بكت.. رياح الشوق هبت.. الأحلام نعت نعيمها؟ ألهذا الحد تنكفئ الأحلام وبسرعة جنونية؟
ألا ليتما الأحلام يبقى نعيمها
ويبقى لنا في الروض شدو البلابل
وليت الدنى تصفو ويهنا مقيمها
وليت النوى يمضي وتدنو منازلي
وليت الذي تسلو به النفس خالد
مدى الدهر لا يلوي على صوت عاذل
أمنيات لا تسمن ولا تغني من جوع.. الحب لا يشفه له التمني.. ودوام الحال من المحال.. للهوى مده وجزره.. حضوره وغيابه.. هجره وعتابه.. حتى في الحب لك الساعة التي أنت فيها.. اغنمها وحافظ عليها، والهث خلفها وإلا ضاعت وأبقت لك مجرد ذكريات ممزوجة بالآهات.
«رحلة الأيام» عنوانها سفر.. وأبجديات هجر أو ظفر.. لا شيء غير هذا:
رحلة الأيام قد آن التداني
وانقضى الهجر، وأسباب الثواني
وتولى الليل عن أشجار صب
مولع بالشجو، مهتاج الجنان
سكب النجوى على كفيه شعرا
وتلهى بالمنى، والفجر دان..
مساكين نحن الشعر زادنا ووقودنا قوافي شعر.. لا قوافل تمخر عباب الصحاري في تحدٍّ ومصابرة يوصلان إلى الغاية.. بشعر شاعرنا بزاده الذي يستمد منه طاقته رسم صورة الحلم الراقص يغدو في عين محبوبته.. ويروى قصصاً لها نفح الأقحوان ورائحته.. وحكاية عصفور يزقزق في فضائه دون روح.. وشطئان تلوب بها الرياح.. وأحلام لا تروي فؤاداً.. كلها ظلال لم تشفع له عن لسعة الهجير.. أو الهجر الذي يكتوي به..
يا شموس الوجد صبي في فؤادي
غنوة الحلم، وأحلام الغواني
وانثري عطر الليالي، واكتبي
لحن خلد بحروف من جمان
ويصحو على الواقع.. ويبقى له بصيص أمل مما يحلم به:
فوق كفيَّ نشيد سرمدي
مرَّ في جنح الليالي فشجاني
«جُفُول» لا يخلو من أمل، وألم..
يجفل الليل، ويرتد إليَّ
لم يجد في الدرب إلا مقلتيْ
كمداً يجثم لا يمضي إلى
غده قل ملَّ من حتى، وكيْ
سُرَّ بالنجوى متى يبعثها
في فؤادي، لم أعد أعبأ بشيء
وإذا الفجر تبدى قلت ما
عاد في القلب سوى أيام ميْ
يرجع إلى ليلة لا إلى ليلاء غاضباً متجهماً:
آه ما أقساك يا ليل وهل
سوف تبقى كسوار في يدي
عجيب أمرنا مع الليل تارة نرجعه ونردده كأنشودة صب لا تنتهي، وأخرى نغاضبه ونعاقبه كما لو أنه المسؤول عن الفشل..
في غروب الشمس سر جامح
طاف بالقلب وأظمى كل ريْ
فجع الطير على أغصانها
فتولى الشدو يبكي مسمعيْ
وانثنى الصب على آلامه
يتلقاها على قهر بـ(وي)؟
نهاية أجمع عليها الشعراء.. جلهم إن لم أقل كلهم.. لا نهاية لحب إن لم يكن مجللاً بالمعاناة، والآهات، والتأوهات.. الحب عذاب!! «روضة الذكر» لمجرد قراءتي للعنوان استبشرت خيراً لشاعرنا ولنا نحن المرافقين له في رحلة شعره، وقد شبعنا فشلاً:
كالزهر، كالطل، كالريحان، كالمطر
يا سابحاً بين آي الله والسور
لروضة الذكر تغدو والدنى صخب
من منهل الوحي تسقي الروح في السحر
طوبى لمن عطَّر الأسماع مبتغياً
فضل الإله ولم يجنح إلى بشر
بالذكر يحيا، ويحيا خلفه أمم
بالذكر يعلو ويغدو خير مدكر
ما ثم كنز عزيز في مكانته
سوى (القرآن) فلا تسأل عن الدرر
على هذا الإيقاع الروحي تحدث عن الطاعة.. عن أهل التقوى.. عن أولئك الذين يصدحون بكلمات الله كي يهتدون ويهدون..
أكرم بهم من كتاب الله منهجهم
هم المصابح عند الحِل والسفر
من الأجواء الدينية يغادر بنا إلى مكان قصي حيث الحب من جديد.. وحيث الحبيبة وقد ناجاها أن لا تغادر:
وتغادرين مرافئ العطشى إذا هطل الأصيل
الأصيل يا عزيزي لا يهطل.. المطر أو الماء هو الذي يهطل.. أبدل هطل بـ(حلَّ).
وقوارب الأحلام قادمة من السفر الطويل
والنورس المحزون في الآفاق أتعبه الرحيل
أما هو فبصره شاخص إلى شيء آخر أهم من القوارب ومن النورس:
وأظل أرقب نظرة خجلى من الطرف الكحيل
شمس، وطل، وطير، وزهر، وأوراق خريف تردد نغمها الحزين.. كل هذا لم يشغله.. تحمله من أجلها.. نزف خافقة دما.. هددها بالرحيل إن هي رحلت.. أفصح عن محبوبته أنها أكبر من امرأة وأغلى من حبيبة، أنها:
هي عزة للعرب ولت حينما قدم الطغاة
لعلها الحرية.. أعادنا شاعرنا السهيمي إلى الأمل من جديد في دورة زمنية شعرية جديدة تتباين فيها الصور، تارة باسمة وأخرى متجهمة:
مرهف الإحساس حياك الصباح
ما لهذا القلب أضنته الجراح؟
زفزة حرى، وفكر شارد
وارتحال في الورى دون امتياح
حين تطويك الليالي فارتقب
مولد النور إذا ما الفجر لاح
ومع الفجر وبزوغه تشدو الطيور، وتمتلئ القلوب حبوراً ونشوة، ويبتسم الزهر، وتتفتح الورود.. وينقلب السحر على الساحر على غير انتظار، وبشكل فجائي:
إنما الأحلام طيف عابر
كسراب يتراءى في البطاح
يأسر الظمآن يعدو خلفه
ومع الإدراك يعروه افتضاح
يا نسيماً لم يزل في روحه
شهقة تترى وآمال فساح
اسق روحاً شفه الوجد ومِل
نحو قلب مثخن عند الرواح
روضة الشعر كفانا أننا
قد تركنا القلب بالآلام باح
الجراح لها بقايا نزيف لم يبرأ منها بعد.. إنها أنشودة أمل باكية.. «لكِ أنت» ومن أجلها زرع في أرضها الحدباء رايته.. ونسج خيوطه في صلب آهاته.. نفس الشكوى.. بكائية حزن متواصلة:
لما رأيت النوى أودى فيها زمنا
عن سحر عينيك لم تهدأ صباباتي
كتبت في دفتر الأيام قصتنا
فصولها سرقت أحلى حكاياتي
ما عاد للزهر لون في خمائله
وبلبل الأيك لم يسجع بأبياتي
إلى أن يقول بعد مناجاة خارج طوعه:
كوني له يا عيون الكون أغنية
أبياتها لوعتي، والناي أناتي
خذيه في عالم ما بلّ تربته
دم الجريح، ولا دمع المسنات
أخيراً يُمني نفسه، لعل، وعسى.. والأمنيات أحياناً تخفف وطء المصاب:
ما ضرَّ لو تشترين اليوم بهجته
تكرماً منك يا نور المساءات
إن ارتحلت ففي عينيكِ صورته
وإن أقمت فما أحلى المقامات
شاعرنا استمرأ الحزن.. إلى درة الإدمان
عصفور جنِّح بروحي، وانثر الآها
وارسم على صفحة الأيام نجواها
واصدح بما شئت فالآلام كم رقصت
على جوى الروح حتى ابتل خداها
كم عذَّبتها سنين حار طالبها..
وروَّعتها ليال طال ممساها
وقيدتها صروف الدهر وارتسمت
على الشفاه سوم كلما فاها
عصفوره كظله يطير حيث يسير.. إنه يستشيره حيناً.. ويستثيره حينا، ولكن عن ثقة لا يشوبها شك:
عصفور ما قصة الأحلام إذ وُلدت
في مهدها وتوارت في زواياها
ليتك قلتَ في خباياها؛ إنها أنسب..
كانت لنا أملاً بالأمس نرقبه
واليوم أضحت سرابا في المدى تاها
سأله عن القلب وحرقة الذكرى، والعين والدموع، والليالي السود.. وصروف الدهر، والآهات والطلول، وكل مشاهد البؤس، عن الريح، والخريف، وغصة الحلق والحسرة الجارحة.. نهاية بهذا البيت:
في كرَّة الدهر للأرواح عبرتها
وفي الثرى تحت صم الصخر عقباها
مع إحساس شاعرنا بالعطش رغب إلى من كانت مصدر عطشه مناولته كأس ماء زلال.. أو كوب لبن يبل به صدأ حلقه:
ناوليني الكأس فالفجر دنا
وبقايا الليل ما عادت لنا
ناوليني الكأس حتى أرتوي
ففؤادي ملَّ تطواف الدُّنى
لم أزل أطلب أحلامي كمن
يبذر البيد فما يلقى المنى
كل هذا العطش لا يفل ظمأه لا ماء ولا لبن.. إنه الحب وحده الذي شارف على الأفول:
كتب العمر علينا أننا
كسراب مرَّ يوماً من هنا
حمل البشرى مع أندائه
وأتى يركض شوقاً نحونا
ثم ولى، وتوارى دونما
قطرة منه تروي قفرنا
نهاية محسوبة.. تنتظرنا مع كل محاولة.. فهل تتغير؟! «زهرة» قال عنها:
زهرة مادت لعيني لحظات
فأنا اليوم أسير العبرات
لأول مرة.. بل لأول نظرة أسرت وجدانه وجنانه فأغرقها حباً.. وأغدقها صباً:
في ضحى يوم بهي ضحكت
عجباً إذ تهت في تلك الجهات
وبدت في دربي النائي كما
درة تزهو على جيد المهات
يا لها من زهرة فتانة
خرجت من صلب أعتى الصخرات
إيه يا زهرة ما ضرك أن
تمنحي عيني أحلى النظرات
هاأنا أرحل تواقاً لما
يرسم البسمة فوق الوجنات
يبدو أن معشوقته شيء آخر. لن تكون امرأة.. حواء لا تخرج من صلب أعتى الصخور.. هل هي نبع، جدول، شلال ماء يتسلل ما بين الصخور.. أم أنها نبتة خريفية متفتحة لها رواؤها وشذاها، وأخالها الأقرب إلى الذهن:
جادك الغيث هنيا فارقصي
في رباك الخضر، وابقي للهواة
(النجم الضاحك) ما برحنا مع شاعرنا نتلمس مواطئ أقدامنا.. ونكفكف دموع مآقينا ساخنة على مجرى خدودنا.. الفرحة شبه يتيمة في أدبيات شاعرنا المتألق بشعره.. المتشائم بمشاعره.. عن فلق دجاه.. وعن قلقه يقول:
خلت ذاك النجم أمسى ضاحكا
إذ تبدى نوره في الخافقين
غرني منه شعاع تائه
يدنو مني ثم ينأى بين بين
ملّ ترحال الليالي فانثنى
يبعث الآهات قهراً دون حين
حتى الفرحة استكثرها شاعرنا على النجم.. بعد أن كان ضاحكاً راح يتأوه..
«فلق الدجى» عنوان ما قبل المحطة الأخيرة من هذه الرحلة:
فلق الدجى غنت لك الأطيار
وهفت لروحك في السُّرى الأبرار
وتبسم الزهر الندي وناغمت
لغة الصدى ببزوغك الأوتار
ويختتم مقطوعته المعبرة:
فانثر سناك على الخليقة إنها
رقصت جوى، فدموعها أنهار..
أخيراً مع شاعرنا في شعره الممتع عبر ديوانه المشبع بالأحزان «وجه الصباح» الذي أطل قليلاً واختفى وراء حجب الظلام والجهام عبر مقطوعته المتفائلة «إلى الحياة»..
هبيني منكِ ما شئتِ
من الآلام، وابتسمي
وطوفي بالجوى غسقا
وكوني منتهى الحلم
خذي مني نزيف الحرف
دفاقا به قلمي
خذي مني أنين الصمت
روّي منه كل ظمي
جموح الشمس في عينيك
أغراني فلم أنم
وبعد: كانت رحلة مشوقة قضيناها سوياً مع الشاعر محسن علي السهيمي رغم سوداويتها التي لا ذنب له فيه؛ لأنها محاكاة لواقع يعيشه الإنسان ويعايشه.. وجه الصباح في أحيان كثيرة يحجبه الضباب.. وتخفيه الغيوم.. ويكتم أنفاسه الغبار.. ومع هذا يطل وجه الصباح مرآة صافية نكتشف من خلالها أنفسنا.. وواقعنا.. ومواقعنا مهما تباعدنا ونأت بنا المسالك والمتاهات.
المصدر: http://www.al-jazirah.com/culture/2012/04102012/mrag41.htm