النظرة الخصوصيّة في الحوار الدينيّ سبيل إلى الإرشاد

إليستر مكراث
 
 
لقد أصبحت التعدّديّة الدينيّة أمراً واقعاً في هذا العصر، تماماً كما جاء في سياق بشارة القدّيس بولس في أوروبا. إلا أنّها أصبحت اليوم أمراً ذات أهميّة بالغة، وذلك بسبب الحضارة الغربيّة التي تتّجه اليوم أكثر إلى موضوع الحقوق المرتبط بحكومة سياسة رعويّة، لا ترغب في إلحاق الضرر بأيّ شخص، على حساب معتقداته الدينيّة.
 

إنّ التعامل مع هذا الموضوع الثقافيّ أمر بالغ الأهميّة: إنّ الدفاع عن المسيحيّة يبدو وكأنّه تقليل من شأن الأديان غير المسيحيّة، وهذا أمرٌ غير مقبول في مجتمع متعدّد الحضارات.

بالنسبة إلى شعوب ذات معتقدات سياسيّة تحرريّة، فإنّ جدول أعمال التعدّديّة الثقافيّة لا يسمح للأديان أن تدّعي الحقيقة، وذلك لتجنّب التباهي والإمبرياليّة. في الحقيقة، يبدو أنّ هناك مفهوماً واسع الانتشار بأنّ التعدديّة الدينيّة تستلزم اعتدالاً أو ادّعاءً غير مقبول المبدأ. وفي هذا الإطار؛ فإنّ جدول أعمال التحرّر السياسيّ يُملي بأن تعامل جميع الأديان على أرض واحدة. وعلى أيّ حال، فإنّ هذه تعتبر خطوةً صغيرةً من هذا الحكم السياسيّ المتعلّق بالاعتدال، وهي جزء من التصريح بأنّ جميع الأديان متساوية في الأساس. ولكن، هل هناك سبب يدفعنا باتّجاه قبول احترام الأديان الأخرى؟ أو اعتبار أنّ جميع هذه الأديان تُشكّل طريقاً صحيحاً يؤدّي بنا إلى الخلاص؟

إنّ مهمتي هي أن أحاول اكتشاف عدد من القضايا التي تتضمّن معنى التعدديّة الدينيّة، خاصّة بما يتعلّق بموضوع الخلاص. إنّ هذا مجال واسع أصبح أكثر أهميّةً، في الوقت الذي أصبح المجتمع الغربي متعدّدَ الحضارات، وحيث إنّ المسيحيّة تستمرّ في التوسّع لتعمّ الحضارات غير المسيحيّة، وخاصّةً في إطار المحيط الهادئ. ولنعطي هذا الموضوع حقّه، من الضروريّ أن نأخذ بعين الاعتبار بعض المواضيع الأساسيّة المتعلّقة بالتعدديّة الدينيّة، قبل اكتشاف الموضوع الأكثر أهميةً ألا وهو موضوع الخلاص.

والآن أريد أن أوضح الأمر من البداية: إنّني أعتبر القضايا التي يطرحها من يقول بفكرة التعدديّة قضايا شرعيّة وهامّة. ولا يمكن وضع هذه الأفكار جانباً بأيّ شكل من الأشكال. وأريد أن أؤكّد بأنّ انتقاداتي للتعدديّة نابعة من التساؤلات التي طرحتها هذه الفكرة، ومن توافق أولئك الذين طرحوا هذه الفكرة. وبشكل خاصّ أريد أن أبدي تقديري للقضايا الإنسانيّة التي طرحها أصحاب فكرة التعدديّة، وخاصةً ما أظهر هؤلاء من قلق بما يتعلّق بالناحية الأخلاقيّة لأسلوب أصحاب النّظرة التخصّصيّة بالنسبة لعمليّة الخلاص.

الديانة المسيحيّة في الغرب، وخاصةً البروتستانتيّة، قد أخفقت في تقديم الكثير من القضايا التي يطرحها أصحاب فكرة التعدديّة. أنا أعتبر أنّ نهوض فكرة التعدديّة هو محرّك أساسيّ للبدء في مهمّة اكتشاف هذه القضايا. هذه القضايا هي في الحقيقة معقّدة لدرجة أنّي أحاول فقط أن أقارب هذه القضايا، وبهذا فأنا أمهّد الطريق لعمل جوهريّ في المستقبل.

طبيعة التعدديّة

يقول نيو بيجن في تعليقه على موضوع "البشارة في المجتمع التعدديّ": "لقد أصبح معروفاً بأنّنا نعيش في مجتمع تعدديّ، وليس مجرّد مجتمع فيه تعدّد وتنوّع الثقافات والأديان وأساليب الحياة المتعلّقة بهذا المجتمع، وإنّما هو مجتمع تعدديّ، بمعنى أنّ التعدديّة هي مجموع أشياء تلقى استحساناً واحتراماً".

من هنا، نرى أنّ نيو بيجن يميّز بين التعدديّة كواقع والتعدديّة كأيديولوجيا، أي بين الاعتقاد والعمل على تشجيع التعدديّة، والاعتقاد بأنّ التعدديّة أمر يستدعي التصدّي له، كونه إمبرياليّاً وعدوانيّاً.

أمّا بالنسبة للاعتقاد الأوّل، فلا جدال فيه. فانتشار المسيحيّة قد استمرّ في عالم التعدديّة، وكان دائماً في عمليّة صراع مع المعتقدات الفكريّة والدينيّة المنافسة. لقد ظهرت البشارة في قالب اليهوديّة وانتشرت في أوساط المدنيّة الهيلينيّة (اليونانيّة). إنّ ظهور التعدديّة لم يطرح تعارضاً مع نظريّة أو نشاط الإنجيليّة المسيحيّة، بل تقرّبنا كثيراً من عالم العهد القديم نفسه.

وفي هذا الإطار، يقول السيّد ميشال غرين، الإنجيليّ الإنغلو ـــــ كانديان معلّقاً على الوضع المتعارض مع الكنيسة القديمة، كما جاء في كتاب القانون: "إنّي أرى أنّ معارضة النّاس لإعلان البشارة المسيحيّة أمر مثير للسّخرية هذه الأيّام، ذلك أنّ العديد من الأديان الأخرى تتزاحم على عتبة هذا العامل. ما هو الجديد في ذلك؟! لقد كان تعدّد الأديان في الزمن القديم أكبر ممّا هو عليه اليوم. والمسيحيّون الأوائل كانوا يدّعون الأولويّة بالسيد المسيح، ممّا أدّى إلى وجود مشكلة مع الأديان الأخرى منذ البداية. ولكنَّ أسلوبهم كان جيّداً، فهم لم يشجبوا الأديان الأخرى، بل أعلنوا ولاءهم للسيّد المسيح بكلّ قوّة من البداية.

إنّ إعلان وتعزيز التبشير ضمن مناخ التعدّد الدينيّ، استمرّ خلال الانتشار المسيحيّ، كما من خلال انتشار المسيحيّة في روما الوثنيّة، وتأسيس كنيسة مار توما في الهند الجنوبيّة، أو من خلال التزامن بين المسيحيّة والإسلام، في فترة الخلافة الإسلاميّة؛ فهذه أمثلة على ظروف كان فيها رجال اللاهوت المسيحيون وعامّة المؤمنين من المسيحيين يُدركون بأنّ هناك أدياناً بديلةً عن المسيحيّة.

إنّ هذه الفكرة يمكنها أن تكون غائبةً عن أذهان الكتّاب الإنكليز والأميركيين في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. فبالنسبة لهؤلاء الكتّاب، فإنّ التعدديّة قد تعني أمراً أكثر من مجرّد تنوّع في أشكال البروتستانتيّة، بينما كانت النّظرة للأديان الأخرى على أنّها حالة توتّر قديم بين البروتستانتيّة والكاثوليكيّة الرومانيّة. ولكنّ الهجرة من القارة الهنديّة قد غيّرت الأمور في إنكلترا، حيث أصبح الإسلام والهندوس وجهان لهويّة دينيّة تمثّل الأقليّات، تماماً كما اهتزّت فرنسا من وجود الإسلام، من خلال الهجرة من مستعمراتها السّابقة في شمال إفريقيا.

ونتيجةً لذلك؛ أصبح اللاهوتيّون الغربيّون، الذين يتحكّمون بعملية الجدال في هذه الأمور، يُدركون هذه الأمور، وقد بدأوا يوجّهون هذه الأمور التي أصبحت حقائق روتينيّة في الحياة للمسيحيين في جميع أنحاء العالم.

ولكنّ الأساليب الدينيّة للأديان التي انتشرت ضمن المجتمعات المسيحيّة لم يكن لها أثر على الديانة الغربيّة.

إنّ الأساليب المعمول بها مبنيّة على الافتراضات الغربيّة، إمّا بشكلٍ ظاهرٍ وواضحٍ من قبل المتدينين الغربيين، أو بشكلٍ سلبيٍّ من قبل الشعوب المثقّفة بالمفهوم الغربيّ، ومن الممكن اكتشاف ذلك إذا نُظر إلى كلمة دين بعمق أكثر.

ما هو الدين

هناك اعتماد كبير على الفئات الغربيّة بما يتعلق بكلمة دين. يقول السيّد جايمس فريزر(1890)، في عمله الكلاسيكيّ والمثير جدّاً للجدل "الغصن الذهبيّ": "على الأرجح أنّه ليس هناك موضوع تختلف الآراء حوله أكثر من موضوع الدين، ومن الصّعب أن يكون هناك تعريف للدين من شأنه إرضاء الجميع". ولكن يبدو أنّ هناك إصراراً ظهر حديثاً يرجع كلّ الأديان إلى نفس الظاهرة الأساسيّة.

هناك سؤال فكريّ يُطرح الآن؛ من الذي يصنع القوانين ويُحدّد بالتالي ما هو دين وما هو غير دين؟ إنّ قوانين هذه اللعبة تحدّد النتيجة، من يقرر؟

في إطار البحث الغربيّ، الحديث حول الأديان يَعتبر الدين بمثابة فئة متوارثة ومتّفق عليها. ولكنّه ليس في الحقيقة هكذا. يقول "جون ميليانك" في دراسة حديثة مهمّة بأنّ افتراضات التوارث الدينيّ ترتكز إلى الإطار الحديث في المواجهة كحوار، ولكن من الخطأ أن نتصوّر بأنّه ظهر بشكل متزامن بين جميع المشاركين كحقيقةٍ واقعةٍ ومدركةٍ تماماً. بل على العكس، إنّه من الواضح أنَّ الأديان الأخرى قد اعتبرت من قبل المفكّرين المسيحيين على أنّها نماذج من الدّين المتوارث؛ لأنّ هؤلاء المفكّرين قد صنّفوا بشكل منهجيّ الظواهر الثقافية الغريبة، ضمن فئات تتضمّن المبادئ الغربيّة، بما يؤلّف الفكر الدينيّ والممارسة الدينيّة. هذه التصنيفات الخاطئة، كثيراً ما لقيت قبولاً في الأوساط الدينيّة الغربيّة نفسها، والذين هم غير قادرين على مقاومة الصبغة السياسيّة المنمّقة للمقالة الغربيّة.

لذلك، علينا أن نشعر بارتيابٍ شديدٍ حيال الافتراض الساذج بأن الدين هو مقولةٌ واضحةٌ، ويمكن تمييزها بشكلٍ واضحٍ عن الحضارة.

والحقيقة أنّ الديانة الإغريقيّة، والكنفوشيوسيّة، والطاوية، والأديان المتعددة والمختلفة الهنديّة، والتي وُضِعَت جميعها تحت عبارة التوارث الديني ــــ الهندوسيّة، المسيحيّة، والطوطميّة، والأرواحيّة، كلّها من الممكن أن تسمّى أديان، وهذا يُشير إلى كون هذا خليطاً من فئات دون التمييز بين شخصيّة كلّ منها.

إنّ الخطوة الأولى في مخاطبة التعدّدية الدينيّة هي أن نضع جانباً مبادئ الدّين الذي يعكس تحيّز الحضارة الغربيّة. ليس هناك مكان في الأديان العالميّة لمبدأ التحيّز العرقيّ للدين، الذي يعكس بوضوح الافتراضات الغربيّة والفهم الخاطئ للظواهر الحضاريّة غير الغربيّة. لقد أخفقت الديانة الغربية في تحقيق ذلك. إنّ نظرة علم الاجتماع كانت أكثر احتراماً لمختلف العقائد والأديان، كما يُشير إلى ذلك أنطوني جيدنز، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كامبريدج، حيث يقول إنّ الدّين لا يمكن تعريفه بعبارات غربيّة: أوّلاً: يجب أن لا يُعرّف الدّين على أنّه التوحيد، فمعظم الأديان تتضمّن تعدّد الآلهة، وفي بعض الأديان لا يوجد آلهة أبداً؛ ثانياً: يجب أن لا يُعرّف الدين على أنّه مجموعة قوانين وقواعد إنسانيّة وأخلاقيّة تتحكّم بسلوك المؤمنين؛ ثالثاً: إنّ الدّين ليس بالضرورة متعلّق بتفسير الوجود؛ ورابعاً يجب أن لا يُعرّف الدّين بأنّه أمر خارق يتضمّن الاعتقاد بالعالم المجرّد والغيبيّ.

وباختصار هناك حاجة لاحترام استقلالية ما سمّيناها أدياناً بدلاً من أن نحاول اصطناع تركيبة تختصر جميع هذه الأديان في دين واحد.

إنّ التعميمات قد تكون نافعةً وتسمح لنا بفهم الأديان، ومع ذلك، فإنّ هذه التعميمات هي مجرّد أوصاف، ولا يمكن أن يُسمح لها بأن تصبح قواعد تُحدّد ما هو دين وما هو ليس بدين. إنّ موضوع التعدديّة الدينيّة ككلّ، كان خطأ فكريّاً يحاول دمج جميع الأديان في نفس الإطار. وربّما كان أكثر هذه الأفكار عجرفةً هو الاستعمال السطحيّ والنادر لاستعمال عبارة الأديان العليا (السماويّة)، والتي تشير إلى تلك الأديان التي تعتبر أرقى من غيرها على أساس الإدراك الغربي. إنّ استعمال هذه العبارة مهين ومسيء إلى الأديان الأخرى، وخاصةً في صحارى إفريقيا، ولذلك يجب التخلّي عنها. فهذه العبارات لا معنى لها، وهي تنحصر فقط في أولئك الذين لديهم جدول فكريّ يقضي باختزال الأديان، وهذا أمر مسيء وإمبرياليّ.

احترام الأديان الاخرى

إنّ النقاش حول مكانة المسيحيّة بين الأديان العالميّة يجب أن يستند إلى أساس الاحترام المتبادل، إن كان من طرف المسيحيين تجاه مَن هم غير مسيحيين أو من طرف غير المسيحيين تجاه المسيحيين. هذا الاحترام يمكن أن يُعبّر عنه من خلال الحوار الذي يُعتبر محاولةً من قبل الناس على اختلاف معتقداتهم ليتوصّلوا إلى فهم أعمق لبعضهم البعض. ولكنَّ هذا الحوار لا يمكن أن يدور على أساس الافتراض الداعم، والذي يعتبر أنّ كلّ فئة تقول نفس الشيء. الحوار يتضمّن الاحترام، ولكنّه لا يفترض الاتفاق.

إنّ التأكيد على الحوار بين الأديان المتعدّدة يبدو أنّه يستند إلى أسلوب الحوار السقراطيّ. فهذا الأسلوب يفترض أنّ المشاركين في الحوار يتحدّثون أساساً عن كينونة واحدة، يراها كلّ فريق من زاويته الخاصّة. الحوار إذاً يمثل أسلوباً يسمح لوجهات النّظر المختلفة أن تُسهم في خلق إدراك متراكم يتعدّى حدود النظرات الجزئيّة، وبهذا فإنّه يسمح لكلّ المشاركين أن يخرجوا بأفكار أكثر غنىً وفعّاليّةً.

في مضمون الحوار المتبادل بين الأديان يكون الأسلوب التحاوريّ مشابهاً جدّاً لموضوع الملك والرعية. عندما أمروا عدداً من المكفوفين أن يتحسّسوا أعضاءً مختلفةً من جسم الفيل، كان وصف كلّ واحدٍ منهم مختلفًا عن الآخر ظاهريّاً، ولكنَّ جميعَهم كان يعطي في وصفه الخاصّ جزءًا من الحقيقة الكليّة. إنّ كلاً من وجهات أولئك المكفوفين هي نظرة أصيلة وصحيحة بحدّ ذاتها، ولكنّها تبقى غير دقيقة في وصف الحقيقة الكليّة التي تمثل هي جزءاً منها فقط. ولكن ما هي أهميّة هذا الإطار للنقاش بين أديان العالم؟ في هذا الإطار يُقدّم لنا السيّد نيو بيجن ملاحظةً هامّةً وحيويّةً جديرةً بأن تُؤخذ بعين الاعتبار.

إن في هذه القصة الشّهيرة، قصّة المكفوفين والفيل، نلاحظ أنّ النقطة الأساسيّة في القصّة هي دائماً مغفلة. إنّ القصة نقلت من وجهة نظر الملك وحاشيته الذين هم في الحقيقة ليسوا مكفوفين، ولكنّهم يستطيعون أن يروا أنّ هؤلاء المكفوفين غير قادرين على استيعاب الحقيقة الكليّة للفيل، وهم فقط قادرون على الحصول على جزء من هذه الحقيقة. إنّ هذه القصة دائماً هدفها أن تُحايد التأكيد على الأديان الكبيرة، وليتعلّم هؤلاء المشاركين في الحوار التواضع وإدراك أن لا أحد منهم يستطيع أن يمتلك الحقيقة أو جزءاً منها. ولكن بالتأكيد، فإن النقطة الأساسية في القصة هيتمامًا على عكس ذلك. إن القصة هذه منقولة على لسان الملك، وهي ادعاء متعجرف من قبلشخص يدعي أنه يعرف الحقيقة التي تصب فيها جميع أديان العالم. إنها تدعي معرفةالحقيقة الكلية، وهذا يجعل المعرفة بالنسبة لباقي الأديان معرفةً نسبيةً وجزئيةً.

إنّ السيّد نيو بيجن يُشير إلى التعجرف الكامن لكلّ من هذه الادّعاءات القادر على النظر إلى كلّ الأديان من موقع واحد، يرى الحقيقة الكاملة. كي يستطيع النّاس أن يدّعوا أنهم يرون الصورة الكبرى، بينما يرى المسيحيون والآخرونالجزء فقط، فهذا مساوٍ للإمبريالية إلا إذا كان هناك معرفة عامة مفتوحة للتدقيقوالنقد العام.

إن المدخل المتميز للمعرفة الشاملة للحقيقة يلاقيعادةً تشكيكًا قويًّا، ليس فقط للافتقار الواضح للأسس التجريبية لهذا الادعاءولضعفه، بل وعدم قدرته على مقاومة البرهان والتكذيب.

يتفق الباحثون بشكل عام على أنه ليس هناك موقعمتميز يمكن رؤية الصورة الكبرى من خلاله، إلا إذا كانت الحقيقة الكليّة والتي تجعل من كلّ الادّعاءات الأخرى نسبيةً، قادرةً على إثبات نفسها من خلال التحليل التجريبيّ. إنّ الادعاء بأنّ جميعَ الأديان، نوعاً ما، تؤلّف العناصر المختلفة للحقيقة الكليّة ــــ أمرٌ غير مبنيّ على قاعدة شرعيّة. فهي في الحقيقة تمثل فكرة تأمليّة وغير قابلة للبحث والاختبار.

الحوار وعدم الاتفاق

من المحتمل تماماً أن ينخرط المسيحيّون في حوار مع غير المسيحيين، إن كان هذا الحوار مبنيّاً على إقناع دينيّ أو لم يكن دون الاعتماد على الطريقة السطحيّة في التفكير؛ أي الطريقة الأبويّة في التعامل، والتي تعتبر أن جميعنا يقول نفس الشيء. وكما يقول بول غريفاس ودلماس لويس: "إنّه من المنطقي والعمليّ، بالنسبة لنا كمسيحيين أن نحترم ونوقّر من يمثل التقاليد الأخرى، طالما نحن مازلنا نعتقد، وعلى أسس منطقيّة أنّ بعض عناصر من وجهات نظرهم خاطئة".

وعلى عكس أسلوب جون هيكس الأكثر تجانساً، نرى أنّ جون.ف.تايلر يلاحظ أنّ الحوار الدائم بين الفرقاء المختلفين في الآراء يقوم على احترام وجهات النظر وطرائق التفكير المختلفة والمتناقضة.

الحوار إذاً يتضمّن الاحترام، وليس الاتّفاق بين الفرقاء بالضّرورة، وهذا الحوار يدلّ على استعداد للمغامرة، حيث إنّ الشّخص الآخر من الممكن أن يكون على حقّ. وإدراك هذه الحقيقة من الممكن أن يؤدّي إلى تغيّر المواقف. فهناك احتمال على سبيل المثال أنَّ مسلماً متحرّراً من الأوهام، من الممكن أن يجد أنّ المفهوم المسيحيّ للخلاص مناسب أكثر، ويجذب الاهتمام أكثر من مفهوم الإسلام عنده، وبالتالي قد يقرّر التحوّل إلى المسيحيّة. إنّ هذه الظاهرة والتي تحدّث مراراً وباتّجاهات مختلفة في العالم، يجب أن تتجسّد في أيّ محاولة لفهم التعدديّة الدينيّة.

إنّ الحوار هو ذو أهميّة من حيث إنّه يُعزّز فهمنا للأديان الأخرى من ناحية، ويُمثل المنبّه والموقظ من السبات من ناحية أخرى. ويجعلنا نعيد تقييم فهمنا لديننا، بإجبارنا على تفحّص النواحي المختلفة، على ضوء مصادره الأساسيّة.

إنّ أحد اهتماماتي متعلّق بتطوّر العقيدة المسيحيّة. لقد لاحظت مدى أهميّة التطوّر المذهبيّ بما يتعلّق بالحوار مع الأديان غير المسيحيّة. ولكن هذا لا يعني أنّي أعتبر أنّ بعض العقائد المسيحيّة هي ردّ فعلٍ أو استجابة للضغوطات غير المسيحيّة، بل أقول كحقيقة واضحة بأنّ الحوار مع غير المسيحيين من الممكن أن يُعطينا محرّكاً للمسيحيين لإعادة تفحّص وجهات النّظر المُتَمَسَّكِ بها منذ زمن طويل، والتي تظهر بأنّها تستند على أسس غير صحيحة.

إن الحوار هو آلية ضغط تجبر المسيحيين على إعادة اختبار أسسهم العقائدية، ليؤكّدوا بذلك أنّهم أوفياء لما يزعمون. إنّ البروتستانتيّة يجب أن تخضع لمبدأ أنّ الإصلاح الكنسيّ هو إصلاح دائم وثابت، والحوار هو أمر يضغط دائماً باتّجاه تأمين هذه العمليّة الإصلاحيّة باستمرار. إنّ هذا الحوار هو بمثابة وقاء من الغرور والكسل، وهو باعث للعودة إلى الإيمان بدل البقاء على التفسيرات الجارية أو المعمول بها.

إنّ النقاشات حول التعدديّة الدينيّة قد أعيقت كثيراً، بسبب بعض النّاس ذوي النية الحسنة؛ ولكنّها ذات عقليّة زائفة منغلقة على فكرة تقول إنّ جميعنا يقول نفس الشيء في كلّ العالم، هذا المفهوم يُلغي الفرق بين الأديان ليبني نظريةً مصطنعةً تتعلق بالطبقة العامّة. إنّ هذا الإلغاء المتعمّد للفروقات بين الأديان هو غير مقبول أكاديميّاً. إنّ هذا التهرّب غير محتمل من قبل أولئك الذين يهتمون بصنع العدالة تجاه أديان العالم، وبعكس ما ينظر أليه أتباع هذه الأديان الذين تنبثق أفكارهم من النصوص المصطنعة لهذه الأديان، والتي تنبثق من النزعات المتجانسة للباحثين في الدين.

في دراسة هامّة وحديثة، يقول السيّد "يال ثيو لوجيان كاثرين تانر"؛ بأنّ الديانة المتعدّدة المتحرّرة قد استسلمت "للنقاش الاستعماريّ". إنّ أيّ محاولة لإظهار أنّ الأديان جميعها تنحصر في نفس المصادر الماورائية أو محاولة التقليل من الفروقات من أجل أظهار تنميق نظريّ، هي في الواقع محاولةٌ غير مقبولة.

إن التعميم الذي تلجأ إليه الأديان المتعدّدة، أمر يصطدم بفكرة الحوار الأساسيّ من حيث إنّ هذه التّعميمات، قد تسيء الحكم على النتائج. إنّ التعميمات، والتي يجب أن تبنى من خلال عمليّة الحوار، هي في الواقع مكوّنة من قبل التعدديين مسبقاً لتخدم افتراضات هذا الحوار.

فالتعدديون يحصرون أنفسهم، ويهتمون بما سيقوله أتّباع الأديان الأخرى حول تفسيراتهم لهذه التعميمات. علاوةً على ذلك؛ فإنّ تركيز التعدديين على التعميمات يهمل الفروقات بين أديان العالم. إنّ إصرار التعدديين على وجود مبادئ عامّة بين الأديان كشرط للحوار يظهر عدم الرّغبة في إدراك عمق ودرجة الخلاف بين الأديان أو أهمية هذهالفروقات الإيجابية.

بالإضافة إلى ذلك يحاول تانر التأكيد على أنّ التعدديين يخفون بعض الجزئيّات في مفهومهم، بادّعائهم أنّهم يحاولون إيجاد تعميمات بين أديان العالم. وبالإضافة إلى أنّ هذا غير صحيح، يقول "تانر": "إن هذا الأسلوب يجعل المنظّرين التعدديين قريبين جدّاً إلى الاستبداديّة، والتي هي جزء ممّا يُريدون أن يتجنّبوه في مشروعهم.

من الواضح أنّ الخلافات موجودة بين أديان العالم، إن كان ذلك من خلال النّظرة إلى التفسيرات التاريخيّة أو من خلال الطرح العقائديّ. إنّ العهد الجديد يؤكّد أنّ المسيح قد مات على الصليب. والقرآن يؤكّد أنّه لم يمت على الصليب. فهذه حالة بسيطة على وجود خلاف حول مسألة مهمّة في التاريخ. أيضاً هناك من يعتقد بتقمّص الأرواح، وآخرون ينكرون ذلك. وهذا أيضاً يظهر حالة خلافيّة في ادّعاء الحقيقة، وإنكار هذه الحقيقة يذهب بالبعض إلى حدّ الابتعاد عن النقاش المنطقي ويظهر نوعاً من العناد الفظّ. إنّ الخلاف الصّادق في وجهات النظر ليس خطيئةً، وأكثر من ذلك، فإنّ الرغبة في إدراك هذه الخلافات من شأنه أن يلغي عمليّة النّقد الأساسيّة بين المتحاورين.

المصدر: معهد المعارف الحكميّة

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك