ثقوب سوداء بين عالمين: دعوة ليست للتشاؤم

د.سيار الجميل
 
 
إنّني أخشى أن يستفحل الإرهاب ليشعل العالم كلّه وتذهب قيمنا ومعانينا الساميّة ضحيّة نزق وتعّصب إناس متوحّشين لا يُدركون مكارم الأخلاق ولا المنطق ولا الحكمة في معالجة سياسات الدول وطبائع الشّعوب.. ونبقى نحن العرب نحلم أحلاماً ورديّة، وننثر الكلمات، ونكتب الأشعار، ونتفاءل بالخير ولا نجده، ونهذي في الأحداث والظواهر غير مدركين عواقب الأمور. إنّ الصّراع بين حضارتين (أو: قل بين عالمي الشّمال والجنوب) بات يتبلور عن أسلوبين مختلفين جدّاً في التفكير والممارسات والرؤى.. فلقد بدأت الكليّات، ماديّة أو روحيّة أو مبادىء معياريّة تنعدم شيئاً فشيئاً، وظهرت تتسارع قوى الاختلاف أكثر بكثير من أن تتسارع قوى الفهم، من أجل أن يغدو العالم كلّه تأكله الأحداث الإرهابيّة؛ والإرهاب: ظاهرة تاريخيّة مضادّة لا بدّ من أن نعترف بها نحن العرب والمسلمين، بدل أن نُقارع ونُجادل ونُقنع أنفسنا بما هو بعيد جدّاً عن الواقع! وبتأثيرها غدت علاقات العالم بين الشّمال والجنوب في مأزق حقيقيّ. وبدت فرص الحوار وكأنّها ليست أداة للتفهم والتفاوض، بل مستودعاً للأحقاد والكراهية، وغدت محاولات البعض من أجل حوار عالميّ مسألة صعبة جدّاً، وهي إنّما أداة نضحك فيها على أنفسنا، ولا شيء خارج إطار الاختلاف! إنّ عالمي الشّمال والجنوب لم يكونا في يوم من الأيّام على حالة اتّفاق أبداً.. إنّ كلّاً من العالمين كانا وما يزالان يفترقان سياسيّاً وإيديولوجيّاً.. ربّما يتلاقيان حضاريّاً وثقافيّاً، ولكنّ الأمر اليوم غدا فاقداً لمعنى التآلف والتعايش والتّفاهم.. علماً بأنّ الأحكام الجاهزة والمطلقات البليدة هي التي تتحطّم ويحلّ محلّها التكيّف البراغماتيّ، وتظهر التسوية بين الكائنات في هذين العالمين المتقابلين.
 

تلاشي حوار الحضارات

إنّ عالم العرب والمسلمين مشحون بالكراهيّة والأحقاد على عالم الشّمال في كلّ من أوروبا الغربية وأميركا الشّماليّة، نظراً لأسباب تاريخيّة معقّدة، ساهم عالم الشمال نفسه في صنعها وتبلورها، على مدى قرن كامل وأكثر.. إنّ ظاهرتين اثنتين ساهمتا في تشكيل منظومة فكريّة من الانفصال والقطيعة.. إنّني أجد بأنّ المنظومة الأخلاقيّة لكلٍّ من الجانبين قد أخذت تخفي المعياريّة والقيم لتحلّ محلّها الوظيفة والمصالح، ويتحوّل المستقبل إلى جملة من المخاطر، بفعل كلّ من الإرهاب في عالم الجنوب، إزاء العولمة في عالم الشّمال!! ثمّة مقاربة حقيقيّة من نظريّة "صراع الحضارات" التي أطلقها صاموئيل هانتينغتون، قبل سنوات، ورفضها المثقّفون العرب رفضاً قاطعاً، مدّعين بأنّ "حوار الحضارات" هو البديل الحقيقيّ لتفاهم الشّمال والجنوب، من دون أيّ دراية بحالة اختلاف الزمن بين الذي كان عليه العالم (= الشّرق والغرب) في الماضي، وما آلت إليه العولمة اليوم بين الشّمال والجنوب.

وإذا اعتبرت أطروحات ما بعد الحداثة الفلسفيّة الأميركيّة، وخصوصاً صراع الحضارات لهانتينغتون دعوة إمبرياليّة، يشيعها النظام العالميّ الجديد الذي يمّثل عالم الشّمال، فإنّها لم تبشّر بأحداث 11 سبتمبر 2001، ولكنّها رجّحت حدوث صدام للحضارات. وبالرّغم من نجاح توقّعاته، إلّا أنّه يساهم في إلغاء الإنسان. إنّنا بقدر ما يستوجب منّا التأمّل في المضامين الأساسيّة لصدام الحضارات، والتي تبلورت عن فهم وإدراك لما يجري في العالم، وخصوصاً في عالمي الشّمال والجنوب، أي في عالمين مختلفين اثنين: منتجات الحضارة المعاصرة وموروثات الحضارة الإسلاميّة.. فلا بدّ من أن يُدرك المفكّرون العرب حجم التناقضات الهائلة التي تتّسع يوماً بعد آخر بين كلٍّ من الاثنين، والتي لم تستطع تلك التناقضات البقاء في عالم الجنوب، بل بدأت تنتج ردود فعل عنيفة وتثمر بلاياها على العالم كلّه، باسم العمليّات الإرهابيّة! ولكن هل تسلم الحضارة المعاصرة نفسها من المثالب؟

ما العمل؟

وعليه، لا بدّ من التأكيد على تمنهج ثقافتنا، وقطيعة معرفتها، وتطوّر إعلاميّاتها، وإصلاح تربويّاتنا، وصقل أخلاقيّات تصرّفاتنا، باعتبارها ينبوعاً متدفّقاً من قيم الصّلاح والتّعايش والمروءة والتّفاهم، بعيداً عن معاني التوحّش وأساليب الغدر والقتل والتّمجيد النرجسيّ للذات، وأن تغدو سدّاً منيعاً للطقوس المقصيّة للآخر!

إنّ الذهنية المركّبة لا بدّ من أقلمتها مع إحداثيّات العصر ودمجها بالمعرفة المعاصرة، فالحضور في العالم يمثّل كنه الحداثة باستكمال الدورة الجدليّة للتفاعل الحضاريّ ومجموعة العمليّات التراكميّة التي تطوّر المجتمع: اقتصاداً وإبداعاً وتعبيراً، بجدليّة العودة والتجاوز.

هنا، لا بدّ من الإقرار مع كلّ من يقول بوجوب إحلال الديمقراطيّة محلّ الاستبداديّة، مع ملاحظة أنّ الحلّ الأميركيّ ليس الأوحد والأفضل، فثمّة ما يُخالفه في بيئاتنا ومجتمعاتنا، وحتّى بيئات ومجتمعات العالم كلّه.. ولقد انتقد الكتّاب العرب المفكّر هانتنغتون، ليس لأنّهم تعمّقوا في ما جاء به، بل لكونه واضح العنصريّة في تقسيمه للثقافات إلى سبع حضارات، وقالوا: ما الجامع بين عالم آسيويّ وعالم إسلاميّ مثلاً، فنظريّته في "صراع الحضارات" لا تلبي مطلب التآنس الإنسانيّ، إذ لا بدّ من طرح التصدّي للآخر، وفجأة يغدو الإرهاب في مقدّمة ذلك التصدّي الذي أعتقد بأنّه سيأكل الأخضر واليابس في قابل.. إنّ العالم سيشتعل كلّه إن لم يُساهم عالم الجنوب كلّه في إيقاف الإرهاب عند حدّه! وإنّني أعتقد بأن ليس من مصلحة العرب والمسلمين أبداً السكوت على مشروع صناعة الإرهاب العالميّ.

وأخيراً: ماذا نقول؟

وأخيراً أقول بأنّ عالم الجنوب لا بدّ أن يُدرك بأنّ الشّمال سوف لن يقف مكتوف الأيدي إزاء ما يقترفه الإرهابيّون بحقّ العالم كلّه، باسم الدين، إذ لا يمكن لعالم الشمال أن يتنازل أبداً عن قيمه السياسيّة والفكريّة ويرضخ لمطالب عالم الجنوب، وسيجد وسائل مؤذية لعقاب عالم الجنوب بديلاً عن أساليب الردع والحرب.. إذ نقرأ بين حين وآخر عن مقترحات وأفكار خطيرة جدّاً في اتّباع أساليب مؤذية في الجوانب الاقتصاديّة والتكنولوجيّة والاتّصالات.

المصدر: الحوار المتمدّن

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك