خطاب حوار الأديان في لبنان ودلالاته

حسن عباس يؤشر تغيّر شكل كلّ حوار وموضوعاته إلى تغيّر طبيعة العلائق التي تربط بين النّاس موضوع الحوار، وتغيّر الأفق الذي يتوقون إلى بلوغه؛ هذا ما حصل بالنسبة إلى "حوار الأديان" بين اللبنانيين المنتمين إلى مذاهب دينيّة مختلفة. فما يشهده هذا الحوار حاليّاً، يُعتبر نكوصاً بالقياس إلى ما كان عليه في عهد قريبٍ سالف. ذلك أنّ حوار الأديان في لبنان كان بين رجال دين يتوقون إلى رسم صورة تفاعليّة وانفتاحيّة للأديان المنتشرة على الأراضي اللبنانيّة. من لبنان الرسالة كان توق إلى تعميم نظرة حضاريّة للأديان تغيّر العلاقات القائمة بينها على مستوى العالم. الآن نسي حوار الأديان هذا، فكرة لبنان، كانعكاس لعقوق الجماعات اللبنانية تجاه فكرة الدولة، فأصبح حواراً لإبقاء التجاور من دون صدام، بل أصبح تسويات مؤقّتة موضوعها الأمن، لا تفاعل الأفكار وتمازجها. لم يثمر حوار الديانتين اللبنانيّتين الكبريين إزالة للحدود والحواجز والأفكار المسبقة من أذهان أتباعهما، على الرّغم من اتّساع أفق النّخبة المتحاورة الأولى. الآن، يعود هذا الحوار بشكل يؤشّر إلى محدوديّة أفق المتحاورين الجدد الذين عملت الحرب اللبنانية الأهليّة، وعدم مخالطتهم واحدهم للآخر في الحياة اليوميّة، على تضييق ذهنيّتهم، فبتنا أمام شكلين للحوار: حوار بين مذاهب الدين الواحد، وحوار إسلاميّ - مسيحيّ ينتمي بعض المنفتحين فيه إلى ثقافة ما قبل الحرب، وبعضهم الآخر لا يُحاور لينتج أيّ شيء، بل يحاور للحوار فقط.
العقلانيّة ورفض التقليد ينظر السيّد موسى الصدر إلى علاقة الله بالطبيعة بشكل يحترم القوانين المنطقيّة التي تخضع لها الأشياء، مؤكّداً مبدأ السببيّة، ومُخرِجاً الله من دائرة التأثير بما يتنافى مع هذه القوانين، لا لعدم قدرته بل لإبائه، فــ "مشيئة الله التي وسعت كلّ شيء تأبى أن تسقط عمل الأسباب في مسبّباتها، وأن تمنع العلل من إيجاد معلولاتها". يُحاول التوفيق بين الدّين والحركة العلميّة التي تتسارع وتيرتها، ويعتبرها البعض طاردة للدّين من دائرة التفكير البشريّ، وذلك بالتشديد على أن الميدانين يبتغيان إدراك الحقائق. فإن كان هدف الدين هو سبر الحقائق، فإنّ العلم لا يبتغي سوى ذلك أيضاً، أو بالأحرى "لا ذنب له" سوى ذلك، بحسب تعبير الصّدر. لذا، فـ "المؤمن الذي يُحارب العلم ويخاف منه يجب أن يعتبر نفسه شاكّاً، غير مؤمن بدينه، لأنّ الخوف من اكتشاف الحقيقة معناه الخوف من معارضة دينه للحقيقة؛ فالإيمان العميق يؤكّد الحركة العلميّة وينشّطها". لا يسقطه منطقه هذا في ألاعيب بعض رجال الدين الذين لا يكلّون من تلفيق المعاني والتفسيرات لبعض الآيات القرآنيّة بهدف الإيحاء بأنّ القرآن ذكر في نصّه مسبقاً كلّ الاكتشافات العلميّة المهمّة. ففي رأيه أنّ "القرآن كتاب دين وتربية، ويجب أن لا يعرض للشؤون العلميّة بالتفصيل، بل يحرّض الإنسان على السير في ملكوت السماوات والأرض والتدبّر في العالم والدّقة في صنع الخلق". يرى الأب يواكيم مبارك أنّ منطلقات الرؤية الصدريّة التي توافق بين الدين والعلم والتطوّر هي سمة إسلاميّة عامّة. ما يراه تلميذ لويس ماسينيون (يواكيم مبارك) بديهيّة مسيحيّة لا تحتاج إلى التبرير، يعكسه على الإسلام الذي يرى فيه أنّه "جدير ومستعدّ، كالمسيحيّة، للانسياق في تطوّر المجتمعات المتعدّدة العناصر، وإنشاء نظام سياسيّ للدول، لا يكون فيه العنصر الدينيّ عقبة في سبيل التقدّم أو سبباً لسيطرة فئة على أخرى". يمدّ السيّد الصدر رؤيته الحاثة على التفكير إلى الدين نفسه، رافضاً تصنيف الاقتداء الأعمى بعقيدة الأهل إيماناً. ففي رأيه أنّ الله "يرفض قبول الإيمان التقليديّ الموروث، ويأمر بتحكيم التفكّر والتدبّر في العقيدة"، ويستشهد على ذلك بنصّ الآية القرآنيّة التي تقول: "وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون". هذا الحثّ على طرح التقليديّ والموروث للتساؤل، يصل به الدكتور حسن صعب إلى مدىً أبعد بإعلائه الغاية على النصّ، أي بتشديده على المضمون لا على الشكل. فالقرآن ينشد، في نظره، تحقيق غايات "وعلّة كلّ نصّ من نصوصه مساعدة الإنسان على بلوغ الكمال وتحقيق العدالة. فإذا ما استقامت العلّة بتدبير إنساني فاضل، تحقّقت الغاية المنشودة من النصّ". الانفتاح على الآخر يعود السيد موسى الصدر إلى بدايات التاريخ الإسلامي ليُبيّن أنّ الإسلام منفتح منذ أبعد الأزمان على الثقافات الأخرى، "ثقافات جاءت من مصادر غير إسلاميّة"، وذلك عندما اتّصل الإسلام الفاتح بالإسكندريّة وجنديسابور وحرّان والهند ومرو في القرون الأولى اللاحقة على الهجرة. يتحدّث عن ثقافات البلدان المفتوحة التي "انتقلت... في مختلف حقولها إلى المجتمع الإسلاميّ، فلاقت شيئاً من الاصطدام، والتردّد. ثمّ انطلقت، وأصبحت جزءاً من الثقافة الإسلاميّة، وتوسّعت، ونشطت حتّى لكأنّ المجتمع الإسلاميّ هو صاحب الثقافة، فأدّى الأمانة بدوره إلى العالم". يستذكر ترحيب علماء الشريعة بـ "هذا الزحف الثقافيّ الغريب"، ويكتفي بموقف "إمام الفقهاء" أبي عبد الله جعفر الصّادق الذي "نرى في موقفه تشجيعاً للثقافة بمختلف حقولها وتعليماً لتلامذته، وتعيين بعضهم للاختصاص فيها" (جابر بن حيّان في العلوم، حيث برع في الكيمياء، وهشام بن الحكم ومؤمن الطّاق في الفلسفة والكلام). يرى الأب يواكيم مبارك أنّ التحقّق الأسمى للمسيحيّة والإسلام، يتمّ بالانقطاع عن تقاليد البيئة الأصليّة، وأنّ المسيحيّة "لم تحقّق ذاتها إلا يوم خرجت من البيئة اليهوديّة في أورشليم، تلك البيئة المغلقة على نفسها قوميّاً وقانونيّاً وثقافيّاً، لتستقرّ في أنطاكيا، ومن هناك انفتحت على العالم مع اليهوديّة الهلّينيّة المهاجرة". الأمر كذلك بالنسبة إلى الإسلام، إذ "إنّ بدء العهد الإسلامي يؤرَّخ بهجرة النبيّ لا بولادته. لِمَ ذلك؟... لأنّه يوم قطع محمد روابط الدّم والقبليّة ليحيك روابط جديدة وميثاق شرف وحقّ لأناس غرباء عن وطنه، يومذاك برز إلى الوجود مجتمع جديد وولد الإسلام". يتحدّث عن التحقّق بعد التحرّر من قيود المحيط، ليعكس نظرته على لبنان الذي يدفعه إلى القول "إنّنا في استمرار في حاجة كمسيحيين إلى الخروج من أورشليم والاستقرار في أنطاكيا، وإنّنا في حاجة كمسلمين إلى مغادرة مكّة لتجديد الهجرة إلى المدينة. وهذا بالضبط ما نفعله عندما نتواعد نحن، مسيحيين ومسلمين من كلّ ملّة، على التلاقي في لبنان". يتجاوز الأب يواكيم مبارك طرحه النظريّ، إلى التوصية بخطوات عمليّة تساعد في تحقيق التلاقي عمليّاً. فيُطالب بإنشاء كليّات خاصّة بالعلوم الدينيّة، الإسلاميّة والمسيحيّة، وبإدماجها كليّاً في التعليم اللبناني العالي، مشدّداً على دور الجامعة اللبنانيّة الرساليّ، هذه الجامعة التي "لا تتمّ رسالتها الخاصّة إلا يوم تنشئ مثل هذه المعاهد... وتحقّق هكذا في لبنان هذه الرسالة الضروريّة، رسالة الالتقاء والمقابلة النزيهة بين المسيحيين والمسلمين، على صعيد إيمان كلّ منهم". إلى هذه الخطوة المساعدة على التعريف بالآخر، يضيف مطلب "وضع بيان مشترك عن المسيحيّة والإسلام يُسهم في صياغته مسيحيّ ومسلم، ثمّ ينشر على أوسع مدى في سوادّ الشّعب، وفي المدارس، وبين أوساط النّخبة المثقّفة التي غالباً ما تكون في هذا الحقل على مستوى الآخرين". يؤسّس مبارك رؤيته للتلاقي على النّظر إلى الدين كـ "تعابير أصليّة"، ويعلن اقتناعه الخاصّ بما يدعو إليه. يقول: "إنّني، كمسيحيّ، لأشعر بأنّ كلّ عرق في روحي الدينيّة مرتبط بلغة الوحي الإسلاميّ وطقوسه... معنى ذلك أنّني أجهر في الوقت نفسه بتعلّقي بإيمان الإسلام دون المشاركة فيه، وبتعلّقي بالتعابير الأصليّة لروحه الدينيّة". ويتأسّس ذلك كلّه على الفكرة التي بذل لها حياته والسّاعية إلى التقريب بين الأديان السماويّة كونها جميعاً إبراهيميّة، فالقرآن في نظره "ما زال كلاً لا يتجزأ ضمن نطاق الإيمان القديم بإله إبراهيم". يلاقي الشيخ صبحي الصالح الأب مبارك على هذه النظرة الإنسانيّة للشأن الدينيّ المعبّر عنها بالإبراهيميّة. يقول: "إنّا لا نطمع – في الشرق العربيّ – بزيادة عدديّة تنشأ عن النشاط في الدّعوة إلى اعتناق الإسلام، بل الذي نصبو إليه في حوارنا، ليكون مجدياً مفيداً – أن يحترم بعضنا بعضاً، وأن يفهم أحدنا الآخر، وأن يطّلع كلٌّ منّا على تعاليم أخيه، وأن نتناسى مآسي الماضي، وما افتعل فيه من ظروف سيّئة لتوهين روابطنا، وأن نبني تعاوننا على أساس كرامة الإنسان، بوصفه إنساناً، وهي الكرامة التي صانها للجميع إله التوحيد، إله إبراهيم أبي الأنبياء". الإسلام والتعدديّة يرى السيّد موسى الصدر في الإسلام ديناً ديناميكيّاً و"ملوّناً" يعترف بالتعدديّة الناتجة بشكل طبيعيّ من اختلاف "انفعالات الأفراد والجماعات". "يُعطي الإسلام مفهوماً عن المجتمع ينبثق من واقع الإنسان، الذي هو مبدأ المجتمع والغاية منه. إنّه مجتمع إنسانيّ لا فرديّ ولا جماعيّ، مجتمع موحّد متماسك، لا منقسم متصارع، ملوّن حسب انفعالات الأفراد والجماعات بالمؤثّرات الكونيّة التي تُحيط به". يحيل المجتمع المتماثل على مجال الاستحالة. يشتقّ الصدر من بداهة الاختلاف دعوة إلى التعاون والتكامل. "فالسّلام الكونيّ والسّلام الفرديّ يُعطيان نهجاً منطقيّاً عن السّلام العالميّ، فالاختلاف في العنصر والرأي والإنتاج في المجتمع العالميّ يجب أن نعترف به ونعتبره كمالاً له وجمالاً فطريّاً يسهل التعارف والتعاون والتكامل والوحدة". يتوسّع في تطبيقات بداهة الاختلاف، ويصل بها إلى الحثّ على تنسيق الجهد الثقافيّ للمختلفين لتحقيق السلام بين البشر، رافضاً كلّ دعوة إلى "فرض وحدة الأنظمة" التي لا تتلاءم مع اختلاف تطلّعات البشر. يقول: "هذا الاختلاف، وبتعبير أوضح: هذا التنوّع، يتجلّى بشكله ونتائجه في جسم الإنسان، وفي الصورة التي يعطيها الإسلام عن الكون. فلا سلام بلا تنسيق الجهد الثقافيّ ووحدة الخطّة العامّة، ولا سلام مع الرّغبة في فرض وحدة الأنظمة والآراء والإنتاج والعناصر"... الحوار للظهور بمظهر المتحاور ....يبقى السؤال: هل يعود حوار الأديان في لبنان إلى ما كان عليه كخطوة في سبيل الارتقاء به إلى أفق أرحب حتّى من الأفق الرحب الذي كان يدور فيه؟ أمّا الجواب فرهن بعودة الجماعات المذهبيّة اللبنانيّة إلى كنف الدولة اللبنانيّة. أمّا عن عودة هذه الجماعات إلى الدولة، فموضوع لا يتعلّق برجالات الدّين، ويجب أن يُترك الحديث عنه إلى مختصين بشؤون أخرى كالاجتماع والفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والتاريخ. ولكن هل كثيرٌ مطلب فصل رجال الدين بين الفكر الدينيّ كفكر، وبين الطائفيّة كسلوك اجتماعيّ يحدّ من أفق ممارسيه؟ هذا هو التحدّي المفروض اليوم على رجال الدين، وهذا هو الطريق إلى الحدّ من الانقسامات الطائفيّة بدل تغذيتها، وهذا ما يُمكّن من العودة إلى حوار دينيّ راقٍ، يحلّ محلّ "حوار المتاريس الدينيّ" .
المصدر: ملحق النهار |