المسلمون يتعرّفون على الآخر

د. قاسم عبده قاسم
 
كان انتشار الإسلام عاملاً حاسمًا في تشكيل تاريخ عالم البحر المتوسط في العصور الوسطى؛ ذلك أنّه أدّى إلى تقسيم عالم البحر المتوسط إلى حضارات ثلاث: الحضارة البيزنطية، والحضارة الأوروبية، والحضارة العربية الإسلامية. وكان الصدام واللقاء والتفاعل بين هذه التجمّعات الثقافيّة والاقتصاديّة واللغويّة والدينيّة الثلاثة يُشكّل أحد أهمّ موضوعات تاريخ العصور الوسطى، كما ّ من ناحية أخرى لا يزال يشكل الأساس التاريخيّ للعلاقات بين الإسلام والغرب حتى الآن. فقد أخذت هذه الحضارات من بعضها البعض، كما أعطت كلّ منها الأخرى بشكل أو بآخر، كذلك كانت كلّ من هذه الحضارات الثلاث ورشة الإمبراطورية الرومانية والعالم الكلاسيكي بدرجة ما، فقد كانت الإمبراطورية البيزنطية (التي كانت استمرارًا شرقيًا لزومًا)، تمثل الاستمرار المباشر للقانون، والإدارة والفكر الروماني، كما ورثت تراث اليونان القديم، على حين كانت أوروبا الغربية قد ورثت الكثير من جوانب التراث الروماني في المسائل القانونية والنظام الذي استفادت منه البابويّة في ظلّ الفراغ السياسيّ الناجم عن سقوط روما سنة 476م. وعدم قدرة الجرمان على ملء هذا الفراغ، كذلك استوعب العالم الإسلامي بعض جوانب التنظيم الروماني وأفضل جوانب الفلسفة والعلوم اليونانية.

وعلى الرغم من هذا فإنّ الحضارة الإسلامية تدين بالكثير للتراث الشرقيّ، لاسيما تراث مصر وفارس وبلاد الشام. لقد كان انتصار الإسلام على السواحل الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط في القرن السابع الميلادي إيذانًا بمرحلة جديدة ومختلفة في تاريخ هذه المنطقة من العالم، ولا تعنينا في هذا المجال سوى الآثار الفكرية والثقافية بعامة. فقد أدرك المسلمون - منذ بداية العصر الأمويّ على الأقلّ - أنّ العمليات العسكريّة هي الأسهل دائمًا في بناء الدول والحضارات، وأنّ الحكمة والإدارة هي العمليات الأكثر صعوبة، وأنّها تتطلب قدرًا كبيرًا من الدراسة والتعلم. وعلى الرغم من أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب تبنّى النظم الإدارية والمالية البيزنطيّة والساسانيّة، التي كانت سائدة في الشام ومصر والعراق، إدراكًا منه لمدى الكلفة السياسية والاجتماعية والمالية لمحاولة تغييرها، فضلاً عن احتمال فشلها، فإنّ الظروف التاريخيّة الموضوعيّة لم تتح له أن يقوم بما هو أكثر من ذلك.

أول مشروع للترجمة

وعندما انتقلت عاصمة المسلمين من المدينة إلى دمشق، كان ذلك يعني الانتقال إلى وسط حضاري أكثر تأثرًا بالتراث الهللينستي، وأكثر احتفاظًا بالتراث اليوناني، ومنذ البداية، قامت الدولة برعاية ما يمكن تسميته مشروع الترجمة للانتفاع بعلوم اليونان في شتى مجالات الحياة، وبرزت أسرٌ وذاع صيتها بفضل ما قامت به من ترجمات، وترجمت أعمال «حكماء اليونان» القدماء، في الطب وفي العلوم الأساسية، وتتلمذ كثير من علماء العرب والمسلمين على كتابات أبقراط وجالينوس وأرسطو وسقراط وأفلاطون. وكان طبيعيًا أن تستمرّ هذه الحركة وتصبح أكثر تنظيمًا في العصر العبّاسي. ولم تكن محاولات الترجمة عن التراث اليوناني - سواء في مرحلته الهللينية أو في تراث مدرسة الإسكندرية التي تمثل العصر الهللينستي) - محاولات فردية بأي حال، وإنّما كانت عملاً منظمًا ترعاه الدولة نفسها. بل إنّ الحروب التي كانت كثيرًا ما تنشب بين البيزنطيين والمسلمين لم تكن لتحول دون إرسال سفارات إلى القسطنطينية لطلب كتاب ما. فقد كان التراث اليوناني وتراث شعوب شرق المتوسط المكتوب باليونانية، تراثًا إنسانيًا جديرًا بالاحترام، وجد فيه المسلمون ما يفيدهم في بناء حضارتهم. ولم نجد للمشاعر الدينية المتعصّبة مكانًا في كتابات المسلمين عن أساتذتهم من القدماء. ولم يحدث أيّ نوع من استبعاد الفكر اليونانيّ الكلاسيكيّ، أو الفكر الهللينستي أو غيره، على أساس أنّه تراث «كافر» مثلما حدث في أوروبا أوائل عصور النهضة عندما «حدد مارتيانوس كابلا» مجال الدراسة في ما عرف باسم الفنون السبعة: في مجموعتين الثلاثية Trivium (النحو والبلاغة والمنطق) والرباعية Quadrivium (الحساب والهندسة والفلك والموسيقي).

لقد كان موقف الحضارة العربية من علوم القدماء من أهمّ العوامل التي أسهمت في بناء هذه الحضارة، وقد أمضى المسلمون فترة طويلة في نقل علوم الفرس واليونان - المكتوبة باليونانيّة - والهنود، وتعلّموا منها الكثير.

وإذا كان القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) يوصف عادة بأنّه أهمّ قرن في تاريخ الثقافة العربية الإسلاميّة، فذلك لأنّه القرن الذي شهد نضج التفاعل بين ما جاء به الإسلام من جهة، وما قدمته حركة الترجمة من جهة ثانية، والموروث الثقافي للشعوب التي اعتنقت الإسلام من جهة ثالثة.

من الصدام إلى التعايش

ولست أظنّ أنّ هذه المناسبة يمكن أن تتيح لنا متابعة تفصيليّة لأعمال الترجمة العربية عن التراث اليوناني القديم، ولكن ما يهمنا أن نؤكد على حقيقتين غاية في الأهمية من وجهة نظرنا:

أولاهما- أن الصورة التي ترسمها المصادر التاريخية، التي تركّز جلّ اهتمامها على الصدامات العسكريّة بين الحضارة العربية والحضارة البيزنطية لم تكن دقيقة في كلّ الأحوال، فقد كان هناك نوع من التعايش المشترك إلى حدٍّ ما، وكان هناك قدر من التفاعل والاعتماد المشترك بعيدًا عن دوائر الحكم. فقد كانت الصورة الصارمة الصادمة من نصيب أرباب السيوف، أمّا أرباب الأقلام - على الجانبين - فقد كان بينهم نوع من التفاعل المتبادل. ولم يمنع العداء السياسي والعسكري المفكرين المسلمين من أمثال ابن سينا، والفارابي، والكندي، وابن رشد... وغيرهم، من تقدير قيمة أعمال أسلافهم اليونان والتتلمذ عليها، فقد استوعب ابن رشد (ت 1198م) كلّ الفلسفة الأرسطية، واستحق لقب «الشارح الأعظم».

وثانيتهما- أنّ صورة «الرومي» أو «البيزنطي» في التراث العربي الإسلامي أفضل كثيرًا من صورة «الفرنجي» (الأوروبي). ويمكن تفسير ذلك في ضوء ما نعرفه عن أن الغرب الأوربي في تلك الفترة كان «منطقة سوداء مجهولة» بسبب الفوضى الناجمة عن الغزوات الجرمانيّة، ثمّ الحروب الإقطاعية التي مزقت أوروبا حتى أوائل القرن الحادي عشر على الأقلّ، والجهل بالآخر مبرّر لمشاعر العداء في كثير من الأحيان، «فالإنسان عدو ما يجهل». كما أن العرب لم يعرفوا «الفرنجي» على نطاق واسع، إلا من خلال حركة عدوانيّة استيطانيّة عرفها المؤرّخون المسلمون باسم «حركة الإفرنج»، وهي ما اصطلح المؤرّخون حديثًا على تسميتها «الحروب الصليبية»، ولم تكن الصورة التي خلفتها الحروب الصليبية عن الفرنجيّ طيّبة بأيّ حالٍ من الأحوال .

آثار سلبية وعلى الجانب الآخر، أي على الجانب الأوروبي، كانت الدعاية البابويّة قد نجحت في رسم صورة استفزازية للمسلمين في أوروبا القرن الحادي عشر، بحيث جعلت آلاف الأوروبيين يتوقون شوقًا إلى قتل المسلمين قبل أن يرى أحدهم مسلمًا واحدًا على الطبيعة.

ومرّةً أخرى، كان الجهل بالآخر مبررًا لمعاداته. وحين خرجت الجيوش الصليبية أواخر القرن الحادي عشر كان ذلك تعبيرًا عن جانب مظلم في العلاقة والتفاعل بين حضارتين جارتين في البحر المتوسط. وبعد مائتي سنة تقريبًا، فشل المشروع الصليبي بعد أن خلف آثاره السلبية على الحضارة العربية الإسلامية عامة، وعلى المنطقة العربية بشكل خاص، فقد فشلت نظم الحكم العسكرية الإقطاعية (التي نجحت في القضاء على الكيان الصليبيّ) في إدارة المجتمعات على أسس مدنية، وتحولت بعد انتهاء دورها التاريخيّ في هزيمة الصليبيين، إلى نظم متسلطة تقيم علاقاتها برعاياها على أسس نهبيّة. وهنا يجب أن نشير إلى نقاط مهمّة عدّة:

أولاً- أنّه لم يكن لدى الغرب الكاثوليكي شيء يمكن أن يتعلمه المسلمون مثلما كان الأمر مع البيزنطيين، ورثة الإغريق والحضارة الكلاسيكية.

ثانيًا- أنّ الكيان الصليبي كان عسكريًا بالدرجة الأولى، ولذلك لم يستطع الإفادة من الإمكانات المتاحة لمعرفة الآخر من خلال الترجمة أو المعايشة، على الرغم من أن كتاب المؤرّخ وليم الصوريّ، المؤرّخ الوحيد الذي ولد في فلسطين، يختلف جذريًا عن كتب مؤرّخي الحملة الصليبية الأولى، مثلاً، عند الحديث عن المسلمين، بسبب المعايشة عن قرب والاحتكاك المباشر.

ثالثًا- أنّ الصليبيين ألحقوا ضررًا بليغًا بالحضارة البيزنطية بعد أن استولت الجيوش الصليبية عليها في الحملة الصليبية الرابعة، وأقامت بها مملكة صليبية وإمارات عدة استنفدت ما بقي بها من قوة دافعة.

رابعًا- أنّ الجمهوريات الإيطالية التي شاركت في بعض مراحل الحروب الصليبية لم تستجب للدواعي العسكرية بقدر ما كانت منجذبة إلى المصالح التجارية، التي أوجدت نوعًا من المصالحة، ثم التحالف فيما بعد، مع القوى الإسلامية التي عرفتها وتعاملت معها سلميًا بسبب التجارة. وكان هذا أول ألفاظ الاحتكاك السلمي المباشر مع الغرب الأوروبي بعد الحروب الصليبية.

خامسًا- أنّ أوروبا بدأت، وبعد فشل المشروع الصليبي، تفكر في محاولة التعرف بجديّة على الحضارة العربية الإسلاميّة من خلال حركة ترجمة هائلة. شملت جوانب عدّة، وغطّت أماكن كثيرة من أوروبا الغربيّة، كما أنّ أوروبا بدأت منذ القرن الثالث عشر تحاول ترجمة الأعمال اليونانيّة التي نقلها الغرب. لقد صارت مؤلّفات أرسطو، وغيرها من كتب العلم الإغريقيّ بمتناول الغرب بفضل الترجمات التي تمّت عن العربيّة في إسبانيا وصقلية والبروفانس، وحتّى الربع الأخير من القرن الثاني عشر، كانت الترجمات تتمّ نقلاً عن النصوصّ العربيّة، وكان العلماء الأوروبيون يعملون بمساعدة المترجمين الموجودين في صقلية وإسبانيا، أو بمساعدة مترجمين من اليهود العارفين باللغة العربية.

التراث العربي في أوروبا

ولم تكن أعمال الترجمة هذه تتمّ برعاية أيّ سلطة مركزيّة، وإن كان هناك عدد قليل من المترجمين يعملون برعاية بعض الأساقفة أو الأمراء الإقطاعيين، ولكنها كانت في النهاية مسألة أفراد يحركهم العلم الذي تلقوه في الجامعات الناشئة في أوروبا العصور الوسطى، ومن الأمور ذات الدلالة في تاريخ الفكر الأوروبي أنّه لم يحدث إلا بعد نهاية القرن الثاني عشر (الذي يتحدث عنه البعض بمصطلح نهضة القرن الثاني عشر) أن بُذلت جهود جماعية للتعرف على التراث العربي في مجال الفلسفة والعلم، وما احتفظت بها الترجمات العربية من التراث اليوناني القديم. ولم يكن أرسطو، هو الكاتب الإغريقي الوحيد الذي ترجمت مؤلفاته إلى اللاتينية نقلاً عن النصوص العربية في القرن الثاني عشر. فقد ترجم علماء الغرب كل ما وجدوه من مؤلفات الإغريق في العلم الطبيعي، والطب، والكوزمولوجي بفضل النصوص العربية. وقد أدى هذا بطبيعة الحال إلى التنبه إلى حقيقة أن الحضارة العربية الإسلامية لم تكن هي ذلك العدو البشع الذي صورته البابوية ورجال الكنيسة. في غمار دعايتها المحمومة ضد المسلمين لتبرير الحروب الصليبية. وإذ تنبهت الدوائر الأكاديمية الأوروبية إلى هذه الحقيقة بدأت تظهر مراكز مهمة للترجمة عن العربية، فكانت صقلية أهم مركز لترجمة الموضوعات الأكثر فنية، كالطب والعلوم والرياضيات. إذ كانت ثقافة صقلية ثقافة غير متجانسة فقد كان سكّانها خليطًا من اليونان والعرب والإيطاليين، وهو ما جعلها مركزًا مثاليًا لنقل المعرفة من عالم البحر المتوسط إلى غرب أوروبا. أمّا إسبانيا، فكانت المصدر الوحيد الذي خرجت منه الترجمات في مجال الفلسفة والأخلاق، وكانت قرطبة وغيرها من مدن الأندلس الإسلامية تستضيف أعدادًا من الباحثين الأوروبيين الراغبين في التتلمذ على الثقافة العربية الإسلامية، والمركز الثالث المهم من مراكز الترجمة عن العربية في العصور الوسطى كان إقليم البروفانس، حيث كان المترجمون اليهود هم الأكثر نشاطًا للنقل من العربية إلى اللاتينية. وكانت النتيجة الإيجابية للترجمات اللاتينية عن العربية أن تحسنت الصورة عن «الآخر» ولم يعد المسلمون أولئك المتوحشين الذين صوّرتهم الدعاية البابويّة في سياق الإعداد للحروب الصليبية، وكان تأثير هذه الترجمات في الفكر الغربي كبيرًا.

من ناحية أخرى فقد استطاع الفيلسوف الأندلسي ابن رشد أن يخلق تيارًا في الفلسفة الأوروبية عرف باسم «الرشديين اللاتين»، وكان ذلك تيارًا مهمًا في الفكر المسيحي الغربي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ومن ناحية أخرى، بدأت مذاهب العلماء المسلمين تؤدي دورها في ردود الفعل الغربية تجاه الأزمة الفكرية التي نجمت عن تقديم العلم الأرسطي، ومن ثم تقدم خلفية مضيئة تكشف عن تاريخ أوروبا الفكري في القرن الثالث عشر.

كانت حركة الترجمة اللاتينية عن العربية تتصاعد وتتّسع آفاقها لتشمل جميع الجوانب والأصعدة، وتمّت ترجمات عديدة ومتنوّعة في موضوعات شديدة التنوّع. وكانت كلّها كفيلة بكشف جوانب جديدة في الحضارة العربية الإسلامية لم تكن معروفة لدى الغرب، ولم تكن الترجمة هي البوابة الوحيدة لمعرفة الآخر بطبيعة الحال، ولكنّها كانت بالتأكيد هي البوابة الأوسع والأبقى تأثيرًا في هذا الصدد.

لقد أدّت الترجمة إلى ازدياد معرفة الغرب «بالآخر» الذي تمثله الحضارة العربية الإسلامية، إحدى حضارات عالم البحر المتوسط الثلاث. وقبل القرن الثاني عشر، كان هذا «الآخر» هو الحاضر الغائب دائمًا، فهو العدو المخيف والمكروه بالنسبة لأبناء الغرب الكاثوليكي، وهو الجار المتقدم الراقي «المحسود» في الأندلس وصقلية وبلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقيا. ولكن الترجمة كانت النافذة التي أطلّ منها الغرب على صورة أخرى أكثر إيجابية.

العرب يؤثرون على أوروبا

لقد فتحت الترجمة أبواب التأثير العربي الإسلامي على أوروبا العصور الوسطى. وفي وقت كانت أوروبا قد أدركت فيه - بعد فشل الحركة الصليبية - أن عوامل القوة والعنف ليست وسيلة ناجحة في التعامل مع الجيران في عالم البحر المتوسط من ناحية، وأدركت أنها بحاجة إلى الخروج من إسار ثوب العصور الوسطى الضيق، وأنّ عليها أن تتعلم من الجيران، وأن تعتمد عليهم من ناحية أخرى. فقد كانت التجارة الأوروبيّة الصاعدة - بمبادرة من المدن التّجارية الإيطاليّة - منذ بداية القرن الحادي عشر قد نجحت في مشاركة المسلمين نشاطهم التجاريّ فوق مياه البحر المتوسط. وكانت هناك تأثيرات ثقافية للتجارة مع المسلمين الذين لم يعترضوا طريق التاجر الأوروبي المسيحيّ وهو يعبر الأراضي الإسلاميّة، لا بوصفه جنديًّا صليبيًّا، وإنّما بوصفه تاجرًا. كما أنّ التبادل التجاريّ ترك تأثيرات إيجابيّة على الصناعة الأوروبية التي ازدهرت بفضل تقليدها المنتجات الواردة من العالم الإسلامي، ثمّ تطويرها بخصائص أوروبية خالصة، جعلت إيطاليا مثلاً تحتل مكان بلاد الشام في صناعات دقيقة وفنية، ولا تزال تمتاز بها حتى اليوم (الدانتيل والبللور). وفي مجال التكنولوجيا الراقية، كانت هناك تأثيرات إسلامية واضحة على الهندسة الميكانيكيّة الراقية، حسبما رصدها «دونالد هيل». كذلك كانت للفنون التشكيلية العربية بصماتها في مجالات متعددة منها الأشغال المعدنية، بل إن «جيمس والان» يؤكّد أنّ هناك تأثيرات للخزفيّات المغربيّة على منتجات ليموج الخزفية الشهيرة.

هناك دراسات كثيرة عن التأثيرات الأدبية العربية على الكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي الليجيري، وربّما كانت أشهرها دراسة آسين بلاثيوس سنة 1919م، والتي قال فيها إنّ دانتي نقل عن أصول إسلامية، وآخر هذه المحاولات يطرحها فيليب كينيدي (1990) الذي يرى أن دانتي ربما يكون قد عرف نصًا إسلاميًا واحدًا على الأقل. هو النص المعروف باسم صعود محمد Escala de Mohamet الذي يتحدث عن الإسراء والمعراج. كذلك هناك بصمات قوية على الأغنيات والموسيقى الإسبانية منذ العصور الوسطى باقية حتى الآن، وهو أمر طبيعي على أيّ حال. وليس بوسعنا أن نسترسل في سرد الأمثلة على أمر نراه طبيعيًّا في تاريخ الحضارة الإنسانية بشكل عام، وهو أنّ معرفة «الآخر» تؤدي إلى قدر ما من الاعتماد المتبادل بين الحضارات الإنسانية.

الترجمة ولقاء الحضارات

خلاصة القول، إذن أنّ الترجمة أدّت دورًا مهمًا في العلاقات بين الحضارات الثلاث التي شهدها عالم البحر المتوسط في العصور الوسطى. حقًا إن الترجمة لم تكن العامل الحاسم في تحديد مصير كلّ منها، وأنّ العوامل الاقتصادية والسياسية والعسكرية كانت هي الأكثر حسمًا، ولكن العوامل الثقافية التي أسهمت فيها الترجمة بقدر كبير كانت ولا تزال هي الأطول بقاء.

لقد قامت الحضارة العربية الإسلامية، واستمرت فترة طويلة من الزمان، بفضل تراث الحضارات الإنسانية القديمة كلها، إلى جانب ما جاء به الإسلام والتراث الحضاري للعرب أنفسهم بطبيعة الحال، وكان إسهام التراث اليوناني كبيرًا حقًا، ولكن إبداع المسلمين أنفسهم هو الذي جعل هذه الحضارة تستحق مكانها في التاريخ. كذلك استمرت الحضارة البيزنطية تحمي تراث العالم الكلاسيكي وتؤدّي دور الحامي للمسيحيّة الشرقيّة؛ وبعد الانشقاق الكبير بينها وبين كنيسة روما الكاثوليكية 1054م لم يبدع البيزنطيون جديدًا، وظلوا ينتقلون من فشل إلى فشل حتى دهمهم الصليبيون في الحملة الصليبية الرابعة 1204م، ثم ابتلعهم العثمانيون سنة 1453م.

وعلى الجانب الآخر، نجحت الحضارة الأوروبية الغربية في الخروج من عالم العصور الوسطى وهي تحثُّ خطاها نحو التقدم، بفضل اعتمادها على إنجازات الحضارة العربية الإسلامية، وتراث الحضارة الكلاسيكية، ثم إبداع الأوروبيين الذي خلق مناخًا جديدًا، لم يلبث أن جعل الحضارة الأوربية تتبوأ مكان الحضارة الأرقى والأقوى بين حضارة عالم البحر المتوسط، ثمّ حضارات العالم كله.

إنّ التفاعل بين الحضارات، والاعتماد المتبادل بينها، والذي قدمت الترجمة من اليونانية إلى العربية، ومن العربية إلى اللاتينية، نموذجًا طيبَا له، هو البديل الوحيد المعقول، والمقبول، لمنطق «صراع الحضارات» الذي يروّج له بعض مفكّري «العولمة» منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وهو السبيل الأضمن لمنع العنف، ونبذ الإرهاب.

المصدر: مجلة العربي

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك