حوار الحضارات والتأسيس للمختلف
د. وجيه قانصو
عندما نسج صاموئيل هنتنغتون مقولته حول صراع الحضارات، كانت السياقات التاريخية للأحداث والتكوينات المنطقية للثقافات وشبكة علاقات القوى السياسية فـي العالم، تحمل قوة دلاليّة مساراً غائيّاً كافـياً لتأصيل التناقض بين الثقافات، ورؤية مستقبل العلاقة بين الكيانات مستقبل حرب وصراع. فالفواصل الثقافـيّة بحسب هنتغتون ستكون خطوط المعارك فـي المستقبل، وسيرسم الانتماء الثقافـي الواسع خارطة الوجود القادم للبشرية. أي إنّ الانتماء يتحدّد بالخروج عن باقي الانتماءات، واستمراريّة الحياة هي إنهاء لأشكال وصور حياة أخرى، ونهاية التاريخ لا تكون إلا فوق أطلال خراب ودمار.
طبعاً، لم تكن أطروحة هنتنغتون تأسيساً لفلسفة الصراع الثقافـيّ، بقدر ما كانت استثماراً سياسيّاً، لعقل غربيّ قائم على فلسفة الكائن الذي هو أساس كلّ سيطرة، كما يقول روجيه غارودي، وإنسان غربي يرى الوطن كل أرض يفرض فـيها سيطرته وإرادته كما يقول اشبنغلر، وتاريخ غربي لا يزال صراع السيد والعبد يشكل محرّكه الأوّل كما يرى هيغل، وتحقيب تاريخي فـي الغرب يقوم على تعقب أدوات السيطرة التي قهر بها الإنسان الطبيعة وظلم بها نفسه.
وكما يعبّر مطاع صفدي: «بأنّ إنسان المشروع الغربي اكتشف يده واستخدمها أكثر ممّا يستطيع، أعملها كلّها فـي حجر العلم ومعدنه، ثم استيقظ ذات صباح فرأى أنّ يده ذاتها صارت حجراً ومعدناً».
أطلقت مقولة صراع الحضارات، فـي الوقت الذي بدأت فـيه المرجعيات الخاصة بالتفكك، وأخذت المنابع المنتجة لدلالات الهوية الثقافـية بالتفتت فـي العالم. وكما يقول موريس دوبرجيه: «إنّ العالم بات يشهد مع انتفاء حقبة الحرب الباردة بصراعاتها ورهاناتها الكثيفة، نهاية السياسة، حيث نضبت فـيه عملياً منابع أشكال التعبير الأيديولوجي، وأنماط الخطاب المجتمعية ذات الطاقة التعبوية». أي يقبل العالم على فضاء تفقد فـيه الهوية الثقافـيّة التاريخيّة مرجعيّتها فـي تشكيل التضامنات السياسيّة والاجتماعيّة المقبلة، ويأخذ مجال المعنى الكونيّ والانتماء الإنسانيّ بالتوسّع، فلم يحدث من قبل أن كان لمثل هذا العدد الكبير من الناس هذا القدر من الأمور المشتركة بينهم. كما لم يحدث من قبل أن كانت الأشياء التي تفرّق بينهم بهذا الوضوح. أي فـي الوقت الذي تراهن فـيه مقولة صراع الحضارات رهانها، على أن تستعيد الأطر الثقافـية العليا دورها فـي تحديد معالم المستقبل، فإنّ العالم يبدأ بصناعة تاريخ جديد تكاد الهويّة الخاصة تفقد فـيه مرجعيّتها، ويعيد فـيه الإنسان التعرّف على ذاته خارج سلسلة الأوامر والإملاءات التي تزخر بها منظومة الثقافات الحالية.
من هنا، فإنّ حوار الحضارات يأتي من دون سابقة تاريخيّة، وخارج سياق العلاقات المعهودة، ليعبّر عن اتجاه أو رغبة، عن لغة استياء من جنون القوة التي لا تعي إلا التوسع بلا حدود، وعن محاولة لخلق مدى إنساني جديد، لتنوع لامتناهٍ فـي المعنى ولعدد واسع فـي التجربة. أي أن الحديث عن حوار الحضارات، هو حديث عن الشروط السياسية التي تحمل إمكانيات وجوده، عن فضاءاته المعرفـية، وهذا يستدعي تصويب المسار التاريخي للعالم، بإعادة إنتاج أدوات إنتاج المعنى، وإعادة تأويل للذات، وإضافة شروط حياه جديدة.
حوار الحضارات مقولة كونية، تستدعي النظر بمنظور كوني لواقع العالم، واستحضار مشكلة الكون بأسره لا الانزواء داخل ذاتيات متضخمة كما حصل فـي عالمنا الإسلامي، تحجب التعرف على خارطة العالم البشرية، وتعيق فهم الذات على حقيقتها. أي ليست إشكالية حوار الحضارات، فـي أن تستعيد كل حضارة موقعها الضائع ودورها المفقود فـي شبكة علاقات القوة التي لاحصر لها فـي العالم، أو الدخول فـي سجال قيمي، أو تبارٍ أيديولوجي بين الكيانات الثقافـية، فهذا ليس إلا إعادة إنتاج لفائض القوة ونظام السيطرة، الذي يدمّر العالم حالياً. لم تعد مشكلة العلم تتمركز حول عدالة التوزيع بين الأفراد أو الشعوب، أو أزمة هويات مهددة بالضياع، رغم إلحاحية هذه القضايا، بقدر ما هي مشكلة العالم نفسه، مشكلة ثقافات معاصرة تتسلح بالعقل، أو بالحق لتنتج قتلاً ودماراً، مشكلة شروط كونية للعيش بسلام وأمن.
ليس حوار الحضارات بحثاً عن قواسم مشتركة بين الثقافات الكبرى القائمة، أو اتفاقاً على تقاسم سلطة القرار بين التجمعات البشرية الكبرى، فهذا توافق خفـي. مع مقولة صراع الحضارات: فـي تفرد الكتل الثقافـية الواسعة فـي صنع مستقبل العالم، وفـي تأبيد أحاديات ثقافـية وقيمية كقدر محتوم، وفـي تحييد الإشكاليات المعاصرة التي يبدو معها العالم كأنه قد جن جنونه بتعبير إيان كريب.
ليس حوار الحضارات حواراً بين الأقوياء أو لقاء الجبابرة والعمالقة أو ميثاق المنتصرين الذين كان التاريخ سجلاً لفتوحاتهم، وليس أيضاً تنافساً قيمياً أو سجالاً تراثياً، كدعوة السفـير الياباني فـي فـيتنام كازيو أوغيرا، إلى تحويل مقولة آسيا من مفهوم فارغ إلى مفهوم ممتلئ من خلال إحياء الروح التقليدية الأسيوية وحمل قيمها الكلية إلى أبعد مدى [٨] بالمقابل، لا نريده حوار الأمنيات والدعوات الأخلاقية الساكنة، التي يدمنها المهمشون كلما صدمتهم مجريات الأمور، أي لا نريده تعبيراً عن أخلاق الضعفاء الذين يعوضون ضعفهم بسمو قيمهم وتعالي ما ورائياتهم. لن يرى الحوار النور فـي عالم تفـيض فـيه نزعات السيطرة وتتضخم فـيه الهويات.
يقول روجيه غارودي: «إننا باستسلامنا للانحرافات الحالية للسياسة العالمية، نكون فـي الطريق لقتل أحفادنا وتحضير انتحار كوني للقرن الواحد والعشرين. لا بد فـي نهضة الإنسانية وبقائها من بناء المستقبل على أسس جديدة، أن نعثر على الشعور بأن الطبيعة لبست ملكاً لنا وإنما نحن ملك لها، أن نعثرَ على أخطاء التوجيه فـي التاريخ الإنساني، وأن نضع فلسفة السيطرة موضع المساءلة من أجل فتح منظورات جديدة للإنسان واقتراح بديل لوحدة العالم، وأن نجد معايير أخرى للتقدم غير قوة التقنيات والثروة».
فـي عام ١٩٧١، كتبت باربرا وورد للجنة البابوية للعدل والسلام: «إن أهم تغيير نقوم به هو تغيير نظرتنا إلى العالم. دعونا نغير زاوية رؤيتنا الأساسية وسوف يتغير كل شيء، أولوياتنا وقيمنا وأحكامنا، وهذا يحدث انقلاباً شاملاً فـي التخيل وبداية لحياة جديدة، منعطفاً للقلوب وبصيرة يرى الناس من خلالها بعيون جديدة ويفهمون بعقول جديدة».
وجاء فـي تقرير لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي: «التحدي الرئيسي هو حشد القدرة من أجل جعل الحياة فـي القرن الواحد والعشرين، أكثر ديمقراطية وأكثر أمناً واستمراراً. إن العالم بحاجة إلى رؤية جديدة يمكن أن تحرك البشر فـي كل مكان لتحقيق مستويات أعلى من التعاون، فعلى الناس أن يروا بعيون جديدة ويفهموا بعقول جديدة قبل أن يتمكنوا من التحول إلى طرق جديدة للمعيشة. وذلك هو السبب فـي ضرورة أن تكون القيم العالمية هي حجر الزاوية فـي إدارة شؤون المجتمع العالمي».
لا تنحصر الحضارة فـي كونها ظهوراً للعدل أو مظهر تقنية متطورة، بل هي تجربة صياغة العالم وإعادة تكوينه، هي موقف وجودي وخيار جماعي يجعل من الحضارة واقعاً متنوعاً وتشكلاً يتماوج بألوان الحياة الغزيرة، فـيكون لكل مجموعة بشرية تجربة خاصة وذوقاً فريداً. من هنا فإن حوار الحضارات يعني، إدخال كل تجارب الحياة داخل مجال النظر والتأمل، وإشراك الرؤى التي جسدتها حضارات الشعوب صغيرها وكبيرها، فـي التنقيب عن الأبعاد التي فقدها الإنسان خلال فرص التاريخ وإعادة غزوها، فـي اكتشاف جميع إمكانيات الحضارات الباطنية التي تجلت على هيئه شعوب ولغات ومذاهب دينية وفنون وعلوم ودول. إنها المقاربة التي لا تكترث للانتماء الكلي الذي يدمج حقائق الجزئيات بقالب لفظي، بقدر ما تلاحق التجارب المفردة والمختلفة والغريبة أحياناً، من أجل اكتشاف الأبعاد التي سطحتها حياة الاستهلاك وطمسها منطق السيطرة. إنها مقاربة ميكرو ثقافـية، يعود فـيها المطلق فرداً والفرد يتذرى ليصير وجهه ويده ولسانه، أي مقاربة لا تقيس الحضارة بحجم صخبها أو بتماسك ايديولوجيتها، بقدر ما تسجل تجارب إنسانية يكون داخل كل منها إنسان آخر وحياة جديدة.
وكما يقول غارودي فـي كتابه حوار الحضارات: «إن دراسة الحضارات اللاغربية تعادل بأهميتها الثقافـية الغربية، ومبحث الجمال يعادل أهمية العلوم والتقانات. فكل أثر إنساني يمكن اعتباره مشروعاً لعلم ينبغي تحويله أو خلقه، لنظام لم يوجد بعد». ويقول فـي كتاب آخر: «نعي أن الطبيعة بأسرها هي جسدنا وأن عقلنا مسكون بحضور جميع ثقافات الإنسانية فـي كل تاريخها، وليس أنا كالجزيرة فـي البحر. فإيماني فـيما وراء الثقافة التي يعبر بها كل فرد عن ذاته يتلاقى مع إيمان الذين يعيشونه عبر تجربة ثقافات أخرى دون الرغبة فـي هدايتهم أي تحويلهم إلى طريقة عيشي لهذا الإيمان الأساسي والأولي».
ويؤكد جيلبير دوران فـي كتاب الأنتربولوجيا، أنّ الحرية الحقيقية وشرف النزوع الأنطولوجي للبشر لا يرتكزان إلا على تلك العفوية الفكرية وذلك التعبير الخلاق الذي يشكّل ميدان التخيل. الحرية الحقة هي إباحة كل نظم التفكير مع التسليم بأن مجمل تلك النظم ليس كثيراً على هذا الشرف الشعري للإنسان الذي يهدف إلى قهر عدمية الزمن والموت، وأن علم تربية الخيال يفرض نفسه إلى جانب التربية البدنية والعقلية.
الحوار يعني وجود ذات وآخر، والآخر قد يكون متعدداً، ومع افتراض ذات محاورة، فهذا يعني أنها متقومة بالآخر المحاور، أي ذات تنتج اختلافها باستمرار، أو ذات تتبادل الأدوار والحقيقة مع الآخر بهذا المعنى، فإن الحوار حالة اتساع للمعنى وتكرار مختلف للتفسير، أي تأسيس لحق الاختلاف، وحق التفرد. الحوار هو هذا السقف الذي يهب الحياة كحق لا كمنة، إنه الخروج من شبكية السلطة أو القوى المسلطنة عبر المفاهيم إلى القوى المباشرة التي لا تنتمي إلا إلى ذاتها، إلى مملكة القوه القووية بتعبير نيتشه. وكما يقول مطاع صفدي: «إنه تأسيس لمعنى الاختلاف التي ينتج معنى خارج المعنى المعهود ومن دون كل المواريث المذهبية والمنهجية والمفهومية».
الحوار يعني اكتشاف الآخر داخل الذات، ويعي أيضاً وبالمرتبة نفسها، اكتشاف الذات فـي نظر الآخر، أي التعرف على الأنا الموضوعية التي يراها الآخرون مقابل الأنا الذاتية التي نراها نحن. بهذا المعنى يكون الآخر امتداداً للذات ومجالاً خصباً للتعرف على عوالم مختلفة كان من الممكن أن تكون عوالم الذات نفسها لولا مصادفة الزمان وندرة المكان. لحوار بهذا المعنى، يولد من جهة، عودة دائمة إلى الذات لنعيد النظر فـي كل ما تفهمه وتخطط له، فلا تغرق فـي منتجاتها بقدر ما ترفع الغطاء عن آلات إنتاجها، فلا تتحول الذات بذلك إلى مذهب أو تصبر مطلقاً أو تنتصب تمثالاً فـي متحف التاريخ، ويحول الحوار من جهة أخرى، دون نقض الآخر وتجاهله المختلف، ودون اختلاق معارك استهلاكية معه. وهذا، يزيل المعرفة المؤدلجة التي تشكل حاجباً عدوانياً، يحجب عنا رؤية الآخر من الداخل ويوقعنا دائماً فـي ثنائية التخارج من ذاتنا وذاته فـي آنٍ أي، بالحوار تتعرف الذات على نفسها مختلفة دائماً وترى فـي وجودها فرصة لوجود غيرها.
إذا كانت الأزمة المعاصرة للعالم هي كون الحداثة الغربية تدفع به إلى الهاوية، لا لأنها قامت على العقل والتقانة والثروة، بل لأنها استبعدت امتدادات الجمال والروح داخل الإنسان، فسطحته وحولته إلى شيء يستهلك، فإن الخطاب الديني المعاصر المحلي والخارجي بالمقابل، عجز عن مقاومة عملية التسطيح، وعن إغناء الأبعاد الروحية، وعن تنمية الخيال، وعن دمج عوالم الغيب فـي عالمنا خارج أطر المنظومات وتوازنات القوى.
ليست كلّ ظاهرة تديّن هي تعبير عن حيوية وعودة للدين، بقدر ما يمثل بعضها رد فعل للانسداد المجتمعي والاختناق السياسي، يمثل حالة عنف وشكل انغلاق وتعصب ضدّ الآخر، مشروع سلطة يوظف الخيال الديني فـي خطاب تعبوي وتضامني. وهذا يستدعى، انتشال الخطاب الديني من الاستغراق الكامل فـي المحليات واستحضار رهاناته الكونية المغيبة، التي توتر الأعماق الإنسانية وتستعيد الأبعاد المنسية فـي التكوين النفسي والذهني للإنسان.
ليس الإيمان إيديولوجيا ترسم حدود المعاني وتضبط اختلاجات الروح، أو هي مشروع سلطه تلازم بين الحقيقة والإكراه، أو إيمان بنسق كثيف من التعاليات منفصلة عن التاريخ وقابعة خارج حياتنا كأنّها تدير مصائرنا من فوق. بقدر ما هو حالة توقد باطني واكتشاف مستمرّ للذات وتجاوز دائم للتحديد النهائي للعلاقة بين الإنسان والكائن الأعلى، وكما يقول روجيه غارودي: «الإيمان هو تجربة الينابيع، هو تجربة قدرة غير متوقعة تتجاوز حدودي، هو ليس تجربة النقصان وإنما هو تجربة الفائض وهو فـي المركز لأعلى الحدود».
أعمق حوار بين الحضارات هو حوار الأديان، ومدخل هذا الحوار هو أن نلغي الاعتقاد بأن التاريخ المقدس هو تاريخ ملة واحدة. إذا كان الله قد تجلى فـي كل تجربة حضارية ضمن قالب شعوري وأسطوري ومن خلال لغة رموز غامضة وعبر نسق قيمي غريب علينا، فلنتوقف عن محاكمة أديان هذه الشعوب أو عن إدانة معتقداتها بتحليل تصوري بارد وعقلية يقين أحادي.
د. وجيه قانصو/موقع د. محمد علي آذرشب
حوار الحضارات والتأسيس للمختلف
عندما نسج صاموئيل هنتنغتون مقولته حول صراع الحضارات، كانت السياقات التاريخية للأحداث والتكوينات المنطقية للثقافات وشبكة علاقات القوى السياسية فـي العالم، تحمل قوة دلاليّة مساراً غائيّاً كافـياً لتأصيل التناقض بين الثقافات، ورؤية مستقبل العلاقة بين الكيانات مستقبل حرب وصراع. فالفواصل الثقافـيّة بحسب هنتغتون ستكون خطوط المعارك فـي المستقبل، وسيرسم الانتماء الثقافـي الواسع خارطة الوجود القادم للبشرية. أي إنّ الانتماء يتحدّد بالخروج عن باقي الانتماءات، واستمراريّة الحياة هي إنهاء لأشكال وصور حياة أخرى، ونهاية التاريخ لا تكون إلا فوق أطلال خراب ودمار.
طبعاً، لم تكن أطروحة هنتنغتون تأسيساً لفلسفة الصراع الثقافـيّ، بقدر ما كانت استثماراً سياسيّاً، لعقل غربيّ قائم على فلسفة الكائن الذي هو أساس كلّ سيطرة، كما يقول روجيه غارودي، وإنسان غربي يرى الوطن كل أرض يفرض فـيها سيطرته وإرادته كما يقول اشبنغلر، وتاريخ غربي لا يزال صراع السيد والعبد يشكل محرّكه الأوّل كما يرى هيغل، وتحقيب تاريخي فـي الغرب يقوم على تعقب أدوات السيطرة التي قهر بها الإنسان الطبيعة وظلم بها نفسه.
وكما يعبّر مطاع صفدي: «بأنّ إنسان المشروع الغربي اكتشف يده واستخدمها أكثر ممّا يستطيع، أعملها كلّها فـي حجر العلم ومعدنه، ثم استيقظ ذات صباح فرأى أنّ يده ذاتها صارت حجراً ومعدناً».
أطلقت مقولة صراع الحضارات، فـي الوقت الذي بدأت فـيه المرجعيات الخاصة بالتفكك، وأخذت المنابع المنتجة لدلالات الهوية الثقافـية بالتفتت فـي العالم. وكما يقول موريس دوبرجيه: «إنّ العالم بات يشهد مع انتفاء حقبة الحرب الباردة بصراعاتها ورهاناتها الكثيفة، نهاية السياسة، حيث نضبت فـيه عملياً منابع أشكال التعبير الأيديولوجي، وأنماط الخطاب المجتمعية ذات الطاقة التعبوية». أي يقبل العالم على فضاء تفقد فـيه الهوية الثقافـيّة التاريخيّة مرجعيّتها فـي تشكيل التضامنات السياسيّة والاجتماعيّة المقبلة، ويأخذ مجال المعنى الكونيّ والانتماء الإنسانيّ بالتوسّع، فلم يحدث من قبل أن كان لمثل هذا العدد الكبير من الناس هذا القدر من الأمور المشتركة بينهم. كما لم يحدث من قبل أن كانت الأشياء التي تفرّق بينهم بهذا الوضوح. أي فـي الوقت الذي تراهن فـيه مقولة صراع الحضارات رهانها، على أن تستعيد الأطر الثقافـية العليا دورها فـي تحديد معالم المستقبل، فإنّ العالم يبدأ بصناعة تاريخ جديد تكاد الهويّة الخاصة تفقد فـيه مرجعيّتها، ويعيد فـيه الإنسان التعرّف على ذاته خارج سلسلة الأوامر والإملاءات التي تزخر بها منظومة الثقافات الحالية.
من هنا، فإنّ حوار الحضارات يأتي من دون سابقة تاريخيّة، وخارج سياق العلاقات المعهودة، ليعبّر عن اتجاه أو رغبة، عن لغة استياء من جنون القوة التي لا تعي إلا التوسع بلا حدود، وعن محاولة لخلق مدى إنساني جديد، لتنوع لامتناهٍ فـي المعنى ولعدد واسع فـي التجربة. أي أن الحديث عن حوار الحضارات، هو حديث عن الشروط السياسية التي تحمل إمكانيات وجوده، عن فضاءاته المعرفـية، وهذا يستدعي تصويب المسار التاريخي للعالم، بإعادة إنتاج أدوات إنتاج المعنى، وإعادة تأويل للذات، وإضافة شروط حياه جديدة.
حوار الحضارات مقولة كونية، تستدعي النظر بمنظور كوني لواقع العالم، واستحضار مشكلة الكون بأسره لا الانزواء داخل ذاتيات متضخمة كما حصل فـي عالمنا الإسلامي، تحجب التعرف على خارطة العالم البشرية، وتعيق فهم الذات على حقيقتها. أي ليست إشكالية حوار الحضارات، فـي أن تستعيد كل حضارة موقعها الضائع ودورها المفقود فـي شبكة علاقات القوة التي لاحصر لها فـي العالم، أو الدخول فـي سجال قيمي، أو تبارٍ أيديولوجي بين الكيانات الثقافـية، فهذا ليس إلا إعادة إنتاج لفائض القوة ونظام السيطرة، الذي يدمّر العالم حالياً. لم تعد مشكلة العلم تتمركز حول عدالة التوزيع بين الأفراد أو الشعوب، أو أزمة هويات مهددة بالضياع، رغم إلحاحية هذه القضايا، بقدر ما هي مشكلة العالم نفسه، مشكلة ثقافات معاصرة تتسلح بالعقل، أو بالحق لتنتج قتلاً ودماراً، مشكلة شروط كونية للعيش بسلام وأمن.
ليس حوار الحضارات بحثاً عن قواسم مشتركة بين الثقافات الكبرى القائمة، أو اتفاقاً على تقاسم سلطة القرار بين التجمعات البشرية الكبرى، فهذا توافق خفـي. مع مقولة صراع الحضارات: فـي تفرد الكتل الثقافـية الواسعة فـي صنع مستقبل العالم، وفـي تأبيد أحاديات ثقافـية وقيمية كقدر محتوم، وفـي تحييد الإشكاليات المعاصرة التي يبدو معها العالم كأنه قد جن جنونه بتعبير إيان كريب.
ليس حوار الحضارات حواراً بين الأقوياء أو لقاء الجبابرة والعمالقة أو ميثاق المنتصرين الذين كان التاريخ سجلاً لفتوحاتهم، وليس أيضاً تنافساً قيمياً أو سجالاً تراثياً، كدعوة السفـير الياباني فـي فـيتنام كازيو أوغيرا، إلى تحويل مقولة آسيا من مفهوم فارغ إلى مفهوم ممتلئ من خلال إحياء الروح التقليدية الأسيوية وحمل قيمها الكلية إلى أبعد مدى [٨] بالمقابل، لا نريده حوار الأمنيات والدعوات الأخلاقية الساكنة، التي يدمنها المهمشون كلما صدمتهم مجريات الأمور، أي لا نريده تعبيراً عن أخلاق الضعفاء الذين يعوضون ضعفهم بسمو قيمهم وتعالي ما ورائياتهم. لن يرى الحوار النور فـي عالم تفـيض فـيه نزعات السيطرة وتتضخم فـيه الهويات.
يقول روجيه غارودي: «إننا باستسلامنا للانحرافات الحالية للسياسة العالمية، نكون فـي الطريق لقتل أحفادنا وتحضير انتحار كوني للقرن الواحد والعشرين. لا بد فـي نهضة الإنسانية وبقائها من بناء المستقبل على أسس جديدة، أن نعثر على الشعور بأن الطبيعة لبست ملكاً لنا وإنما نحن ملك لها، أن نعثرَ على أخطاء التوجيه فـي التاريخ الإنساني، وأن نضع فلسفة السيطرة موضع المساءلة من أجل فتح منظورات جديدة للإنسان واقتراح بديل لوحدة العالم، وأن نجد معايير أخرى للتقدم غير قوة التقنيات والثروة».
فـي عام ١٩٧١، كتبت باربرا وورد للجنة البابوية للعدل والسلام: «إن أهم تغيير نقوم به هو تغيير نظرتنا إلى العالم. دعونا نغير زاوية رؤيتنا الأساسية وسوف يتغير كل شيء، أولوياتنا وقيمنا وأحكامنا، وهذا يحدث انقلاباً شاملاً فـي التخيل وبداية لحياة جديدة، منعطفاً للقلوب وبصيرة يرى الناس من خلالها بعيون جديدة ويفهمون بعقول جديدة».
وجاء فـي تقرير لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي: «التحدي الرئيسي هو حشد القدرة من أجل جعل الحياة فـي القرن الواحد والعشرين، أكثر ديمقراطية وأكثر أمناً واستمراراً. إن العالم بحاجة إلى رؤية جديدة يمكن أن تحرك البشر فـي كل مكان لتحقيق مستويات أعلى من التعاون، فعلى الناس أن يروا بعيون جديدة ويفهموا بعقول جديدة قبل أن يتمكنوا من التحول إلى طرق جديدة للمعيشة. وذلك هو السبب فـي ضرورة أن تكون القيم العالمية هي حجر الزاوية فـي إدارة شؤون المجتمع العالمي».
لا تنحصر الحضارة فـي كونها ظهوراً للعدل أو مظهر تقنية متطورة، بل هي تجربة صياغة العالم وإعادة تكوينه، هي موقف وجودي وخيار جماعي يجعل من الحضارة واقعاً متنوعاً وتشكلاً يتماوج بألوان الحياة الغزيرة، فـيكون لكل مجموعة بشرية تجربة خاصة وذوقاً فريداً. من هنا فإن حوار الحضارات يعني، إدخال كل تجارب الحياة داخل مجال النظر والتأمل، وإشراك الرؤى التي جسدتها حضارات الشعوب صغيرها وكبيرها، فـي التنقيب عن الأبعاد التي فقدها الإنسان خلال فرص التاريخ وإعادة غزوها، فـي اكتشاف جميع إمكانيات الحضارات الباطنية التي تجلت على هيئه شعوب ولغات ومذاهب دينية وفنون وعلوم ودول. إنها المقاربة التي لا تكترث للانتماء الكلي الذي يدمج حقائق الجزئيات بقالب لفظي، بقدر ما تلاحق التجارب المفردة والمختلفة والغريبة أحياناً، من أجل اكتشاف الأبعاد التي سطحتها حياة الاستهلاك وطمسها منطق السيطرة. إنها مقاربة ميكرو ثقافـية، يعود فـيها المطلق فرداً والفرد يتذرى ليصير وجهه ويده ولسانه، أي مقاربة لا تقيس الحضارة بحجم صخبها أو بتماسك ايديولوجيتها، بقدر ما تسجل تجارب إنسانية يكون داخل كل منها إنسان آخر وحياة جديدة.
وكما يقول غارودي فـي كتابه حوار الحضارات: «إن دراسة الحضارات اللاغربية تعادل بأهميتها الثقافـية الغربية، ومبحث الجمال يعادل أهمية العلوم والتقانات. فكل أثر إنساني يمكن اعتباره مشروعاً لعلم ينبغي تحويله أو خلقه، لنظام لم يوجد بعد». ويقول فـي كتاب آخر: «نعي أن الطبيعة بأسرها هي جسدنا وأن عقلنا مسكون بحضور جميع ثقافات الإنسانية فـي كل تاريخها، وليس أنا كالجزيرة فـي البحر. فإيماني فـيما وراء الثقافة التي يعبر بها كل فرد عن ذاته يتلاقى مع إيمان الذين يعيشونه عبر تجربة ثقافات أخرى دون الرغبة فـي هدايتهم أي تحويلهم إلى طريقة عيشي لهذا الإيمان الأساسي والأولي».
ويؤكد جيلبير دوران فـي كتاب الأنتربولوجيا، أنّ الحرية الحقيقية وشرف النزوع الأنطولوجي للبشر لا يرتكزان إلا على تلك العفوية الفكرية وذلك التعبير الخلاق الذي يشكّل ميدان التخيل. الحرية الحقة هي إباحة كل نظم التفكير مع التسليم بأن مجمل تلك النظم ليس كثيراً على هذا الشرف الشعري للإنسان الذي يهدف إلى قهر عدمية الزمن والموت، وأن علم تربية الخيال يفرض نفسه إلى جانب التربية البدنية والعقلية.
الحوار يعني وجود ذات وآخر، والآخر قد يكون متعدداً، ومع افتراض ذات محاورة، فهذا يعني أنها متقومة بالآخر المحاور، أي ذات تنتج اختلافها باستمرار، أو ذات تتبادل الأدوار والحقيقة مع الآخر بهذا المعنى، فإن الحوار حالة اتساع للمعنى وتكرار مختلف للتفسير، أي تأسيس لحق الاختلاف، وحق التفرد. الحوار هو هذا السقف الذي يهب الحياة كحق لا كمنة، إنه الخروج من شبكية السلطة أو القوى المسلطنة عبر المفاهيم إلى القوى المباشرة التي لا تنتمي إلا إلى ذاتها، إلى مملكة القوه القووية بتعبير نيتشه. وكما يقول مطاع صفدي: «إنه تأسيس لمعنى الاختلاف التي ينتج معنى خارج المعنى المعهود ومن دون كل المواريث المذهبية والمنهجية والمفهومية».
الحوار يعني اكتشاف الآخر داخل الذات، ويعي أيضاً وبالمرتبة نفسها، اكتشاف الذات فـي نظر الآخر، أي التعرف على الأنا الموضوعية التي يراها الآخرون مقابل الأنا الذاتية التي نراها نحن. بهذا المعنى يكون الآخر امتداداً للذات ومجالاً خصباً للتعرف على عوالم مختلفة كان من الممكن أن تكون عوالم الذات نفسها لولا مصادفة الزمان وندرة المكان. لحوار بهذا المعنى، يولد من جهة، عودة دائمة إلى الذات لنعيد النظر فـي كل ما تفهمه وتخطط له، فلا تغرق فـي منتجاتها بقدر ما ترفع الغطاء عن آلات إنتاجها، فلا تتحول الذات بذلك إلى مذهب أو تصبر مطلقاً أو تنتصب تمثالاً فـي متحف التاريخ، ويحول الحوار من جهة أخرى، دون نقض الآخر وتجاهله المختلف، ودون اختلاق معارك استهلاكية معه. وهذا، يزيل المعرفة المؤدلجة التي تشكل حاجباً عدوانياً، يحجب عنا رؤية الآخر من الداخل ويوقعنا دائماً فـي ثنائية التخارج من ذاتنا وذاته فـي آنٍ أي، بالحوار تتعرف الذات على نفسها مختلفة دائماً وترى فـي وجودها فرصة لوجود غيرها.
إذا كانت الأزمة المعاصرة للعالم هي كون الحداثة الغربية تدفع به إلى الهاوية، لا لأنها قامت على العقل والتقانة والثروة، بل لأنها استبعدت امتدادات الجمال والروح داخل الإنسان، فسطحته وحولته إلى شيء يستهلك، فإن الخطاب الديني المعاصر المحلي والخارجي بالمقابل، عجز عن مقاومة عملية التسطيح، وعن إغناء الأبعاد الروحية، وعن تنمية الخيال، وعن دمج عوالم الغيب فـي عالمنا خارج أطر المنظومات وتوازنات القوى.
ليست كلّ ظاهرة تديّن هي تعبير عن حيوية وعودة للدين، بقدر ما يمثل بعضها رد فعل للانسداد المجتمعي والاختناق السياسي، يمثل حالة عنف وشكل انغلاق وتعصب ضدّ الآخر، مشروع سلطة يوظف الخيال الديني فـي خطاب تعبوي وتضامني. وهذا يستدعى، انتشال الخطاب الديني من الاستغراق الكامل فـي المحليات واستحضار رهاناته الكونية المغيبة، التي توتر الأعماق الإنسانية وتستعيد الأبعاد المنسية فـي التكوين النفسي والذهني للإنسان.
ليس الإيمان إيديولوجيا ترسم حدود المعاني وتضبط اختلاجات الروح، أو هي مشروع سلطه تلازم بين الحقيقة والإكراه، أو إيمان بنسق كثيف من التعاليات منفصلة عن التاريخ وقابعة خارج حياتنا كأنّها تدير مصائرنا من فوق. بقدر ما هو حالة توقد باطني واكتشاف مستمرّ للذات وتجاوز دائم للتحديد النهائي للعلاقة بين الإنسان والكائن الأعلى، وكما يقول روجيه غارودي: «الإيمان هو تجربة الينابيع، هو تجربة قدرة غير متوقعة تتجاوز حدودي، هو ليس تجربة النقصان وإنما هو تجربة الفائض وهو فـي المركز لأعلى الحدود».
أعمق حوار بين الحضارات هو حوار الأديان، ومدخل هذا الحوار هو أن نلغي الاعتقاد بأن التاريخ المقدس هو تاريخ ملة واحدة. إذا كان الله قد تجلى فـي كل تجربة حضارية ضمن قالب شعوري وأسطوري ومن خلال لغة رموز غامضة وعبر نسق قيمي غريب علينا، فلنتوقف عن محاكمة أديان هذه الشعوب أو عن إدانة معتقداتها بتحليل تصوري بارد وعقلية يقين أحادي.
المصدر: موقع د. محمد علي آذرشب