أوهام حوار الحضارات: نظرة إلى الموضوع من الداخل الغربي
أ. يحيى أبو زكريا
تصاب الإنتليجانسيا العربية بين الحين والآخر بداء عمى الألوان الفكري والذي يحول دون نزوع هذه الإنتليجانسيا والطبقة المثقفة في العالم العربي إلى تشريح المصطلحات والقوالب الفكريّة التي تتبنّاها.
ولعلّ أبرز ما وقع فيه اللبس هو مصطلح حوار الحضارات والثقافات الذي راح يتنغّم به العديد من كتابّنا ومفكرّينا ومثقفينا في الواقع العربي.
وأنا لا أريد هاهنا أن أتحدث عن هذا المصطلح وجدواه من الزاوية العربية وضمن الجغرافيا العربية، بل سوف أقدّم ملاحظاتي حول هذا الموضوع من الزاوية الغربية باعتباري أعيش في الغرب وعلى تماس بأنماطه الثقافية والإجتماعية والسياسيّة.
أعترف مبدئيّا أنّ عدد الذين يرددّون مصطلح حوار الحضارات والثقافات من المثقفين الغربيين قليل إلى درجة أنّ هذا العدد يكاد يكون معدوماً، والذين يتبنّون هذا المصطلح فئتان من الناس أو جهتان ولكل غرضه، أمّا الفئة الأولى فهي مجموعة صغيرة من الأكاديميين الغربيين الذين تسنىّ لهم دراسة ثقافات أخرى كثقافة أمريكا اللاتينية وثقافة الهنود الحمر وثقافة التيبت وغيرها ونظراً لإعجابهم بهذه الثقافات فهم يطالبون بإيجاد جسور تواصل بين ثقافتهم الغربية ذات البعد المادي المتوحّش وهذه الثقافات التي اكتشفوها في سياق بحوثهم الأكاديميةّ. ورغبتهم هذه لا مصاديق لها في الخارطة الثقافية الغربية، بل الأمر لا يتعدى كونه هواية لهذا الباحث أو ذاك. نعم عندما يريد بعض المخرجين السياسيين التأكيد على التنوّع السائد في الخارطة الثقافية الغربية وبمساعدة بعض المثقفين يصممّون ديكوراً سينيمائيّاً فيه سمة التعدديّة الثقافيّة وحوار الحضارات، لكن الثقافات الثالثية – نسبة إلى العالم الثالث – يكون دورها هاهنا في مجال التطبيل والرقص وترقيص الحيّات، وكل ذلك للضرورة الإخراجيّة إذ بعدها مباشرة لا تجد أيّ أثر للثقافات الثالثيّة في مفردات الخارطة الثقافية الغربيّة، على عكسنا تماماً في العالم الثالث – والعالم العربي جزء منه – حيث أصبحت تفاصيل حياتنا بما في ذلك ثقافتنا انعكاسا لأصداء كوكبيتهم وكونيتهم – من الكونيّة والكوكبيّة -.
والجهة الثانية التي تستعمل وتستخدم مصطلح حوار الثقافات والحضارات هي جهات سياسية رسمية تهدف إلى بعث الاطمئنان في نفوس المهاجرين الذين يقيمون في هذه الجغرافيا الغربية أو تلك لكي يظلّوا ماكثين في هذه المواقع حتى يضمن الاستراتيجيون الغربيون بقاء أولادهم وذريتهم للحفاظ على التوازن السكاني على المدى المتوسط والبعيد والذين أعدّت لأجل إدماجهم في المنظومة الغربيّة مئات المشاريع والاستراتيجيات المشفوعة بمختلف طرائق علم النفس والاجتماع والتربية وغيرها.
وفي غير الجهتين التي جئنا على ذكرهما فإنّ مصطلح حوار الحضارات والثقافات لا أحد يردده أو يعرف عنه شيئا في الواقع الغربي، بل نحن بالنسبة للكم البشري الهائل في الغرب مجرّد لصوص وإرهابيون ومتخلفون ونملك دينا لا يستجيب لرغبات العيش وفوق هذا وذاك جئنا إلى الغرب للحصول على ما تقدمّه الدول الغربية المرفهّة في مجال المساعدة الاجتماعية والسكنيّة وما إلى ذلك.
وعندما تفتح عادة نقاشات مع أصحاب الوعي الفكري في الغرب فانّ أول ما يصدر من أفواههم أنّ نمطهم الحضاري بات سيدّ الموقف عالميّا وما على الثقافات المتخلفة التي عجزت أن تعالج الأمراض وتقضي على الأميّة وتحلّ أزمة السكن إلاّ خيار الذوبان في الثقافة الكوكبيّة الزاحفة وأنّ للغالب أن يحاور المغلوب أو يفتح حوارا مع المغلوب والمسلوب الحضاري.
والمفارقة الأخرى أنّ المظلوم في عالمنا العربي والإسلامي ظالم في منطق من يروجّون اليوم لحوار الحضارات والثقافات، والظالم الذي ينطلق من نفس الرؤية الإيديولوجية للمدرسة الغربيّة مظلوم تجب نصرته بإمداده بالسلاح وبالوقوف إلى جانبه في المحافل الدوليّة.
فهل هذا حوار الحضارات أو خواء الحضارات!
الحوار بين المثقفين العرب والغربيين!
وعلى الرغم من المساحة الهائلة من الحرية السائدة في الغرب والتي بموجبها يحق لكائن من كان أن يطرح ما يريد من رؤى وأفكار وأيديولوجيات، وعلى الرغم من فسيفسائيّة الخارطة الثقافية وتنوّع التضاريس الفكرية في الغرب، إلا أنه ولحدّ الآن لم يقم حوار جدي وعقلاني بين الثقافة الغربية والثقافة العربية والإسلامية، وتبقى بعض مهرجانات التقارب بين الثقافتين والتي يحييها أحيانا معهد العالم العربي في باريس على وجه التحديد مجرّد محاولة لتزيين الديكور الثقافي الغربي وليقال أن هناك تفاعلا بين الثقافات والحضارات وواقع الأمر غير ذلك تماماً. فالثقافة العربية والإسلامية غائبة أو مغيبّة ولا وجود لمفرداتها في الواقع الثقافي الغربي، وهذه الغيبوبة مردّها إلى أننا لم نعرف ولم نستوعب ذاتنا وبالتالي صعب علينا إستيعاب الآخر الغربي والتسلل إلى حصونه، فعلى صعيد المعرفة الإنسانية نحن غائبون بالمطلق عن كل خرائط المعرفة الغربية، وغيبوبتنا هذه لا تعني مطلقا أن مطابخ الأفكار والتاريخ والحضارات في الغرب لا تعرف عنا شيئاً بل إنّ هذه المراصد غارقة إلى النخاع في دراسة تفاصيل تفاصيلنا، على العكس منا فإننا لا نعرف إلا بعض الكليات والبديهيات عن الأخر الغربي. والإشكال البارز الذي يتبادر إلى الذهن ونحن نناقش مسألة الحوار بين الثقافة الغربية والثقافة العربية هو ما هي الثقافة التي يجب أن نقدمها للأخر الغربي، فلحدّ الآن لم نوفّق في صياغة أطروحة ثقافية تكون قادرة على مجابهة تحديات العولمة و إفرازات عصر الإنترنت. وعندما هاجر العقل العربي والإسلامي إلى الغرب فإنه حاور العقل الغربي بمنطق مذهبي وطائفي وإيديولوجي وعشائري ومناطقي وجهوي وإثني؛ ولذلك صعب على العقل الغربي تفهم هذا العقل الوافد لأنّه يخلط بين الكليّات والجزئيات وبين النص والإجتهاد وبين العقل والنقل والماضي والراهن وما إلى ذلك من الثنائيات، وعلى العكس من ذلك فإنّ العقل الغربي يواجه غيره بمنظومة فكرية وأطروحة معرفيّة واحدة في كثير من تفاصيلها ومردفة بانتصارات تقنية ونهضوية قد يحتاج العالم العربي والإسلامي إلى سنين ضوئيّة لتحقيق بعضها. وقد حملّ الباحث هشام شرابي الأستاذ في جامعة جورج تاون في أمريكا لدى حديثه عن عقدة فهم الذات التي أدّت إلى عدم تفهم الآخر الغربي لنا، الفكر البطركيّ الذي أجهز على الانطلاقة الحضارية، وحتّى النيوبطركي كما يسمّيه أخفق في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الماضي والحاضر. لكن الفكر البطركيّ ليس وحده المجزّأ بكثرة الاجتهادات والتأويلات والتخريجات، بل الفكر العربي عموماً انتقل إلى الغرب منشطراً ومجزّأ وغير متآلف بين فروعه.
وعندما يفتح بعض مثقفينا حواراً مع الغربيين، فإنهم يذكرّون هذا الغربي بفضل الحضارة العربية والإسلامية على الحضارة الغربية، وهذا في حدّ ذاته إدانة للحضارة العربية وليس إشادة لأنّ الحضارة التي أضاعت دورها في زحمة التحوّلات الحضارية الكبرى غير مؤهلة للاستمرار؛ وبدوره هذا المثقف الغربي، وعندما يتحدّث مع الآخر العربيّ والإسلاميّ، فإنّه يتحدّث من منطلق العليّة والانتصار والتفوق والتغلّب على كلّ المصاعب، بما في ذلك الطبيعيّة منها، وهذا وإن كان حقيقة إلا أنّه قد يجعل الحضارة الغربية تتراجع، وبدل أن تكمل سيرها إلى الأمام، فإنّها تكتفي بالتباهي بالانجازات والافتخار بما تحقق لها لحدّ الآن، وقد تكون عوامل السقوط والإنهيار موجودة في ذروة القوة والتفوّق الحضاريّ، حسب ما قاله أرنولد توينبي. ولا يمكن على الإطلاق إقامة حوار بين الثقافة الغربية والثقافة العربية إذا استمرّ الحديث عن الغرب المنتصر والشرق المنهزم. لا شكّ أنّ هناك سنين ضوئية من التراكمات بين الغرب والشرق وإشكالات بحجم جبال الهمالايا، لكن هذا ليس سبباً في إغلاق منافذ الحوار التي بدأ البعض في الخارطة العربية كما الغربية فتحها وبمجهودات فردية ومتواضعة وتقتصر على فئة من المفكرين والمثقفين الذين يؤمنون بحوار الحضارات والثقافات والأديان. وغير الانبهار بفعالية الثقافة الغربية، فإنّ دعاتها من الغربيين يرون أنّ هذه الثقافة قد صارت عالميّة وأصبحت النموذج المفروض على كلّ الخارطة الكونيّة، فما جدوى الحديث عن الحوار مع الثقافات الثالثية، والتي أخفقت في تحقيق النهوض الحضاريّ والتقنيّ في المواقع الجغرافية التي تسود فيها هذه الثقافة والثقافة الغربية باتت عالميّة.
وفي الوقت الذي تكوّن فيه الجامعات الغربية آلاف الغربيين في قضايا العالم العربي والشرق الأوسط والحضارة العربية والإسلامية، فإنّ واقعنا العربي يفتقد إلى توجّهات من هذا القبيل لدراسة الغرب دراسة موسوعيّة لا سياسية. وقد أصاب الدكتور إدوارد سعيد عندما قال إنّ معظم الباحثين العرب في الغرب درسوا المجتمع العربي والواقع العربي، وبذلك لم يحصّلوا شيئاً يذكر في مجال معرفة الآخر الغربي. وإذا كانت ظاهرة الاستشراق – تشريح الشرق- ما زالت قائمة في الغرب، فإنّ ظاهرة الاستغراب – تشريح الغرب- لم تولد بعد معرفيّاً في الواقع العربي.
إنّ الحوار بين الثقافة العربية والثقافة الغربية هو في الواقع من جملة الشعارات الجميلة التي يحاول بعض المبدعين التأسيس لها، وما زال الطريق طويلاً قبل تدشين انطلاقة مثل هذا الحوار وخصوصاً أنّ البعض في الغرب ما زال يتحدّث عن نيتشه ورجل السوبرمان الغربي !!!!!