إشكالية حوار الحضارات والأديان وجدواها

د. خليل حسين

 
برزت بعد الحادي عشر من أيلول 2001 حركتان متضادتان بما يختصّ بالعلاقة بين الحضارات والثقافات والأديان؛ فمن جهة ثمّة حركة نشطة للقاءات تعقد للنقاش حول حوار الحضارات بأبعاده وتفاصيله. وفي الجهة المقابلة ثمّة آلة حربيّة أميركيّة مستنفرة تحت غطاء فكريّ وأيديولوجيّ تتّجه نحو صدام الحضارات. وغريب المفارقات في ذلك أنّ الغرب هو مصدر هاتين الحركتين؛ الأمر الذي ربّما يوحي بمدى التنوّع الذي يسمح بوجود النقيضين: "المبادرة بالحوار" و"المسارعة إلى الصدام"؛ وهو ما يمكن أن يكون صحيحاً نسبيّاً في الإطار الداخليّ الغربيّ. بيد أنّه من الصعب أن لا يكون محلّ تساؤلات لدى الآخرين غير الغربيين. فكيف يتفق كلّ من "الحوار" و"الصدام" في نفس الوقت، وهل العلاقة بين الحضارات/ الثقافات والأديان لا بدّ أن تكون إمّا صراعيّة أو حضاريّة؟ وهل يكون الصراع أو الحوار بين الحضارات/ الثقافات والأديان أم بين المنتمين إليها؟

إنّ المقاربات الموضوعية التي تناولت علاقة الحضارات ببعضها تشير إلى أنّ الحضارات لا تتصارع أو تتحاور، بل النّاس هم الذين يتصارعون ويتحاورون لأسباب تتعلق بالمصالح بالدرجة الأولى. وبالتالي فإنّ مواقف البشر لا تنبع من معطياتهم الحضاريّة والثقافيّة بقدر ما تنبع من مواقعهم في البناء الاجتماعيّ الاقتصاديّ القوميّ أو العابر للقوميّات بفعل العولمة.

فالحضارات ليست كتلاً جامدة غير متفاعلة، بل يوجد التنوّع والتناقض في داخل كلّ حضارة، وهو ما أتاح وجود ما يسمّى برؤى متعددة للعلاقة بين الحضارات، ولا نقول الحوار أو الصدام؛ إذ إنّ كليهما تجسيد لإحدى هذه الرؤى، بحسب المصلحة والسياق التاريخيّ. وبمعنى آخر: إنّ ما سمح بوجود التنوّع في الغرب هو أنّ الغرب لديه أفكار وتصورات ورؤى متعددة حول العلاقة بين الحضارات، ويحدّد هذه الرؤى مصالح ومواقع البشر في البناء الاجتماعيّ؛ ما يؤدّي إلى وجود جماعات بحكم المصالح/المواقع تتبنّى الحوار، وأخرى تسعى إلى الصدام.

لقد شهدت العلاقات الدولية خلال العقد الأخير من القرن الماضي وقائع وأحداثاً وحلقات نقاش سياسية كثيرة عكست الاهتمام بالعلاقة بين الحضارات، كما تعاقبت المؤلّفات والمؤتمرات والندوات العالمية والإقليمية والمحليّة التي ناقشت إشكاليّاتها. وفي المقابل توالت المبادرات الرسميّة أيضاً التي تعكس معاني وأهداف الحوار بصفة خاصّة.

أولاً: خلفيّة الاهتمام بالحوار ونمط العلاقة

الحضارات، وبعكس ما هو شائع، فقد بدأ قبل سنوات من أحداث 11 أيلول لا بعدها، كما تركّز معظم الحديث حول إشكاليّة حوار أو صراع، أي بمعنى نمط العلاقة بين الحضارات ذلك على حساب الأبعاد الأخرى للموضوع: كالقضايا، والآليات وشروط الانعقاد والأطراف. كما تقاطعت الاتجاهات المختلفة حول وضع الإسلام والمسلمين بصفة خاصّة باعتباره يمثل ساحة أساسيّة في خريطة الحوار، ولم يتضمن قضايا مثل العلاقة بين القيم والأخلاق، وبين الأبعاد المادية، والعلاقة بين الأديان.

ويمكن تبيان السّمات السابقة وتفسيرها كما يلي:

لقد أضافت أحداث 11 ايلول دفعاً قوياً للموضوع. وهو الاهتمام الذي ظهر مع نشر هانتنغتون أطروحته في العام 1993 باسم صدام الحضارات. وبدون الدخول في تفاصيل القراءات النقدية لأطروحات هانتنغتون، يكفي القول إنّه قد تولّد حولها جدال تفرّع بين عدّة اتّجاهات اختلفت حول نمط العلاقات بين الحضارات وقدّمت إجابات متنوّعة حول مجموعتي الأسئلة التاليتين: هل تُعَدّ الحضارة والأمّة وحدة للتحليل في العلاقات الدوليّة؟ ما فائدة مفهوم الحضارة لدراسة العلاقات الدوليّة؟ ما قدر الأهميّة الذي يجب إعطاؤه للأبعاد والقيم الثقافية، والدينية سواء عند دراسة العلاقات الدولية أو صياغة السياسات الدوليّة؟. ومن ناحية أخرى هل صراع الحضارات قد أخذ مكان صراع الطبقات كمحرّك للعلاقات الدولية؟ هل حوار الحضارات أم صراعها يقتصر على الأبعاد الثقافية والقيمية أم يمتد إلى الأبعاد المادية للقوة وقضاياه؟ ما شكل حالة التوازن العالمي الذي يسمح بحوار حضارات فاعل وقابل للحياة؟ وقبل ذاك يطرح سؤال مركزي: ما هو أصل العلاقة بين الحضارات: الحوار أم الصراع؟ وهل يصحّ طرح السؤال على هذا النحو أم يجب التساؤل متى يكون الحوار؟ ومتى يكون الصراع؟ على اعتبار أنّ الاختلاف بين الحضارات في حدّ ذاته ليس هو السبب في الصراع، وحيث إنّ السياقات الدولية هي التي تؤثر على بروز إحدى الحالتين على الأخرى وفقًا لطبيعة المرحلة التاريخيّة، ومن ثَمَّ هل يمكن أن تنتج حالة الفوضى العالمية الجديدة وضعاً مغايراً؟ وبالتالي هل يمكن القول إنّ الحوار هو السبيل أمام العالم للخروج من أزمته الحالية؟

في الواقع انقسم اتجاه النقاش حول أطروحات هانتنغتون بين ثلاثة: أكّد مقولات هانتنغتون، ورفض إمكانية الحوار انطلاقاً من حقائق اختلال توازنات القوى الدولية، وسياسات القوى الغربية تجاه الجنوب أو العالم الإسلامي، أو باعتبار أنّ أساس هذه السياسات هو الأبعاد الثقافيّة الحضاريّة، أي الصراع الحضاريّ من جانب الغرب تجاه عالم الإسلام والمسلمين، وبالتالي لن يكون الحوار سوى وسيلة لفرض الهيمنة الحضاريّة والثقافيّة، والثاني رفض مقولات هانتنغتون: إما رفضاً أن تكون العلاقة بين الحضارات وليس توازن القوى والمصالح هي المفسر الأساسي للعلاقات الدولية، انطلاقًا من رؤية واقعية للعلاقات الدولية ترفض تسييس الحضارات، وإما رفضاً لإلصاق التهمة بالإسلام والحضارة الإسلامية، باعتبارها مصادر للصراع والتصادم، وبالتالي دفاعاً عن الإسلام والمسلمين الذين يقبلون الآخر ولا يرفضونه، بل يتعاونون معه ومستعدون للحوار معه، وإما دفاعاً عن التعدديّة الثقافيّة والحوار بين الثقافات والحضارات باعتباره الأساس في العلاقات الدولية، انطلاقاً من رؤية إنسانيّة عالميّة، أو انطلاقاً من رؤية إسلاميّة تعترف بأهميّة الحوار، والتعارف الحضاريّ بين الأمم والشعوب، وكأساس من أسس الرسالة العالمية للإسلام، وليس مجرّد الدفاع والاعتذار عن الإسلام. والثالث رأى أنّ الحوار أو الصراع هي حالات للعلاقات بين الحضارات وفي حين رأى قسم من هذا الاتجاه أن الحالة الدولية الراهنة لا تسمح بحوار حضارات أو ثقافات حقيقي؛ بداعي اختلال ميزان القوى الدولي؛ بحيث لن يقود الحوار إلا إلى فرض نمط حضاري على الآخر، فإنّ قسماً آخر رأى أن الحوار ضروري للخروج بالعالم من أزمته الراهنة، إلا أنه لا بد أن تتوافر له الشروط لكي يحقق أهدافه الحقيقية ووفق ما يقتضيه مفهوم الحوار ذاته، أي باعتباره سبيلا للتفاهم المشترك وإزالة العوائق أمام العلاقات السليمة.

أما المدرسة القومية والمدرسة اليسارية، فإن اجتمعتا مع الإسلامية في الاعتراف بالمصادر الصراعية في السياسات الغربية التي تحول دون إمكانية حوار حقيقي، إلا أنهم يختلفون حول مدى تأثير الأبعاد الثقافية الحضارية بالمقارنة بصراعات المصالح أو القوى أو الهياكل. فلا يرى القوميون واليساريون الصراع بسبب الاختلاف الثقافي والحضاري أساسياً، ولكن يرجعونه إلى المشروعات الاستعماريّة والإمبرياليّة والهيمنة الثقافية والاستعلاء الغربيّ، في حين يعطي الإسلاميون وزناً أكبر للبُعد الثقافي، فيما تختلف الروافد الإسلامية من حيث إمكانية الحوار من عدمه، فيصل بالبعض القول إنّ حوار الحضارات يهدف إلى تنصير المسلمين انطلاقاً من رؤية المؤامرة على الإسلام، ويصل البعض الآخر إلى القول إنّ حوار الحضارات هو جهاد العصر بأساليبه الجديدة في مواجهة الصراع الحضاريّ من جانب الغرب.

ثانياً: ما بعد 11 أيلول

بعد 11 ايلول تجدّد السجال حول العلاقة بين الحضارات وتمَّ استدعاء مقولات هانتنغتون وأنصاره والمقولات المضادة له. ولكن بأطر أكثر صلافة عمّا كانت عليه في بداية التسعينات؛ إذ أصبح المسلمون متّهمون بعدما كانوا في وضع مصدر التهديد المحتمل، ففي حين رأى البعض في الهجمات على نيويورك وواشنطن دليلاً على "الغضب المسلم" ضد السياسات الغربية وقيمها، رأى البعض الآخر أنَّ الهجمات أتت في إطار صراع المصالح ودور الشبكات المتشعبة الإرهابية في العلاقات الدولية؛ ولهذا فإنّ السجال حول دور العلاقة بين الأبعاد الحضارية والثقافية، وبين الأبعاد الاستراتيجية في تفسير هذه الأحداث وما تلاها من تطوّرات في الخطابات الأميركية والسياسات الأميركيّة، قد اكتسب زخماً كبيراً، إذ برزت أسئلة كثيرة منها: هل الصراع الحضاريّ هو الذي يحكم العالم؟ وما هو مصدره؟ وما السبيل لمواجهته؟ وهل يمكن لحوار الحضارات أن يدير هذه المرحلة؟.

لقد استمرّ السجال والانقسام حول مدى تأثير الأبعاد الثقافية الحضارية مقارنة بغيرها، بموازاة إطار مكانيّ وزمانيّ محدّد مرتبط بالسياسة الأميركيّة الدوليّة وتجاه عالم الإسلام والمسلمين بعد الحادي عشر من أيلول، فعلى الرغم من تزايد الاعتراف بوضوح المفردات الثقافية والحضارية في الخطابات الأميركيّة الرسميّة وغير الرسميّة سواء الحوارية أو الصدامية منها، فقد ظلّ هناك اتّجاه يرفض التفسير الثقافيّ للعالم باعتباره لن يصل إلى نتيجة؛ نظراً لصعوبة تنازل الثقافات عن ثوابتها، ومن ثَم لا سبيل إلا للحوار بعد توافر شروطه. وفي المقابل اعترف اتّجاه آخر بأن السياسة الأميركيّة حالياً تكشف بوضوح عن صراع حضاريّ تجاه الإسلام والمسلمين، فيصبح معه الحديث عن الحوار من قبيل الاستسلام؛ لأنّ الحوار الذي سيدور سيكون بشروط الغرب، ووفق مفاهيمه، ونحو غاياته وهو "الإسلام المُعدّل"، ولأنّ السياسة الأمريكية توظف الأبعاد الثقافية لخدمة أغراض سياسيّة بالدرجة الأولى، في حين رأى اتّجاه ثالث أنّ الحوار أو الصراع الفكري ليس إلا أداة أو نوعاً من التكتيك لإدارة مرحلة الأزمة التي تحتدم فيها الصراعات حول المصالح، وارتبط بهذا الانقسام انقسام آخر جدّد ما سبق وثار حول أطروحات هانتنغتون، وهو الانقسام حول إمكانيات الحوار في مقابل الضغوط نحو الصراع في العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي والمسلمين.

إلا أنّ الحوار في ماذا؟ أو الصّراع في ماذا؟ وكيف؟ وفي الواقع تتنوّع القضايا التي يتمّ تناولها بالتحليل المقارن بين المنظورات المختلفة: وفي أوّلها قضايا العنف، حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية. ولكن ظلت أدبيات العلاقة بين الحضارات تفتقد الاهتمام ببرنامج حوار الحضارات المتنازع على مصداقيته وجدواه .وفي هذا الإطار يمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات:

1 - الاتجاه الليبرالي الذي تتلخص مقولاته كما يلي:

- العولمة تؤثر على شكل ومضمون واتجاهات الحوار، حيث إن الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان هي من صميم موضوعاته.

- إنّ الحوار بين حضارتين غير متكافئتين ماديّاً أمر ممكن وضروري؛ باعتباره وسيلة لخروج الحضارة المتخلفة من دائرة التخلف والدخول في عالم التقدم من خلال اقتباس العديد من القيم ومؤسسات وإنجازات الحضارة الأوروبية، ولن يمنع من هذا الاقتباس كلّ النقاشات في العالم العربي والإسلامي باسم الخصوصيّة الثقافية العربية والإسلامية، باعتبار أنّ قيم حقوق الإنسان أصبحت تعبّر عن حضارة عالمية إنسانية.

- في ظلّ إشكاليّات التعريف بالخاصيات الحضارية فإن هدف الحوار هو التوصل إلى الاتفاق على صياغة مجموعة متناسقة من القيم العالمية التي تأخذ في اعتبارها التنوّع الإنسانيّ الخلاق.

- كما ينبغي أن تسهم الحضارة العربية الإسلاميّة في صياغة الحلول للمشاكل العالمية وطرح تصوّراتها القيمية الإنسانية.

2 - الاتجاه اليساريّ يقترب من الموضوع اقتراباً مغايراً مفاده التالي:

- رفض أن يكون العالم وكأنّه في حالة صراع بين الأفكار والثقافات والمواقف؛ باعتبار أنّ حالة توازن القوى في ظلّ آليّات العولمة المادية والثقافية توفر للنظام الرأسماليّ هيمنة كبيرة وواضحة، الأمر الذي يجعل الثقافيّ والفكريّ مجرّد أداة، وليس واجهة للتعبير عن الواقع، ومن ثَم في ظلّ اختلال التوازن في القوى ليس ثمّة معنى للحوار على الصعيد الفكريّ والثقافيّ؛ لأنّ نظام القطب الواحد لا يجعل للحوار إلا قيمة رمزية.

- رفض النقاش على مستوى عالمي، ولكن حول جدول أعمال مختلف، ليس مجرّد مضمون الرسائل الأميركيّة أو الأوروبيّة حول أوضاعنا الثقافية… ولكن ينبغي طرح جدول أعمال في إطار حركة ممانعة ومقاومة لأمركة العالم، ذلك حول مسائل مثل: معايير العالمية المزدوجة، ورفض أولوية الحوار الثقافيّ والسياسيّ مع الشمال دون البدء بحوار جنوب جنوب، والتصدي لنزعات العنصرية والإقصاء والتهميش في القضايا الاجتماعية والمحلية دون تسمية أسبابها الحقيقية الصادرة عن النظام العالمي، الحوار الداخلي حول الحقوق الجماعية للشعوب في تقرير مصيرها وحقوقها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وموازنتها الضرورية مع حقوق الإنسان المدنية، والتفكير في برامج هجوم مضاد ضد العنصرية “الشمالية”.

3 – الاتجاه المتمثل في اقتراب المؤسسات الإسلامية الرسمية، وكذلك تيار من المفكرين الإسلاميين على اختلاف مواقفهم رفضاً أو قبولاً للحوار؛ بالنظر إلى اقترابهم من القضايا موضع الحوار أو الصراع يلاحظ أنّ مركز الاهتمام هي صورة الإسلام والشبهات التي يتعرّض لها، ومن ثَم استحضار ما يتصّل بطبيعة الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً وقيماً، وما يتصل بخصائص الحضارة الإسلامية بالمقارنة بنظيراتها الغربية، وما يتصل بالممارسات الإسلامية في التاريخ بالمقارنة بنظائرها الغربية تجاه أصحاب الديانات والثقافات الأخرى. وبعبارة أخرى، يتصدّى هذا الاتّجاه للأبعاد الثقافيّة الحضاريّة المباشرة، وفي قلبها الموقف من الإسلام. وهي الأبعاد التي تطرح السؤال التالي: هل هناك لدى الغرب أزمة معرفة بالإسلام يترتب عليها هذا النيل من الإسلام؟ أم هي نوايا مبيتة لإلصاق التهمة بثقافته وحضارته وبأهله، بزعم أنّ المسلمين يكرهون الغرب لاختلافه في الدين والحضارة..؟ أم أنّ الحقيقة تقع في منطقة أخرى، وهي عداء الغرب وعدوانيّته على الشرق، ثمّ على الإسلام تحديداً، والتي تمثل عقدة الإرث التاريخيّ المتبادل.

وفي المحصلة يمكن تميز ثلاث فئات حول الموقف من حوار الحضارات والأديان وجدواها كما يلي:

- الفئة المؤيدة للحوار والمؤمنة بجدواه تنطلق من ثابتة أنّ العولمة حقيقة قائمة، وإنّ هذا الواقع يفرض التعايش وليس الصراع، وأنّ على الجميع أن يقبل ويتقبّل هذا الواقع؛ وبدلاً من تضييع الوقت والجهد في إحباطات لن تجدي، ينبغي البحث عن أرضيّة مشتركة وعن قضايا تغذي الحوار وتساعد على ازدهاره ونجاحه. وحتّى يتحقق ذلك، ثمّة مسؤوليّة يتحمّلها طرفي الحوار الموعود. أمّا الغرب فعليه أن يغيّر من منحى سياساته الخارجيّة، وأن يتخلّى عن منطق التحرك الأحادي على السّاحة الدوليّة وأن يتحمّل مسئوليّته في تغيير الصورة السلبية عن الإسلام في الغرب، والتي تتحمل وسائل إعلامه جزءاً غير قليل من مسؤولية قيامها. أمّا الشرق فعليه أن يتخطّى دور المتلقي السلبي. وعلى الجانبين واجب أن يحملوا هؤلاء داخل مجتمعاتهم الذين لا يؤمنون بجدوى الحوار، على التوجه هذه الوجهة؛ وعليهما أن يبحثا عن أساليب جديدة غير تقليدية للحوار بين الحضارات ربّما أهمّها الوصول إلى المجتمعات وتقليص القنوات الرسمية للحوار مثل حوار الأديان.

- الفئة المشككة في جدوى الحوار، وتنطلق من أنّ موضوع الحوار برمته يعتبر موضوعاً إعلاميّاً إعلانيّاً بدأ تظهيره بشكل مفاجىء منذ التسعينات كردّ فعل على نظرية هانتنغتون لصراع الحضارات، وبالتالي لا يعتبر موضوعاً أصيلاً ذا جدوى حقيقية. كما أنّ هذه الفئة لا زالت تسوق الحجج المعتاد عليها. فأولاً تؤكّد أنّه لا يمكن أن يكون الحوار بين الحضارات مجدياً في ظلّ غياب التكافؤ بين أطراف الحوار. فانعدام توازن القوى لا بدّ أن يفضي إلى وضع يملي فيه أحد الأطراف ما يريد، ويبادر بالفعل، في حين يرضخ الطرف الآخر ويقوم فقط برد الفعل على المبادرة. ودليل ذلك لديها أنّ الغرب يضع برامج الحوار ويحدّد قضاياه وعادة ما تدور حول قضايا الحريّات والحقوق الفرديّة، وبخاصّة حقوق المرأة، التعدديّة وضرورة احترامها، حريّة الرأي والتعبير، عالميّة حقوق الإنسان، التفسيرات الجامدة للشريعة الإسلاميّة، وهي قضايا تهمُّ الغرب مباشرة وتستهدف صياغة الشرق على الشاكلة التي يريدها الغرب تحت حجة معالجة جذور الإرهاب الذي يهدّد الحضارة الغربية، في حين أنّ المعنى الحقيقي لقيمة التسامح وهي الأفكار التي يروّج لها الغرب هي احترام حقّ الآخر في الاختلاف. كما ترى هذه الفئة المتشككة والرافضة أنّ حوار الحضارات لا يعدّ سوى واجهة تخفي وراءها صراع المصالح. ومن هنا هم غير متفائلين حتّى بالدعوة إلى الحوار والتفاهم والقبول بالتنوّع، والتي تأتي من بعض مفكّري الغرب، باعتبارها دعوة لا يمكن أن تنتج، في رأيهم، على المستوى الرسمي لأنّ هوى الإدارات الرسمية هو مع الصراع الذي من خلاله تفرض مصالحها من خلال منطق القوة وليس الحوار. كما تؤكّد هذه الفئة أن مجرّد الدعوة إلى الحوار التي تأتي من الغرب لا يمكن أن تنال ثقة الشرق في ظلّ السياسات الغربية التي تساند الظلم الواقع على الفلسطينيين والعراقيين إما بالمشاركة الفعلية أو بالصمت.

- الفئة الثالثة بين فئتي المدافعين والمشككين، التي ترى أنّ الطرح العربي الإسلامي لموضوع حوار الحضارات هو طرح قديم وهو الطرح الأصيل؛ لأنّه يبدأ من المصدر الأساسي وهو القرآن والسنة، وهو أساس من الأسس الإسلامية الأولى في التعامل مع الشعوب الأخرى انطلاقاً من مبدأ الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية؛ وفي المقابل فإنّ اليهودية ترفض أصلاً أيّ طرح للحوار سواء على مستوى الأديان أو الحضارات، كما أنّ الطرح الغربي الراهن ليس إلا طرحاً سياسياً لتحقيق أهداف سياسية، ومن ثَم فإنّ الطرح الإسلامي الراهن لحوار الحضارات ليس إلا رد فعل، بل طرح مفروض فرضاً من الغرب على الشرق عموماً وعلى العالم الإسلامي والعربي خصوصاً. وهذا الطرح الغربي، وهو تسييس للحضارات، هو أسوأ ما حدث للحضارات وللعلاقات بينها، حيث يجعلها موضوعاً وسبباً للحرب والصراع، في حين أنّ الطرح الأصيل لحوار الحضارات هو الطرح الإسلاميّ منذ بدايته مع الرسالة. ولهذا ينبغي وفق هذه الفئة الوعي للعلاقة بين السياسي والثقافي التي تتنامى في الاستراتيجية الأميركيّة بصفة خاصّة والغربية بصفة عامة تجاه العالم العربي والإسلامي في المرحلة الراهنة من تطور النظام الدولي.

ويتّصل بالسجال حول جدوى الحوار من عدمه السجال حول قضيتين بالغتي الأهمية: نظرية المؤامرة والنقد الذاتي. فيرعى البعض في نظرية المؤامرة، وهي غالباً الفئة المشككة في جدوى الحوار أنّ التمسّك بها أمر هام، فهي تفتح الأعين على ما حيك في الماضي، ومن ثَم هي عون على إدراك ما يحاك في الحاضر وما سيحاك في المستقبل. أمّا البعض الآخر: فيرفض تماماً تعليق كلّ الإخفاقات على شماعة نظريّة المؤامرة، ويرى أنّ التخلف والتبعية تعودان لعدم السير في طريق العقل والعلم والحرية والعدالة التي سار فيها الغرب فتقدّم بعد طول تخلّف. ويستطرد هذا الفريق ليؤكد أنّ الإيمان بنظرية المؤامرة يرافقه عادة رغبة مرضيّة في تنزيه الذات. فالتأكيد دوماً على أنّنا كنّا حضارة تعرف الحوار وتنفتح على الآخر فيه قدر غير قليل من التجاوز والمبالغة، فالشرق مارس هو أيضاً المدّ والسيطرة والهيمنة والصراع عندما كان له اليد العليا.

وفي مقابل نظرية المؤامرة تظهر نظرية النقد الذاتيّ التي تستند بالعودة لظاهرة الحوار الحضاري بالرجوع إلى الجذور الفكرية للخطابات العربية المتنوعة في عصر النهضة، وإلى إشكاليات وقضايا التفاعل بين التيارات الإسلامية والليبرالية واليسارية العربية ومواقفها من الغرب. وتقوم هذه النظرية على تحديد أسس هذه التيارات الفكرية عند بدايتها ومتابعة تطورها وتقييمه.

وإذا كانت نظرية المؤامرة تواجه حججاً ومبرّرات ناقدة أو رافضة لمنطلقاتها في رفض حوار الحضارات، فإنّ نظرية النقد الذاتي ذات التوجه الليبرالي تثير بدورها حججاً ومبرّرات ناقدة لمنطلقاتها نحو تحديد أهداف الحوار وغاياته وآليّاته. ومن ثَم تبرز الأسئلة مجدداً؛ ومنها: هل ننقد أنفسنا قرباً أم بعداً عن الحداثة أم عن نموذجنا الحضاري؟ وهل الحوار في نظر التيار الليبرالي هو سبيل آخر للنقل عن الغرب من جديد؟ هل نحتاج لنقد الذات من منطلقات ليبراليّة فقط أم نحتاج أيضاً للدفاع عن المرجعيّة الإسلاميّة التي أضحت تتعرّض لهجوم واسع النطاق؟ ففضلاً عن الحاجة إلى نقد الذات فنحن أيضاً في حاجة إلى اجتهاد فكريّ معاصر قويّ وفاعل؛ لأنّ الإسلام، وإن كان يتضمّن تنظيرات ورؤى حول وحدة الإنسانية والاستخلاف والعمران والتوازن في الكون وغيرها، إلا أنّ الممارسات في تاريخ المسلمين وواقع المسلمين تثير أكثر من علامة استفهام حول الفجوة بين الأصل وبين الواقع مرورا بخبرة التاريخ. ناهيك عن الحاجة للدفاع عن الأصول ذاتها وضد ما تواجهه من هجوم عليها وليس على المسلمين فقط.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=6975

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك