حوار الحضارات تواصل لا صراع

د.سهيل زكّار
ويلاحظ من حيث المبدأ، أنّ الأطروحات الجديدة ظهرت في الولايات المتحدة الأميركية، ومنها انتشرت؛ فكما تفرّدت الولايات المتّحدة، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، بالقوّة العسكريّة، أرادت أن تتفرّد بفلسفة الحياة المستقبليّة، وأن تفرض ذلك بالقوة، مع شيء كبير من الرعونة والصّلف، والسلوكيّات غير العقلانيّة، التي ترفض البحث في جذور القضايا وبواعثها، وذلك على العكس تماماً من فلسفات تاريخ الوقائع المتنوّعة، ومدارس التعليل التاريخيّ.
فالتاريخ هنا انتهى، وبدأ مع النصر الأميركيّ بداية حياتيّة جديدة؛ فالدولة الأميركيّة ليست على استعداد لفهم جذور المشاكل وأسبابها، بل تنطلق من الواقع الجديد، وتريد فرضه بالقوّة، ومن ذلك مثلاً هي تعترف بإسرائيل، التي قامت على الإرهاب والسرقة والزّيف والطغيان، ولا تعترف بجهاد الشّعب العربيّ بفلسطين، فهذا ما يتواءم معها، لأنّها إذا ما اعترفت بالتاريخ، لا بدّ إذاً من إدانتها وإدانة وجودها وشرعيّتها، فهي قامت على ذبح سكّان أمريكا الأصليين، وكان آخرهم شعب الشيروكي، الذي أباده الأميركيّون إبادة شاملة بحجة أنّ الحقّ بالبقاء للأقوى، والأقوى هو الأجدر بالحياة، وهو المتملّك بموجب قانون الحرب والإبادة شرعيّة العيش الجديد، بصرف النّظر عن كون حروبه ظالمة أو غير شرعية، فهنا غير مطلوب من الماضي أكثر من الماضي؛ ذلك أنّ التاريخ قد انتهى، وقامت القيامة وانتهت الشرائع والتّجارب الإنسانيّة والقوانين، والولايات المتحدة وحدها هي الشرعية، ومن لا يقف منصاعاً إلى جانبها خارج على الشرعية يتوجب قتله وسحقه كليّاً، وإنزال أقسى العقوبات به.
وصدوراً عن هذا الواقع الصراعيّ المؤلم، صدر الحديث عن صراع الحضارات، أو بالأحرى صراع الديانات، وبشكل أكثر تحديداً الصراع مع الإسلام، فهي على هذا نزعة عدوانيّة صليبيّة جديدة؛ ولأسباب حضاريّة حقيقيّة إسلاميّة، ولأنّ الإسلام هو دين السّلام، جاء إلى البشريّة جمعياً، واستهدف إزالة كلّ ظلم وكلّ عدوان، وسعى – وما برح يسعى - نحو سعادة بني البشر، في ظلّ وحدانيّة لا تعرف الشوائب، ولأنّه الدين والنظام الصالح لكلّ زمان ومكان، ولأنّ المسلمين يمتلكون تجربة حضاريّة حقيقيّة هي الأقدم والأكثر إشراقاً وأصالة، قال المسلمون: نحن لا نؤمن بصراع الحضارات، ولا بصراع بين الديانات والنّظم، بل نؤمن بطريق الإقناع والهداية، مع أخلاقيّة القانون، ولا نأخذ بالإكراه، بل نعتمد الحوار والمحبّة، وأنّ البشر أخوة كلّهم لآدم، والمفاضلة في ما بينهم بالتقوى. ومن هذه المنطلقات عقدت عدّة ندوات محليّة وعالميّة، كان الأهمّ بينها على الصعيد العربي ندوة جامعة الدول العربية، في القاهرة في ما بين ٢٦ و٢٧ تشرين الثاني المنصرم.
ودعا إلى هذه الندوة الأستاذ عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية، وجاء ذلك نتيجة تحضيرات جيّدة، وكان عدد الذين لبّوا الدّعوة وحضروا خمسة وسبعين من أبرز رجال الفكر والسّاسة العرب، ثلثيهم تقريباً من مصر، من العاملين في السلك الدبلوماسي؛ وقيل منهم من الجامعيين؛ كما كان هناك بعض الصحافيين البارزين، وعلى رأس السياسيين الذين شاركوا، الأمير الحسن بن طلال، والدكتور غسان سلامة وزير الثقافة اللبناني، ولذلك تسلم سدة الإدارة: الأستاذ عمرو موسى مع الأمير الأردني، والوزير اللبناني. وعلى الرّغم من أهميّة اختصاص التاريخ بالنسبة لموضوع الحضارة، اقتصر التمثيل التاريخي عليّ وعلى الدكتور يونان لبيب رزق، الذي يعدّ بين أبرز المؤرّخين المصريين المعاصرين.
وحدّدت اختصاصات الحضور توجّهات المؤتمر، فهو استهدف معالجة ظاهرة معاصرة دون الاهتمام بالجذور التاريخيّة، على أساس أنّ مكانة الحضارة العربيّة تاريخيّاً معروفة؛ وفي الحقيقة كانت هذه ثغرة، ونقطة ضعف؛ ذلك أنّ من الأسباب المباشرة للدّعوة لعقد الندوة، هو الهجوم الصليبيّ الذي شنّه رئيس وزراء إيطاليا على الإسلام والمسلمين والحضارة الإسلامية، مع أنّه لولا العرب لكان تاريخ روما القديم مجرّد أعمال عسكرية وسفك للدماء؛ فأهمّ آثار روما الرائعة جاءت من بناء المعمار الدمشقيّ «أولودور»، والأسرة الحمصيّة هي التي جعلت العاصي يصبّ بالتيبر. وبعد سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة، ولدت المؤسّسة البابويّة نتيجة لدعوة قامت في الجليل من أرض الشام، وكان بطرس نفسه جليليّاً، وكان بولص سورياً من طرسوس، أمضى شطراً كبيراً من حياته في الشّام الجنوبيّ. وفي العصور الوسطى، لا يمكن التنكّر لدور العرب في صقلية وجنوب إيطاليا، ولولا المعري وقبله قصّة المعراج، لما كتب دانتي "الجحيم"، وهذا حديث طويل، من الضروري تبيانه، لأنّه لولا جهود العرب قديماً ووسطيّاً، لما تمكّن الغرب من التفوّق الحضاريّ المعاصر.
وأضيف هنا سبباً آخر هو أكثر شهرة، أي ما شهدته الولايات المتحدة في ١١ أيلول المنصرم، وعُزي إلى تنظيمات إسلاميّة. ومع أنّني لم أقتنع بأنّ تنظيم ابن لادن هو الذي نفّذ جريمة قتل عدّة آلاف الأبرياء، وأنّ التاريخ سوف يظهر في المستقبل، أنّ الذي خطط لانقلاب باكستان، وأوجد بالأصل تنظيم ابن لادن ودولة طالبان، هو الذي اقترف جريمة نيويورك وغيرها، وقتل الآلاف حتّى يجد المسوّغ لمهاجمة أفغانستان، ولجعل العالم كلّه يرضخ خوفاً من جبروت القوّة المدمّرة. وهنا لا بد من توجيه الاتّهام إلى الصهيونيّة العالميّة، لأنّها المستفيد الأوّل من كلّ الذي حدث، والشّاهد على هذا ما حدث لعرفات ولسلطته، وما تسعى إليه الهند بالنسبة لقضية كشمير، وذلك بالتّعاون مع إسرائيل.
وعلى هذا أعتقد أنّ معالجة مسألة حوار الحضارات هي من اختصاص المؤرّخ بالدرجة الأولى. ولكن على العموم، تشكّل النّدوة التي شهدتها الجامعة العربيّة، مبادرة مهمّّة جدّاً، وتشكّل نقلة نوعيّة بالنسبة لاهتمامات هذه الجامعة، فهي المرّة الأولى التي يجري فيها بحث مسألة حضاريّة في إحدى قاعاتها؛ ولاحظت على العموم أنّ التوجّهات لم تكن معادية للإسلام، بل استهدفت الحديث عن إسلام حقيقيّ، لكن بما أنّ صورة هذا الإسلام أبتغي تقديمها لإرضاء الغرب وليس إرضاء الحقيقة، كانت هناك أفكار لا تتواءم مع الإسلام، ذلك أنّ التسويات وأعمال التّرضية تأتي على شكل صفقات، وعمليّة الصفقات مرفوضة بالنسبة للعقيدة؛ فالرسول المصطفى (ص) قد أعلن أنّ قريشاً لو وضعت الشمس في يمينه والقمر في شماله، ما تزحزح عن الذي كلّفه الله تعالى به، وكان بلال يردّد، وهو تحت العذاب الشّديد: أحد، أحد...
وكنت أثناء التحضير للندوة موجوداً في صنعاء، غير عارف بأخبار التحضيرات هذه، وقد أُبلغت أن عليّ السّفر إلى القاهرة، والمشاركة بالندوة، وبالفعل سافرت، وكنت في القاهرة يوم ٢٥ / ١ / ٢٠٠١، أي قبل يوم واحد من عقد الندوة، ولم يكن أحدٌ من المشاركين السوريين قد وصل، لذلك قمت بزيارة الصديق الدكتور زكريا إسماعيل، الأمين المساعد لجامعة الدول العربية، لتقديم التحيّات إليه، ولتكوين فكرة أوليّة عن المؤتمر، ومنه علمت أنّ عدد المشاركين كبير جداً، وأنه لن يتاح لأحد الحديث لمدّة تزيد على خمس دقائق، وبناء عليه أعددت على عجل المداخلة التالية:
للوطن العربي موقع متميّز، منحه الله تعالى لخير أمة أخرجت للنّاس، واجتمع لدى العرب عبر العصور عبقريّة الإنسان مع أهميّة المكان، فكان أن أبدع العرب حضارة هي أساسات الحضارات البشريّة، وأعظمها تأثيراً، فمن حضارة مصر الخالدة - إلى شريعة حمورابي، إلى أبجديّة أوغاريت، إلى تأسيس مدن حوض البحر المتوسط، إلى الفلسفات والنظم، ورسائل الأنبياء عليهم السلام، إلى رسالة الإسلام العظيم، التي مكنت العرب من الوحدة، ومن نشر الإسلام، ومن إقامة الحضارة العربية التي قادت العالم لمدة أكثر من ألف سنة، وحيث إنّ جامعة الدول العربية هي الآن المرجعية الوحيدة الممثلة للأمة العربية، بودي في هذا اللقاء الكريم تبيان واقتراح ما يلي:
أنا شخصياً لا أقبل بالسلوك بناء على ردات الفعل تجاه أعمال أو أفكار الآخرين، بل آخذ بالعمل الأصيل الصادر عن الحاجة، فردّات الفعل غالباً ما تكون انفعاليّة آنيّة توقع الإنسان بشباك المثير؛ هذا من جانب، ومن جانب آخر، لنتذكّر تاريخيّاً كيف تكوّنت الصورة المعادية للإسلام والعرب في الغرب الأوروبيّ: المسألة مرتبطة بالفتوحات الكبرى، وفتح الأندلس، وجزر البحر المتوسط، وفتح بروفانس في فرنسا وكثير من بلدان سويسرا، ثمّ الانكفاء في معركة بواتيه (بلاط الشهداء)، ثمّ بقيام حروب الاستغلاب في الأندلس (الاسترداد) والحروب الصليبيّة، مع أصداء كلّ من معركتي منازكرد والزلاقة، وخير من عبّر عن الموقف الأوروبي آنذاك «نشيد رولاند».
وازدادت صورة الحقد على العرب والمسلمين خلال قرني الحروب الصليبية قسوة، ومرّة أخرى شعرت أوروبا بخطر الإسلام على أعمال التوسّع العثمانية حتى فيينا، ثمّ جاء عصر الاستشراق والتبشير وصولاً حتّى العصر الحديث وظهور الأصوليّات وأعمالها، إلى أن كانت أحداث ١١ سبتمبر الماضية.
وبناء عليه، ليس من السهل مطلقاً التغلب على تراكمات هذا الميراث، مع النشاط الصهيوني الحالي، ومع ذلك لابد من المحاولة الجادة والعمل العلمي، والذي أقترحه:
١ - القيام بالتعريف بالإسلام، وبمعطيات الحضارة العربيّة، وبالدور التاريخيّ العربيّ الصحيح، وبرغبات الحاضر بالسلام والتواصل الحضاريّ مع التطلعات المستقبليّة: بمحاضرات، ونشرات، ودراسات، وحلقات تلفزيونيّة وثائقيّة بالعربيّة لصالح المواطن العربي أولاً، لبعث روح النضال في سبيل تحقيق الوحدة العربية، وباللغات الأخرى، مثل الإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والأسبانية، ولغات العالم الإسلامي، وشعوب آسيا وأفريقيا، لأنّه على الرّغم من أهمية الغرب، لكنّه ليس العالم كلّه.
٢ - إنشاء مؤسسة تابعة لجامعة الدول العربية تتولى مهام التعريف بالحضارة العربية وبالتاريخ العربي، أتمنى أن يكون مركزها دمشق، وأن يكون لها فروع في جميع الدول العربية.
٣ - أن يكون هناك تعاون فعّال ما بين هذه المؤسّسة، ووزارات الثقافة والإعلام والجامعات في الوطن العربي، وكذلك مع الهيئات الثقافية في العالم أجمع، مع الإفادة إلى أبعد الحدود من جهود الجاليات العربيّة في الغرب الأوروبي، وفي الأميركيتين، لا بل في مختلف أرجاء العالم.
٤ - أن يجري تبنّي خطّة عمل طموحة مع برنامج مرحليّ لكل خمس سنوات.
٥ - أن تقترح جامعة الدول العربية على وزارات الخارجية العربية الإكثار من الإفادة من المختصين في التاريخ في بعثاتها في الخارج بعد إخضاعهم لدورات خاصة.
٦ - أن تبقى قضية الصراع مع الصهيونية حاضرة دائماً، مع تبيان أنّ الأمة العربية تريد السلام ولا تريد الانتقام، فالفرنجة حين احتلوا القدس سنة ١٠٩٩م، أبادوا سكّانها جميعاً، وحين حرّرها صلاح الدين سنة ١١٨٧م، حرّرها من دون سفك للدماء، وعامل الفرنجة معاملة إنسانية مثلت روح العربية والإسلام.
وإني بحكم انتمائي إلى جامعة دمشق، ولكوني نائباً لرئيس اتّحاد المؤرّخين العرب في القاهرة، وعضواً مؤسّساً لاتحاد الأثريين العرب، يجوز لي أن أعلن أن هذه المؤسّسات على استعداد لبذل جهودها كلّها في سبيل غايات هذا الملتقى النبيل.
المصدر: موقع آذرشب