بين حوار الأديان و حوار الحضارات

 

أ. أحمد عبد الله

 

 

يعدُّ مفهوم "حوار الأديان" مفهوماً قد، ربما قدم الأديان نفسها، ولكنه اكتسب زخماً أكبر فـي العقود الأخيرة، وبخاصة بعد الدمار الذي حاق بأوروبا فـي الحرب العالمية الثانية، ثم الصراع بين القطبين: أمريكا والاتحاد السوفـياتي.

 

أما "حوار الحضارات" فهو جديد نسبياً، وربما جاء الاهتمام الواسع به فـي عقد التسعينيات رداً على أطروحة "صامويل هنتنغتون" "صدام الحضارات" وما أثارته من جدل.

والسطور التالية تستند إلى خبرة كاتبها فـي ميدان حوار الأديان ثقافـياً واجتماعياً عبر عقد أو يزيد، فمع بداية التسعينات أتيحت له فرصة الالتقاء والاتصال بالعديد من الأكاديميين والناشطين فـي هذا الحقل، والمشاركة فـي العديد من لقاءات ومؤتمرات الحوار محلياً ودولياً.

والورقة تستكشف آفاق ما يجري من حوارات على الأرضية الدينية، وتستشرف إمكانية التواصل ومواضعه بين هذه الأرضية، وجهود حوار الحضارات المتزايدة، وبخاصة فـي أعقاب هجمات سبتمبر الماضي وتداعياتها...

ثمّة تردّد شديد - وبخاصّة فـي صفوف المسلمين - وتحفظات كثيرة بشأن الاهتمام بحوار الأديان، والدخول فـي أنشطته ودوائره، وأغلب التحفظات مبنية على أساس إدراك يحتاج إلى إعادة نظر فـي حد ذاته.

فهم ينظرون إلى الغربيين مثلاً بوصفهم "أهل الكتاب" الذين تحدث القرآن فـي مواضع عن عداوتهم للمسلمين، وبأنّ الحوار معهم لا طائل من وراءه، وأن الإسلام بوصفه الدين الحق لا يحتاج إلى الحوار مع أهل الباطل إلا إذا اعترفوا به، وسلموا له… إلخ.

وهذا منطق خاطئ، وإدراك معيب أصلاً يتجاهل آيات قرآنية تدعو للجدل بالحسنى، ويسقط التاريخ من حساباته فـيتخبط فـي رؤية الواقع، ويتسرع فـي إصدار أحكام على أسس خاطئة.

ففـي التطور التاريخي الغربي تخلصت أوروبا من سلطان الكنيسة الدنيويّ/الزمانيّ، وفصلت بين الكنيسة والدولة، وتدريجياً تخلصت من سلطان الكنيسة الديني نفسه، فذهبت تبحث عن عقيدة ودين خارج أسوار الكنيسة التي رأتها عالية، ومن خارج عباءة القساوسة التي رأتها ضيقة.

أديان الكنائس لا يعتنقها اليوم أغلب الناس، فضلاً عن انتشار الفرق والطوائف، والانقسامات التي تقيم كلّ واحدة لنفسها كنيستها الخاصّة بها، أو لا تقيم كنيسة من الأساس، وهناك حركة هجرة وعزوف عن التيارات الكنسية الأساسية تاريخياً إلى أفكار ومعتقدات بعضها يتضمن تركيباً من عقائد تنتمي إلى أديان مختلفة، وقد تسمع عن جماعات دينية تبحث عن حنيفـية إبراهيم، أو عقيدة نوح أو غير ذلك.

هناك حركة دائبة للبحث والمراجعة والتقليب والنقاش ترتكز على أهمية مبدئية للدين، ولكنها تضرب فـي كل اتجاه بحثاً عن الحق، وفـي الوقت نفسه يصر العديد من المسلمين على إدراك ناقص مشوه لكثير من أفكار ودوائر الحوار بوصفها وجه من وجوه المؤامرة التي تستهدف الإسلام… إلخ، ونتعامل معها بكثير من القوالب اللفظية التي تعودنا على قراءتها وسماعها من قبيل الاختراق والدسائس.

بينما الدين بالمفهوم الذي نعرفه ونعيشه ذهب من حياة ملايين البشر حول العالم، وهم اليوم يبحثون عن روحانية قد تتجلى فـي الفنون، أو علوم النفس، أو الغيبيات، ويبحثون عن طقوس عبادية تريحهم من عناء المادية القاسية التي تسحقهم سحقاً، ويبحثون عن اجتماع مع آخرين على حدود معقولة من القيم والمعالم الأخلاقية والسلوكية، والترابط الأسري والاجتماعي، وهذا كله يجد تعبيراته السياسية فـي المجتمعات التي تنتخب ممثليها، وتصنع فـيها الناس برامج أحزابها.

وكثير من المسلمين لا يرى الصورة بمجملها، ولكنه قد يرى موقفاً أخلاقياً محافظاً - من قضية بعينها - يتبناه فريق أو تقول به جماعة ضغط معينة فـيحسب أنّ هؤلاء أقرب لموقف الإسلام والمسلمين على طول الخطّ، والأمر أعقد من هذا بكثير، ولكن أغلبنا لا يعلم هذا.

ونرى أنه لكي تنصلح الصورة وتتضح الرؤية فإنه من الأفضل أن نضع "حوار الأديان" اليوم فـي سياقه الأنسب الذي يبدو الأكثر تعبيراً عن طبيعته ألا وهو "حوار الحضارات"، ولكن لكي يكون حوار الأديان حواراً للحضارات لا بد فـي تقديرنا من نقلات أساسية لازمة نوجز بعضها فـيما يأتي:

[١] من حوار الأنا والآخر إلى حوار الذات ومنازلها:

أطروحة الأنا / الذات، والآخر / المختلف تفرض ثباتاً حيث لا ثبات، واستدعت عبوة من المفاهيم والتوابع ظلت تنسب الشر إلى جهة متحيزة، ورسمت له - ومن ثمّ للخير - صورة بدائية بسيطة، و من ثمّ فالذات أحياناً تكون بريئة كالحمل، وضحية لمؤامرة من الآخر "منبع الشرور" و"مستودع الآثام"، وأحياناً تكون الذات كالذئب الضاري الذي ينبغي أن نطارده لنشبعه ضرباً وجلداً، وفـي الحقيقة أن مفهوم الخير والشر أعمق من هذا وأكثر تركيباً، وعليه فإننا نعتقد أن الفصل المتوهم بين "أنا" ثابتة محددة متبلورة، و"آخر" له الثبات والتحديد والتبلور نفسه، نحسبه فصلاً متعسفاً جر معه بقية "العبوة" الخطأ مثل: القبول والتسامح… إلخ، بينما الإسلام طرح فهماً أرقى وأعمق عن شك مستمر فـي الذات - رغم الاجتهاد فـي تحري الحق - وشك مستمر فـي المصير والخاتمة، والباطن والتقوى، لاليتحول الأمر إلى حالة من الوسواس القاهر المتسلط، ولكن لنرى الذات منزلة من منازل الآخر، ونرى الآخر منزلة من منازل الذات فـي دورة واحدة دائمة ودائبة لا تتوقف، ولا تنفصل فـيها منزلة عن منزلة إلا إلى حين، فالشر كامن فـي النفس، وفـي كل نفس، ويحتاج إلى عون لمحاربته. وفـي إطار نفس التصور يمكن أن نرى "الهوية" كحالة متحركة دينامية لا تكف عن التشكل والتبلور، والتداخل والتشابك، والانكماش والتمدد الداخلي، وهذا مخالف للهوية كمادة صلبة تتراكم طبقاتها أو تنكسر تحت الضغوط.

الهوية كائن حي ينمو ويتنفس، ويكتسب خبرة وثراءً بالتفاعل والتنوع، ويختنق بالعتمة والقيود، والانغلاق والتضييق، ولو كانت كلها مبررات حسنة النية، وتدابير حماية.

ولقد تجدد إيماننا، ورأينا نعمة الله علينا حين أدركنا بوضوح أعمق حكم هذا الدين وأسراره، ولم يكن ممكناً هذا من دون أسئلة وتعليقات سمعناها من آخرين يرون فـي الإسلام ما لا نراه من واقع خبرات إنسانية وثقافـية وحضارية مختلفة، وكذلك فقد فهمنا سنة الله فـي الاختلاف بين البشر، وكيف يتكامل هذا الاختلاف ويتدافع رأي العين.

[٢] من اللاهوتي إلى الواقعي:

هناك لكل اعتقاد أصول إيمانية وفلسفـية يتجاوز أغلبها النقاش العقلي بالمنطق المادي، ولكل اعتقاد تجلياته فـي السلوك والحياة عامة، والحوار الفعال هو الذي يستطيع التجريد لما يمكن البناء عليه من أصول إيمانية انطلاقاً إلى إدارة أفضل لحياة الناس على مختلف مشاربهم، وهنا تكمن إضافة الدين إلى الحياة، وواقع الناس، وبخاصة ما يجمعهم وينفعهم.

ولقد رأينا العديد من الجهود تحاول طرح مسائل الاعتقاد للنقاش والمقارنة، وهذا شأن المهتمين والمتخصصين "فـي أحسن الأحوال"، ولن يصل إلا إلى فهم أوضح لحجج كل طرف، والأهم من ذلك فهم تجليات هذا الإيمان، والعطاء الذي يمكن الحصول عليه وتعظيمه واستثماره لمصلحة صاحب الاعتقاد، ومن حوله، والناس جميعاً.

وهذا لا يتنافى مع أنّ كلّ صاحب إيمان محتاج إلى مراجعة مستمرة، وتأمل دائب فـيما هو عليه، ومن دون هذه المراجعة يصدأ الإيمان، ويتآكل ويضعف، وبدوام هذا التأمل يتجدد الإيمان ويصقل، ويترسخ فـي النفس مستعصياً على أنواع الفتن.

[٣] من النخبويـة إلى القاعـدية:

دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية دور النخب إلا أن الدخول بالحوار فـي قطاعات أخرى، ومستويات متعددة أصبح ضرورة لازمة لخلق حالة حوارية عامة تستلزم عقلية منفتحة ناقدة مرنة متفاعلة تتجاوز أساليب التلقين والترديد الشائعة فـي تلقي العلم، وتداول المعرفة فـي مجتمعاتنا.

والحوار القاعدي يتضمن الفعل المشترك اليومي، والتعاون على البر والتقوى، وتحسين ظروف العيش، وحل المشكلات الواقعية، ونمو التعارف والتواصل العميق الذي يحترم التنوع ويستثمره لمصلحة الجماعة الوطنية بدلاً من أن يكون هذا التنوع سبباً ومقدمة للشقاق، والحرب الأهلية.

الانتقال إلى القواعد يعني الانتقال من الطابع الاحتفالي لحوارات الأديان إلى إ يقاع يومي نشيط.

ومن أهم مفاصل نقل حركة الحوار من النخب إلى قطاعات الناس يبرز "عالم الدين" بوصفه جسراً بين ثقافة النخب الناشطة، وحركة الناس النابضة بالحياة، ومن الخطأ أن نظن أن تيار الروح والمعرفة والتجديد يسير فـي اتجاه واحد فقط فوق هذا الجسر.

"ثقافة الداعية" سؤال كبير فـي هذه المرحلة لأنه لا يكفـي أن يعلم الناس شؤون دينهم، بل ينبغي أن يستوعب بعمق شؤون دنياهم، ويكون نافذة لهم على العالم، كما يكون باباً من أبوابهم إلى العلم.

[٤] حوار الأديان الإبراهيمية:

لا بد من اقتحام مسألة "اليهود" والوصول إلى رؤية واضحة بشأن إدارة الحوارات التي هم فـيها، فاليهود جماعات مختلفة وناشطة فـي مجالات الحياة المختلفة، والدين اليهودي له أتباع فـي كل الأقطار تقريباً، فهل يطلَبُ من كل يهودي أن يعادي دولة إسرائيل حتى نقبل بالحوار معه ضمن حوارات الأديان فـي العالم؟

وماذا عن اليهود الذين يرفضون دولة إسرائيل فعلاً، وبعضهم يعيش فـيها، وبعضهم خارجها؟

هل نقبل مثلاً بالحوار مادام اليهود كانوا مجرد جزء منه، ولا نقبل به إذا كانوا هم الطرف الوحيد فـيه؟

هل هناك تمييز فـي الموقف من طوائف اليهود المختلفة: أصوليون - تجديديون - قراءون… إلخ؟ أم أن الكل واحد بالنسبة لقبول الحوار معهم أو رفضه؟

و"رفض الحوار" هل يعني الانسحاب من كل المحافل التي يحضرها يهود أم يعني ترك مهمة الحضور فـي هذه المحافل "لفئة محددة"، ومن تكون هذه الفئة؟

إن حوار الأديان الإبراهيمية هو دائرة من الدوائر، ونشاط العرب والمسلمين فـيها يتوقف على الإجابة على مثل هذه التساؤلات سالفة الذكر، وأمثالها.

[٥] من حوار الكتل الحضارية إلى حوار القيم الحضارية:

تفترض مقولة "حوار الحضارات" تجانساً وهمياً داخل كل حضارة من الحضارات التي صنفها "هنتنجتون"، وإذا نظرنا داخل الحضارة الإسلامية - مثلاً - ومجالها الجغرافـي والسكاني فسنجد أعداداً ليست بالقليلة تنتمي أكثر إلى الحضارة المادية والاستهلاك، وفـي قلب الحضارة الغربية أعداد غفـيرة ترفض منطق القوة والمادة، وأولوية اللذة العاجلة وغيرها من توجهات التيارات الأساسية لتلك الحضارة، وقد بدت المفارقة مدهشة حين خرجت فـي أمريكا مظاهرات ضد الحملة الأمريكية على أفغانستان، وجمهور هذه المظاهرات من نخب المواطنين الناشطين فـي حركات حقوق الإنسان ومناهضة العولمة، ومن أنصار الحريات المدنية، فـي حين خلت هذه المظاهرات تقريباً من حشود العرب والمسلمين أول المتضررين من تصرفات الإدارة الأمريكية فـي أعقاب هجمات سبتمبر، بل إن بعض المنظمات التي تمثل المسلمين هناك أيدت موقف إدارة الرئيس "بوش" وحملته - على الأقل فـي بدايتها - دون تحفظات تذكر.

ونحن هنا نرى التصنيف الحضاري ينبغي أن يكون على أساس القيم الحاكمة للتصور، والانحياز العملي ومن ثمّ، فالذين رفضوا منطق الانتقام، وحل النزاعات بالقوة المسلحة، والهجوم العسكري دون أدلة هم طرف واحد رغم انتمائهم لدوائر جغرافـية شتى، ورغم تباين خلفـياتهم الثقافـية، ولغاتهم المنطوقة.

أما أنصار العنصرية، وقتل المدنيين عقاباً لحكوماتهم، واستخدام العنف كلغة عالمية بشأن الخلافات والصراعات بغض النظر عن نتائج هذا الاستخدام وتداعياته… فهؤلاء أيضاً يمثلون طرفاً آخر، هو واحد رغم تباين الشعارات وتنوع الرموز والمظاهر، ونحن نتحدث عن "حوار حضاري" بين هذين الطرفـين بدلاً من حوار وهمي بين كتل حضارية غير متجانسة أصلاً، وقائمة مثل هذا الحوار تتسع لتشمل الموقف من الأسرة، ومن الحريات المختلفة إلى آخره، ولا ندعي أننا سنكون أبداً بصدد كتل متجانسة، ولكننا نطمح إلى تجلية تحالفات جزئية أو كلية بصدد قيم واضحة وهموم مشتركة، واختيارات محددة فـي المجالات الاجتماعية والثقافـية والتنموية، وهذا فـي حقيقة الأمر يفتح "حوار الأديان" والحضارات على الأفق الطبيعي الهام الذي ينبغي الانفتاح عليه، وهو أفق "حقوق الإنسان"، وآفاق ما يسمى بمناهضة العولمة، وهذا الانفتاح هام ونافع، ولن يكون إلا إذا تخلينا عن أسطورة الكتل الحضارية المتجانسة والمتخيلة فـي أذهان الكثيرين ممن يتحدثون عن "حوار حضارات".

[٦] من العقائدي إلى الثقافـي:

حدث نوع من إهدار الإمكانيات، وتبديد الطاقات، وتزكية الصراعات فـي إطار التبشير بالعقائد المختلفة، وفكرة التبشير أو التبليغ بالشكل المعروف حتى الآن، والشائع فـي بقاع كثيرة من العالم تحتاج إلى إعادة نظر على ضوء النتائج التي تحققت طوال عقود.

والذي يهمنا فـي مجال مسألة الحوار هو التركيز على الدين بوصفه ثقافة، وتجليات نظام للحياة المادية كما هو نظام اعتقادي أو روحي.

لقد أصاب الجانب الثقافـي للدين ضمور شديد عند المسلمين "مثلاً"، حتى إن أغلبهم لا يعرف تاريخ ما بعد الرسول، أو فنون الحضارة الإسلامية فـي حقبها المختلفة، و كيف عاشت هذه الحضارة، وعمرت الأرض، وقادت دفة توجيه البشرية لعدة قرون، وكيف أثرت وتأثرت بغيرها مما حولها من ثقافات وحضارات، وغياب هذا الإدراك جعل المسلم المعاصر بلا ذاكرة ثقافـية حضارية، ومن ثمّ عاجز عن التواصل مع عصره أو غيره إلا كفاقد ذاكرة يكاد يكون كاللقيط الذي يبحث عن أصله ونسبه ! وانتقال الحوار من العقائد إلى الثقافات سيدفع المتحاورين إلى مراجعة ما انطمس فـي وعيهم من ذاكرة العمران البشري بآدابه وفنونه وإنجازاته، فتخرج من المتاحف إلى عقول المسلمين وحياتهم ومجالسهم.

[٧] بين الرسمي والأهلي:

تبرز غالباً مشكلة التمثيل بحيث تضيع الفرص فـي فخ من الذي يتحدث باسم الإسلام أو غيره من الأديان، ونرى بداية أنه يجب أن تعمل المؤسسات الدينية الرسمية وأقسامها المهتمة بالحوار جنباً إلى جنب مع الفعاليات الأهلية الناشطة فـيه، واحتكار المؤسسات الرسمية يضر الحوار ولا ينفعه، وكذلك فإن التضارب وعدم التنسيق يبدد الطاقات، ويشتت الجهود، وينخفض بالنتائج إلى ما دون مستوى المقدمات والتوقعات. ويستلزم هذا التعاون تنمية القطاع الأهلي وتطويره، ذلك القطاع الذي يعاني من التهميش، وأحياناً الحصار ومحاولات الإلغاء.

ونحن نرى أن دعوة السيد خاتمي لحوار الحضارات جاءت متسقة تماماً ومتصلة بأطروحته حول "المجتمع المدني"، ويظل الرهان الأهم حول كيفـية إدارة عملية التنمية والتطوير للقطاع المدني فـي ظل ثقافة ومؤسسات تعودت الاحتكار والاستقلال بالفعل، بدلاً من الشراكة، وتقسيم الأدوار، ونحسب أن نجاح التجربة الإيرانية فـي استنبات "مجتمع مدني" قوي ومستقل عن أجهزة الدولة، ومتعاون معها فـي الوقت نفسه، سيكون دافعاً وقدوة للآخرين، ومقدمة لازمة لتهدئة مخاوف العديد من الأنظمة تجاه أنشطة "المجتمع المدني" فـي أقطارها، وسيكون دافعاً كذلك للعديد من الناشطين الحركيين من ذوي التوجه الإسلامي للاهتمام بحركة المجتمع المدني، والمشاركة فـيها بدلاً من موقف التحفظ أو عدم الاكتراث الغالب عليهم حتى الآن.

[٨] من المهام الكبرى إلى الأهداف الممكنة:

أحياناً تكون المبالغة فـي التوقعات مقدمة طبيعية لإحباط شديد، وفـي الحقيقة فإن التحولات الكبرى ليست مستحيلة، ولكنها تحتاج إلى جهود مكثفة فـي مدى زمني معقول، وتتراكم هذه الجهود ليحدث التغيير، وهذه الجهود المكثفة قد تتضمن إنجازات جزئية تستحق الاحتفاء، وتدفع إلى المواصلة حين تغري بالمزيد فـي المستقبل.

الحوار يختلف عن المعارك الحربية قصيرة الأمد، ويختلف عن العمليات الجراحية سريعة المفعول، ويشبه "العلاج النفسي" الذي يستخدم أساليب عدة منها العقاقير، والعلاج الجماعي والفردي، و"الصدمات الكهربائية" أحياناً ليتحقق الشفاء بعد حين كما حدث المرض بالتدريج، وكل بادرة تحسن "ولو طفـيفة" هي خطوة فـي اتجاه التعافـي.

سمعت أنه إثر مجموعة من الحوارات خرج إلى النور مشروع تأليف كتاب تاريخ يدرّس للطلاب فـي فلسطين تحت الاحتلال، ويحوي وجهة النظر الإسرائيلية والفلسطينية للوقائع التاريخية، وأن يحل هذا الكتاب محل الكتاب الحالي الذي يتضمن وجهة النظر الصهيونية فقط.

وبمنطق الحوار الذي نفهمه فإن هذا انتصار للحق قد يراه بعضهم هزيلاً أو لا قيمة له، وقد يراه آخرون مؤامرة أو فخاً، كما يرون كل شيء، ولكننا نراه خطوة ومكسباً، وإن كنت لا أدري إلى أين وصل فعلاً.

مقترحات للمستقبل:

ونختم بمجموعة من المقترحات العملية نطرحها للنقاش استفادة من الزخم الذي اكتسبته فكرة حوار الحضارات فـي المنطقة بفضل الله ثم كتابات السيد خاتمي ودعوته التي لاقت القبول الدولي بإعلان الأمم المتحدة لعام حوار الحضارات، والدفعة الإضافـية التي تلقتها الفكرة والحوارات بأحداث سبتمبر وتداعياتها.

أولاً: مقترح بتأليف كتاب مرجعي عن الأديان كثقافة وتجليات مشتركة أو مختلفة فـي الأقطار والأجناس المختلفة على مستوى الممارسة اليومية: أزياء - أطعمة - احتفالات… إلخ.

ثانياً: مقترح بدعم تدريب فريق من الناشطين والباحثين فـي الجوانب العملية والنظرية المتعلقة بحوار الأديان، ونقله إلى فضاء حوار الحضارات"، ونذكر هنا بمحاولات معهد الأديان بالأردن.

ثالثاً: مقترح بدراسة الحركات الدينية وتقييمها وتطويرها بوصفها حركات اجتماعية وثقافـية - لا مجرد حركات معارضة سياسية - والمساهمة فـي جذب اهتمامها لحوار الأديان والحضارات.

رابعاً: مقترح بعقد ندوة مشتركة مع الجهات المعنية لتقييم التجارب السابقة لحوار الأديان، والبحث فـي تطويرها والتنسيق بينها لتعظيم العائد منها.

خامساً: مقترح بتنشيط الدعوة التي تبناها الأمين العام للأمم المتحدة لتكوين مفوضية أو مستشارية خاصة بالأمم المتحدة تكون خاصة بالأديان، والقيادات الروحية مع التشديد على أهمية أن يشمل التمثيل الناشطين فـي المجال الثقافـي والاجتماعي أهلياً.

سادساً: مقترح بالسعي لإصدار إعلان عالمي - على غرار إعلان حقوق الإنسان وغيره - يتناول إبراز وتوجيه دور الأديان فـي حوار الشعوب وتعاونها من أجل الحرية والعدالة والتنمية المتوازنة، ولعل هذا يكون تتويجاً مناسباً فـي نهاية عام حوار الحضارات.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=7051

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك