نحن والآخر
اتصلت بي قبل حوالي أسبوع إحدى الصحافيات الأجنبيات بصدد الوضع الحضاري وقضية التعايش والتسامح الاجتماعي، والعلاقة بين الجاليات والقوانين المطبقة، والتي تحكم العلاقة الاجتماعية والإنسانية بين الناس في دولة الإمارات.
مركز حديثها كان منصباً على قضية الشخص الغربي، والذي اتهم بأنه استخدم عبر الهاتف ألفاظاً نابية مع موظفة في إحدى الشركات، الأمر الذي اعتبرته تلك الموظفة ألفاظا خارجة عن اللياقة وامتهان للكرامة الإنسانية، وهو الاتهام الذي يستوجب في قانون الدولة العقاب.
كانت الصحافية تسأل إذا ما كانت الألفاظ التي استخدمها ذلك الشخص تستوجب العقاب حسب القوانين وفي ثقافتنا الاجتماعية، ولماذا شددت القوانين في هذا المجال مؤخرا، كما تستفسر عن العلاقة بيننا وبين الجاليات في مجتمعنا، والذي عرف في السابق بالتسامح ولم يشهد أي احتكاكات حضارية أو اجتماعية.
وجرّنا الحديث إلي مناقشة أوضاع الجاليات الأجنبية وثقافاتها الاجتماعية والفكرية والتضاد أحيانا بين تلك الثقافات وبين الثقافة الاجتماعية السائدة في الإمارات.
كما تحدثنا عن العلاقات بين الجاليات الأجنبية وبعضها البعض، والمستويات الفكرية والحضارية لتلك الجاليات وأعرافها الاجتماعية، وتأثير كل ذلك على قضية تعاملها ونظرتها للآخر.
كل ذلك جرنا للخوض في تاريخ التنوع والتعايش السلمي في مجتمع الإمارات وما طرأ عليه من متغيرات في ظل الطفرة السكانية الهائلة التي يشهدها المجتمع وفي ظل تزايد الأعراق والثقافات والخلفيات الاثنية.
قضية ذلك الشخص الأوروبي لم تكن الوحيدة بل تناولت الصحف أيضا في الأسبوع الماضي قضية المرأة العربية المتهمة بأنها استخدمت في الطريق العام إشارات بيدها ضد أحد الأشخاص، الأمر الذي اعتبره ذلك الشخص إشارات غير لائقة وحولت تلك المرأة للمحكمة لتبت في هذه القضية.
أصبحت قضايا من هذا النوع كثيرة ومتعددة بعضها ينشر وبعضها لا نسمع عنه، ولكن المؤكد أن مثل هذه القضايا في تزايد وجميعها تدل على شيء واحد، وهو ضيق «المساحة الحضارية» التي أصبحنا نتحرك فيها جميعا والناتجة عن عدة عوامل مرتبطة بالمتغيرات الحياتية والتدفق السكاني الهائل وبعدم فهم كل مجموعة بشرية لثقافة الأخرى.
وبالنظرة الاجتماعية التي أتى بها كل فريق ومستواه الحضاري والثقافي والفكري. ففي الحقيقة فإن ما يحدث الآن في مجتمعنا هو قضية حدثت من قبل في كل المجتمعات، ولكن بعضها حدث بطريقة غير ملحوظة كثيرا.
ولكن بما أن مجتمعنا تغير كثيرا وفي زمن قياسي كبير، ومر بما يسمى «حرق المراحل» فإن هذا الوضع يظهر لنا واضحا، خصوصا وأنه يظهر في أعقاب مرحلة طويلة من القبول بالآخر والتعايش معه. إذا فما يحدث هو في الواقع احتكاك طبيعي بين الأجناس المتنوعة.
فالانتقال كان سريعا ما بين مجتمع ذي عرقيات قليلة إلى مجتمع مكون من مئات الأعراق، من مجتمع التسامح والتعايش إلى مجتمع «الأنا والآخر» وهو الأمر الذي ضيق المساحة الحضارية بين كل طائفة وعرق، بل بيننا وبين بعضنا البعض.
فمن منا لا يفقد أعصابه في الطريق العام ووسط الزحام إذا ما رأى آخر يحاول تجاوزه حتى ولو كان ذلك يعني تأخيرا لخمس دقائق أو حتى دقيقة واحدة.
ومن منا لا يلوم الآخر عندما يضطر إلى الانتظار الطويل في طابور مستشفى أو مصلحة بينما كان دخول المستشفيات في السابق سريعا ومشاعا للجميع، ومن منا لا يلوم الانفتاح الكبير والتدفق السكاني الهائل عندما لا يجد موقفا لسيارته بعد أن كانت المواقف متوفرة ومجانية، ومن منا لا يلوم الآخر عندما يجد أسعار السلع والخدمات المرتبطة أساسا بالعرض والطلب في مؤشر تصاعدي واحد هو الارتفاع الدائم ولا غير، ومن منا لا يلوم الآخر عندما يبحث عن وظيفة فلا يجد سوى المنافسة. المواطن أصبح يلوم الوافد، والعربي يلوم الآسيوي، والآسيوي يلوم الأوضاع هنا وفي بلاده، والغربي يلوم الوضع برمته.
هذا الوضع، بل هذا الطوفان البشري المتنوع وغير المقنن، المتعدد الخلفيات والثقافات والمستويات الفكرية، عوضا من أن يصبح أداة حضارية إيجابية قد يصبح قضية سلبية تهدد التسامح والتعايش السلمي في مجتمعنا.
فبعد سنوات سوف نصبح على أعتاب العشرة أو العشرين مليون نسمة، بينما المساحة الجغرافية لن تتغير والفرص الوظيفية قد تضيق، والجنسيات الوافدة قد تزيد، والعلاقات بين الجاليات قد تتعقد بل وتتأزم.
وتصبح قضية التعايش السلمي في مجتمعنا التي طالما احترمناها على المحك، وذلك لأننا فتحنا الأبواب على مصراعيها لطوفان بشري يحمل معه ثقافات متنوعة ونظرة للآخر قد تكون سلبية، بل وحتى صراعات نحن في غنى عنها.
مستقبلاً سوف نظل نواجه تزايداً في ضيق ليس فقط المساحة الجغرافية التي تتواجد وتتعايش فيها كل تلك الجنسيات وتختلط فيها كل تلك الثقافات والخلفيات الفكرية، ولكن ضيق «المساحة الحضارية» التي نتحرك فيها جميعا، تلك المساحة التي تعطي كلًا منا قدراً من الحرية للتعبير عن الذات والإحساس بالآخر والتفاعل معه بإيجابية وتناغم دون المساس بحرية الآخر وثقافته الاجتماعية.
المساحة الحضارية هذه أصبحت تضيق كل يوم، وسوف تسفر، عاجلاً أو أجلاً عن نتيجة واحدة لا غير، ألا وهي ضيق كلّ منا بالآخر، والذي سوف يكون له مردود سلبي ليس فقط على قضية التعايش السلمي في مجتمعنا ولكن أيضاً على حريات فكرية أخرى، هذا القضية بدأت تتضح الآن في مسألة تقبل كل أثنية وعرق للآخر واحترامه له واحترام ثقافته وحقوقه العامة وآدميته.
فمن دون وجود تلك المساحة الحضارية القائمة على احترام آدمية كل إنسان بغض النظر عن عرقه أو طائفته أو فكره، واحترام حقوقه العامة وحقه في التعبير عما يجول في باله من معتقد، بحيث لا يؤثر على محيط وحرية غيره.
لن يكون هناك تعايش سلمي حقيقي. فضيق أو انعدام تلك «المساحة الحضارية»، التي تشعر الفرد بخصوصيته سوف تؤثر سلبا على سلوكه تجاه الغير وتجعل منه إنسانا عدوانيا وغير سوي يمارس سلوكيات غير حضارية.
المصدر: http://www.albayan.ae/opinions/articles/2011-04-17-1.1422198