العرب وثقافة «التعايش»

  • د. عمار علي حسن
  • يستند التعايش، في أي مكان وزمان، على عدد من الشروط ، التي يجب توافرها من أجل تمتين الروابط بين الفئات الاجتماعية لأي دولة تموج بحال من التعددية ثقافية كانت أم لغوية أو دينية أو عرقية.

    ومن بين هذه الشروط أن يكون الحوار متكافئا بين الأطراف المتشاركة في حياة واحدة، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، وأن يعلو التحاور والتفاهم فوق أي عصبيات أو أفكار مسبقة عن الباقين. كما يجب الاستعداد للتعامل بتسامح مع الآخر وقبول الآراء المضادة، وعدم النظر إلى هذا التسامح على أنه علاقة بين طرفين أحدهما أقوى من الثاني،

    بل باعتباره ضرورة حياتية. ومن المهم كذلك أن تكون هناك منظومة من القيم العادلة يتم الاحتكام لها في توزيع الثروة، وتحصيل المكانة الاجتماعية، والتساوي في الفرص السياسية المتاحة، أو المتوافرة، مهما كانت حدودها وحيويتها.

    وتحتاج الدول العربية جميعا في الوقت الراهن إلى ثقافة رفيعة من التعايش، تضمن لها الاستمرار على قيد الحياة، وتحصنها ضد التفكك إلى دويلات صغيرة، مثل ما هو مطروح بالعراق والصومال، أو الدخول في حرب أهلية طاحنة، مثل ما عليها الحال في لبنان، أو التعرض لاحتقانات مستمرة، تتفاوت من حيث الحجم والتأثير، مثل ما يجري في مصر بين المسلمين والأقباط، وفي سوريا بين العرب والأكراد،

    وفي المغرب العربي بين العرب والأمازيغ، وفي السودان بين شماله وجنوبه، وشرقه وغربه. وهذه الحالات جميعا تستغلها قوى خارجية في تحقيق استراتيجياتها بالمنطقة العربية على حساب المصالح العربية المشتركة.

    وتحتاج الشعوب العربية إلى أن تقف على أهمية فكرة التعايش الاجتماعي، وتدرك أنها باتت ضرورة للدولة المعاصرة، وتفهم فكرة الاختلافات الطبيعية بين البشر، من حيث اللغة والدين والعرق واللون والثقافة،

    وكيفية تطويعها بحيث لا تشكل عائقا أمام التعايش بين جماعات شتى، بل تحقق الحكمة الإلهية العظيمة التي عبر عنها القرآن الكريم حين قال على لسان رب العزة سبحانه وتعالى: «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».

    ولذا يناط بالنخب العربية، بمختلف ألوانها، أن تبحث، من دون كلل ولا ملل، عن سبل تأصيل ثقافة التعايش، من زاوية مدى الارتباط بين الدولة المدنية التي تقوم على عدم تسييس الدين وبين قيام تعايش سليم معافى، وإمكانية تأسيس مشروع وطني يمهد لإعادة بناء دولة القانون المرتكزة على التعددية السياسية والثقافية واحترام حقوق الإنسان،

    وبذل جهد فائق في البحث عن سبل الاستفادة من إعادة قراءة تاريخ العلاقة بين الفئات والشرائح الاجتماعية العربية، عبر فترات تاريخية، في فهم الواقع المركب والمعقد للعلاقة بينها في الوقت الراهن، وإبراز القيم المشتركة والموحدة من خلال التنقيب في التراث الحضاري الشرقي، المفعم بعبر لا يمحوها الزمن عن آفات الشقاق،

    ومآثر التوحد القومي. ولا يجب أن يقف جهد هذه النخب عند حد الإسهاب في وضع نظريات مجردة حول مفهوم التعايش ومظاهره وأساليبه ومخاطر غيابه أو حتى ضعفه، بل من الضروري أن تعكف على تحديد آليات التوفيق بين المطالب المتبادلة للتركيبات الاجتماعية المشكلة للدول العربية، عبر تفعيل الحوار،

    وإعلاء قيم التسامح ليس باعتبارها شعاراً تلوكه الألسنة، لكن بتحويلها إلى واقع معاش يحيا بين ظهرانينا، وإيجاد آلية لإزالة المخاوف والهواجس المتعلقة بما حدث من تجاوزات أو ظلم في السابق لأي فئة اجتماعية، وذلك من خلال تعميق فكرة المواطنة، وإعلاء قيمة الانتماء إلى الوطن الأم، والاعتراف بالخصوصية الثقافية للآخر، واعتبارها جزءا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع العامة.

    ومن جانبها فإن الحكومات العربية مطالبة بتلافي كل العناصر التي تهدد فكرة التعايش، ومنها إنهاء التمييز على أساس الدين أو اللغة أو العرق أو اللون، أو أي شيء آخر، في الوظائف العامة، وفي تحصيل الفرص السياسية والاقتصادية،

    والوقوف بشجاعة وصبر لا يلين في وجه أي ثقافات وتأويلات دينية مغلوطة تؤدي إلى ظهور تطرف ديني متبادل يعمق الخلافات ويقوض الروابط، ويفتح الباب أمام التأثيرات السلبية والممقوتة التي تتركها مسألة الاستقواء بالخارج للحصول على مكاسب داخلية معينة، تقود في خاتمة المطاف إلى شق صف «الجماعة الوطنية» وتآكل قدرة الدول العربية على التكامل والتماسك.

  • المصدر: http://www.albayan.ae/opinions/1143984333264-2006-04-07-1.907019
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك