الحوار بين الحضارات ليس مجرّد أمنيات

غياندو مينكو بيكو

قد تبدو فكرة الحوار بين الحضارات عند الكثير مجرّد تمنٍّ ، وكمثل أعلى لا يُدرك. سيقول معظم النّاس، كما قيل لي في عدّة مناسبات، لا يمكن أن يتحقّق الحوار، لأنّه لم يكن أبداً من قبل. وواقع الأمر أنّ هناك ثقافات مؤسّسيّة تقوم بكاملها على تصوّر أنّنا غير قادرين على إنجاز ما لم يتحقّق من قبل. ومع أنّ الثقافات ما برحت مترابطة دوماً بطريقة أو بأخرى، لا يزال الكثير من الأفراد والجماعات يوحون للشباب الخوف من "الآخرين" الذي يأتي من الماضي المليء بالتحيّز وسوء التفاهم والفشل.

ومع هذا، فإنّ اكتشاف شيء جديد، لا نعلم حتّى بوجوده، هو ما يشكّل تماماً أساس عمل العلماء والباحثين. فعندما كنت يافعاً، وكان من هم أعقل منّي وأكبر سناً ينصحونني بعدم الخوض في مغامرات لم يخضها أحد من قبلي، لم أكن لأفهم ذلك، لأنّ تلك التحديات كانت تبدو لي أشدّ الأشياء جاذبيّة. وهكذا استفتيت قلبي، بل أعتقد أنّني أنجزت ما لم يتحقّق من قبل. فإذا كان للعالم أن يواصل كشفه لخبايا المجهول، فلمَ إذن أمنع أنا من ذلك؟ وهكذا، أعتقد أنّ أرواحاً كثيرة أنقذت، وأنّ حياتي أصبحت ذات مغزى على الأقلّ.

في الكثير من الأحيان يزرع الكبار في الشباب شيئاً من الشّك يخفيه الكبار تحت ستار التظاهر بالحنكة. فلربّما ليس من الواقعيّة في شيء أن نتواصل مع الشباب بتلك الطريقة، وربّ شيء سمّيناه تجربة كان مجرّد مثال على فشلنا. لذا لست بقائل للجيل الجديد أن يكفّوا عن خوض مغامرات جديدة، ولا بمثنيهم عن تحقيق ما لم يتحقّق بعد، ولا بمحرّضهم على التخلّي عن تطلّعاتهم وأحلامهم.

وحتى لو اتّضح أنّ الحوار بين الحضارات أمر محال في جيلنا، فربّما لن يكون الأمر كذلك بالنسبة للجيل المقبل أو الجيل الذي بعده. لذا يبدو لي أنّ رحلة الحوار تبدأ بمشاركة كلّ منّا الآن.

وليس بوسع المرء بتاتاً أن يسعى إلى تحقيق الطموحات والأهداف المتمثلّة في إجراء حوار بين الحضارات من دون أن يؤمن بقوّة الروح البشريّة وقدرتها على تجاوز الحواجز، وتخطّي الحدود والعقبات التي قد تكون عمّرت لقرون من الزمن. الحوار قبل كلّ شيء استعداد يرى في التنوّع عنصراً للتحسّن والتطوّر، متجاوزاً بالتالي النّمط القديم الذي يرى في التنوّع تهديداً، بل ربّما أسوأ من ذلك يعدّه مرادف "العدو".

لا شكّ أنّ للحوار بين الحضارات عدّة معانٍ. ولذلك قد يكون من الأجدى التركيز على معنى واحد إن شئنا عدم التيه في غموض حديث لا نهاية له ولا طائل منه. فإذا كان حوارنا يركّز على تغيير الاستعداد الذي يرى في التنوّع تهديداً، قد يكون هدفه الجوهريّ وضع نمط جديد من العلاقات الخارجيّة القائمة على إحداث هذا التغيير.

ولعمري هذا هو الهدف الطموح الذي رسمه لنفسه فريق الشخصيّات البارزة الذي أنشأه الأمين العام.

وقد يشمل النمط الجديد العناصر التالية:

إعادة النظر في تقييم مفهوم "العدو". فهل لنا أن نتطلع إلى زعماء يقودون بدون أعداء؟

إنشاء تجمعات تقوم على القضايا بدلا من تحالفات أساسها أيديولوجي (فحتى الأخيار من الأصدقاء قد يتفقون على بعض القضايا ويختلفون في أخرى).

ينبغي أن يسلم هذا النمط بمفهوم يقضي بوجود ذوي مصلحة في عالم مترابط، بدلاً من وجود قوى عظمى أو قوى متوسّطة (منذ قرن مضى كان بوسع القوى الكبرى أن تؤثّر بسهولة في البلدان الضعيفة، أمّا اليوم فحتّى البلدان الصغيرة بوسعها أن تمسّ بالقوى العظمى كما رأينا ذلك في القطاع الماليّ ناهيك عن الإرهاب).

وختاماً ينبغي أن يكون نمطاً يقوم أساساً على اتّخاذ قرارات جماعيّة، ولكنّه ينبني أيضاً على تحمّل المسؤوليّة بصورة فرديّة، فقد غابت مسؤوليّة الفرد عن الأطر المؤسسيّة والقانونيّة للنظام الدوليّ. وقد يقول البعض إذا لم نتحمّل المسؤولية كأفراد سيكون الالتزام بالقرارات الجماعيّة ضعيفاً جداً في الواقع.

ليس الحوار عبر الحواجز اكتشافاً جديداً. فزيادة على تبادل الكلمات والنوايا الحسنة، يبدو الحوار أكثر نجاحاً عندما يقوم الأفراد "ببناء شيء ما معاً" متخطّين الحواجز. فبناء شيء ما معاً هو، في نهاية المطاف، الشكل الحقيقيّ للحوار. وعندما نبني شيئاً مشتركاً فإنّنا نوظّف مواهبنا المختلفة لتحقيق هدف مشترك. وإذا كانت مصلحتنا في إنجاز مهمّة مشتركة، فإنّ لنا في بناء مستقبل مشترك مصلحة. أنا أتكلّم عن تشييد صروح ماديّة، أو المساهمة في مشاريع مشتركة وفي بناء المؤسّسات. والبناء يستغرق وقتاً، ويستلزم قوّة، وعزماً وشجاعة وحكمة. وإذا كان الحديث عن أهمية تشييد الصروح المادية عبر الحواجز حديثاً طويلاً، فمن الواضح أنّ إعداد البرامج الدراسيّة، وتوحيد الصفوف لمكافحة الأمراض والتصدّي للكوارث الطبيعية المشتركة أمر على الجانب ذاته من الأهميّة.

قد يؤدّي البناء عبر الحواجز في نهاية المطاف إلى قهر غطرسة القوّة، التي ما لبثت تشكّل السبب الأساسيّ للتدهور الحاصل في المجتمعين المحليّ والدوليّ. وبالإضافة إلى الاحترام، والتسامح، وقبول الآخر ثقافيّاً وفكريّاً، فإنّ البناء عبر الحواجز يضفي على الحوار طابع الاستمراريّة.

إنّ الحوار بين الحضارات، كما أراه، هو بالتالي حوار بين الذين يرون التنوّع تهديداً والذين يرون فيه خطوة نحو التحسّن والتطوّر. وإذا كان هناك من مهارة علينا جميعاً صقلها وتعلّمها بشكل أفضل وأفضل فهي كيفيّة التعامل مع التنوّع.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=7370

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك