المسيحيّة والإسلام... حوار التكافؤ والمعرفة والاختلاف

حسن القرواشي

لئن استطاعت المسيحية بجلّ طوائفها أن تؤسّس لخطاب لاهوتيّ، فيه تنزّل الإسلام عقيدة وحضارة، وتوجد مؤسّسات فكريّة من شأنها أن تسهر على رصد الفكر الدينيّ الإسلاميّ وتحليله واكتناه خفاياه ورهاناته، فإنّ علاقة الفكر الإسلاميّ الحديث بالفكر الدينيّ المسيحيّ ما زالت مرتبطة بمجهودات المفكّرين الذاتيّة وبقناعاتهم الفكريّة، من دون أن تتواجد مؤسّسات علميّة متخصّصة تسهر على تتبّع الفكر الدينيّ المسيحيّ، وعلى التعريف بأعلامه ورموزه، وتشجع على بناء خطاب إسلاميّ للمسيحيّة، من داخل الثقافة العربيّة، وانطلاقاً من المسلّمات العقديّة ذاتها، وباعتماد خطاب الحداثة والتنوير. ففي مقابل التنسيق والتنظيم في الغرب/المسيحيّة توجد الفوضى والتشتّت في الفضاء الإسلاميّ؛ وإزاء التّشجيع والاهتمام نجد الإهمال والتقصير وحتّى التّحجير. وإنّ هذا الأمر على غاية من الخطورة معرفيّاً والخطر سياسيّاً, إذ كيف يمكن أن يتهاون الفكر الإسلاميّ اليوم بأحد عنصري قوّة الغرب: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، فلا ينهض بصفة مستمرّة مدروسة برصد الفكر الدينيّ المسيحيّ لدى الأفراد والمؤسّسات، لا سيّما أنّ هذا الفكر قد كيّف نظرة الغربيين إلى الإنسان وإلى الكون، ويعدّ مدخلاً جيّداً وضروريّاً لمعرفة القيم المركزيّة التي يؤمنون بها وينطلقون منها في تعاملهم مع غيرهم؟ وكيف ننظر إلى غيرنا، وهو يسيطر علينا معرفيّاً، ويحرص على أن يقدّم صورة للمسلمين بالطريقة التي يراها مناسبة لمصالحه وقناعاته، حتّى وإن كان ذلك عبر الاختزال والإنشاء، من دون أن ندرك الأخطار المترتّبة عن هذا السلوك الغريب الذي لا يعي دور المعرفة في توجيه التاريخ وخدمة المصالح. وإنّ الأمر يُصبح غريباً، لأنّه لا يرقى إلى السند العلميّ الذي كان سائداً في الحضارة العربيّة الإسلاميّة زمن قوّتها. فكبار العلماء المسلمين في مجال الأديان، مثل الشهرستاني (ت 548 هـ) في الملل والنحل, والأشعريّ (ت 324 هـ) في مقالات الإسلاميين, والبيروني (ت 1048م) في تحقيق ما للهند من مقولة، تفطّنوا إلى أهميّة دراسة المغاير دينيّاً، وإلى ضرورة الوقوف على مصادر مقالات أهل العلم، من أرباب الديانات والنّحل، عبرةً لمن استبصر، واستبصاراً لمن اعتبر، كما يقول الشهرستانيّ. وكان هاجس المعرفة والانفتاح لا هاجس التّمجيد أو الاستعلاء السلبيّ هو الموجّه لأعمالهم. ولذلك لم يهملوا دراسة الآخر المغاير روحيّاً، وكانوا مطّلعين بل مسيطرين معرفيّاً على السّائد الموجود بمنهج يرتكز إلى خلفيّة نظريّة قوامها الحقّ والنسبيّة في المجال الروحيّ، من دون أن يعني ذلك أنّهم يضعون معتقداتهم في الميزان أو أنّهم يرومون السيطرة على الآخر.

إرادة الهيمنة في علاقة الغرب المسيحيّ بالإسلام

من دون الوقوف عند مؤسّسة الاستشراق الحديثة, كان الإسلام برموزه المركزيّة القرآن والرسول, وبثقله الحضاريّ الروحيّ جزءاً من مشاغل الفكر الغربيّ عامّة والفكر الدينيّ المسيحيّ خصوصاً، وهو ما يفسّر وجود تقليد معرفيّ عريق حديث لم ينقطع، غايته رصد الدراسات الإسلاميّة. ولئن لم يكن الهاجس العقديّ هو المحرّك له إيديولوجيّاً دائماً على رغم وجوده, فإنّ مواقف أصحابه أفراداً ومؤسّسات من الإسلام، روحانيّة وحضارة، قد خضعت لمستوى المعرفة السّائد، وتأثّرت بالتقارب الجغرافيّ، أي بتقاطع المصالح وتضاربها، وبمأسسة الخطاب الدينيّ عبر التاريخ واستثماره سياسيّاً؛ وهو ما يُفسّر وجود مواقف متباينة من الإسلام في نطاق التقليد نفسه. ولكنّ اللافت هو أنّ هذه المواقف كانت موجودة باستمرار ومتطوّرة بتطوّر المعرفة، ممّا جعلها متناغمة مع التحوّلات المعرفيّة الرئيسيّة، وقادرة في الوقت نفسه على التحرّر بصفة طبيعيّة من الآراء القديمة المرفوضة اليوم، من دون أن يُتّهم أصحاب هذا الفكر بالتناقض وبالتنكّر لموروثهم. ولذلك غدا الجمع بين المواقف الموغلة في العداء للإسلام والاعتداء عليه والمواقف المنادية بالانفتاح عليه فكريّاً ورعويّاً، وحتّى روحيّاً، أمراً طبيعيّاً يمكن تفسيره.

لقد تحوّلت المواقف من النقيض إلى النقيض. فوجدنا مواقف من الإسلام سلبية تتّسم بالتّشهير والقدح والمجادلة، وأخرى حذرة، فيها انفتاح محدود عليه وعلى غيره من الأديان مشروط إلى جانب المواقف التي سعى أصحابها إلى البحث عن معنى الأديان عامّة، والإسلام خاصّة، ضمن تدبير الله الخلاصيّ, ممّا أدّى شيئاً فشيئاً إلى الاعتراف بوجود قيم إيجابيّة في الإسلام يمكن أن تؤدّي بأصحابها إلى الخلاص الذي قد يكون موجوداً خارج الكنيسة لا داخلها بالضرورة، كما ساد طوال قرون خطأ, وإلى الاقتناع بضرورة التحاور معه قصد بناء روحانيّة حديثة متكافئة متضامنة كونيّة، من دون مساومة أو تنازل أو تنازع. ولم يبلغ الفكر المسيحيّ هذه المرحلة إلّا بعد أن استفاد من المعارف الحديثة، وراجع على ضوئها تراثه مراجعة نقديّة أليمة أحياناً، ولكنّها مفيدة في كلّ الحالات؛ فأدرك أنّ الموقف الجدليّ لا يعبّر إلّا عن قلب تعاليم المسيح وتعديل رسالته، بل تشويهها، وهو مرتبط بالمبشّرين الذين فكّروا في الآخر، انطلاقاً من الذات، وفي الأديان والحضارات، انطلاقاً من المسيحيّة ومن قيم الغرب، ممّا جعلهم يغلبون هاجس تعميد الأمم على تعليم يسوع المركزيّ المحبّة، ويُطاردون المغاير المختلف عوض الانفتاح عليه والتحاور معه. ولذلك لم يعد هذا الموقف متناغماً نسقيّاً، ولا مقبولاً مسيحيّاً. فلم يدع المسيح إلى محبّة الآخر، إلّا إذا أصبح مسيحيّاً، بل دعا إلى محبّته في ذاته ولذاته. ولذلك وجب التخلّص من هذا الموقف بسرعة، احتراماً للذات ولتعاليم المسيح نفسه، وإلا أصبحت المسيحيّة تعلّة ومبرّراً لاستعباد الآخرين، وهذا أمر مرفوض أخلاقيّاً ويتعارض وتعاليم يسوع الصّريحة. فلا بدّ إذاً من التمييز بين الأديان كمنظومات روحيّة والأبنية الثقافيّة الحاضنة لها، ولا بدّ من تجاوز عقليّة التّبشير المستندة إلى أخلاقيّات يرفضها المسيح، والتنميط والمناداة بالحقيقة الواحدة الوحيدة إلى المناداة بالاختلاف والتميّز والنسبيّة قيماً أساسية يستدعيها الدين ذاته لا الحداثة، ومن شأنها أن تُسهم في تعميق معنى المسيحيّة وجعلها متناغمة مع غايات مؤسّسها، وفي الوقت نفسه أداة تواصل مع الروحانيّات المغايرة في المستوى العمليّ الرعويّ، وسبيلاً نحو الحريّة في مجال البحث والعلم.

وبقطع النظر عن آليّات الاستدلال المستعملة في تحيين المسيحيّة وتحديثها، ومدى اتّساقها نسقيّاً ووضوحها إيديولوجيّاً, فإنّ الفكر المسيحيّ بقسميه الرئيسيين الكاثوليكيّ والبروتستانتيّ قد تمكّن ـ على رغم الاختلاف في تمثّل رسالة عيسى ـ من صوغ مسيحيّة حديثة متفاعلة مع القيم الكونيّة السائدة، ومجذّرة للحريّة بمختلف مجالاتها. وقد آل مسار الفكر البروتستانتيّ والكاثوليكيّ في مجال العلاقات مع المسلم المغاير إلى نتيجة واحدة. فنادى الآباء الكاثوليك في المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني (1962 - 1965) إلى الحوار مع المسلمين في البيان الشهير المتعلّق بعلاقة الكنيسة بالأديان الأخرى، وفي الدستور العقديّ المتعلّق بالكنيسة في عالم اليوم. فقطعوا على الأقلّ في الظاهر مع التقليد الذي ساد منذ بطرس العجائبيّ (نحو 1092 - 1156) وريمون ليل (نحو 1235 - 1315) وسعوا إلى تنزيل الإسلام في تاريخ الخلاص والتاريخ النبويّ متجاوزين بعض التيّارات المختزلة له. ممّا أدّى إلى تجديد صورته وإخراجه من القوالب الذهنيّة التي حشر فيها. ولئن كان مارتن لوثر (ت 1546) قد اعتبر البابا والإسلام عدوّين لدودين للمسيح وللكنيسة المقدّسة، وسوّى بينهما من أجل مقاومتها معاً، عندما اعتبر الإسلام مرادفاً للخطيئة والبابا مرادفاً للإسلام, فإنّ اللاهوت البروتستانتيّ برافديه الأنكلوساكسونيّ والقاريّ قد استطاع بدوره أن يجدّد النّظرة إلى الإسلام، وأن يتحرّر نسبيّاً من المسوّغات اللاهوتيّة التي بها برّر ضرورة تبشير المسلمين واعتبارهم قصّراً بحاجة إلى دروس تدارك ودعم. فكان التغيير شبه كلّي: من ضرورة تبشير المحمّديين وإنكار وجودهم إلى ضرورة الاعتراف بهم وواجب التحاور معهم.

الإسلام والمسيحيّة أو الإرادة المخذولة

لقد وجد في الرافدين المسيحيين روّاد مؤسّسون. فكان للّاهوت الجدليّ على يد كارل بارت (1886 - 1968) دور حاسم في نشأة لاهوت الأديان الذي أصبحت بمقتضاه الأديان منظومات مستقلّة، جديرة بالاحترام، مطلباً إنجيليّاً. وفي الكاثوليكيّة أدّى لويس ماسينيون (1883 - 1962) دوراً خطيراً في إقناع المؤسّسة الكاثوليكيّة بواجب الحوار مع المسلمين، على أساس أنّهم يُمثّلون مسلكاً روحيّاً متميّزاً عندما زعزع المسلّمات التي يعتمدها أصحابها في نفي العلاقة بين الإسلام والخطّ الإبراهيميّ والإرث الكتابيّ. والسؤال المطروح الآن هو: هل نظفر في الفكر الإسلامي الحديث بتقليد معرفيّ فيه تدرس المسيحيّة بطريقة تتناغم مع الاعتقاد الإسلاميّ ومع الحداثة معاً، أي بالطريقة التي يؤمن بها أصحابها فعليّاً؟ وهل هناك خطاب دينيّ في شأن المسيحيّة متطوّر ومساوق لتقدّم المعرفة، أو على الأقلّ يرتقي في مستوى الوعي المعرفيّ إلى الخلفيّات النظريّة التي استند إليها الروّاد قديماً، مثل الشّهرستانيّ والبيرونيّ؟ لقد استدلّ الأستاذ عبد المجيد الشرفيّ، في أطروحته، على أنّ الردود الإسلاميّة على النّصارى إلى نهاية القرن الرابع/العاشر ظلّت تمجيديّة جدليّة، وأنّه لا بدّ من تصفية الحساب مع هذا التراث، والقيام بعملية تنظيف وتجاوز عقليّة الجدل والمناظرة التي لم يعد لها مبرّر للوجود اليوم. غير أنّ النّاظر في ما كتب عن المسيحيّة إلى اليوم يُلاحظ أنّ السنّة المعرفيّة التقليديّة ما زالت قائمة على رغم مكتسبات الحديثة العديدة. ومن المفارقة أنّه على قدر اهتمام المسيحيين بالإسلام، هناك لا مبالاة إسلاميّة بالمسيحيّة، وإنّ جلّ الدراسات الموجودة اليوم إنّما تُخاطب مسيحيّة مجرّدة، علاقتها بالفكر والاعتقاد والممارسة المسيحيّة الحديثة وبالحداثة ضعيفة أو معدومة. فما قيمة أعمال محمّد أبو زهرة وأحمد شلبي؟ أليست مؤلّفاتهما تعمية للمسيحيّة عوض تغطيتها؟ وما الفائدة من أعمال تدرس المسيحيّة، ولكن لا تُثير الأسئلة الملحّة، ولا تقف عند التحوّلات العميقة والتحدّيات التي تواجه الأديان عموماً؟ لقد تأمّل العقّاد في بعض مظاهر رسالة المسيح، وركّز على تعليم المحبّة والدّعوة إلى حريّة المعتقد فيها، ولكنّ عمله لم يتجاوز الإطار التاريخيّ التقليديّ. وتناول خالد محمّد خالد في "معاً على الطريق" حياة محمّد (صلّى الله عليه وسلم) وعيسى (عليه السّلام) من منطلق كونه مثقفاً اضطهدته مؤسسة الأزهر التي ينتمي إليها ومفكّراً ملتزماً اجتماعياً, فوجد في مقاومة المؤسّسة الدينيّة ليسوع صورة من مقاومة علماء الأزهر له، وجعل من المسيح بحكم تفاعله مع قيم الاشتراكيّة التقدميّة والتيّارات الاجتماعيّة الحديثة نصير الضعفاء، وناصر المستضعفين.

المنشود, تجاوز الإنشائيّ إلى التاريخيّ واستبدال المرجعيّات والمنطلقات؛ ولئن كانت محبّة يسوع واضحة والتأثّر بخصاله ومشروعه جليّاً, فإنّ هذه الأعمال تبقى مع ذلك وثائق إنشائيّة إبداعيّة لا علاقة لأسلوبها بمناهج البحث التي اعتمدها الغرب في دراسة الإسلام. ومن العبث البحث عن مقاربات جسورة تواجه الإشكاليّات الصعبة المتعلّقة بالمسيحولوجيا، أو بالصّلب، أو بالخوارق والمعجزات، أو بالتثليث أو بالوحي... ففي هذا المجال لا وجود لتغيير البتة، والمسكوت عنه المغيّب أخطر من المنطوق به. وقد ظلّ القرآن معيار الحقيقة الذي لا يُناقش، وهنا يكمن في الحقيقة الخور والخطر. أمّا الخلل فيتمثل في إرغام المسيحيين بحقائق لا يؤمنون بها بدعوى أنّها قرآنيّة. والحال أنّ القرآن لا يرتقي في الضمير المؤمن غير الإسلامي إلى مرتبة الكتاب المقدّس. وأمّا الخطر فيتمثل في جعل مواقف القرآن من الصّلب مساوية للظاهريّة التي اعتبرت هرطقة في المسيحيّة, فيكون بذلك القرآن مصدراً مرفوضاً آليّاً من الناحية المعرفيّة ومغذّياً للتوتر عمليّاً. والأسلم ذرائعيّاً ومعرفيّاً هو صون القرآن الكريم، وجعل غير المسيحيّ ينظر إليه بعين الإجلال مثلما ينظر إليه المسلمون, ودراسة المسيحيّة من خلال ما يؤمن به المسيحيّون أنفسهم، لا من خلال ما نعتقد أنّه الحقّ. ولذلك لا مفرّ من تجاوز القراءة الحرفيّة للقرآن أثناء التصدّي لدراسة العقائد المسيحيّة.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=7700

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك