الحقيقيُّ والشكليُّ في حِوَار الأديَان

خالد غزال
إنّ مجرّد الدعوة إلى سيادة الحوار بين الأديان يمثل، في حدِّ ذاته، مسألةً بالغة الإيجابية. فالحوار وسيلة للتفاهم وفضِّ النزاعات بالوسائل السلمية، وطريق للاعتراف المتبادل ومنع التكفير والنبذ، إضافةً إلى المساهمة في تحقيق التسويات. هكذا بات الحوار وسيلة مركزيّة من وسائل الديموقراطيّة وسعيها لإقامة علاقات عادلة يسودها الاحترام المتبادل بين البشر. في هذا الإطار، يطرح الحوار بين الأديان تساؤلاتٍ عن المدى الذي بلغه المتحاورون في شأنه. فما الحقيقيّ في هذا الحوار وما الشكليّ؟
هل استطاع المتحاورون فعلاً ملامسة المسائل الخلافيّة الأساسيّة بين الأديان؟ وهل كانت لديهم الجرأة على وضع اليد على أسباب النزاعات الفعليّة؟ هل يدور الحوار حقًّاً حول المسائل الدينيّة، أم يتجاوزه إلى قضايا سياسيّة واجتماعيّة تبتعد عن الجانب الدينيّ هرباً من مواجهة معضلاته الحقيقيّة؟ ثمّ لماذا راوح هذا الحوار في مكانه وعجز عن التوصّل إلى حلول، على الرّغم من مرور أكثر من نصف قرن على بدئه؟ لماذا يتجنّب المتحاورون مواجهة الانبعاث الأصوليّ في الديانات التوحيديّة الثلاث؟ ولماذا، أخيراً، تخرج المؤتمرات والاجتماعات دائماً بخلاصات تؤكّد غلبة الخلافات والتباينات وضيق هامش نقاط التوافق؟...
معضلات الحوار
لم تمنع التحفّظات والاعتراضات الحوار من تحقيق خطوات متقدّمة ومن فرض نفسه موضوعاً دائماً على جدول أعمال المؤسّسة الدينيّة. يدلّ على ذلك ما تحفل به رفوف المكتبات من عشرات الكتب التي تتطرّق إلى هذا الموضوع وتجول فيه من جميع الجوانب. ولا تخفي الكتابات الصادرة والمنشورة حقيقة المشكلات التي واجهها هذا الحوار، ولا يزال، والمعضلات المنتصبة أمام المتحاورين التي جعلتْه يدور حتّى الآن على نفسه ويعجز، إلى حدٍّ كبير، عن تحقيق الأهداف المرجوّة وتحمُّل مشقّة النقاش والسّجال ومحاولات الإقناع.
ليس من قبيل المبالغة "اتّهام" الأديان، من حيث تحديدُها وتعريفُها، بأنّها بعيدة، إلى حدٍّ كبير، عن منطق الحوار. يعود سبب ذلك إلى ادّعاء كلِّ دين لنفسه ملكيّة الحقيقة المطلقة وكون مبادئه ومعتقداته لا تحتمل المساومة أو أنصاف الحلول. يفترض الحوار – كلّ حوار – التوصّل إلى تسويات بتقريب وجهات النّظر إلى القضايا الخلافية لدى الأطراف المتحاورين. وفي حالة الأديان، خصوصاً التوحيديّة منها، تمثل المنظومات اللاهوتيّة لكلِّ دين مَحاوِر الخلاف الرئيسية، ممّا يعني أنّ الحوار هدفه الوصول إلى قواسم مشتركة حول هذه المنظومات. وقد أثبتت التجربة، حتّى الآن، مراوحةً في المكان وتَمَتْرُساً حول التباينات، وأظهرت ما يشبه الاستحالة في التوصّل إلى اتّفاقات وتفاهمات. تفسِّر هذه المُراوحة انتقال الحوار بين الأديان إلى قضايا ومسائل ليست من صُلب الأديان ووظيفتها. وليس غريباً هذا العجز عن الوصول إلى مشترك لاهوتيّ: فالمنظومات اللاهوتيّة للديانات التوحيديّة مغلقة على العموم، ترفض التنازلات في ما تعتبره جوهر إيمانها ومبرِّر وجودها. إنّ إلقاء نظرة سريعة على المبادئ اللاهوتيّة يمكن له أن يفسِّر معضلات الحوار:
1. يركّز اللاهوت المسيحيّ على مسائل يرى أنّه يستحيل على المرء أن يكون مسيحيّاً من دون الاعتقاد والتسليم بها. فالإيمان بالثالوث القائل بوحدة الآب والابن والروح القدس وبصيرورة الله إنساناً في شخص يسوع المسيح من المسلَّمات غير القابلة للنقاش. كما ترى المسيحيّة أنّ العهد الذي أعطاه الله لإبراهيم قد تحقَّق عبر يسوع المسيح، وهو أمر يؤدّي إلى التشكيك في نبوّة نبي الإسلام محمّد. يترتب على هذه المقولة أنّ خلاص البشر مرتبط ارتباطًا وثيقاً بشخص يسوع الذي يشكِّل الوساطة الوحيدة بين الله والإنسان. وتفتح مسألة الخلاص الإلهيّ على شموليّة الروح القدس الذي يستحيل على أيّ إنسان الوصول إلى الابن، ومن الابن إلى الآب، دون وساطته. ومن الطبيعيّ أن توصل هذه المبادئ إلى اعتبار الانتماء إلى الكنيسة شرط الخلاص البشريّ ("لا خلاص خارج الكنيسة")، وأنّ الروح الإلهيّ يعمل في صميم الجماعات البشريّة، ومنها الجماعات الإسلاميّة، لإرشادها شيئاً فشيئاً إلى يسوع المسيح. ينجم عن ذلك تصوّر ضمنيّ لدى الكنيسة الكاثوليكيّة ترى بموجبه انضواء الإسلام تحت المسيحيّة انضواء الفرع تحت الأصل والجزء تحت الكلّ.
2. في المقابل، يحمل اللاهوت الإسلاميّ نظراتٍ مختلفةً عمّا تقول به المسيحيّة: يرفض الإسلام ألوهيّة المسيح؛ يعترف به نبيّاً ويعظِّم من شأنه، ويعتبره روحاً من الله، كما يعظّم موقع مريم العذراء. لكن الإسلام يرفض رفضاً باتّاً هذه الألوهيّة في سورة الإخلاص: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن كفوًا أحد". يجزم الإسلام بأنّ محمّداً خاتم النبيين والمرسلين. وتمثل وحدانيّة الله ورسالة محمّد قاعدة اللاهوت الإسلاميّ: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّداً رسول الله". لا يعترف الإسلام بطبيعة الخلاص الذي تقول المسيحيّة بإنجازه عبر يسوع المسيح، كما لا يوافق على اعتبار الكنيسة المكان الأمثل لفعل الروح في التاريخ. إضافة إلى ذلك، يحمل الإسلام من الشموليّة ما يجعله يرى أنّ خلاص البشريّة يتحقّق في الانتساب إليه حصراً، بوصفه الدين الحقّ، المتمِّم والمكمِّل جميعَ الأديان منذ إبراهيم. "إنّ الدّين عند الله الإسلام" [آل عمران 19] تحفر عميقاً لدى معتنقيه وتولِّد من الأفكار والمعتقدات لدى المسلم ما يجعله يصنّف غير المسلم في خانة الكفر والإلحاد والوعيد بـ "جهنم وبئس المصير" [آل عمران 162، الأنفال 16، مثلاً]. ففي مقابل الخلاص المتحقّق عبر الكنيسة عند المسيحيّة، يتحقّق الخلاص هنا في اعتناق الدين الإسلاميّ.
3. أما في خصوص اليهوديّة، فما زالت تعتبر نفسها أمّ الديانات، وتعتقد أنّ الشّعب اليهوديّ هو "شعب الله المختار"، ممّا يجعل اليهوديّة ترى إلى نفسها ديانة "فوقيّة" قياساً إلى الديانات التوحيديّة الأخرى. يتمسّك اللاهوت اليهوديّ بمقولة ترى خلاص البشريّة في عودة اليهود إلى أرض الميعاد، بما يسمح بمجيء المسيح إلى الأرض، فيحقّق العدالة والمساواة بين البشر. يُضمِرُ هذا الاعتقاد عدم اعتراف بنبوة سائر الأنبياء، وخصوصاً يسوع المسيح ومحمّد. وعلى الرّغم من أنّ الصلات الدينيّة تبدو الأقرب بين اليهوديّة والإسلام، بالأخصّ لجهة القول بوحدانيّة الله المطلقة، إلا أنّ صعوبة الحوار بينهما محكومة بمسألة اغتصاب الحركة الصهيونيّة لأرض فلسطين ذات القدسيّة الخاصّة لدى المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء. ففي شهر آذار 2006، جرت محاولة حوار يهوديّ–إسلاميّ في مدينة إشبيلية، انتهت إلى خلاف وشجار بين المندوبين اليهود والمسلمين حول الصّراع العربيّ– الإسرائيليّ، ممّا أدّى إلى فشل المؤتمرين في التوصل إلى أيّة اتفاقات، دينيّة أو غير دينيّة.
على مدى السنوات الماضية، لم ينغلق المتحاورون من المسلمين والمسيحيين دون مناقشة بعض القضايا اللاهوتيّة التي كان الاقتراب منها سبباً للتباعد وتعميق الخلافات. لقد بدا النقاش في هذه القضايا كأنّه دعوة من كلِّ طرف للالتحاق بدين الآخر. وقد تسبَّب هذا النقاش مرّات عديدة في انبعاث موروثات تاريخيّة تستحضر الصراعات الدينيّة والسياسيّة التي عرفها التاريخ بين الطرفين. هكذا حضرت في النقاش الفتوحات الإسلامية واحتلالها لمناطق أوروبية، والحروب الصليبية، والاستعمار الغربيّ لديار الإسلام، ممّا كان يستدعي دعوات متتالية لوضع القضايا الخلافيّة جانباً والسّعي إلى حصر الحوار في قضايا يمكن التوصّل فيها إلى اتّفاق. ونجم عن ذلك أيضاً تركيز النقاشات على قضايا سياسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة، بعضها يتّصل بالأديان وبعضها لا علاقة له بها وبالحوار في ما بينها...
من أجل حوار حقيقيّ بين الأديان
لا تهدف هذه الملاحظات إلى رأي ينفي ضرورة الحوار بين الأديان أو يقول باستحالة قيامه. إن المهمات التي يضطلع بها الدين في الحياة الإنسانية وفي المجتمعات تفرض إيلاء الحوار بين الأديان أهميته التي يستحق. وتشكِّل مسألة الحوار الذاتيّ داخل كلِّ دين والتصدّي لقضاياه الخاصّة والخلافيّة مع الأديان الأخرى الأساسَ الفعليّ للوصول إلى قواسم مشتركة بين الأديان والتفاعل في ما بينها. واستقامة الحوار تفترض أن تتوفّر فيه الشّروط التالية:
1. أوّل شروط الحوار أن يراجع كلّ دين منظومته اللاهوتيّة. تحوي المنظومات اللاهوتيّة معتقدات خاصّة بمعتنقي هذا الدين أو ذاك تدخل في باب الإيمان الشخصيّ والحرّ، كما تحوي أيضاً معتقدات تمسّ العلاقة بسائر الأديان. المنظومات اللاهوتيّة الحاليّة هي وريثة معتقدات كانت لها ظروفها التاريخيّة، وقد تجاوَز الزمنُ الكثيرَ منها وجعلت التطوراتُ تعديلَها واجباً. فإذا كانت المسيحيّة تسعى فعلاً إلى إقامة علاقة حقيقيّة مع الإسلام، فلا تقوم هذه العلاقة في حين ما يزال التشكيك في نبوة نبي الإسلام قائماً ضمناً؛ كما لا تستقيم هذه العلاقة في ظل الإصرار على أنّ الخلاص الإلهيّ محصور في الكنيسة، مشروط بالانتساب إليها. في المقابل، لا يستطيع الإسلام إقامة علاقات سليمة مع المسيحيّة وهو محمَّل موروثَ تصنيف العالم إلى "دار للإسلام" و"دار للكفر"، أو بالإصرار على أنّ خلاص البشريّة مرهون بدخولها الإسلام. ولاستقامة العلاقة أيضاً، تجب مراجعة أحكام فقهيّة أو دينيّة تجاه التعامل مع غير المسلمين، بما يلغي مفهوم "أهل الذمة" ويعيد قراءة آيات الجهاد والتكفير بمنطق العصر الراهن. بالمثل، سيصعب تعامُل اليهوديّة مع الديانات الأخرى، في ظلّ الإصرار على أنّها وحدها الدين الحقيقيّ، وأنّ المسيح المنتظر لم يأتِ بعد. كما سيكون على اليهوديّة تفكيك العلاقة الأيديولوجيّة بالحركة الصهيونيّة، بصفتها حركة عنصريّة توظّف الدين اليهوديّ لأهداف استعماريّة وقمعيّة.
2. ثاني شروط الحوار يتّصل بمراجعة تاريخيّة واجبة يقوم بها كلُّ دين للعلاقات التاريخيّة التي تسبّبت في صراعات سياسيّة ودينيّة لا تزال آثارها ماثلة في التاريخ الراهن. لا تستطيع المسيحيّة التهرّب من مُراجعة حروبها الدينيّة بين طوائفها ومذاهبها، ولا تجاهُل الآثار السلبيّة التي تركتها الحروب الصليبيّة، أو ما ولده الاستعمار الغربيّ من آثار على الشّعوب الإسلاميّة، وخصوصاً إذا جرى الاعتراف باقتران السيطرة الاستعماريّة مع التبشير الدينيّ في البلاد المستعمَرة. في الوقت عينه، لا يستطيع الإسلام تجاهُل مرحلة الفتوحات والسيطرة على بلاد لا ينتمي أبناؤها إلى الإسلام، وما ساد هذه السيطرة من تمييز ضد الأقليّات غير الإسلاميّة. أمّا اليهوديّة، فهي مواجهة بالخلاص من عقدة الاضطهاد، التي تحوّلت ذريعةً وسبباً لاضطهاد شعوب أخرى، وبضرورة الفصل بين القيم الدينيّة لليهوديّة وبين الحركة الصهيونيّة التي شوَّهت اليهوديّة.
3. تنجم عن هذين الشرطين حاجةٌ ماسَّة إلى إصلاح دينيّ متجدّد ومتواصل داخل كلِّ دين. لا بدَّ أن يتوافق هذا الإصلاح مع تطوّرات العصر وتقدّم القيم الإنسانيّة، وعلى الأخصّ منها المساواة بين البشر والاعتراف المتبادل بالآخر، وبحقِّ كلِّ إنسان في اختيار الدّين الذي يشاء وممارسة معتقداته في حريّة، واحترام خصوصيّات كلِّ معتقد، ومنع فرض ما يُخالف حريّة الرأي الآخر. يكتسب هذا الإصلاحُ أهميةً مضاعفة مع انبعاث الأصوليّات داخل الديانات التوحيديّة الثلاث، بما يهدّد مكتسبات التقدّم والتطوّر والعقلانيّة والعلاقات المتبادلة بين أبناء الإنسانيّة. إذ تستثير هذه الأصوليّات الغرائز وتنبش أحقاد الماضي وتحوِّل العلاقات بين الديانات إلى علاقات عنفيّة وإرهابيّة خطرة، ستكون من أهمّ نتائجها ارتداد البشريّة إلى عصور الظلام والانحطاط.
4. لا يكتمل هذا الإصلاح من دون تحقق العَلمانية الديموقراطية وسيادتها، بالتالي، كنظام عامّ. تؤدّي العَلمانية إلى فصل الدين عن الدولة وتمنع استخدام الدين في الصراعات السياسيّة والاجتماعيّة، وهو استخدام يضرب عميقاً في العصر الراهن في الدول والمجتمعات كلِّها. وتضع العَلمانية الدين في موقعه الحقيقيّ، فتعيد الاعتبار إلى جوهره الروحيّ والإنسانيّ، وتساهم في تحرير العقل البشريّ ومعالجة الغيبيّات، وتُحِلُّ مفهوم الفرد والمواطن محلَّ مفهوم الرعية والطوائفيّة.
بتحقّق هذه الشّروط، يصبح حوار الأديان مطلباً ضروريّاً لسلامة العلاقات المتبادلة. لكن الأمر يحتاج قطعاً إلى تغييرات في الفكر والسياسة والثقافة، وإلى سيادة فهم عقلانيّ ومتنوِّر للدين من جوانبه كلِّها.