التجربة الدينيّة وحوار الأديان

محمد محفوظ

عديدة هي النزعات الأيدلوجية والاجتماعية، التي برزت في فضاء العالم والإنسانية ، وتستهدف تقليص مساحة ودور الدين في الحياة العامة للإنسان الفرد والجماعة .

ومع تراكم هذه النزعات واندفاعها صوب تطبيق قناعاتها وأفكارها ونزعاتها الخاصة بالدين، إلا أنّ الواقع الإنساني لم يشهد تراجعاً لموقع أو دور الدين في الحياة العامة.

والمفارقة الهامة والصارخة في هذا السياق هي: أنه في المجتمعات التي شهدت نزعات راديكالية تجاه الدين، هي ذاتها المجتمعات التي بادرت عبر وسائل مختلفة للتمسك بالدين وطقوسه المتعددة. فالنزعات الإلحادية أو العلموية، والتي احتضنت في بعض الحقب من قبل دول ومؤسسات ثابتة ومقتدرة، لم تتمكن بكل جبروتها وغطرستها، من إجبار الناس أو قهرهم على التخلي عن التمسك بالدين حتى بعناوينه الشكلية والطقوسية.

وهذا يجعلنا نعتقد أن الدين كمنظومة مفاهيمية وقيمية وأشكال طقوسية وتعبدية، يحتل موقعاً مركزياً في حياة الأمم والمجتمعات. وإنّه من الصعوبة التي تصل إلى حدّ الاستحالة، أن تتخلّى هذه المجتمعات الإنسانيّة عن علاقتها وصلتها بالدين.

من هنا، فإنّ الحياة الإنسانية العامة، لا يمكن أن تستقرّ على أسس عادلة للعلاقات مع بعضها البعض، كأمم ومجتمعات متعدّدة ثقافياً وحضارياً ودينياً، من دون مشاركة جميع الأديان الكبرى التي يعتنقها الإنسان، وتؤثر في رؤيته وتصوّره لذاته وللآخر، في الحوار مع بعضها البعض في نطاق العمل على تظهير القيم الإنسانيّة والتشاركيّة والتعايشيّة لهذه الأديان.

وتتأكّد هذه الحاجة في إطارنا الإسلاميّ، لكون النزعات الإرهابيّة والدمويّة التي تمارس أعمالها ضد الإنسانيّة باسم الإسلام وقضاياه العقديّة والثقافيّة. بمعنى أنّ النزعات الإرهابيّة التي تمارس اليوم باسم الإسلام، تثير الكثير من الأسئلة والتحديات، التي تتطلّب من المجال الإسلاميّ دولاً ومؤسّسات وعلماء ودعاة، العمل لإنهاء عملية اختطاف وتشويه الإسلام، التي يقوم بها الإرهابيون عبر عملياتهم القذرة، التي تمتهن القتل والتفجير وسفك الدماء كآليات لتمكين الإسلام (كما يدّعون) في الأرض. وبالتالي، فإنّ المجال الإسلاميّ بكلّ ثرائه العلميّ ومؤسّساته ومعاهده الدينيّة والثقافيّة معنيّ للعمل في اتّجاهين أساسيين في وقت واحد وهما:

1- العمل على تحرير الإسلام كثقافة وكمجال حضاريّ ومعرفيّ، من نزعات الإرهاب والقتل والغلو. وهي نزعات طالت في أعمالها المستنكرة البشريّة جمعاء. وفي تقديرنا بمقدار ما يتمكّن مجالنا الإسلاميّ من تحرير الإسلام كثقافة ومجال حضاريّ من نزعات الإرهاب والتطرّف والقتل على الهوية، بذات المقدار تتبلور إمكانات المجال الإسلاميّ لتبوأ مواقع متقدّمة في المشهد الإنسانيّ والعالميّ.

ومن الضروريّ في هذا السياق، أن ندرك أنّ القتل والإرهاب الذي يمارس بحقنا نحن المسلمين في مواقع عديدة من العالم، وعلى رأس هذه المواقع فلسطين المحتلة، وهي أعمال إرهابيّة ينبغي أن تدان من جميع أديان ودول العالم. أقول إنّ هذه الأعمال الإرهابيّة التي تمارس بحقّنا، ليست مبرّراً كافياً لانطلاق نزعات إرهابيّة في محيطنا وفضائنا. فنحن ينبغي أن نقاوم الظلم والإرهاب الذي نتعرّض إليه سواء في فلسطين أو في غيرها من المناطق، ولكنّها المقاومة التي لا تتورّط بعمليّات القتل المجانيّ أو الإرهاب .. وبون شاسع على صعيد الرؤية والوقائع بين الإرهاب والمقاومة. وينبغي أن نتذكّر دائماً كمجال إسلاميّ أنّ التفوّق الثقافيّ يستدعي تفوقاً أخلاقيّاً.

2- المساهمة والمشاركة الجادّة في مشروعات الحوار والتعارف والتلاقي بين الثقافات والأديان والحضارات. إذ أنّنا معنيّون ببلورة المبادرات وبناء الأطر والمؤسّسات، التي تُعنى بشؤون التفاهم الإنسانيّ والحوارات الدينيّة والحضاريّة. وفي تقديرنا أنّ تفعيل هذه الثقافة والمبادرات، سيقلّص بشكل أو بآخر نزعات الحروب والصّراعات المفتوحة في العالم كلّه. وينبغي أن لا نخضع هذا التوجّه أو السياق إلى نطاق ردود الأفعال على ممارسات موضعيّة معيّنة، وإنّما يبقى سياقاً ثابتاً في مسيرتنا الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة.

فالمطلوب هو إطلاق مبادرات إنسانيّة - عالميّة تستهدف اللقاء والتواصل والحوار بين جميع المنظومات الثقافيّة الإنسانيّة والعالميّة، وذلك من أجل تفعيل المشتركات، وتطويق ومحاصرة نزعات الإرهاب والتطرّف في كلّ المنظومات، والعمل على بناء وقائع إنسانيّة جديدة، تستند إلى قيم المحبّة والعدالة والمساواة. فالبشريّة اليوم تعاني من مشكلات عدّة وخطيرة، واستمرار سيطرة نزعات التطرّف والصدام في الفضاء العالميّ، سيكلّف البشريّة جمعاء الشيء الكثير. لذلك، ومن أجل سلامة البشريّة وإخراجها من احتمالات الحروب والصدامات العنفيّة، تتأتّى الحاجة إلى صياغة المبادرات الحواريّة على المستويين الدينيّ والحضاريّ، وذلك من أجل بناء حقائق إنسانيّة تبعد شبح الحروب والصدامات العنيفة. والإنسانيّة اليوم بحاجة إلى استحضار كلّ المخزون القيمي الإنسانيّ، الذي يساهم في ضبط نزعات الإنسان الفرد والجماعة نحو السيطرة والهيمنة واحتكار مصادر القوة. ولا ريب أن الأديان من أبرز الروافد، التي أثرت البشرية ولا زالت بالكثير من القيم والمناقبيات، التي تساهم في تهذيب الحياة الإنسانية، وضبط نزعات الشر فيها .. ونحن هنا لا نروم توظيف قيم الأديان ومبادئها الأساسية لأغراض سياسية آنية ومرحلية وضيقة، وإنما ما نروم إليه هو أن تستهدي البشرية جمعاء بقيم الأديان العليا، وتعمل على إخضاع سياقاتها السياسية والثقافية والاجتماعية إلى مقتضيات هذه المبادئ والمثل العليا. فنحن نشعر بأهمية أن تحضر قيم الأديان الأساسية والعليا في حياة كل الأمم والشعوب. لأننا نعتقد أن هذا الحضور سيساهم بشكل أو بآخر في إغناء الحياة الإنسانية وابتعادها عن الكثير من نوازع الشر والتخريب. فالأديان في لحظتها التأسيسية وقيمها العليا، من الروافع الأساسية للإنسان فردا وجماعة على صعيد الأخلاق وأنماط العلاقة وسبل استثمار ثروات الأرض والطبيعة. ووجود لحظات أو فترات زمنية في كل المجتمعات والأمم، خضعت فيها المؤسسات الدينية للسلطان السياسي، وأضحت مسوقة لخياراته ونزعاته، لا يلغي بأي حال من الأحوال المخزون القيمي التي تحملها الأديان، وقدرة هذه الأديان الفذة على إغناء الإنسان مادياً ومعنوياً. وأنّه لا استقرار على الصعيد العالمي والإنسانيّ، بدون استحضار قيم الدين العليا، وتفاعل الإنسان معها، بحيث يتحول إلى قوة دافعة لتجسيدها في الواقع الخارجي.

والقوة المعنوية للأديان في نفوس وعقول الناس، سيكون لها مفعولها الإيجابي والفعال لإرساء حقائق السلام ونبذ العنف في العلاقات الإنسانية والدولية. وكلّ النزاعات والحروب التي تعنونت بعناوين دينية، قيم الأديان الأساسية بريئة منها، وهي محاولة من قبل مشعلي الحروب لتوظيف السلطة الرمزية للدين في معارك سياسية أو استعمارية، تعود بالنفع السياسي والاقتصادي إلى النخب السياسية والاقتصادية السائدة ..

فالأديان التوحيدية الكبرى، بكل قيمها ومبادئها، لا تشرع للقتل والحروب، وقيم ومبادئ الجهاد في الرؤية الإسلامية، ليست تشريعا للقتل وقهر الناس على الدخول في الدين الإسلامي، وإنما هي من أجل رد الاعتداء، ذلك الرد الذي لا يقع في مطب الاعتداء المقابل. والفرق الجوهري بين مفهوم الجهاد ومفهوم العنف هو أن الأخير (العنف) يعني ممارسة الإيذاء والعدوان لأهداف مشروعة أو غير مشروعة. بينما الجهاد في الرؤية الإسلامية شرع من أجل دفع الظلم ورد العدوان ومقاومة المعتدي.

فالالتزام بقيم السماء لا يشرع إلى العنف وإجبار الناس على ما ذهب إليه الملتزم، بل على العكس من ذلك تماماً، حيث أن الالتزام العقدي والسياسي، يدفع بصاحبه إلى الدقة والالتزام الموضوعي وعدم التعدي على الآخرين مهما كانت المبررات والمسوغات. والدين كما هو معيوش، لدى كل الأمم والمجتمعات، بحاجة إلى نقد ومساءلة، لأن فيه العديد من العناصر والممارسات، التي لا تنسجم وقيم الأديان العليا. ويبدو على صعيد التجارب الدينية، أن المهمة الأساس هي تجسير الفجوة بين الدين كقيم معيارية، متعالية على الزمان والمكان، والدين كما هو معيوش ونسبي وخاضع لظروف الزمان والمكان. ولكون تجسير الفجوة على الصعيد الجمعي ، من المهام الخالدة، تبقى أهمية أن يقبض الإنسان على قيمه العليا، ويستوعب مضامينها، ويعمل وفق إمكاناته المحدودة على تجسيد هذه القيم وتمثلها في حياته بكل مستوياتها.

وبالتالي فإن حوار الأديان الذي يقترب من شؤون الإنسان وثقافاته وخياراته، هو الوسيلة المطلوبة لتظهير قيم الأديان الأساسية، ولتطوير دور وتأثير هذه القيم على المشهد العالمي.

وفي هذا السياق العربي - الإسلامي، من الضروري الإشارة إلى أهمية حماية الوجود المسيحي - العربي، لأنّه جزء أصيل من تكويننا القومي والثقافي، وإن محاولات تفريغ فضائنا العربي من الوجود المسيحي - العربي، هي محاولات تستهدف الإضرار بحاضر الوطن العربي ومستقبله.

لذلك نستطيع القول: أن حماية الوجود المسيحي - العربي، هو ضرورة قومية وواجب أخلاقي، يتطلب من جميع الأطراف في المجال العربي العمل على حماية هذا الوجود، واحترام خصوصيته الدينية، والعمل على إنهاء موجبات وأسباب الهجرة المسيحية من المجال العربي - الإسلامي.

وحماية الوجود المسيحي – العربي، من الضرورات الاستراتيجية القصوى للعرب في هذه اللحظة التاريخية الخاصة. حيث أن هذا الوجود بإمكاناته العلمية، وانفتاحه المعرفي على الغرب، ومساهماته الفذة في خدمة الحضارة العربية – الإسلامية، كلها عناوين وحقائق تفضي إلى القول: أن خلو المنطقة العربية من هذا الوجود المتميز، يعني خسارة فادحة للعرب على كل المستويات.

لهذا من الضروري القيام ببلورة السياسات، التي تساهم في المزيد من إشراكهم في الحياة العامة، وتبديد هواجسهم ومخاوفهم.

وفي المقابل أيضاً من المهم أن يتجه هذا الوجود إلى نسج علاقات حيوية وفعالة مع شركائهم في الوطن والقومية. ومشروع حوار الأديان، هو من الفرص المناسبة والمناخات الإيجابية التي تساهم في تبديد مخاوف المسيحيين العرب، والعمل على دمجهم وإشراكهم في الحياة العامة.

وعليه فإن حوار الأديان، ليس حواراً عقدياً، يتّجه إلى تظهير الجوامع العقدية، وإنّما هو حوار يستهدف تعاون أمم وشعوب هذه الأديان لعلاج مشاكلهم الثقافية والسياسية والاجتماعيّة. فهو حوار حول الحاضر والمستقبل، وإطلالته على الماضي، هو من أجل أخذ العبر والدروس، وتعزيز خيار التواصل والتلاقي بين أهل الأديان التوحيدية في الراهن والغد.

وهذا لا يتأتى بطبيعة الحال، إلا بتأسيس رؤية حضارية، تجاه الذاكرة التاريخيّة لكلّ الأطراف. فهذه الذاكرة في بعض صورها ومحطاتها، تمارس دورا سلبيا تجاه عملية الحوار والتواصل. وليس بإمكان أحد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء أو صياغة الأحداث التاريخية، التي تشكل في المحصلة النهائية مادة الذاكرة التاريخية لكل الأطراف. ولكن بالإمكان إعادة بلورة الرؤية في طريقة التعامل مع هذه الذاكرة. التعامل الذي لا يفضي إلى تضخيم أسباب القطيعة أو تحويل وقائع التاريخ وكأنها حقبة سوداء مظلمة. ولكنه التعامل الذي يجدد حيوية الحاضر، ويزيد من فعالية الجميع لتجاوز كل النقاط المظلمة في العلاقة التاريخية.

والتجربة الدينية لكل الأطراف، بحاجة إلى مساءلة ونقد، وذلك من أجل أن ترتقي هذه التجربة، وتلتحم بكل مستوياتها مع الإنسان ومصالحه النوعية. والتعدد الديني الموجود في المجال العربي، يتطلب إدارة سياسية ومجتمعية راقية ومرنة، بحيث لا تلغي الخصوصيات الدينية ولا تحبسها في إطارها الضيق في آن. وذلك من أجل أن تنفتح كل هذه التعدديات على الواقع العربي لإثرائه معرفيا واجتماعياً، وتمتين الأوضاع الداخلية في كل بلد عربي على قاعدة الحرية والاحترام المتبادل وصيانة حقوق الإنسان.

لهذا فإننا ضد كل المحاولات السياسية والميدانية، التي تستهدف الوجود المسيحي سواء في العراق أو السودان أو لبنان، ونرى أن مقتضى الشراكة القومية والحضارية، يدفعنا إلى حماية هذا الوجود، وتوفير كل أسباب وموجبات العدالة والمساواة في التعامل معهم على كل الصعد والمستويات.

المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=7804

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك