الغارة على العالم الإسلامي وصدام الحضارات
الغارة على العالم الإسلامي
وصدام الحضارات
إعداد
د/ ربيع بن محمد بن علي
الأستاذ بالجامعة الإسلامية
إهداء
إلى حضارة الغرب التي حاولت وسرعان ما فشلت- بفضل الله ثم بفعل المقاومة- في إظهار الاحتلال على أنه تحرير .. وتصوير الطغيان والهيمنة والإيقاع بين طوائف الشعوب على أنها ديمقراطية .. وممارسة الإبادة الجماعية وأعمال القهر والبطش والخراب وسفك الدماء على أنها حرب على الإرهاب .. وخداع الجماهير وإزهاق الأرواح وأعمال السادية على أنه إنقاذ .. وتقديم المزاعم والأكاذيب على أنها حقائق .. واعتبار السرقة والنهب والتدمير والتخريب إعادة للإعمار .. ووصف اغتصاب النساء والأطفال بأنه تطهير .. وإشاعة التزوير في إرادة الشعوب والزيف في الانتخابات والهمجية والعري ومعاقرة الخمر وتعاطي المسكرات على أنه خطوة في طريق التقدم والحرية .. وإلى حضارة الإسلام السامقة الراقية السامية التي وضعت الأمور في نصابها .. حتى لا يصح في النهاية إلا الصحيح.
إلى كل من يريد معرفة المزيد عن حقيقة ما يجري على أرض العراق، والمزيد عما يضمره النازيون الجدد وعما يفعله التتار الخارجون على القوانين والأعراف الدولية .. للإسلام والمسلمين على أرض الواقع .. وإلى أولئك الذين يريدون معرفة الوجه الآخر والحقيقي للغرب وحضارته القائمة على الظلم والعنصرية والقهر لكل من عداهم.
إلى أولئك العملاء الذين ساندوا في غيبة من ضمائرهم قوى الاحتلال الذي اغتصب عرضهم وأذل أنفاسهم واستلب أرضهم ونهب ثروات بلادهم بعد أن غرر بهم .. وإلى الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا وارتضوا لأنفسهم أن ينخرطوا في حكومات لا تمثل شعوبها وأن يشاركوا في صنع ديمقراطيات زائفة- يحتقرها لسوء عواقبها ولفرط وضاعتها- من أشار عليهم بها من أعداء الإنسانية.
إلى من سعوا في لبنان والأردن ومصر والكويت والإمارات والسعودية ودارفور والمغرب وموريتانيا وأندونيسيا وسائر بلاد العرب والمسلمين ولا يزالون، في خَطب ودّ أعداء رب العالمين حكاماً ومحكومين .. خشية أن يستحقوا مقت الله وينطبق عليهم قوله: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً . الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً. وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً. الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً. إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً. مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً .. النساء/ 138 - 143)، وقوله: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين .. المائدة/ 52)، وقوله: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم .. التوبة/ 68) .... نهدي هذا الكتاب
مقدمة
لعله قد بدا واضحاً لكل ذي عينين إفلاس الحضارة الحديثة التي تدعي لنفسها التقدم والمدنية والحرية والديمقراطية والرقي ومواكبة العصر إلى آخر هذه الشعارات البراقة، إزاء تلك الهجمات التترية التي يشنها مغول هذا العصر على المدنيين العزل وانتهاك حرماتهم وحرمات مساجدهم وإمطارهم بالقنابل المحرمة .. لعله قد بدا كيف قامت حضارتهم- كما هو العهد بهم منذ قديم الزمان- على الاستعمار والأكاذيب والأضاليل وقلب الحقائق بعد أن جعلوا من المقاومين لكل احتلال متمردين، ومن المدافعين عن كل عرض ووطن إرهابيين والذابّين عن شريعة ربهم متطرفين، وبعد أن جعلوا من كل غاز يريد فرض عقيدته وزائف ديمقراطيته على المسلمين بطلاً، ومن كل أثيم يسلب أرضاً أمّنها الله أو يعذب نفساً عصمها الله أو ينتهك عرضاً حرمها الله مغواراً.
لقد انكشف عوار حضارة الغرب باحتلال بلاد المسلمين إثر اختلاق أسباب واهية ضللوا- ولا يزالون- من خلالها العالم كله، من نحو نزع أسلحة الدمار والإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية وإتاحة الفرصة لحكومات ديمقراطية والسعي لرفاهية تلك الشعوب المسلمة المغلوبة على أمرها والعمل على أن تنعم بالحرية .. وتهاوت مدنيتها ورقيها في أبشع صورة باستخدامها هي- في إهلاك الحرث والنسل- ما جاءت لحماية الشعوب منه من قنابل عنقودية وفوسفورية وسامة وحارقة وبيلوجية وكيماوية إلخ وبكميات تقدر بآلاف الأطنان، وبتوفير غطاء لغطرسة ربيبتها إسرائيل، وبمحاولاتها اليائسة في القضاء على الوجود الإسلامي، وبنشرها العري والفساد والزنا والمسكرات والبلطجة والخنا، وبممارستها لكل أساليب البطش والأعمال السادية، وبفرضها حكومات صورية تخدم مصالحها وسياسات قمعية تكشف عن أطماعها ومناهج وضعية تبين عن نواياها في بسط سيطرتها وعقيدتها في بلاد المسلمين ... انكشف عوار حضارة الغرب بإذلال العجائز والمستضعفين من المسلمين في العراق وغيرها وبقتل الأطفال وباغتصاب المحصنات الغافلات .. وتهاوت مدنيتها ورقيها في سجن أبو غريب ومستشفيات الفلوجة وتحت معاول المعترضين على سياسة قادتها والشاهدين من أهلها على جرائمها من العسكريين والخبراء والساسة القدامى من الأمريكيين والبريطانيين ... انكشف عوار حضارة الغرب بقتل الجرحى العزل داخل دور العبادة وبهدم المساجد وإكراه الناس على اعتناق المسيحية التي المسيح منها براء .. وتهاوت مدنيتها ورقيها بترك الجرحى عمدأ ينزفون وبدك المستشفيات على من فيها وبمنع جهود الإغاثة من أن تصل إلى مستحقيها قبل أن يقضوا نحبهم .. انكشف عوار حضارة الغرب بالمروق من الاتفاقيات المبرمة في (لاهاي) في سنة 1907و(جنيف) في سنة 1929، 1949، 1977وكلها قد أقرتها المنظمات الدولية وكلها تقضي بحظر قصف المناطق السكنية وانتهك دور العبادة والأماكن التاريخية والثقافية والانتقام تحت أي ظرف من الظروف من المدنيين العزل .. وتهاوت مدنيتها ورقيها بنقض هذه الأمور المتفق عليها دولياً عن قصد والتحلل منها والالتفاف حولها والتحايل على الانفلات منها وعدم التقيد بها بالفيتو وبالأضاليل واختراع المبررات والأكاذيب التي عادة ما يتم اكتشافها بعد إهلاك البلاد والعباد وبعد فوات الأوان وبعد تحقيق المارقين والخارجين على القوانين والأعراف الدولية مآربهم وخلق الأمر الواقع .. انكشف عوار حضارة الغرب بالتزام الصمت عما فعله معشر يهود من العتب على عشرين رصاصة خرجت من أحد جنودهم لا لأن صاحبها اخترق بها جسد طفلة بريئة ولكن لأن أمر قتلها يكفيه رصاصة واحدة ولا يستحق كل هذه الرصاصات التي كان من الممكن أن يفعل بها الشيء ذاته مع عشرات مثلها .. وتهاوت مدنيتها ورقيها بسكوت أصحابها بل وبإقرارهم هدم البيوت على الفلسطينيين وإخراجهم في كثير من الأحيان من ديارهم بعد سحلهم ورميهم كالكلاب في الميادين العامة يجترون الآلام والأحزان ليكونوا عبرة لغيرهم ممن يأبون الظلم ويتمسكون بالكرامة .. انكشف عوار حضارة الغرب برضائها عما ارتكبه شارون في صبرا وشاتيلا من مذبحة راح ضحيتها ألفي مدني أصدر أوامره ببتر أعضائهم وسحق رؤوس أطفالهم وإعدام رجالهم في الشوارع واغتصاب نسائهم، وعما ارتكبه في دير ياسين من قتل ما يقرب من 360 فلسطينياً في أبشع مجزرة شهدتها الإنسانية، وعما قام به من نسف أكثر من 400 طفل وسيدة وشيخ في (رام الله) أدار ظهورهم للحائط وراح يفرغ الرصاصات في أجسادهم، وعما ارتكبه في كفر قاسم من قتل وجرح 57 بينهم أطفال ونساء وعندما اضطرت الحكومة الإسرائيلية أمام سخط الرأي العام للتحقيق معه قال بكل فخر إنه "سعيد بارتكاب مذابح ضد العرب"، وعما فعله بنفس المنطق بعد تعيينه قائداً للقوات الإسرائيلية أثناء العدوان الثلاثي حين قام بأسر 300جندي مصري وأمر بدهسهم بالمدرعات وهم أحياء، وعما فعله عندما هاجم في نفس العام غزة وخان يونس وقام بتجميع 25 جندياً من الحرس الوطني الفلسطيني وأطلق عليهم النيران، ولم يهدأ له بال حتى توجه إلى مستشفى البلدة وقام بقتل المرضى والأطباء ثم قام بتجميع80 شاباً من الشوارع ليطلق النيران عليهم واحداً تلو الآخر حتى أجهز عليهم وترك جثثهم لمدة ثلاثة أيام لمزيد من الإرهاب للأهالي .. وتهاوت مدنيتها بتصديقها بعد كل ما ذكرنا بما يشيعونه من أن هؤلاء هم شعب الله المختار وأنهم يفعلون ذلك استعجالاً لمجيء وعودة المسيح الذي سيحكم القدس بعد أن تطهر من نجس المسلمين.
والغريب في الأمر أن تنبري بعض الأقلام لتبرئ ساحة الغرب من تهمة العداء للإسلام وترفض مصطلح (حرب الحضارات)، وكأن ما ذكرنا نتفاً منه وما يجري على الساحة العراقية والأفغانية يحدث على كوكب آخر، أو لكأننا معاشر أتباع محمد الذين نسعى للصدام .. ويتعامى أصحاب هذه المقولة وكأنهم في حالة سكر أو إغماء وتغابٍ عن آلاف الأطنان من القنابل الأشد فتكاً وعن ترسانة الغرب وآلته العسكرية التي ما فتأت ولا زالت تجوب بلاد المسلمين شرقاً وغرباً وهنا وهناك بعد أن جاءت بنفسها طائعة مختارة م ن كل حدب وصوب تدمر وتهلك وتخرب .. يقول اليهودي المتعصب (صموئيل هنتجتون) في أخطر فقرات كتابه (صراع الحضارات) في كشفه لحقيقة الأمر وفي رده على حسني الظن من المسلمين كي يصححوا معلوماتهم ويعدلوا من تفكيرهم الخاطئ: "إن الصراع على خطوط الصدع بين الحضارتين الغربية والإسلامية قد بدأ منذ أكثر من ألف وثلاثمائة عام، وعلى مدى القرون كان الاحتكاك المسلح بين الغرب والإسلام ولم يهدأ أبداً، ومن غير المتوقع أن يؤول ذلك التفاعل إلى الزوال بل يمكن أن يصبح أكثر ضراوة .. إن الإسلام- هكذا هو يقول- يمتلك حدوداً دموية"، والفقرة الأخيرة التي علل بها روح الصدام، هي بيت القصيد لأن (هنتجتون) يعلم قبل غيره أن أنهار الدم التي فجر ينابيعها وأوقد نارها يهود كل عصر ومصر، إنما جاءت بفعل الغرب وأن الروح الصهيونية والصليبية البعيدتان كل البعد عن دين موسى والمسيح، لم يخمد لهيب سعارها المتأجج في صدور هؤلاء وأولئك على امتداد التاريخ القديم والحديث، بل ولغاية تصريح بوش الأخير بشن الحملة الصليبية .. مروراً بالحملات والحروب الصليبية التي أطلقها البابا (أوربان الثاني) في نوفمبر سنة 1095 م، ودعا لها حكام الغرب وداهمت- كما هو الحال الآن ولكن أكثر الناس لا يعلمون- كل ما واجهها في بربرية متعطشة للتخريب والتقتيل حتى كانت الخيول تنزلق في برك الدماء المسلمة وسقط فيما سقط كثير من نصارى القدس .. وبجحافل الفرس والرومان وجيوش (جنكيزخان) وولده (اغوتاي) التي اجتاحت العالم الإسلامي عام 1221 ، 1236 ، ومن بعدهما هولاكو الذي استطاع بالمغول عام1258أن يبيد جند الخليفة المستعصم عن آخرهم، واستباحوا كل شيء ببغداد وأجهزوا على ما يربو عن التسعين ألفاً من سكانها دون تفرقة حتى امتلأت الدروب بالجثث وداستها الخيول .. وبحملات (تيمورلنك) الذي زحف بقواته على بغداد في 1393 وأشاع في الأهالي القتل والتعذيب كعصر الأعضاء والمشي على النار والتعليق من الأرجل ودس خرق التراب الناعم بأنف المعذب، وأتم احتلال بلاد الشام ثم احتلالها بعد مذابح شملت الأطفال والنساء والشيوخ وبعد أن كلف كل واحد من أتباعه بأن يأتي برأسين حتى بلغ عدد القتلى تسعين ومائة ألف .. وبسقوط غرناطة سنة 1492م الذي راح ضحيته الآلاف وأجبر 400000 أربعمائة ألف على الدخول في المسيحية بعد أن نصبت لهم محاكم التفتيش وعقب تعرضهم لفظائع وأهوال تشيب لها الولدان.
ولتكن هذه الصفحات وتلك المقالات شاهدة على رداءة ما اختاره القوم من صراع مع أطهر أناس ومن صدام مع أكمل وأتم دين ومن نزاع مع أعرق حضارة عرفتها البشرية .. وشاهدة في الوقت ذاته على عظمة الإسلام الذي لا مقارنة بينه وبين شريعة الغاب التي ارتضتها حضارة الغرب منهج حياة، وإذا به يهوى بها وبما ارتضاه في مذبلة التاريخ وإلى مكان سحيق وصدق الله القائل: (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
فصل أول في: الوجه الحقيقي لحضارة الغرب
المقال الأول: انجراف البشرية إلى هاوية حرب لا مبرر لها ولا محصلة من ورائها ضد المسلمين وحضارة الإسلام
يدرك أي منصف أن الإسلام جاء بأعظم حضارة عرفتها الإنسانية، وأن ما يفعله أعداء الإسلام الآن ومنذ زمن بعيد بالمسلمين الذين أضحوا بتخليهم عن ثوابت دينهم- التي يأتي في المقدمة منها الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين- كالأيتام على مائدة اللئام .. هو في الصميم من قبيل صراع الحضارات، ومن شديد ما يؤسف له أن جميع هذه القوى المعادية على اختلاف توجهاتها أخذت مواقفها المعادية للإسلام دون قراءة متجردة وواعية له ولا معرفة لقيمه ومبادئه، وقد أداها ذلك لأن تتنكر له وتجحد فضله على العالمين وتشوه صورته وتتعامى عن حضارته التي طبقت شهرتها الخافقين، كما أداها عداؤها للإسلام لأن تتظاهر- بجهالة وفي أغلب الأحيان عن عمد- بالعجز عن أن تتعايش أو أن توفق أوضاعها مع أمته التي تفوق في تعدادها خمس سكان الأرض وكان المبرر الوحيد لها في معاداتها هو- إلى جانب الحقد- عدم وجود من تعاديه بعد انهيار الشيوعية.
ولقد أثار اعتراف حكومة صربيا لأول مرة في منتصف أكتوبر من العام 2004 بالمذبحة التي راح ضحيتها أكثر من سبعة آلاف مسلم بوسنوي في مدينة (سربرنيتشا) وحدها، وتسليم أحد من قاموا بتعذيبهم نفسه إلى محكمة العدل الدولية، وكذا شهادة (نيك كاميرون) ضابط القوات الخاصة البريطانية التي اعترف فيها قبل ذلك بعامين تقريباً بحقيقة ما جرى في (سربرنيتشا) عام 1995- يعني في العقد الأخير من القرن الماضي ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين وبداية الألفية الثالثة- من ذبح أكثر من 7 آلاف مسلم في أبشع مجزرة ترتكبها أوربا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على مرأى من قوات الأمم المتحدة الدولية ومسمع من العالم كله.. أثار ذلك في نفس كل مسلم شئوناً وشجوناً.
يحكي هذا الأخير الذي قُدر له أن يكون ضمن قوات الأمم المتحدة، قصة الصراع الدائر في قلب أوربا بين حضارة الإسلام وتلك الحضارات التي تدعي لنفسها التقدم والرقي والمدنية فيقول حسب ما جاء في جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 13/ 7/ 2002: "لقد خَدعْنا الجنود المسلمين، فنحن قوات الحماية الدولية بدلاً من أن نوفر لهم الأمن والحماية غررنا بهم وسلمناهم للصرب"، ويعبر (كاميرون) في لحظة تأنيب ضمير عن هذا الماضي القريب الذي "ما زال يصرخ من تحت الأنقاض ويئن بأوجاع السبعة آلاف جثة المتحللة التي أردتها نيران المدفعية الصربية وقنابلها الغادرة مخلفة وراءها مقابر جماعية للمسلمين"، فيضيف أن ذاكرته "ما زالت تحمل آلاف الصور المأساوية لآثار تلك الحرب المدمرة.. أشلاء الضحايا المسلمين المتناثرة في كل مكان .. وذلك الدخان الأسود الذي كان يغلف السماء"، ولأي منصف أن يعترف لمثل هذا ولأضعاف أضعافه للأشاوس الأمريكان والإنجليز الذين كتبوا بما ارتكبوه من فظائع في الفلوجة والموصل وأفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين شهادة الوفاة للأمم المتحدة، وندع (كاميرون) الآن يواصل حديثه ليكشف عن الوجه القبيح والحقيقي لحضارة الغرب، يقول: "إنه قضى شهوراً طويلة لا يستمع إلا لطلقات الرصاص والبنادق ولا يرى سوى قذائف الصرب التي كانت تتوالى تباعاً فوق أشباح الموتى وهي عطشى لمزيد من الجثث من الرجال والنساء والأطفال المسلمين في مذبحة (سربرنيتشا) المروعة"، ويفصح (كاميرون) عن "أن عملية التلاعب بالألفاظ في مفهوم الحماية الدولية كانت هي المفتاح الذي استخدمه الغرب لإطلاق يد صرب البوسنة الغادرة لتصفية المسلمين في تلك المدينة"، فقد كان يعتقد في البداية أنه ذاهب مع باقي أفراد القوة لحماية المسلمين في هذه المنطقة ضد هجمات الصرب، تماماً كما حدث إبان حرب الخليج عندما تصدت قوات الأمم المتحدة بكل ضراوة ضد اعتداءات صدام حسين، ويتساءل في حزن عميق: "ألم يكن من المفترض أن تقوم الأمم المتحدة بنفس هذا الدور الحاسم لردع الصرب؟"، لكن اتضح وفقاً لما ذكره أن الأمر يختلف، ويعبر عن تلك اللحظة القاسية بقوله: "أما أنا فكنت أعرف الحقيقة المرّة، نحن من سهلنا للصرب مهمتهم، نحن من تلاعبنا بالألفاظ في مفهوم الحماية الدولية".
ثم راح يفسر ذلك بقوله: "إن هناك فارقاً كبيراً في قاموس الحماية الدولية بين مسمى (المنطقة الآمنة) و (الملاذ الآمن)، فالأخيرة تعني أن قوات الأمم المتحدة يمكن أن تتدخل في المنطقة دون الحاجة إلى الحصول على إذن من الأطراف المتنازعة كما هو الحال في مهمة الأمم المتحدة في العراق، أما بالنسبة لـ (المنطقة الآمنة) فلا يمكن للقوات الدولية أن تقوم بعملياتها العسكرية دون أخذ موافقة الأطراف المتحاربة ذاتها !!"، وقد عجب (كاميرون)- وله في ذلك كل الحق- عندما علم ما وراء اللجوء إلى هذا المسمى الأخير، وأنه لا يكفي فقط الحصول على موافقة الجنود المسلمين المعتدى عليهم وإنما لا بد من موافقة القوات الصربية أيضاً، وذلك حتى يتسنى لقوات الأمم المتحدة تأدية هذه المهمة العسكرية التي بنيت أساساً على الخداع وخدمة النوايا والأغراض الآثمة المجحفة- على حد وصفه- ألا وهي السماح بإبادة مسلمي البوسنة، وقد تم للأمم المتحدة ما أراده لها الغرب كما تم للغرب ما أرادته لها هيئة الأمم.
لكن يزول استغراب (كاميرون) عندما نعلم ويعلم هو أن ما جاء على لسانه يعكس لب الصراع الدائر الآن والذي فرضه الغرب الحاقد وكل من على سار على دربه لحرب الإسلام ومعاداة أهله والنيل من كل ما يمت إليه بصلة، كذا دون ما مبرر يعقل ودون ما سبب يذكر، ولعل مما يؤكد هذه الحقيقة ما جاء على لسان قائد القوات الصربية (فوشتيك) الذي اعترف لمجلة (ديرشبيجل) الألمانية وقال بالحرف الواحد: "لقد قتلت وحدي مئات المسلمين، وقمت شخصياً بإطلاق الرصاص على الأسرى المسلمين للقضاء عليهم"، وعندما نبهته المجلة إلى المعاهدات الدولية التي تحرم قتل الأسرى قال: بأنه "لما لم يجد سيارات لنقلهم، وجد أن أرخص طريقة هو قتلهم بالجملة، مثلما أجهز رفاقه الصرب على 640 مسلماً كانوا يختبئون في مخبأ"، كما ذكر: "أن من لم يقتله كان يقوم أحياناً بخرق عينيه وتعذيبه، وانه كان يلجأ إلى تهشيم أيدي الأسرى ببطء حتى يعترفوا بما يريد"، وحين سؤل عن هدف الحرب التي تخوضها القوات الصربية في البوسنة صرح بقوله: "المسلمون في أوربا يجب أن يختفوا كأمة، وأن على المسلمين في البوسنة إعلان تحولهم عن الإسلام وأن يصبحوا صربيين أو كروات أما الخيار الثالث فهو الموت، وإن بيننا وبين المسلمين الألبان في كوسوفو ثأر وسنقوم بطردهم ومن يرد البقاء سنقتله، لا نريد مسلمين بيننا أو حتى في أوربا كلها"، كما يؤكد حقيقة العداء بين الغرب والإسلام ما صرح به جزار الصرب الأرثوذكس الأصوليين (سلوبودان ميلو سوفيتش)، وذلك حين سؤل عما يفعله في مسلمي البوسنة فقال: "إنني أطهر أوربا من أتباع محمد"، وما جاء في قول إحدى المسلمات البوسنويات اللاتي تم اغتصابهن: "إن قائد معسكر الجنس- كما أطلق عليه- قال لها نحن نريد أن نغسل أرحامكن من نسل محمد ونطهرها بنسل عيسى"، ونشهدك ربنا في عليائك ببراءة عيسى من كفر هؤلاء الفجرة ومما يفعلونه بمن يؤمنون به من أهل التوحيد.
ويفسر لنا ما سبق، ما تناقلته وكالات الأنباء يومها من أن طائرات حلف الناتو التي كانت تحلق فوق سماء البوسنة لم تكن تضرب المعتدي، بل تضرب مواقع خلفية لا توقف الزحف الصربي على الجيب الذي وعدت الأمم المتحدة بحمايته، كما كانت تدعي أنها تاهت عن أهدافها ثم عادت إلى قواعدها سالمة بعد تعرضها لصواريخ سام 6 التي أطلقها عليها الصرب .. ويأتي هذا المسلسل الإجرامي ضمن ما صرح به وزير خارجية إنجلترا يومها بأن من الوهم أن يتصور أن قوات حلف الناتو قادرة على وقف الحرب في البوسنة والهرسك، وأنه لا حل إلا بالتفاوض للوصول إلى حل سلمي، وهو يعرف أن المسلمين قد قبلوا خطة دول الاتصال .. وما ذكره (أوليفرإيفانوفتش) زعيم المجلس الوطني الصربي في كوسوفا من "أن لدينا بنادق ومعدات كافية لبدء حرب عالمية ثالثة.. ولدينا مخزون كبير من القنابل اليدوية والرشاشات والقذاف ذاتية الحركة"، وما أفصح عنه مفتي البوسنة الشيخ (مصطفى سيريتش) في حوار له مع جريدة الشعب المصرية بتاريخ 28/ 12/ 1993 من وصف أمريكا بأنها "ذات وجهين، من ناحية تتكلم كلاماً يسر، ومن ناحية أخرى تمارس سياسة نفاقية، فحين تطبق قرارات الحصار على العراق لا تتحفظ وعلى ليبيا لا تتردد، وفي حالة البوسنة لا تستطيع ولا يستطيع الغرب الاتفاق" .. وما صرح به رئيس الحكومة البريطانية (جون ميجور) في خطابه إلى وزير الدولة ورئيس مكتب الأجانب والكومنولث (دوجلاس هوج) بتاريخ 2/ 5/ 1993 ونشرته الصحف العربية والأجنبية من "أن حكومة جلالة الملك لا توافق الآن ولا مستقبلاً على تسليح أو تدريب المسلمين في البوسنة، وسوف تستمر في إلزام وإرغام الأمم المتحدة على حظر السلاح إلى منطقة البوسنة، بينما نعلم جيداً أن اليونان وروسيا وبلغاريا يمدون صربيا الأورثوزكسية بالسلاح، كما أن ألمانيا والنمسا وسلوفيينا وحتى الفاتيكان يقومون بنفس المجهود لصالح الكروات الكاثوليك، ومن الضروري أن نتأكد أن مثل هذه المساعدات لا تصل إلى المسلمين في البوسنة من الدول أو الجماعات الإسلامية، وسوف نستمر في هذه السياسة حتى يتم تقسيم البوسنة وتدميرها حتى لا تتحول إلى دولة إسلامية في أوربا، وأن الخطأ الذي ارتكب في تدريب وتسليح المقاتلين الأفغان ضد قوات الاتحاد السوفييتي السابقة وخلق ما يسمى بالمجاهدين الأفغان، لن يتكرر مع الشعب المسلم في البوسنة والهرسك، وهذه الرؤية هي السائدة في كل حكومات أوربا وأمريكا، والمسلمون يجب أن يعلموا أنهم لا يمكنهم أن يعترضوا رؤيتنا هذه في ظل النظام العالمي الجديد وفي ظل جمود ما يسمى بالحكومات الإسلامية وفي ظل عجزهم عن فعل أي شيء لمنع القضاء على المسلمين في البوسنة وعدم جدوى فعل أي شيء لتحقيق وعودهم بعد اجتماع (منظمة المؤتمر الإسلامي)، فإنهم جميعاً ليس لديهم قوة لاعترضنا إذ أننا نتحكم في حكوماتهم" .. وكذا ما صرح به قائد قوات الأمم المتحدة ساعتها من أن قواته غير قادرة على حماية المناطق الآمنة إذا قرر احد الأطراف اجتيازها، وما أعلنه من أن مواقع الصرب حول (بيهاتش) مليئة بأنظمة الدفاع ضد الطائرات مما يعيق حركة حلف الناتو في التصدي للمعتدين حتى لو أراد .. فمن يحمي المناطق الآمنة إذن وما هي المهمة الباقية لجنود الأمم المتحدة إلا إذا كانت مجرد الرقابة حتى لا يصل السلاح لأيدي المسلمين، وحتى لا يضطر رئيس وزراء بريطانيا لو حدث، تنفيذ تهديده بسحب جنوده من هناك حفاظاً على أرواحهم إذا استمر تدفق الأسلحة على الجانبين، كأنه لا يرى ولا يسمع كيف يحارب الصرب بالطائرات والدبابات والمدافع الثقيلة بينما يدافع المسلمون بأجسادهم وبالأسلحة القليلة التي يغتنمونها؟؟؟.
ولا أحد- بالطبع- يصدق من الناس ولا ينطلي عليه أن حلف الناتو هذا المدجج بالسلاح والذي كان مخططاً له أن يتصدى لحلف وارسو لا يقدر على التصدي لعصابات الصرب الذين لا يرضيهم إلا قتل المسلمين أو طردهم من بلادهم، والغريب أن يصر السكرتير العام للأمم المتحدة (بطرس غالي) بأن ممثليه وجنوده هناك لحفظ السلام، ولا يكف عن التحذير من استعمال القوة ضد الصرب، ثم أخيراً يصدر قراره داعياً الجانبين بوقف القتال، وهو يعلم جيداً أن الذي يستجيب دائماً هم المسلمون، الذين ما يكون أمام ممثليهم في الأمم المتحدة إلا أن يرجو مجلس الأمن ضمان تهجير سكان هذا الجيب سالمين .. فيا لقساوة القلوب، ويا للعار الذي لحق حضارة الغرب وهيئته المنفذة لتعاليمه والمسماة ظلماً وزوراً بـ (الأمم المتحدة) وما يُدعى بـ (مجلس الأمن) الذي ليس له- هو الآخر- من اسمه أدنى نصيب.
وما (سربرنيتشا) التي نحكي أحد فصولها، وما (بيهاتش) التي نقصُ بعض ما حدث فيها، إلا اثنتان من عشرات المدن البوسنوية التي تم فيها طبقاً لبعض الإحصائيات قتل وتعذيب وحرق ما يزيد عن300 ألف مسلم أغلبهم من النساء والأطفال، منهم 70 ألف قضوا نحبهم في مجازر جماعية و50 ألف معاق وما يزيد عن 120 ألف مفقود، كما تم تدمير أكثر من 800 مسجداً من أصل 1500 مسجد، وطرد جماعي قسري لما يزيد عن مليوني مواطن- هم تقريباً جملة من بقي حياً من سكان هذه الدولة المسلمة- بلا مأوى ولا طعام ولا خيام، واغتصاب ما يزيد عن 75 ألف جندي داخل ما يقرب من عشرين معسكراً لأكثر من 700 ألف طفلة وسيدة، زرعت أرحام المئات منهن بأجنة ذئاب وكلاب بشرية تنتسب إلى تلك الحضارة الزائفة الفاجرة التي لا تعرف الرحمة ولا تمت للإنسانية ولا للقيم والمبادئ النبيلة بأدنى صلة، والغريب في الأمر أن عمليات الاغتصاب غالباً ما كانت تتم علانية وعلى مرأى ومسمع من الجميع بل وأمام الآباء والأزواج في كثير من الأحياء، وكان جزاء من يتحرك لإنقاذ أي منهن وابلاً من الرصاص يخترق رأسه ويسقط بعدها صريعاً مضرجاً في دمه، ووسط هذا الجحيم تروي بعض التقارير الرسمية الأوربية مأساة أكثر من 60 أسرة تعرضت لاعتداءات تفوق الخيال وكلها من قبيل ما ذكرنا.
وإزاء هذه الأعمال البربرية والأوضاع الهمجية أجمع المراقبون الدوليون من كل جنس أن الذي جري في هذه الآونة شيء يصعب إيجاد وصف مناسب له، وربما لو اطلعوا على ما فعله الأمريكان وتحالفه البغيض بقيادة مجرميّ الحرب (بوش) و(بلير) فيما بعد في مسلمي الفلوجة وأبو غريب وجوانتانامو فيما أسمياه بالحرب الصليبية الثالثة لتغير رأيهم، لكن نستأنس على أي حال لبيان ما جرى في البوسنة بتقرير (شفارتز) عضو الحزب الديمقراطي المسيحي وعضو البرلمان الألماني الذي ورد في إحدى نشرات منظمة البر الدولية بتاريخ 16/ 7/ 1413 تحت عنوان (رأيت بعيني) وفيه يقول: "رأيت طفلاً لا يتجاوز عمره الثلاثة أشهر مقطوع الأذنين مجدوع الأنف، رأيت صور الحبالى وقد بقرت بطونهن ومُثل بأجنتهن، رأيت صور الشيوخ والرجال وقد ذبحوا من الوريد إلى الوريد، رأيت الكثيرات ممن هتكت أعراضهن ومنهم من تحمل العار ولم يبق لولادته سوى أسابيع، رأيت صوراً لم أرها على أية شاشات تليفزيونية غربية أو شرقية، وأتحدى إن كانت عند هؤلاء الجرأة والشجاعة لبثها"، وما أشبه الليلة بالبارحة فما يعاود الغرب فعله ومعه الشيطان الأكبر في مسلمي أفغانستان والعراق وجوانتانامو لا يقل بشاعة عما فعله الصرب.
والذي لا شك فيه، أن ما رآه (شفارتز) وسبق أن تعجب له (كاميرون) لا يساوي شيئاً بالنسبة لما حجب عنها، فهما معذوران في عدم دقة ما وصفاه لأنهما لم يريا وحوش الصرب يقطعون- حين قتلهم المسلم البوسنوي- أصبعين فقط من أصابع يده ويتركون الثلاثة الباقية علامة التثليث .. ولا وهم يدهمون القرى فيبدؤون أول ما يبدؤون بتدمير ودك المساجد بالمدافع والدبابات وأحياناً عن طريق القذائف والمتفجرات التي يضعونها بداخلها، كما كانوا يبالغون في تعذيب حفظة القرآن وأئمة تلك المساجد ويذبحونهم في أغلب الأحيان على مرأى ومسمع ويمثلون بجثثهم .. ولا وهم يأخذون أطفال البوسنة إلى كندا وأمريكا والغرب ليتم تنصيرهم داخل الأديرة ولا يسمح بزيارتهم إلا للقساوسة .. ولا وهم يقومون بنحر المجموعات التي كانت تحاول الهرب بعد الإمساك بهم .. ولا وهم يلقون بمئات الجثث في الأنهار وأحياناً يتركونها في الشوارع والطرقات فما يكون مصير من يحاول أخذها ليدفنها إلا نفس المصير .. ولا هم يقومون بإجبار امرأة مسلمة على شرب دم ابنها الصغير بعد قتله أمامها .. ولا وهم يضعون الأطفال المسلمين في فرّامات اللحم وخلاطات الأسمنت ومطاحن الأعلاف.. ولا وهم يقومون بدفنهم أحياء وأحياناً بسحب دمائهم حتى الموت لنقلها - حسب ما جاء في جريدة (المسلمون) بتاريخ 24/ 7/ 92 – لجنود الصرب .. ولا وهم يطلبون من المسلمين من خلال دار الإذاعة الخروج من منازلهم وإلا تعرضوا للقتل فما يكون مصير من خرجوا ممن زاد عددهم عن الألف إلا القتل .. ولا وهم يسمحون لهم لبضع ساعات لشراء الخبز كيما يسدوا رمق أطفالهم الذين عضهم الجوع حتى إذا ما خرجوا لشرائه حصدتهم قذائف الهاون من فوق رؤوسهم .. ولا وهم يقومون بتجنيد الشباب المسلم واقتياده إلى الخطوط الأمامية بعد إلباسهم نفس لبسهم ليكونوا دروعاً بشرية في مرمى نيران الحرس الدفاعي المسلم .. ولا وهم يقومون في يوم واحد هو 17/6/ 1992 بقتل ألف مسلم ثم يتبعون ذلك بفقأ أعينهم وبرسم الصلبان على جثثهم بالخناجر ثم بتقطيع آذانهم وأنوفهم ويتركونهم بعد ذلك نهباً للحيوانات تلغ في دمائهم .. ولا هم يقومون بحصد 20 ألف مسلم في 31/ 10/ 92 خارج (يابيتش) والاستمتاع بقتلهم بعد حصارهم- حسب إذاعة لندن الذي وصفت هذا العمل بأنه انتهاك خطير لحقوق الإنسان .. ولاهم يقومون بشوي طفل رضيع على النار أمام أبيه تماماً كما يشوى اللحم، ويأمرون الأب تحت تهديد الرصاص أن يأكل من لحم فلذة كبده ليطلقوا عليه الرصاص بعد ذلك.
ولم ير (شفارتز) ولا (كاميرون) من بقرت بطونهن من النساء المسلمات بعد أن خطت ورسمت على أجسادهن الصلبان .. ولا من قتلن منهن بعد عملية الاغتصاب ويقدر عددهن بأكثر من 30 ألف فتاة شوهد بعضهن عراة قد قطعت صدورهن ومثل بهن .. ولا من لقين مصرعهن بعد أن استؤصلت أرحامهن لا لشيء إلا لأنهن كن في الدورة الشهرية إبان فترة الغزو .. ولا الأسرى من الذكور وهم يجبرون على خلع ملابسهم الداخلية والكشف عن أعضاء الذكورة لديهم، فإذا وجدوا أنه مسلم مختون قطعوا أعضاءه التناسلية ثم قاموا بذبحه وإلقائه في الماء المغلي وشيه كالذبائح .. ولم يريا عمليات التعذيب والتمثيل والذبح الواسعة النطاق التي كانت تتم بالمدى والسكاكين حيث يتم تقييد الشباب الأعزل ولعلماء المسلمين هناك ثم يطرح أرضاً ويلقى بعد ذبحه- حسب شاهد عيان- في المستنقعات أو الأنهار أو في أكوام القمامة .. ولا مئات الألوف ممن نزحوا نساءً وأطفالاً وشيوخاً عن بلادهم وأخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا (ربنا الله)، وأضحوا- وهم يتسولون لقمة العيش- بلا وطن ولا عائل ولا مأوى بعد أن سلبوا كل ذلك وشردوا أفراداً وجماعات في بقاع شتى هرباً من الجحيم، ولم يريا هذا الصربي الذي كان يجول بين عشرات القناصة مفتخراً بما فعله إخوانه في البوسنة ومعلناً أنه تواق لتكراره مرة أخرى في (كوسوفا) .. وبدا واضحاً أن تلك هي حقيقة النظام الذي يدعي أنه عالمي وحيد، والحضارة التي تدعي أنها لا تفرق بين الناس على أساس الجنس أو اللون أو الدين، والقول باعتذار حكومة الصرب فيما بعد يكذبه واقع انخراطها الآن مع حكومات الغرب في إرسال جنودها وعدتها وعتادها لحرب المسلمين في العراق وأفغانستان.
لقد انتشرت الفتوحات الإسلامية من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً ومن جبال القوقاز شمالاً إلى أواسط أفريقيا جنوباً .. ولم يجرؤ مؤرخ مهما كان مغرضاً أو حاقداً على الإسلام وحضارته أن يتهم جيشاً عربياً أو إسلامياً بفعل شيء من ذلك أو بارتكابه جرائم حرب أو قيامه بإبادة جماعية ضد سكان بلدة أو جزيرة مهما كانت نائية أو صغيرة أو تافهة كما فعل الصرب في البوسنة، وكما يفعل اليهود في فلسطين، والأمريكان والبريطانيين في الفلوجة والبصرة والرمادي والنجف وبعقوبة والموصل وتلعفر وبغداد وغيرها، وكما يفعل كل أولئك ومن كان على شاكلتهم في مسلمي البلاد التي يستعمرونها شرقاً وغرباً غير مكتفين بالزج بأهل البلاد التي يحتلونها داخل سجون أوطانهم ولا بنهب نفطهم وخيراتهم بحجج واهية استنكرها المنصفون ممن هم على دينهم وقام أقرب الناس إليهم وأخلصهم لبني جلدتهم بتفنيدها، لكونها في جملتها ذرائع لا تنطلي على من عنده مسكة من عقل أو مثقال ذرة من ضمير، ولكونها في مجموعها حجج هي أوهى من نسج العنكبوت .. وعلى أولئك المبهورين بحضارة الغرب من أهل النفاق والطابور الخامس أن يراجعوا بأنفسهم التاريخ ويقرؤوا ما فعله عمر بالنصارى عند فتحه بيت القدس وما فعله صلاح الدين بهم عند تحريرها، ليتأكدوا من صدق ما نقول وليميزوا بين الحضارة الحقيقية المتمثلة في عظمة الإسلام ورجال الإسلام .. وتلك الحضارات المعاصرة الزائفة التي بنيت على الهمجية والبربرية واستلاب أراضي الغير ونهب ثرواتهم دون وازع من ضمير ولا احترام لقيم.
إن ما يجري في العراق إنما هو الامتداد المباشر لمسلسل دموي ضد كل ما هو إسلامي، مسلسل بدأت فصوله في مأساة البوسنة التي وصفتها أجهزة الإعلام الغربية بـ "أنها سلخانة بشرية"، وحدد هويتها وكشف عن حقيقتها وزير الإعلام الصربي عندما أعلن أنها "طليعة الحروب الصليبية الجديدة ضد الإسلام" .. وهو يعي ما يقول وما يهدف إليه الغرب ، ذلك أنه في الوقت الذي أقام الغرب (الدورة الأولبية) في أسبانيا سنة 1992 م احتفالاً بمرور خمسمائة عام على اقتلاع الإسلام من غرب أوربا، كان الصرب يقومون باقتلاع الإسلام من وسط أوربا بإبادة مسلمي البوسنة والتمهيد لصنع الشيء ذاته مع كل مسلمي البلقان .. ولم نذهب بعيداً وساسة الغرب يتحدثون في كل مناسبة بالعداء الأسود غير المبرر للإسلام ولنبي الإسلام وكشفوا عما يضمرونه تجاههما وطفحت بذلك كتبهم، متجاهلين عن عمد حقيقة أن الإسلام اقتلع من قلوب المسلمين جذور الحقد الديني بالنسبة لأتباع الديانات الأخرى، وأقر بوجود زمالة عالمية وحضارية بين أفراد النوع البشري، ولم يمانع أن تتعايش الأديان أو الحضارات جنباً إلى جنب، لأن العقائد أمر لصيق بالنفوس يصعب على المرء تغييرها دون تفكر أو تدبر، إذ الكل في الإنسانية وفي حق الحياة سواء .. فها هو ذا على سبيل المثال، المستشرق (كانتول سميت) يقول في كتابه (الإسلام في التاريخ الحديث): "إلى أن قام (كارل ماركس) وقامت الشيوعية، كان النبي محمد هو التحدي الوحيد للحضارة الغربية الذي واجهته في تاريخها كله، وإنه لمن المهم أن نتذكر كم كان هذا التحدي حقيقياً، وكم كان يبدو في بعض الأوقات تهديداً خطيراً حقاً"، ولكل منصف أن يدرك مدى حنق الحضارة الغربية على الإسلام وأهله عندما يعرف أن (سميت) الذي سقنا عبارته يعد في الأوساط العلمية أحد المعتدلين، ولا ندري ما يكون عليه الحال عند المتعصبين والحانقين؟.
وإذا كان هناك عدد من كتاب الغرب وعلى رأسهم (صموئيل هنتجتون) صاحب كتاب (صراع الحضارات)، و(فرانسيس فوكاياما) صاحب كتاب (نهاية التاريخ) وغيرهما قد بشروا بعهد تنتصر فيه الحضارة الغربية على حضارة الإسلام، فإن قادة بوزن (ريتشارد نيكسون) راح يؤكد في كتابه (الفرصة السانحة) الذي صدر منذ عدة سنوات على "أن الإسلام قد أضحى هو العدو الرئيسي للغرب بعد سقوط الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفيتي"، كذا دون إبداء سبب سوى انهيار الشيوعية.
وإذا كنا نحذر من خطورة الحديث عن حرب دينية أو صراع حضاري، فإن الذي لا بد من ذكره هو أن جميع الوقائع تثبت كل يوم أن الغرب المعاصر ماض في فرض هذا الصراع وعازم على خوض غمار تلك الحرب وأنه يعد لها العدة ويخطط لها حتى من قبل انهيار برجي التجارة في نيويورك وتحديداً منذ عام1984يوم أن دعا الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر) إلى صياغة استراتيجية واضحة ضد الإسلام، وكان وزير الخارجية الأسبق (هنري كيسنجر) ينصح دائماً بأهمية الالتفات إلى ما كان يسميه بخطورة الإسلام باعتباره الأكثر عداء للغرب من الشيوعية، وقد عهد كارتر ساعتها إلى أقرب مستشاريه بوضع الاستراتيجية التي أقرها وجرى إخضاعها لمناقشات استمرت أكثر من عام في جهاز الأمن القومي الأمريكي حيث أوصت لجنة الاستخبارات الأمريكية- حسب ما جاء في جريدة الأسبوع في 1/ 10/ 2001- بأن يظل الملف سرياً وأن يتم البدء في تنفيذه وفق خطوات متدرجة شريطة عدم إشعار الدول الإسلامية بأن الولايات المتحدة تخطط للدخول في مواجهة مع الإسلام، ويقول التقرير الخطير: "أننا يجب أن نظل أصدقاء للدول الإسلامية لأن مصالحنا الحيوية المنتشرة في العديد من دول العالم الإسلامي ستتعرض لمخاطر حقيقية إذا كان هناك إحساس بأن أمريكا ضد الإسلام"، ويشير التقرير إلى القول بـ "أن الدول الإسلامية ستظل صديقة لنا طالما نحّت الإسلام جانباً في كل تعاملاتها الداخلية والدولية، وجعلت من الإسلام مجرد شعار ديني يؤدي أفراده بعض الطقوس الخاصة به، وأن هذه الحكومات ستظل مسئولة معنا عن مقاومة كل الحركات الدينية التي تعمل على إعادة بث روح الإسلام التي يطلق عليها في مفهومهم (الجهادية) والتي تعني (الإرهاب)"، ويقول التقرير: "إن أية حركات دينية حتى إذا كانت محل تأييد من الحكومات الإسلامية يجب أن نعمل على استئصالها والقضاء على جذورها، وإلا فإن هذه الحركات ستزداد قوة يوماً بعد يوم حتى يأتي اليوم الذي تنافس فيه القوة الأمريكية العظمى".
وعبثاً حاول (آرنست ميدور) أحد خبراء هذه الاستراتيجية والذي شارك في إعداد هذا التقرير، إبعاد وفصل هذه الحرب القذرة لتكون بمنأى عن صراع الحضارات، فقرر في إحدى أوراقه المهمة "أن إدارة الصراع مع الإسلام يحب أن تتجاوز صراع الحضارات، وإلا فإن الولايات المتحدة ستكون هي الخاسر الأكبر في معركتها ضد الإسلام، كما أنها لن تستطيع أن تجذب أوربا وتحصل على تأييدها الكامل لأن تكون طرفاً في صراع الحضارة الغربية مع الإسلاميين"، ويقترح (آرنست) لأجل أن يتم ذلك "أن يوجه الصراع إلى الإسلام مباشرة متجاوزاً مفهوم الحضارة الإسلامية، وإنما يتم ذلك بتفتيت العالم الإسلامي وتصنيف دوله إلى أشد عداء وأقل عداء، وبين هاتين المجموعتين ستقع مجموعات أخرى متباينة من الدول الإسلامية، ومع كل حالة فإن الولايات المتحدة يجب أن تقود الصراع مع دولة أو دولتين ولا يزيد على ثلاث دول، وأن تعمل في كل مرحلة إما على تحييد باقي الدول الإسلامية ليستمر هذا التحييد لفترة طويلة أو أن تعمل على ضم بعض الدول الإسلامية في معاركها ضد الدول الإسلامية المستهدفة".
وأظن أنه قد وضح الآن الجواب عن عديد من الأسئلة التي تقض مضاجع الغيورين عن أسرار ما يجري الآن من الاكتفاء بأفغانستان والعراق في هذه الآونة لخوض معارك طاحنة مع الغرب ليس لها ما يبررها، وتسهيل العرب والباكستانيين والأتراك لمهمة احتلال تيك الدولتين بفتح جميع مجالاتها أمام أعداء الإنسانية جواً وبراً وبحراً، والسعي بجد لضبط حدود الدول المجاورة لهما خشية تسلل الراغبين في معاونة هذه الشعوب الشقيقة والمغلوب على أمرها في التخلص من قبضة ذاك الاحتلال الاستعماري، بل وإيجاد قواعد عسكرية لقوى الاحتلال وأعداء الإسلام في دول المسلمين بما فيها السعودية، والاستعانة بخبرة العرب في إرساء دعائم الاحتلال وسيطرة الموالين له من علماني ومنافقي العراق وأفغانستان .. والقائمة طويلة، كما وضح أسباب التضييق على الدعاة من غير علماء السلطة، وسر تحريض العديد من الدول الإسلامية والعربية للتنكيل بالحركات الإسلامية حتى تلك التي لا تلجأ إلى العنف، والتخلص من ذوي الاتجاهات الإسلامية والزج بهم داخل السجون وتعذيبهم وتحويلهم في كثير من الأحيان لمحاكمات عسكرية وصورية والتخلص من بعضهم إذا لزم الأمر تقرباً للشيطان الأكبر وتحالفه وربيبته، وعدم رغبة حكومات الدول الإسلامية والعربية في إظهار شعائر الإسلام حتى طال ذلك صلاة التراويح ووضع عقبات أمام تراخيص بناء المساجد والآذان للصلاة، ناهيك عن وضع العراقيل أمام مطلب تطبيق الشريعة الذي تنوسي تماماً وأضحى من رابع المستحيلات.
كما وضح في إطار استجابتها لتلك الضغوط التي خرجت إلى حيز التنفيذ سر محاربتها لكثير من مظاهر الإسلام من نحو اللحية والختان والحجاب، بل وتغييرها للمناهج الدراسية وتجفيفها للمنابع وتضييقها الخناق على التعليم الديني وحذفها لكل ما يمت لروح الجهاد والمجاهدين من الصحابة وغيرهم بأدنى صلة، وسر التآمر والتنكيل بدولة كالسودان لمجرد توجهاتها الإسلامية ومجرد مناداتها بتطبيق شريعة الله، وعدم مواجهتها والاكتفاء في الوقت الحاضر بإثارة القلاقل وتشجيع حركات التمرد المدعوم بشكل واضح من الغرب، وسر التدخل السريع من قِبل أمريكا والغرب في العراق ومن قبل ذلك أفغانستان والصومال وغيرها لأتفه الأسباب ولأدنى ملابسة، وسبب التحريش بين حكومة أندونيسيا وحركة آتشيه الإسلامية لرغبة الأخيرة في الانفصال، في الوقت الذي دعا الغرب وأمريكا وسعيا لانفصال تيمور الشرقية عن جسد نفس الدولة لأن تلك هي رغبة النصارى هناك، ولعله قد وضح كذلك سر اعتبار حركة حماس والجهاد الإسلامي إرهابيتين في الوقت الذي تعطي فيه الحق لإسرائيل لأن تدمر وتقتل وتهلك الحرث والنسل، وسر تعقب أمريكا والغرب لدول معينة كإيران وباكستان والتدخل في كثير من شئونهما الداخلية بحجة التخلص من أسلحة الدمار الشامل في وقت تستحل فيه لنفسها استخدامها لتقتل بها المئات بل الآلاف من أبناء المسلمين في العراق وأفغانستان وتغض فيه الطرف عن بلاد أخرى لا تدين بالإسلام كالهند وكوريا على سبيل المثال .. إنه العداء للإسلام والتنكر لحضارته والتخطيط الجيد لإطفاء نوره وليس سوى ذلك، ولن تعدم أمريكا ومن وراءها في إيجاد ما يبرر لها عداءها وحربها الضروس وإن كان بطريق الافتراء والكذب والبهتان ومزاعم مكافحة الإرهاب وحركات التمرد ودعاوى نشر الحرية ومحاربة التطرف.
لقد تم بفضل خذلان حكام المسلمين وعمالتهم لأمريكا وإخلاصهم للغرب على حساب عقيدتهم وشعوبهم كل ما أشارت به أمريكا والغرب على التمام، وحصدتا بجهودهم ثمار ما خططتا له على أكمل وجه وبأقل تكلفة بل وأحياناً على حسابهم ومن أموالهم، وقُدم كل ذلك لهما على طبق من ذهب، حتى وصل الأمر بتدريب قوات عراقية موالية لهما في بلاد المسلمين لتجتاح معهما الفلوجة والرمادي والموصل وبغداد وسامراء وبعقوبة وغيرها، وتقتل بهذه القوات العراقية المدربة- ويا لسفاهة العقول- أهليهم وذويهم من المجاهدين في سبيل الله والمدافعين عن الأرض والعرض من العراقيين، وتحقق ما كانتا تصبوان إليه وتطمحان إليه وذلك بشهادة (آرنست) الذي صرح بأن "هذه الحكومات نجحت في تحقيق التصالح بين الإسلام- يقصد به الإسلام المعلمن المزيف- والمبادئ الغربية، ولم يعد الغرب في حاجة إلى خوض نزاع مع هذه النظم طالما أنها ارتضت هذا التصالح وقبلنا نحن به"، يقول: "وطالما أن هذا التلاقي أصبح مصاناً برغبة الطرفين الغربي والإسلامي، فإنه من باب أولى يجب العمل على صيانة الطرف الإسلامي وحمايته من المتغيرات الداخلية والخارجية التي تؤدي إلى تغيير توجهاته ومساعدته في كبح جماح الجماعات والحركات الدينية التي ترفض دوماً الالتقاء مع المصالح الغربية".
وفي فصل آخر من التقرير الأمريكي أعده الخبير الاستراتيجي (هيومان كورازي) يرى أنه من الضروري تشجيع كل ما هو علماني في منطقة الشرق الأوسط معتبراً "أن الغاية النهائية التي يجب أن تسعى إليها السياسة الأمريكية في المنطقة هي جعل هذه الحكومات العلمانية قوية إلى الحد الذي يمكن أن تواجه به أي دعوة لإنشاء نظام حكم إسلامي"، ويقول (هيومان): "إننا من الآن يجب ألا نسمح بأي حال من الأحوال أن تكون هناك دولة دينية جديدة في منطقة الشرق الأوسط"، ويرى (هيومان) أن الطريقة المثلى للتعامل مع الحركات الدينية هي ألا يُكتفى بإدراج هذه الحركات ضمن قوائم (الإرهاب) أو وضع بعض الدول على هذه القوائم، وإنما من الضروري أن يتم توجيه ضربة عسكرية قوية لهذه الدول والحركات الدينية، وحذر (هيومان) الولايات المتحدة من أن تلجأ بمفردها إلى استخدام هذه الضربة وإنما يجب أن تشرك معها أكبر عدد من دول العالم خاصة الإسلامية، ويضيف (هيومان) أن حضارة الإسلام وما تضمنته من قيم ومبادئ هي حضارة عنيفة وعنيدة ولن تستسلم بسهولة، ويرى أن إدارة هذا الصراع لا يجب أن تعتمد أبداً على فرضية صراع الحضارات لأن ذلك سيزيد من تعقد الأوضاع وأن أخطار المجابهة يمكن أن تتسع وأنه من الأفضل الاعتماد على الأصدقاء المخلصين في المنطقة واستغلالهم لتنفيذ الخطة الأمريكية.
ويلاحظ أن هذا الكيد والخداع الذي تمخضت عنه الحضارة الغربمركية وأنظمتها وخططت له منذ سنين عديدة، هو عينه الذي توقعه الآن أمريكا وذيولها من دول الغرب على العالمين الإسلامي والعربي، فما يجري الآن على الساحة ما هو إلا تنفيذ لما خطط له هؤلاء الذين فجّروا هذا الصراع، ولما ذكره (آرنست) و(هيومان) بالحرف الواحد، وما هو إلا استقراء لواقع ما يحدث حالياً، إنه العداء غير المبرر الذي جبل عليه القوم وأفصح عنه القرآن منذ أربعة عشر قرناً وجاء به قوله تعالى: (ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر .. آل عمران/ 118)، وقوله: (هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ .. آل عمران/ 119).
لقد اعترف الغرب كما أثبتت الوقائع أن الإسلام الحقيقي- أعني غير المعلمن- بحضارته، هو العدو الأول في نظر أوربا، وأنه- حتى ما أصبغوه بصبغة العلمانية- أصبح بعد سقوط الشيوعية العدو الوحيد للغرب وحضارته، وقد شهد بهذه الحقيقة المؤلمة شاهد منهم بعد أن هاله ما رأى وما سمع في البوسنة والهرسك، فقد صرح القس الأمريكي (جورج جروسي) في مقال نشرته صحيفة (التورنتستار) بتاريخ 31/ 3/ 1993بـ "أن ما يحصل للمسلمين في البوسنة هو تكرار للشر المظلم في الحضارة النصرانية.. وأنه يعيد ذكرى المذبحة التي ارتكبها النصارى في مدينة أخرى هي القدس"، ثم يستطرد قائلاً: "إن عبارة (التطهير العرقي) - يعني التي اتخذ منها الصرب ذريعة لتبرير ما ارتكبوه من فظائع في حق المسلمين في البوسنة- اسم على غير مسمى، فالمسلمون البوسنيون عنصرهم كعنصر الصرب وشعرهم كشعرهم وأعينهم كأعينهم، لأنهم جميعاً ينتمون إلى العنصر السلافي، ولذلك فإن ما يحدث هو حرب دينية وليست تطهيراً عرقياً".
إنها كلمة صدق أطلقها هذا الراهب في عالم ساده الكذب ويموج بالتدليس والخداع وليِّ الحقائق، وهي شهادة حق صدرت من ضمير حيّ يقظ في مجتمع أماتته قسوة القلوب والتعصب المقيت والمادة العمياء، وإلا فأين تلك الحضارة الإنسانية أمام وحشية ما حدث ولا يزال في بلاد كالعراق وفلسطين بل في سائر بلاد الغرب نفسها التي يقطنها أقليات مسلمة؟ وأين حقوق الإنسان أمام جثث وأشلاء المئات من الأطفال والنساء التي ظلت ملقاة في شوارع الفلوجة أكثر من أسبوع حتى تعفنت ونهشتها- حسب ما جاء في تصريحات المصور الأمريكي (كيفين سايتس) ويوميات مراسل وكالات الأنباء الفرنسية (فارس الديلمي)- الكلاب والقطط نتيجة القصف الأمريكي الذي لم يرحم رجلاً ولا امرأة وجراء القنابل المحرمة التي استبيحت في حق المسلمين ولم تفرق بالطبع بين صغير أو كبير؟ وأين حقوق الإنسان من الاعتداء على مراقد رموز الإسلام كمرقد الخليفة الراشد على ابن أبي طالب والإمام الأعظم أبي حنيفة ومن تدمير ما يربو عن الـ 33 مسجداً؟ أين حقوق الإنسان من مآسي مدن بأكملها بالعراق ترتكب فيها ولا يزال جرائم حرب ضد الإنسانية أقل ما فيها قتل مدنيين ورجال عزل أمام زوجاتهم وأبنائهم الصغار؟ أين حقوق الإنسان من اتخاذ أطفال دروع بشرية يضعونها على فوهات الدبابات ومن قتل جرحي وطردهم أحيانا وتدمير مراكز طبية وأخذ كل ما تبقى من أجهزة طبية من داخل المستشفيات بعد الاعتداء على الأطباء لمنع معالجة الجرحى وقصداً لإفناء من لم يفن من رصاصات القناصة وقنابل الفوسفور وقذائف الطائرات ونيران الدبابات والمدرعات التي لا تبقي ولا تذر وتدمر البيوت على ما ومن فيها؟ أين حقوق الإنسان من هذه الانتهاكات التي نسمع عنها مما يجري في الهند وبورما وبلغاريا وكشمير والفلبين وغيرها ضد كل ما هو إسلامي؟ وفي أي نظام أو أية شريعة يُمنع المعتدى عليه من الدفاع عن نفسه ويحظر عليه السلاح بل ويطلب منه تسليم بنادقه المتهالكة التي بقيت مع بعض أفراده في حين يتمتع المعتدي بدباباته وطائراته وصواريخه وكامل عتاده يقتل ويهلك ويدمر؟ أين ذلك النظام الدولي الجديد الذي يدعي القوامة على العالم إلا أن يكون هذا النظام أقيم خصيصاً لمواجهة الإسلام والمسلمين؟.
وما موقع هذا التباطؤ بل التآمر الواضح على مثل مسلمي البوسنة وفلسطين من التدخل السريع في العراق وكذا في الصومال حين توصل مجلس الأمن إلى إرسال بعثة عسكرية إلى الأخيرة بقيادة أمريكا فيما سمي بخطة (إعادة الأمل) بغرض كسر قبضة الموت التي كادت تخنق البلاد على أيدي الميلشيات القبلية المقاتلة، ويوم أن اشترط (كولن باول) رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة يومها شرطين أساسيين كان أبرزهما: "ألا تؤدي عملية التدخل السريع إلى إلزام أمريكا بمحاولة القيام بمهام إنقاذ مماثلة في أماكن أخرى وخاصة في البوسنة"، على الرغم من أوجه التشابه بين الدولتين التي لخصها المراقبون الدوليون في شبح المجاعة وتفاقم الحرب الأهلية والاهتمام الدولي واستمرار الاعتداء على قوافل الإغاثة؟ ولماذا لا يحدث ذلك التدخل السريع عندما تكون الضحية هم المسلمون على نحو ما جرى في البوسنة وعلى نحو ما يزال يجري الآن في كشمير والهند وفلسطين وغيرها؟.
لا تفسير لذلك عند أي منصف ولا معنى له إلا ما نظنه أنه قد بدا واضحاً الآن وأكثر من أي وقت مضى، من تواطؤ المنظمات الدولية في عدائها هي الأخرى الإسلام بعد أن أضحت- على ما أفاده (كاميرون) من خلال شهادته- منظمة عنصرية وأداة طيعة لتنفيذ ما يراه أعداء الإسلام، ولا غرابة فماضي هذه المنظمات وحاضرها يشهدان بما تقوم به من دور مشبوه في تقسيم العالم إلى مسلمين ونصارى وفقراء وأغنياء وسادة وعبيد، وقد فرض عليها هذا الواقع الأليم لأن تكيل دائماً وأبداً بمكيالين والمغبون في كل مرة هم بالطبع المسلمون والضحية من ثم هم الفقراء .. الأمر الذي يضطر كل صاحب مبدأ وكل من كان عنده مسكة من عقل لأن يشهد بأن كل ما يصدر عن تلك المنظمات الدولية يصب في خدمة الغرب على حساب المسلمين ودينهم العظيم، ويقر بكذب ما تدعيه لنفسها من خدمة المجتمع الدولي في إرساء الأمن وإحقاق الحق وإنصاف الأمم وإقامة العدل بين الشعوب المنتظمة في سلكها .. وما غض هيئة الأمم المتحدة عن خوض أمريكا للحرب ضد العراق منذ بداية الغزو وهي- أعني الأخيرة- دولة عضو وذات سيادة، دون اتخاذ قرار واضح من تلك المنظمة الدولية يدين تلك الدولة الباغية المارقة المسماة بـ (أمريكا) مجرد إدانة ولا نقول التفكير في وضع عقوبات اقتصادية تحجّمها وتحد من جبروتها، وما عدم إجبار دول التحالف لدى مشاركتها في هذه الحرب الخاطئة على حد قول أمين عام الأمم المتحدة نفسه .. وما غضها الطرف عن مناقشة الأسباب المؤدية لهذه الحرب وهي في جملتها لا تعدو أن تكون مجرد تصفية حسابات ومجرد اشتباه أو وجود نوايا لإنتاج هذه الأسلحة .. وما تركها الحبل على الغارب لأمريكا تفكر بجدية في ضرب إيران للسبب ذاته .. بل وما عدم اعتراضها على استخدام أمريكا ومعها دول التحالف البغيض للأسلحة المحرمة دولياً يهلكون بها حرث المسلمين ونسلهم ويدمرون بها كيف يشاءون ما يشاءون حتى طال ذلك مساجد المسلمين ودور عبادتهم، بعد أن استحلت دماءهم وأموالهم وأعراضهم وأعملت فيهم القتل والتدمير حتى طال ذلك نساءهم وأطفالهم وعجائزهم .. وما استخدام أمريكا للفيتو لكل إدانة لإسرائيل دون ما اعترض منها، وتركها الأخيرة تعبث بمقدرات المسلمين وتنتهك حرماتهم ومقدساتهم وتنفرد من بين شعوب المنطقة بامتلاك أسلحة الدمار الشامل .. بل وما الإعلان الأمريكي الذي جاء بعد طول ترقب وانتظار مخيباً لآمال مسلمي البوسنة إزاء محنتهم ويقضي بمنع وصول الأسلحة لمسلمي البوسنة وعدم ضرب مواقع الصرب، وعدم طلب (كلينتون) من الرئيس الروسي (يلتسن) التدخل مع ما لروسيا من علاقة تاريخية وطيدة بالصرب، والتدخل ضمن قوة عسكرية عالمية لفرض أية تسوية يتم التوصل إليها يعني كما جرى في حرب فلسطين سنة 1948 تماماً، على الرغم مما أكدته المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة والتي تعطي حق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي عن النفس .. إلا شاهد صدق على ما نقول.
وعميل المافيا الفاشي (سينوري بيرلسكوني) رئيس وزراء إيطاليا كان صريحاً في الإعلان عن طبيعة الصراع بين حضارتي الإسلام والغرب حين وضع في البند الأول من برنامجه الانتخابي مهمة تطهير إيطاليا من العرب والمسلمين وقال: "إن الإسلام لا يحترم حقوق الإنسان ولا مبادئ التعددية أو التسامح والحرية الدينية والسياسية" .. وكذا كانت حكومة بورما في جنوب آسيا أكثر تمشياً مع سياستها عندما قامت بهدم 72 مسجداً خلال التسعة أشهر الأولى من العام 2001بعد أن قامت بهدم العديد من بيوت المسلمين وشردتهم وصادرت أموالهم وسخرتهم لدى جيش (ميانمار) لبناء المساكن والثكنات للجنود وعائلاتهم, وحدث عن مثل هذا ولا حرج عما يحدث في روسيا وكشمير والهند والفلبين وغيرها من بلدان آسيا وأوربا.
كما كان بوش أكثر صراحة- على الأقل مع نفسه ومعاونيه- حين قرر أكثر من مرة بأن الحرب القادمة ستكون ضد المسلمين وضد ثوابت شريعتهم، وأنها ستكون حرباً دينية لا هوادة فيها وسيطول أمدها، فقد قرر بعد أن ولي الإدارة الأمريكية مباشرة ومنذ اللحظة الأولى أن يجعل عنوان حربه (الحرب الصليبية الثالثة) لتخليص العالم من الإرهاب وممن وصفهم بفاعلي الشر على حد زعمه، لولا أن مستشاريه تدخلوا- حسب ما ورد في نفس العدد من جريدة الأسبوع- في الوقت المناسب ورأوا أن هذه التسمية تعني التصريح المباشر بالحرب بين الإسلام والمسيحية، وهو ما رفضه الفاتيكان في حينه واعتبره البابا "خطأ كبيراً يمكن أن تقع فيه السياسة الأمريكية"، وعبثاً حاول بوش بعد ما وُجه له من نصح أن يعتذر عما قاله، إلا أن مكنون الجنان عادة ما يكشفه فلتات اللسان ويفصح الفعل في النهاية عن هذا وذاك، فقد قام بوش بحشد 265ألف جندي أمريكي موجودين في قواعد خارج البلاد وباستدعاء 50ألف من جنود الاحتياط الأمريكيين كما أعلن مساء الخميس 20/ 9/ 2001أمام مجلس الكونجرس (الشيوخ والنواب) أن "بلده في حالة حرب وأن من لا يقف معنا ويشارك في الحرب فهو يقف مع الإرهاب"، ومعنى ذلك أن دول العالم جميعاً بما في ذلك الدول العربية والإسلامية مطالبة وفق شريعة بوش- رغم أن سياساته هي السبب المباشر لما جرى من أحداث سبتمبر وما تمخض عنها- بأن تشارك وتحارب مع حملة الصليب كل من يرى من وجهة نظره أنه إرهابي، فإذا قالت أمريكا مثلاً: (دمروا لبنان) لأنه يؤوي حزب الله الذي هو منظمة إرهابية، أو (واجهوا حركة حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين) لأنهما كذلك، فعلى العالم بما في ذلك العرب والمسلمون أن يحولوا هذا كله إلى أطلال وأشلاء، وإلا حق عليهم أن يستمتعوا برؤية الفانتوم وصواريخ كروز وهي تحطم عواصمهم ومدنهم ومصانعهم ومؤسساتهم وأن يستنشقوا عبير الحرية والديقراطية وهم يشاهدون مقتل مواطنيهم، وعلى دولة كباكستان مثلاً ألا ترفض المشاركة في الانضمام إلى القوات الصليبية في ضرب أفغانستان أو إيران وإن وقعت حكومتها ضد تحت ضغط الرفض الشعبي الغلاب الذي انطلق يعلن انتماءه للإسلام وانضمامه مع أشقائه الأفغان... فإلى الله وحده المشتكى وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المقال الثاني: (أفيقوا أيها المسلمون .. فلقد تداعت عليكم الأمم)
أثبتت الأيام أن ما حاول الرئيس الأمريكي أن يعتذر عنه- وذلك حين قرر أكثر من مرة ومنذ اللحظة الأولى من توليه الرئاسة بل وبعد ترشحه لها من قِبل الشعب الأمريكي للمرة الثانية، بأنه سيجعل عنوان حربه القادمة (الحرب الصليبية الثالثة) وأنها ستكون حرباً طويلة الأمد ضد المسلمين وضد ثوابت دينهم لتخليص العالم من الإرهاب وممن وصفهم بفاعلي الشر على حد زعمه- لم يكن زلة لسان وإنما هو بالضبط ما يسعى له ويعيّن من أجل تنفيذه الصقور فقد قام بعد توليه الفترة الأولى- وكما سبق وأن أشرنا- بحشد 265ألف جندي أمريكي موجودين في قواعد خارج البلاد وباستدعاء 50ألف من جنود الاحتياط الأمريكيين كما أعلن مساء الخميس 20/ 9/ 2001أمام مجلس الكونجرس (الشيوخ والنواب) أن "بلده في حالة حرب وأن من لا يقف معنا ويشارك في الحرب فهو يقف مع الإرهاب".
وقد ظهرت مؤخراً دراسات عديدة من كتاب وصحفيين أمريكان كلها تؤيد وتؤكد أن هدف الحرب الحالي التي تقودها أمريكا هو القضاء على الإسلام بتشويه صورته، وإذابة المسلمين وتغييبهم عن جوهر قضيتهم وتركيعهم واحتلال أرضهم وتنصيرهم وتصييرهم إلى أمة علمانية تنحي الإسلام جانباً وتدين بما يدين به غيرها، وقد وجدوا ضالتهم في (العراق) حاضرة الخلافة العباسية لتنفيذ مخططاتهم، كما وجدوها في هذه الأيام العجاف في تخلى حكام المسلين عن ثوابت دينهم ومبادئ عقيدتهم وأحكام شريعتهم إرضاء لأمريكا والغرب تحت مسميات تجديد الخطاب الديني والإصلاح السياسي وبناء شرق أوسط كبير وتطوير المناهج وحذف كل ما من شأنه أن يؤدي إلى العنف الذي يقصدون به (الجهاد)، أو يدعو إلى العفة والفضيلة بحجة مواكبة متطلبات العصر، في وقت تقوم فيه حروب هؤلاء المعادين للإنسانية ولكل القيم النبيلة على أساس ديني ولإكراه الناس للدخول في النصرانية، وصدق الله القائل: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق .. البقرة /109)، ولن نستطرد في إثبات هذه الحقائق كثيراً، فقط نترك الوقائع والأحداث والدراسات التي قاموا هم بكتابتها هي التي تتكلم وتثبت ما نحن بصدد الحديث عنه.
ونذكر من ذلك على سبيل المثال دراسة للباحثة (شيري بنرد) بمؤسسة (راند) بعنوان (الإسلام الديمقراطي المدني)، ومجموعة مقالات لـ ( (دانيال بايبس) مدير مركز الشرق الأوسط ومعه لفيف من الكتاب يدورون في فلكه، كما نستشهد لذلك بما حدث عقيب الغزو الصليبي لحاضرة الرافدين .. فقد انكشف الوجه التبشيري القبيح للاحتلال الأمريكي لتلك البلاد في حادثتين منفصلتين وقعتا في مارس 2004.
الأول: هجوم نفذته المقاومة العراقية ضد قافلة أمريكية اتضح فيما بعد أن ضحاياه أربعة منصرين أمريكان كانوا يقومون بمهام تبشيرية تحت إشراف مجلس الإرسالية المعمدانية الدولية الجنوبية طبقاً لما أكده موقع شبكة (CNN) الأمريكية على الإنترنت، والأربعة هم (لاري إليوت)60 عاماً، و(وفر إليوت)58عاماً، و(كارين دينيس) 38عاماً، و(ديفيد ماكدونال) 28عاماً، وأما الثاني: فكانت بطلته شركة (كلير شايتل كومينيكاشن) وهي شركة إعلام أمريكية عملاقة، حيث أذاعت إحدى محطاتها الإذاعية برنامجاً أكدت فيه أن احتلال القوات الأمريكية قام في بلاد الرافدين على فكرة تعليم أهلها أصول الحضارة الغربية وإنقاذهم من جاهليتهم، وراحت هذه المحطة في سبيل ترسيخ هذه الفكرة تسئ للدين الإسلامي وتتهكم من تعاليمه، وتظهر العرب والمسلمين في صورة أشخاص متخلفين يريدون العودة بالحياة الشخصية والحقوق المدنية ألف عام إلى الوراء، كما راحت تظهرهم في صورة أشخاص همجيين يعشقون إقامة العلاقات الجنسية مع حيواناتهم، واستمرت وقاحات البرنامج الهزلي تصحبها ضحكات هيستيرية تعكس التعصب الأعمى لكل ما هو صليبي، ويأتي كل ذلك في إطار مخطط شامل تشرف عليه الهيئة الدولية لبحوث الإرساليات التبشيرية والتنصيرية التي يعمل بها 16مليون شخص يمثلون الأغلبية البروتستانتينية في أمريكا ويبلغ عدد مؤسساتها مئة وعشرين ألفاً وثمانين مؤسسة وتصل إصداراتها السنوية من الكتب إلى ثمانية وثمانين ألفاً وستمائة وعشرة كتاب، كما يبلغ عدد مجلاتها الأسبوعية 24ألفاً و900مجلة و400محطة وتوزع بشكل سنوي 53مليون نسخة من الإنجيل طبقاً لنشرات الهيئة.
وحسب ما أكدته جريدة (الديلي تلجراف) البريطانية على لسان (جون برادي) رئيس هيئة الإرساليات الدولية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا ونقلته عنها جريدة الأسبوع في عددها الصادر بتاريخ 5/ 1/ 2004 فإن الهيئة التي تُعد الجيش التبشيري للكنائس المعمدانية طالبت بجعل العراق مفتوحاً للتنصير وللجماعات التبشيرية بحيث تكون محطة لنقل الأفكار التنصيرية للمنطقة كلها، وهو ما تحقق بالفعل منذ بدء الاحتلال الأمريكي للعراق حيث أصبحت العراق مرتعاً للمنصرين البروتستانت الذين جابوا أرض الخلافة العباسية، وراحوا يمارسون نشاطاتهم تحت زعم تقديم المساعدات الإنسانية للشعب العراقي وبدعوى إنقاذ النفوس الضائعة داخل الأراضي العراقية، ولولا أن منّ الله على هذا البلد بتلك الشبيبة المؤمنة التي وقفت ولا زالت لهم وللاحتلال برمته بالمرصاد، لطالت حملة المبشرين والداعين إلى دين النصرانية دول الشرق الأوسط كلها، ولربما راق لهم- فيما بعد- هدم الكعبة على نحو ما جاء على لسان الكاتب الصهيوني (ريوفن كورت) المدير الناشر لمجلة (إسرائيل من الداخل) وساعتها لن يجد المسلمون "أي قبلة يتجهون إليها حينما يحنون ظهورهم لعبادة إله الخراب الذي يعبدونه" على حد قوله، وصدق الله القائل: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
ولقد سبق لرئيس الكنيسة المعمدانية السابق (جيري فينيس) أن وصف النبي محمد بأنه مولع بمص الدماء وبأنه إرهابي .. كما سبق لأحد أعضائها وهو القس (فرانكلين جراهام) أن وصف الإسلام بأنه دين شيطاني تجب محاربته وبأنه دين شرير جداً لا يعرف التسامح، ويعد (فرانكلين) ووالده من أكبر المشاركين في عمليات جمع التبرعات للشعب العراقي لخدمة الأهداف التنصيرية، كما يعد (فرانكلين) المعلم الديني الأول للرئيس الأمريكي جورج بوش وهو الذي أقام قداس تتويجه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وكانت مكافأة بوش له أن سمح له بممارسة أنشطته داخل الأراضي العراقية، فماذا قدم حكامنا العرب والمسلمين تجاه أرض الإسراء وأولى قبلتي المسلمين بل وتجاه دينهم وأبناء أوطانهم؟ وحسَب ما ذكره (جون حنا) أحد أعضاء الجماعات التنصيرية والذي عاد مؤخراً من العراق، فإنه كان قلقلاً من أن لا تسمح السلطات الأمريكية للجماعات التبشيرية بممارسة نشاطاتها التنصيرية داخل العراق، إلا أنه اكتشف أن كل ما يحتاجه لدخول العراق هو امتلاك جواز سفر أمريكي وبعدها يصبح حراً في أن يفعل داخل العراق ما يشاء .. وهو ما يضع على كاهل المبشرين الأمريكان- حسب قوله- مسئولية كبيرة، "فالأبواب كلها مفتوحة وأساليب التنصير متاحة والدعم العسكري موجود .. وكلها عوامل داعمة لإنقاذ العراقيين من الدين الإسلامي المزيف، ومن قبضة النازيين المعادين للمسيح والمنكرين لحقيقة أن المسيح هو المخلص"، ويضيف حنا: "أن المسيحيين وهم في طريق تبليغ رسالتهم السماوية مطالبون بتوصيل الطعام إلى الجياع مثلما هم مطالبون بإشباع النفوس الجائعة .. حتى يدركوا أن المعونات التي يتلقونها هي من مسيحيين في أمريكا وليس مجرد أمريكان".
أما (جيم ووكر) الذي زار العراق في 10/ 2004ضمن فريق تنصيري وحمل معه معونات تم شحنها في 45 ألف صندوق، فيضيف قائلاً: "لقد قابلت أطفالاً يموتون جوعاً لكن احتياجهم الأول لم يكن للطعام، وإنما كان لمعرفة حب المسيح".. كما أكدت السيدة (جاكي كون) إحدى المبشرات البالغ عمرها 72 عاماً أنها نجحت بالفعل في تنصير سيدة كردية وطفلها، وحسب رواية (جاكي) فإنها قابلت السيدة الكردية داخل فندق عراقي وهي تستعد لإجراء عملية جراحية في ساقها فلما صلّت (جاكي) من أجلها داعية الرب أن ينجيها من إجراء تلك العملية، عادت تلك السيدة حاملة طفلها لتخبرها بأن الأطباء أكدوا لها عدم حاجتها لإجراء العملية بعد أن شفاها الرب ببركة صلواتها للمسيح، وأن المرأة الكردية صلت وراءها هي وطفلها شكراً للمسيح، وبعد أداء الصلوات خرجت المرأة الكردية وطفلها "حاملين الإنجيل مكتوباً بالعربية ومعهما شرائط فيديو للمسيح وفوق هذا كله حاملين المسيح في قلبيهما"، وتنهي جاكي حديثها قائلة: "ربما كانت عملية تنصير المسلمين في العراق صعبة، لكن المبشرين تلقوا دورات تدريبية مكثفة قبل الذهاب إلى العراق لتنصير أبناء الشعب العراقي ولتفنيد التعاليم الإسلامية التي تنظر إلى المسيح على أنه مجرد نبي آخر، ويعيشون في ضلالهم معتقدين أن محمداً آخر الأنبياء .. لقد جاءتنا فرصة العمر لحمل رسالة المسيح إلى العراق وفي زيارتنا الماضية حملنا للعراق 8000 إنجيل مكتوب باللغة العربية وهدفنا أن يصبح هذا العدد مليوناً في المستقبل القريب"، وكانت صحيفة (دير شبيجل) الألمانية فيما نشرته في 17/ 2/ 2003 قد أشارت إلى شيء من هذا، وأكدت أن الحرب ضد العراق ما هي إلا جزء من حرب صليبية يشنها اليمين المسيحي الصهيوني المتطرف على العالم الإسلامي للإعداد لما يسمى بمعركة (هيرمجيدون) التي تهيئ للعودة الثانية للمسيح.
وفي موقف تهكمي عرضته القناة الأولى الألمانية في 24/ 6/ 2004 ذكرت (أنيا راشكة) في برنامجها الأسبوعي (بانوراما) أن "هذه الطوائف التبشيرية تتحدث عن الحرب المقدسة في العراق ويرون أنفسهم شهداء ويعتبرون الأديان الأخرى مجرد زندقة وإلحاد، وهؤلاء الذين يزداد نفوذهم في أمريكا هم الذين يدين لهم الرئيس بوش بمنصبه كرئيس لأمريكا"، تقول: "والمشكلة أ ن هؤلاء يريدون تنصير العالم أجمع"، وتضيف في استغراب: "أنهم قد وجدوا فرصتهم السانحة في احتلال العراق وأن معظم الأعمال التي يقومون بها سرية لكن يحظون بتأييد كامل من الحكومة الأمريكية وأن الجيش الأمريكي نفسه يضم مجموعة منهم وهو ما يتبدى من تبرعات ومنح بالملايين وأن الرئيس بوش بنفسه قد قال لبعض أولئك المبشرين: (جميعنا مطالبون بنشر كلمة الله وتحقيق مملكة الرب)" ، وأضافت القناة الألمانية أن (تود نيتلتون) أحد أعضاء هذه المؤسسة قال: "إنه ومن معه يعرفون أن بعض المسلمين سيغضبون لمحاولة تنصيرهم بشدة .. وقد يؤدي ذك إلى تعرضهم- يعني هو وجماعته- للقتل، إلا أنهم لا يخشون ذلك معتبراً أن الموت في سبيل قضاء الخلود في الجنة، يعد تجارة مربحة خاصة حين يتم ذلك في فرض المسيحية على الضالين المسلمين".
ولعلنا بعد كل ما ذكرنا، نعذر أولئك الخاطفين العراقيين الذين يسعون لتحقيق رغبة أولئك المنصرين في الاستشهاد في سبيل نشر المسيحية، وينفذون حكم الإعدام على أمثال هؤلاء الذين لم يكتفوا نساء ورجالاً بما ينغمس فيه الشعب العراقي حتى الثمالة من قهر وبطش وقتل وتعذيب وظلم واحتلال تمارسه حكوماتهم، حتى راحوا يستغلون معاناته أسوأ استغلال ويفتنونه عن دينه وفي بلده التي هي في حكم الشريعة دار حرب لا حرمة فيها لأجنبي أياً ما كان هدفه، وكان الأولى بأولئك الواقعين في أيدي المقاتلين ممن تداروا تحت ثياب الإغاثة، وقطعوا آلاف الأميال تحت عباءة تخليص العراقيين من القهر والاستبداد وتحت غطاء المعونات الإنسانية .. هؤلاء الباكين على الشعب العراقي وتقطر قلوبهم من أجله شفقة ورحمة، كان الأولى بهم إن كانوا صادقين بحق في رفع المعاناة عن هذا الشعب أن يوفروا جهودهم ويبقوا على أطعمتهم التي لا يحصل ذوو الحاجة إليها على شيء منها، لأنها لا تصل من الأساس إليهم وإن وصلت تصل بعد وفاتهم أو بعد فوات أوانها أو مقابل تنصيرهم، وأن يضغطوا بدل ذلك- وهم كما رأينا قوة لا يستهان بهم- على رؤساء وحكومات بلادهم ليكفوا عن هذا الشعب المغلوب على أمره شرهم ويرفعوا عنه أيديهم ويخرجوا من تلك البلاد التي جاءوا لنهب نفطها وثرواتها، ولفرض هيمنتهم عليها غير مكتفين باستعمارها وإذلال أهلها.
وإذا كانت تلك هي بركة الاحتلال، قد تمثلت في كتائب التنصير، فعن بركته في التغلغل اليهودي داخل بلاد الرافدين حدث ولا حرج، وقطعاً للشك باليقين نسوق من شهادتهم وضمن اعترافاتهم ما كشفت عنه صحيفة (النيويورك) الأمريكية من مخطط إسرائيلي يهدف إلى تفتيت العراق وجمع معلومات استخبارية واغتيال قادة المقاومة الشيعية والسنية وإقامة دولة كردية في الشمال بغية إحداث توازن عسكري مع الميلشيات الشيعية، فقد ذكرت الصحيفة أن الخطة (B) التي اعتمدتها المخابرات الإسرائيلية، تشير إلى كل ما ذكر وتنادي بالتعاون مع الأكراد في إقامة دولتهم، وتقضي لتحقيق ذلك بتدريب الكوماندوز الأكراد للقيام بعمليات خاصة داخل الأراضي السورية والإيرانية والتركية والتركسانية لصالح إسرائيل تشمل التجسس على البرنامج النووي الإيراني تمهيداً للتخلص منه على غرار ما فعلته مع المفاعل النووي العراقي في عام 1981وأن رجال من الموساد قد دخلوا بالفعل بعض هذه البلاد بجوازات سفر غير إسرائيلية وعلى أنهم رجال أعمال لتحقيق ما تم التخطيط له والاتفاق عليه.
كما كشفت جهات أمنية تركية رفيعة المستوى مؤخراً في تقرير لها نشرته صحيفة (جمهوريت) التركية ونقلته عنها صحيفة الأسبوع القاهرية في 22/ 11/ 2004 وأوردته إذاعة الرياض، عن سياسات إسرائيل التي تهدف بمساندة من الاحتلال الأمريكي إلى العمل على فصل شمال العراق وقيام تل أبيب منذ صيف عام 2003 بشراء مبان وأراضي- اعتماداً على نص توراتي يتعلق بتوصيف الأراضي المقدسة لليهود- بلغت6000متراً في مدينة كركوك إضافة لشراء500 منزلاً في محافظة الموصل وألفي متراً وثلاثين مبنى في أربيل، وأفاد التقرير أن إسرائيل قد ضاعفت- مستغلة سوء ورداءة الأوضاع هناك- من حجم تبادلها التجاري مع العراق، وكانت صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية قد نقلت عن الحاخام (أرفيننج السون) في عددها الصادر في الأحد 24/ 11/ 2004أن عدداً كبيراً من الضباط والجنود اليهود منهم القناص (مارك افينين) حفيد أكبر الحاخامات اليهود في أمريكا قد قتلوا على أيدي المقاومة العراقية في الفلوجة .. وأن الحاخام (أرفيننج) الذي عاد من هناك إلى أمريكا وقدر عدد المنضمين من اليهود بما يقارب 1000 خلاف من يؤثر- لمزيد من الإخلاص- عدم إظهار هويته، وقدر عدد الحاخامات بـ 37 موزعين على القوات الجوية والبحرية وأفاد أن العديد منهم احتفل على أنقاض الجثث العرقية وأشلاء الأطفال بعيد رأس السنة اليهودية.. حث المزيد من الشباب والحاخامات اليهود على الانضمام إلى الخدمة العسكرية على اعتبار أن الموت في العراق شهادة لهم خاصة أن أغلبهم متدينون ويقرؤون الكتب الدينية اليهودية .. ومن جانبه فقد ذكر مكتب المتابعة والتنسيق الاستراتيجي الأمريكي الصهيوني- ومقره في واشنطن- "إن الدعم الصهيوني للقوات الأمريكية لم يقتصر على فتح الجبهات أو الدعم المعلوماتي وإنما امتد للمشاركة الفعلية على الأرض وأن هناك استشارين وخبراء عسكريين وصل عددهم 76 يعملون في وحدات القيادة والسيطرة وفقاً لاتفاقية التعاون والدعم المشترك وبناء على اتفاقية التحالف العسكري الموقعة بين البلدين في 11/ 1983 ، 3/ 2001"، وقال (ريتشارد ديللر) المسئول الأمريكي عن إدارة المكتب "أن قوة صهيونية قوامها 2500 جندي شاركت في عملية الشبح الغاضب التي بدأتها القوات الأمريكية في الفلوجة، وأكد (ديللر) أن الدعم مستمر خاصة مع وجود قوات مشاركة في أغلب مناطق العراق، وأنه غير مرتبط بأي وقت أو مهمة محددة سلفاً."
كما سبق لجريدة الأهرام المصرية في 9/ 7/ 2004أن تحدثت في صدر صفحتها الأولى وفي مقال لرئيس تحريرها عن حقيقة التواجد الإسرائيلي والدور الذي تقوم به في أرض العراق وفقاً لما جاء مدعماً بالوثائق على ألسنة مسئولين أمريكيين، وقد خلص تقريرهم إلى وجود خبراء للاستخبارات الإسرائيلية يهدفون إلى الوصول إلى المعتقلين الذين كانوا أعضاء في الاستخبارات العراقية والذين كانوا يختصون بالشئون الإسرائيلية، كما توصلوا إلى وجود خطة إسرائيلية ترمي إلى تفتيت الكيانات العربية، وحسب ما جاء في صحيفة (ديلي ستار) الملحقة بـ (الهيرالد تريبيون) فقد أمدت إسرائيل الأمريكيين بآليات ونظم تعذيب لانتزاع الاعترافات من أسرى ومعتقلي السجون العراقية حتى بات العسكريون الأمريكيون يستمعون بعناية فائقة إلى خبراء إسرائيليين للتزود بخبراتهم في التعامل مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية .. وعملاً بمبدأ أن الفعالية في انتزاع الاعترافات ينبغي أن تكون لها الأسبقية على احترام مقتضيات الديمقراطية وحقوق الإنسان فقد أقيمت تدريبات مشتركة أمريكية إسرائيلية في صحراء النقب، الأمر الذي يؤكد أن سوء المعاملة في سجن أبو غريب ليس من فعل بعض الشواذ كما يروج البعض، وإنما هو جزء من مخطط بسبيله أن يعمم بين الجنود وفي جميع السجون العراقية والأفغانية.
وكانت إسرائيل قد أظهرت منذ بداية الأزمة العراقية، تأييداً كاملاً للولايات المتحدة حينما كانت تشن حملة ضخمة داخل أروقة الأمم المتحدة تمهيداً للحرب ضد العراق، وكان الاعتقاد السائد آنذاك أن إسرائيل تؤيد أمريكا في الحرب حتى تتجنب التهديدات العراقية مستقبلاً، ومع تأكيد معظم القادة الإسرائيليين على أن بلادهم لا تتعرض لخطر حقيقي من جانب العراق، فإن تأييدهم للولايات المتحدة يرجع إلى رغبة إسرائيل في أن تكون شريكة لواشنطن فيما يسمى بالحرب ضد الإرهاب وفي محاولة الربط بين العراق وأنشطة حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفة وغزة حتى تعطي نفسها الحق في أن تستمر في احتلالها وعدوانها على الأراضي الفلسطينية، وهي من وراء كل ذلك تخفي الرغبة في تحقيق حلمها في إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وما محاولات السعي المستميتة وغير الموفقة- بمشيئة الله وفضله- لتغيير العلم العراقي إلا سيراً في هذا الاتجاه وإلا خير شاهد على ذلك وإلا خطوة في إخضاع العراق للهيمنة اليهودية.
ويأتي هذا الغزو وتلك الحملة العسكرية في إطار حرب منظمة تستهدف الإسلام وتبتغي اقتلاع جذوره، هكذا صور للداعين إليها والمتزعمين لها من قوى الشر خيالهم المريض، غير مدركين عواقب ما يقترفونه ولا متصورين أنهم بصنيعهم هذا وبما يفعلونه يحفرون قبورهم بأيديهم .. فكم مرّ على المسلمين في فترات ضعفهم ما هو أسوأ من ذلك .. (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون .. الأعراف/ 118)، (وظهر أمر الله وهم كارهون .. التوبة/ 48)، و(قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون .. غافر/ 78)، وقيض الله من يذب عن هذا الدين العظيم ويحمي بيضته، وقد صدق في أسوأ سلف ما سيصدق لأشر خلف قول الله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .. الصف/8، 9) .. بله أن الذي ينبغي التنبه له أن هذه الحملة التي اجتمع عليها أهل الكفر من كل حدب وصوب وأجلبوا فيها على أهل الإيمان بخيلهم ورجلهم .. سبقتها من قِبَل رؤساء الكنائس الإنجيلية ومهدت لها، حملة أخرى فكرية ثقافية اضطلع فيها الإعلام الغربي بدور أساسي، وتتكئ هذه الحملة بعد تشويهها صورة الإسلام وتأليف قرآن يعارضون به قرآن المسلمين، على الطعن في نبي الإسلام .. ومن الأهمية بمكان أن نعرض لبعض ملامح هذه الحملة المحمومة حتى تكتمل الصورة لدى كل مسلم ليعلم موطأ قدمه وليعد للأمر عدته، فليس من المعقول أن يعكف أهل الباطل على قرآن المسلمين وسنة نبيهم ليل نهار يستخرجون ما يظنونه مطاعن في هذا الدين المهيمن، بينا لا يعبأ المسلم بما يدور حوله ولا ما يحاك له، أو يظل هكذا بعيداً عن مجريات الأمور وبعيداً عن تعلم الهدى ودين الحق الذي يمثل- على حد قول ابن القيم في زاد المعاد- أول مراتب مجاهدة النفس التي تمثل بدورها أولي أنواع الجهاد في سبيل الله.
والحق أن هذه الحملة العدوانية الشرسة- المتمثلة في تصوير الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام في صورة بالغة البشاعة ومغايرة تماماً للحقيقة وقائمة على التلفيق والأوهام وليّ الحقائق من طرف وسائل الإعلام في الغرب ومن جانب رؤساء بعض الكنائس الإنجيلية لا سيما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م وقيام الحرب الصليبية المقنعة التي تقودها الولايات المتحدة ضد الإسلام والمسلمين تحت مسمى (الحرب على الإرهاب وإزالة أسلحة الدمار الشامل)- هذه الحملة ليست جديدة ، بل هي عقيدة غربية موروثة تشكلت ونمت منذ القرن الأول وحتى نهاية القرن الثامن الهجري.. وانتقلت هذه العقيدة كاملة متماسكة عبر هذه القرون الثمانية لتصل إلى القرون الحديثة والمعاصرة، وأصبحت أشبه بالمستنقع الآسن العَفِن الذي تغرف منه وسائل الإعلام الغربية وبعض رجال الدين الإنجيليين في أميركا، وينشرونها عبر وسائلهم المختلفة على أنها حقائق.
وتلك نماذج لمقتطفات من أقوال هؤلاء الحانقين عن الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ساقها أ.د/ على محمد عودة- زاده الله حرصاً وأجزل مثوبته- وذك في إطار الحملة العالمية لمقاومة العدوان على العراق وقام مشكوراً على نشرها على مواقع الإنترنت بتاريخ 3/ 4/ 1424هـ السادة المشرفين على تلك الحملة- جعل الله ذلك في موازين حسناتهم- ونحن بدورنا نوجزها اختصاراً للوقت وليتضح لكل صاحب فكر خصيب مدى اعتناق هؤلاء لتلك العقيدة الموروثة التي لفقها أسلافهم خلال العصور الوسطى في أوربا.
1 - جيري فالويل Jerry Falwell : وهو قسيس أنجيلي معروف له برنامج إذاعي وتلفزيوني يصل إلى أكثر من عشرة ملايين أسبوعياً وله جامعة أصولية خاصة تسمى جامعة الحرية Liberty University وهو الذي يروج في موقعه على الإنترنت www.Lalwell.com لكتابه (فلنتقدم إلى معركة هرمجدون) March to Armgeddon وهي معركة نهاية التاريخ كما في معتقدات الإنجيليين، وفي الصفحة الأولى من موقعه على الإنترنت يضع تاريخاً ملفقاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، مستمداً بكامله من كتابات بعض الرهبان الأوربيين في العصور الوسطى، ويهاجم فالويل النبي، من خلال بعض وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، ومما قاله فالويل مساء يوم الأحد 6 أكتوبر 2002م في برنامج 60 دقيقة: "أنا اعتقد أن محمداً كان إرهابياً، لقد قرأت ما يكفي من المسلمين وغير المسلمين أنه رجل عنف، ورجل حروب .. في اعتقادي المسيح وضع مثالاً للحب كما فعل موسى، وأنا اعتقد أن محمداً وضع مثالاً عكسياً".
2- بات روبرتسون Pat Robertson : وهو قسيّس إنجيلي معروف باهتماماته السياسية وتأييده المعلن لإسرائيل، ويمتلك عدداً من المؤسسات الإعلامية من بينها نادي الـ 700 (700 Club) وهو برنامج تلفزيوني يصل إلى عشرات الملايين في الولايات المتحدة الأمريكية إضافة إلى محطة فضائية تصل إلى 90 دولة في العالم بأكثر من 500 لغة مختلفة وهي محطة (البث النصراني Christian Broadcasting) ومنها إذاعة الشرق الأوسط المتخصصة في التنصير في منطقة العالم العربي، كما سعى (بات روبرتسون) إلى الترشيح لمنصب الرئيس الأمريكي في عام 1988م، ويقف خلف أقوى تحالف سياسي ديني في الحزب الجمهوري وهو (التحالف النصراني) (Christias Coalition) وموقعه الإلكتروني هو www.patrobertson ويملك أيضاً جامعة أصولية هي جامعة ريجنت Reqent University وفي هجومه على النبي عليه الصلاة والسلام من خلال برنامج هانتي وكولمز Hannity and Colmess في قناة فوكس الإخبارية Fox Newss قال ما يلي: "كل ما عليك هو أن تقرأ ما كتبه محمد في القرآن، إنه كان يدعو قومه إلى قتل المشركين .. إنه رجل متعصب إلى أقصى حد .. إنه كان لصاً وقاطع طريق .. إن ما يدعو إليه هذا الرجل- يقصد به سيد ولد آدم ولا فخر- في رأيي الشخصي ليس إلا خديعة وحيلة ضخمة .. إن 80% من القرآن من النصوص النصرانية واليهودية، ولقد ذكر موسى أكثر من 500 مرة في القرآن، أنا أقول إن هذا القرآن ما هو إلا سرقة من المعتقدات اليهودية .. ثم استدار محمد بعد ذلك ليقتل اليهود والنصارى في المدينة، أنا أقصد .. أن هذا الرجل -يعني به رحمة الله للعالمين- كان قاتلاً وسافك للدماء"، وسيأتي ما يدل على مدى تطابق أقوال هذا القس الحاقد المأفون مع أقوال رهبان أوربا في عصر الظلمات ونقله لأقوالهم وأفكارهم.
3- فرانكلين جراهام Franklin Graham : وهو ابن القسيس الأمريكي (بيلي جراهام)،
وقد عمل والده قسيساً خاصاً للرؤساء الأمريكيين منذ عهد ريتشارد نيكسون، وحتى الرئيس الأمريكي السابق (بيل كلينتون)، ويتولى ابنه (فرانكلين جراهام) الآن نفس المهمة بعد تقاعد الأب، وقام- كما سبق أن أشرنا- بعمل الطقوس الدينية لتنصيب الرئيس الأمريكي الحالي (جورج دبليوبوش)، ويتولى جميع مسئوليات الكنيسة التي أنشأها أبوه والتي تعد من أكبر الكنائس الأمريكية عدداً وتأثيراً، وقامت خلال السنوات الماضية بأكثر من 450 حملة تنصير في جميع أنحاء العالم، وموقعه على الانترنت هو www.samaritan.org. وقد أدلى (فرانكلين) بتصريحات إعلامية ذكر خلالها أن الإرهاب جزء من التيار العام للإسلام، وأن القرآن (يحض على العنف) وكرر جراهام خلال برنامج (هاينتي وكولمز) المذاع على قناة فوكس نيوز الأمريكية في الخامس من أغسطس 2002م رفضه الاعتذار عن تصريحات أدلى بها بعد حوادث سبتمبر 2001م وصف فيها الإسلام بأنه دين (شرير) وفي كتاب جديد لـ (فرانكلين) يسمى (الاسم) The name ، يحتوي على نصوص تتسم بالسفه والحطة بهدف الإساءة إلى الإسلام ومنها قوله في الصفحة رقم 71 : "الإسلام .. أسّسَ بواسطة فرد بشري مقاتل يسمى محمد، وفي تعاليمه ترى تكتيك (نشر الإسلام من خلال التوسع العسكري)، ومن خلال العنف إذا كان ضرورياً، ومن الواضح أن هدف الإسلام النهائي هو السيطرة على العالم" ، وقوله في الصحفة 72 من كتابه: إن "القرآن يحتوي على قصص أُخذت وحُرّفت عن العهدين القديم والجديد .. لم يكن للقرآن التأثير الواسع على الثقافتين الغربية والمتحضرة الذي كان للإنجيل، الاختلاف رقم واحد بين الإسلام والمسيحية أن إله الإسلام ليس إله الديانة المسيحية".. فما أجهله وأجهل به!!.
4 - جيري فاينز Jerry Vines : وهو راعي كنيسة في (جاكسون فيل) في (فلوريدا)، يصل عدد أتباعها إلى 25 ألف شخص، وهو من أبرز المتحدثين الأمريكيين في المؤتمر السنوي للكنائس المعمدانية الجنوبية، وهو أكبر مؤتمر ديني يعقد كل عام، وقام الرئيس الحالي والرئيس السابق بمدح هذا القسيس واعتباره من المتحدثين بصدق عن دينهم وموقعه على الانترنت www.fbcjax.com وقد أدلى (جيري فاينز) بتصريحات تتصف بالقذارة والسفه ومليئة بالكراهية والحقد على الإسلام خلال الاجتماع السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية، والذي عُقد مؤخراً في مدينة سانت لويس بولاية ميسوري الأمريكية،
وخلال الاجتماع افترى هذا (الجرو) على الرسول عليه الصلاة والسلام واتهمه زوراً وبهتاناً بأنه "شاذ يميل للأطفال ويتملكه الشيطان، وتزوج من 12 زوجة آخرهن طفلة عمرها تسع سنوات" ، وأضاف (فاينز) أن "الله- يعني الذي يؤمن به المسلمون- ليس الرب الذي يؤمن به المسيحيون".. فما اجهله هو الآخر وأجهل به!!.
هذه الصورة الملفقة المشوهة والتي تمثل العقيدة الدينية الغربية الموروثة منذ نهاية القرن الثامن الهجري ضمن عقائد المجتمع الغربي النصراني .. هي الراسخة الآن في العقل الغربي المعاصر، والتي تمثل المصدر الرئيس للمستشرقين غير الحياديين والمنصرين المتعصبين في أيامنا، والتي نراها في مخيلتهم ونسمع بها.. وتلك هي ثقافة الغرب وأمريكا عن الإسلام التي استطاع رؤساء الكنائس ومن ورائهم الصهيونية العالمية أن يجعلوا منها رسالة تخدم الإنسانية وتخدم دينهم وقضاياهم السياسية، وهي في مجملها كما هو متضح صورة لا تمثل الواقع لا من قريب ولا من بعيد، وتنم في ذات الوقت عن حقد دفين واستخفاف بعقول مبتغي الحقيقة ولا تصلح أن تكون منبع ثقافة لمن (كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) أو لمن كان يبغي التعرف على الإسلام أو الاقتراب منه.
ويمكن أن نوجز مصادر تلك العقيدة الموروثة كما صورها د/ عودة، في أربعة مصادر رئيسية هي :-
1 - ما كتبه النصارى الشرقيون وأشهرهم: يوحنا الدمشقي وتلميذه أبو قرة ويوحنا النقيوسي ، ويحيى بن عدي، ومؤلف مجهول لمقالة تسمى الدفاع السرياني.
2 - ما كتبه الكتّاب البيزنطيون (الروم) وعلى رأسهم: ثيوفانس المعترف، ونيقتاس البيزنطي، وجرمانوس.
3 - المصادر الأسبانية: وعلى رأسهم المقالة الأسبانية عن محمد عليه الصلاة والسلام وما كتبه ايزدور الأشبيلي، وأولوخيو، وبول الفارو، وغيرهم.
4 - ما كتبه ولفقه واخترعه الكتاب الغربيون حتى نهاية القرن الثامن الهجري.. ويأتي على رأس تلك الكتابات: (المشروع الكلوني) وهو أول وأكبر مشروع استشراقي يهدف بالدرجة الأولى إلى تفنيد الإسلام، وكتاب لمؤلف مجهول يسمى: الدحض الرباعي، وكتاب آخر لمؤلف مجهول يسمى (المتناقضات) وما كتبه كل من: بدرودي الفونسو، وسان بدرو باسكوال، وريكولدو دي مونت كروس، ورامون مارتي، وريموندلول، ووليم الطرابلسي، ووليم الصوري، ووليم آدم، وجاكيوس دي فتري، وهامبرت الروماني، وفيد ينزو أوف بافيا، وغيرهم كثير.
ونكتفي هنا بعرض نماذج مختصرة لبعض تلك الكتابات حتى نرى كيف تشكلت وتكونت تلك العقيدة الغربية الموروثة عن الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
أ- من النصارى الشرقيين يوحنا الدمشقي ( 55 - 131هـ / 675 - 749 م ) وهو من نصارى الشام، وُلدَ وعاش في العصر الأموي، وتضلع في اللاهوت وكتب كتباً كثيرة، ومن ضمنها كتاب كتبه باليونانية بعنوان الهرطقات، أفرد فيه فصلاً عن الإسلام أطلق عليه اسم ( هرطقة الإسماعيليين ) ويقصد بالإسماعيليين العرب من أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهذا الفصل شديد الطعن على العرب فقد اتهمهم يوحنا فيه بالضلال والخرافة، واعتبرهم فرقة نصرانية متهرطقة، وزعم أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان رسولاً زائفاً ادَّعى النبوة زمن الإمبراطور هرقل، بعد أن قرأ العهد القديم والعهد الجديد وتعلّم من راهب أريوسي فتظاهر بالتقوى حتى استمال العرب إليه وأخبرهم أنه تلقى كتاباً من السماء، وقدّم فيه تلك الشرائع المضحكة- على حد قوله- التي تسمى بالإسلام، ومن التلفيقات التي وضعها يوحنا في فصله هذا لتشويه صورة النبي عليه الصلاة والسلام، زعمه الكاذب أن النبي دخل إلى بيت زينب بنت جحش في غياب زوجها فافتتن بها وخرج وهو يقول سبحان مقلب القلوب .. إلى آخر القصة التي هي من الإسرائيليات والتي تسربت إلى بعض كتب التفسير، وأدرك ابن كثير زيفها فأعرض عن ذكرها في تفسيره وأشار إلى أنها ملفقةً لا تصح.
وكان هدف يوحنا الدمشقي من ذلك التشويه، تحصين النصارى من أهل الذمة الذين أدركوا عدالة الإسلام وسماحة المسلمين، والحيلولة بينهم في بلاد الشام وبين اعتناق الإسلام خاصة بعد دخول الكثيرين منهم في الإسلام .. فلم يجد وسيلة لتثبيت النصارى على دينهم سوى اتهام الإسلام بالهرطقة، وتشويه سيرة النبي محمد لتكون صورته في نظر النصارى صورة كريهة وبذا لا يقبلون على اعتناق الإسلام، يعني تماماً كما يفعل خلفه الآن .. وقد انتشر هذا الكتاب في بلاد الدولة البيزنطية (دولة الروم) واستخدمه الكتّاب البيزنطيون في هجماتهم الفكرية على الإسلام ثم تُرجم إلى اللاتينية وأسهم في صياغة العقيدة الغربية تجاه الإسلام والمسلمين طوال العصور الوسطى وحتى العصر الحاضر.
ب- ومن الكُتّاب البيزنطيين نيقتاس البيزنطي الذي عاش في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، وكتب كتاباً زعم أنه دحضٌ للقرآن الكريم، ذلك أن الإمبراطور البيزنطي (ميخائيل الثالث) ( 227 ـ 254 هـ/ 842 ـ 867 م) تلقى مقالتين من بعض العلماء المسلمين تفندان مزاعم النصارى بأن لله جل وعلا ابن يشاركه في أسمائه وصفاته، وبطلان مقولة الأقانيم الثلاثة، فكلَّفَ الإمبراطور نيقتاس بالرد عليهما فقام نيقتاس بتأليف رده الذي وصفه بأنه (دحض لكتاب محمد المزوَّر) .. ولم يكن نيقتاس ضليعاً في اللغة العربية، فقام حسب زعمه بالإطلاع على القرآن، وقام باستعراض سوره من سورة البقرة إلى سورة الكهف، وكل سورة يسميها الأسطورة المحمدية رقم كذا- مثلما هو رقمها في القرآن- ثم يذكر اسمها، وأصدر حكمه الباطل بأن القرآن يصوّر الله - جل وعلا - على شكل كروي كامل، أو على شكل مطرقة معدنية مطروقة في السماء، ويبدو أن نيقتاس اقتبس هذا الزعم من المقالة الأسبانية التي سنعرض لها بعد قليل، ثم أخذ يسخر من المسلمين على مناصرتهم لهذا التصور المادي- بزعمه- وقال بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قاد المسلمين ليعبدوا في مكة وثناً مصنوعاً على غرار (أفروديت) - معبودة الحب والجمال عند الإغريق- وأنه جعل الشيطان رباً للخلق، وظل يؤكد على أن دين الإسلام دين وثنيّ وأن اتباعه مجرد جماعة من الوثنيين، وكان في كل سورة يتحدث عنها يوجه السب والشتم إلى النبي عليه الصلاة والسلام- زاعماً- أنه هو الذي وضع القرآن وشحنه بالأساطير، وأنه أمر اتباعه بقتل من يجعل شريكاً في جانب الله، ولذلك وقع معظم ذلك القتل- بزعمه- على النصارى الذين يعبدون المسيح ابن الله وأخذ نيقتاس يحاول تفنيد بعض نصوص القرآن وقصصه عن طريق مقارنتها بنصوص العهدين القديم والجديد، ويبدو في هذا متأثراً برأي يوحنا الدمشقي، فزعم على سبيل المثال أن إبراهيم الخليل عليه السلام لم يصل إلى مكة ولم يبن الكعبة، لأن سفر التكوين لم يذكر ذلك .. كما حاول نيقتاس أن يستدل على عقيدة الثالوث ببعض آيات القرآن بتأويلها حسب هواه، واختتم حديثه بالتأكيد على أن الذي يعبده محمد عليه الصلاة والسلام ويدعو إلى عبادته إنما هو الشيطان نفسه، والحق أن كل أراء نيقتاس لا تتعدى هذا الهذيان، وقد أوردناها لنرى الأثر الذي أسهمت به في صياغة العقيدة الغربية تجاه الإسلام والمسلمين خلال العصور الوسطى وإلى الآن.
وقد كان لبعض أراء نيقتاس الزائفة أثرها في الدولة البيزنطية حتى أن أحد رجال الدين ألف رسالة في زمن الامبراطور (مانويل كومنين) ( 549ـ585هـ/ 1143ـ1180م ) يشجب فيها الدين الإسلامي وفيها يلعن مصنفها (الرب الذي يعبده محمد عليه الصلاة والسلام) وقدَّم تلك الرسالة للإمبراطور الذي أراد شطب هذه العبارة المقيتة محتجاً بأن الرب الذي يعبده محمد عليه الصلاة والسلام إنما هو الأب الذي يعبده النصارى فأصرَّ رجال الدين على أن الذي يعبده محمد عليه الصلاة والسلام إنما هو إله غير إله المسيحيين، وهذا يوضح إلى أي مدى بقيت هذه العقيدة الزائفة حية حتى اعتنقها وقال بها (فرانكلين جراهام) و(جيري فاينز) كما ذكرنا آنفاً .. ومنذ النصف الثاني من القرن الثالث الهجري / النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي أصبح في مقدور رجال الدين في الغرب الأوروبي الإطلاع على تلك الصور المشوهة حين ترجم أمين مكتبة البلاط البابوي (أنستاسيوس) بعض تلك الكتابات، الشرقية والبيزنطية إلى اللاتينية وأدمجها في حولياته التاريخية.
جـ - وفي أواخر القرن الثاني الهجري / أواخر القرن الثامن وأوائل التاسع الميلادي، ظهرت مقالة في أسبانيا في أحد الأديرة الشمالية، وهي عبارة عن نص هجومي بذئ على النبي عليه الصلاة والسلام عُرفت باسم المقالة الأسبانية عن محمد عليه الصلاة والسلام ولا يُعرف كاتبها، ويرجح ناشرها (دياز) أنها من عمل أحد النصارى المستعربين، وهذه المقالة تصِّور النبي عليه الصلاة والسلام بصورة مجافية للذوق ومعاكسة لصفاته، فتزعم- زوراً وبهتاناً- أنه كان كاذباً مبتدعاً شهوانياً، وأنه دعا عربه المتوحشين إلى أن يتخلوا عن الوثنية، وأن يعبدوا إلها مادياً في السماء على شكل كرة مادية، وتزعم هذه المقالة الزائفة أن إبليس ظهر لمحمد عليه الصلاة والسلام مدعياً أنه الملك جبريل، وأخبره أن الرب أرسله ليبشر العرب بما كان قد سمعه في مدارس المسيحيين ويدعوهم إلى عبادة ذلك الإله المادي في السماء وهجر عبادة الأوثان، وتزعم المقالة البذيئة أن محمداً عليه الصلاة والسلام عندما مات تعفنت جثته فقامت الكلاب والخنازير بالتهام الجثة العفنة.
وقد نجم عن هذه المقالة المنحطة أن تشبع بها بعض الرهبان فظهرت حركة في قرطبة في منتصف القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي، يقوم أفرادها بسب النبي عليه الصلاة والسلام علناً فيؤخذ أفرادها إلى القاضي فيكررون السب والشتم للنبي عليه الصلاة والسلام، الأمر الذي أدى إلى إصدار حكم الإعدام على عدد منهم، تذكر المصادر الأسبانية أن عددهم يبلغ زهاء 50 شخصاً، وسمَّت تلك المصادر تلك الحركة بحركة الاستشهاد في قرطبة وبدأت تلك الحركة براهب يُدعى (بيرفكتوس) الذي ذهب إلى السوق فسأله بعض عامة المسلمين عن رأي النصارى في المسيح ومحمد عليهما السلام فرد قائلاً بألوهية المسيح ووصف محمداً عليه الصلاة والسلام بتلك الصفات الواردة في المقالة الأسبانية، فقبضوا عليه وأخذوه إلى القاضي فأصر على موقفه فصدر الحكم بقتله، وقد سار على منواله عدد من الرهبان، منهم (بول الفارو)، و(أولوخيو) أسقف طليطلة الأسمي .. وكتب (أولوخيو) رواية عن هذه الحركة وسبّ النبي عليه الصلاة والسلام فحُكمَ عليه بالإعدام سنة 245هـ / 859 م، وكان أولوخيو و(بول الفارو) الذي كتب سيرته بعد مقتله يعتقدان بأن ظهور الإسلام وانتشاره إنما هو الإعداد النهائي لظهور المسيح الدجال، أو هو الدجال نفسه، ومما أورده أولوخيو في روايته لتلك الحركة أن ثلاثة من الرهبان الأسبان هم جورجيوس، وأورليوس ، وناثاليا كتبوا نصاً عن آلام المسيح، وقد احتوى النص على هجوم متعصب حاقد على الإسلام ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام فوصف الإسلام بأنه العقيدة الضالة، وخدعة الشيطان الماكرة وأن الإسماعيليين يُجِّلون نبيّاً كاذباً، صدَّقوا أنه من خلاله يكون طريق الخلاص، وأن نبي المسلمين إنما هو- بزعمهم- غادر بطبعه ومؤمن بإبليس، وهو وكيل المسيح الدجال والمستنقع لكل الرذائل والذي سوف يُلقى به في جهنم، ومن خلال تعاليمه العقيمة كتب على أتباعه عذاب النار السرمدي، وأن الذي تراءى له في هيئة ملاك إنما هو الشيطان .. وقد أسهمت هذه الحركة الحاقدة المتعصبة في قرطبة وما صاحبها من كتابات الرهبان المقيتة، بدور كبير في صياغة العقيدة الغربية تجاه الإسلام والمسلمين في أوروبا طوال العصور الوسطى وإلى اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية .. فكم هي الحاجة ماسة في أمريكا وبلاد الغرب إلى جهد المخلصين من أتباع محمد- سيما من كُتب له أن يعيش بينهم- حتى يغير عند أهل هذه البلاد هذه الصورة المشوهة عن الإسلام ونبي الإسلام عليه السلام والتي لا تعبر عن الحقيقة من قريب أو من بعيد؟
د - أما المشروع الكلوني: - فهو الذي أعدَّ كل المواد اللازمة لغرس تلك العقيدة الباطلة في العقل الغربي وأحكم معظم جوانبها لتستمر قائمة إلى العصر الحاضر .. وهذا المشروع الذي يعتبره بعض الباحثين الغربيين بأنه العالمي الأول لدراسة الإسلام، إنما هو في حقيقته المشروع الغربي الأكبر الذي حدث سنة 537هـ / 1143 م لتشويه صورة الإسلام، ويُنسب إلى دير كلوني في جنوب فرنسا الذي تأسس سنة 297هـ/910م والذي منه انبثقت حركة الإصلاح الكلونية التي لم تلبث أن أسهمت في تقوية الجهاز الكنسي في الغرب الأوربي، ونال دير كلوني منزلة الحصانة تحت الحماية المباشرة للبابا في روما، والحق المطلق في أن ينشئ أديرة أخرى تابعة لهُ، وخلال القرنين التاليين من تأسيسه أصبح دير كلوني الذي كان يتبعه حينذاك أكثر من ستمائة دير وعشرات الآلاف من الرهبان في العالم الغربي، عاصمة للإمبراطورية الديرية، وأصبح رهبان ديركلوني بابوات وكرادلة وكثير من رؤسائه كانوا مستشارين للأباطرة والملوك، ومن أشهر رهبان دير كلوني الذين وصلوا إلى منصب البابوية ، البابا جريجوري السابع، وتلميذه البابا (أوربان) الثاني الذي أطلق الحروب الصليبية ضد المسلمين .. فما أشبه الليلة بالبارحة!!.
وفي سنة 516 هـ / 1122هـ تم اختيار رئيس جديد لدير كلوني هو الراهب (بيير موريس دي مونتبوسيير)، الذي أطلق عليه معاصروه لقب بطرس المكّرم، وقد أمضى سنواته الأولى في تدعيم سلطة الدير ومكانته، وفي سنة 536 هـ / 1142 م قام برحلة إلى شمال الأندلس لزيارة الأديرة الكلونية في تلك البلاد، وهناك علم من بعض المترجمين بوجود رسالة لنصراني شرقي تدافع عن النصرانية وتهاجم الإسلام مكتوبة باللغة العربية، وعرف منهم مضمونها، فقرر القيام بمشروع ترجمتها وترجمة القرآن الكريم وبعض المصنفات الأخرى إلى اللاتينية بهدف دحض الإسلام والرد عليه .. وعاد بطرس المكّرم إلى دير كلوني في فرنسا بعد أن اتفق مع خمسة مترجمين للقيام بالعمل لديه وبيّن لهم أهدافه المغرضة من المشروع وأجزل لهم العطاء لتنفيذها .. وكان أخطر ترجمتين في المشروع لما أحدثاه من أثر في صياغة تلك العقيدة الغربية عن الإسلام ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام .
1- ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، وهي إحدى الترجمات الخمس التي أصبحت تُعرف في أوربا باسم المجموعة الطليطلية، وقام بهذه الترجمة مترجم انجليزي يسمى (روبرت أوف كيتون) استقر في برشلونة في الأندلس منذ سنة 530 هـ / 1136 م وأتقن العربية واهتم بالمؤلفات العربية في علم الفلك والهندسة، وقام بترجمة خاطئة لمعاني القرآن الكريم، كان لها تأثير سيء في صياغة تلك العقيدة الغربية الحاقدة تجاه الإسلام ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام .. ففي مقدمته لتلك الترجمة التي جعلها تحت عنوان (تمهيد عن الخرافة الإسلامية المسماة بالقرآن) قال ما نصه: لقد "كشفت عن شريعة محمد بيديّ وجلبتها إلى خزينة اللغة الرومانية، الأمر الذي سوف يساعد رسالة المسيح المخلّص على الانتشار وتخليص الجنس البشري من هذا الإثم- يقصد به الإسلام ... ذلك أن دكاترة الكنيسة أهملوا تلك الهرطقة الكبرى لتصل وتصعد إلى شيء ضخم جداً ومفرط لمدة خمسمائة وسبع وثلاثين سنة، لأنها مهلكة وضارة بسبب أن الزهرة من تلك العقيدة المتعصبة الفاسدة مجرد غطاء فوق عقرب تحول دون أن تلفت الانتباه إليه، وتُحطِّم بالخداع قانون الدين المسيحي .."، إلى أن يقول مخاطباً بطرس المكرَّم : "ولذلك قمت بالعمل معك لما علمت أن نفسك مجتهدة في سبيل كل شيء صالح، وأنك تتوق إلى ردم المستنقع غير الخصب للعقيدة الإسلامية .. لذلك أنا كشفت عن السُّبل والوسائل- بكل جهدي- للوصول إلى ذلك .. وهكذا أنا أحضرت الخشب والحجارة اللازمة لعمارتك الجميلة التي يجب أن تنتصب فوق الجميع خالدة، أنا كشفت الغطاء عن دخّان محمد الذي يجب أن يُخمد بواسطة منفاخك".. (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً)!!.
وقام (روبرت) اللعين في ترجمته لمعاني القرآن الكريم بإعادة ترتيب السور وعمد إلى الاختصار والتشويه المتعمَّد والحذف والإضافة، وإضفاء الطابع اللاتيني على المعاني، مما أعطى صورة بشعة لمعاني القرآن الكريم .. ومن ترهاته أنه أعطى معنىً غامضاً لخطاب (يا أهل الكتاب) وجعله يبدو في معظم الأحيان وكأنه موجه إلى المسلمين .. كما أضفى على كل الآيات المتعلقة بأحكام الزواج والطلاق معاني جنسية داعرة بحيث تبدو للقارئ الغربي لاسيما الرهبان مثيرة للاشمئزاز والنفور، ففي ترجمته مثلاً لقول الله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره .. البقرة/ 230)، يقول: (فلا تحل له حتى يطأها رجل غيره" .. وجعل المعنى في قوله سبحانه: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين .. البقرة/ 220)، (تمارسوا معهم اللواط) .. وفي قوله: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم .. البقرة/ 223) (فأتوهن في أدبارهن).. وفي قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا احللنا لك أزواجك .. الأحزاب/ 50) هكذا: (نحن نجيز لك أزواجك اللائي أتيتهن مهورهن، وجميع إمائك اللائي أعطاكهن الله، وبنات عمك وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك اللائي اتبعنك، وكل امرأة مؤمنة إذا هي ترغب أن تقدّم جسدها أو نفسها للرسول، وإذا الرسول يرغب أن يضطجع معها فليفعل، وهذا خاص لك وليس للمؤمنين الآخرين).. وهكذا.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل قام معلق مجهول بالتعليق والتحشية على تلك الترجمة فزاد في التشويه إلى أقصى حد فمثلاً عندما لا يتفق القصص القرآني مع بعض قصص العهد القديم .. مثل وسوسة الشيطان لآدم وزوجه للأكل من الشجرة، بينا في العهد القديم: أن الحية هي التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة .. يهاجم القرآن ويتهمه بالخرافة ويعلق عليه وعلى القصة الرائعة لحمل مريم بعيسى عليه السلام كما جاءت في سورة مريم بقوله: (كذب وقح) .. كما علق على قوله تعالى من سورة الغاشية: (فذكّر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) قائلاً: (لماذا أنت بعد هذا توجَّه أصحابك إلى أن يُحوِّلوا الناس إلى دينك بالسيف، إذا أنت تقول مثل هذه المبادئ التي لا تُجبر الناس على الطاعة، فلماذا تُجبر الناس على الطاعة ولماذا تُخضعهم بالقوة مثل الحيوانات والبهائم المتوحشة، وليس بواسطة الحجج والبراهين مثل البشر، في الحقيقة أنت نموذج للكذّاب، فأنت في كل مكان تُناقض نفسك) .. فهل يقول عاقل بأن إلهاً يخاطب نبيه بهذه اللهجة وبهذا الخبل؟ وما الذي يجبر هذا الإله لأن يرسل هذا النبي من الأساس إذا كان هذا هو حاله؟ اللهم إن هذا بتهان عظيم.
هذه الترجمة المشوهة لمعاني القرآن الكريم التي قام بها (روبرت أوف كيتون) لحساب بطرس المكرم سنة 537 هـ / 1143 م هي أول ترجمة عرفتها أوربا وأحدثت تأثيراً واسعاً على الفهم الأوربي المشوه للإسلام حتى القرن الثامن عشر، فقد ظلت تنتشر مخطوطاتها حتى قام عالمان سويسريان بطباعتها في بازل سنة 949هـ / 1543م، وعن هذه الترجمة اللاتينية قام (أريفابيني) الإيطالي بترجمتها إلى الإيطالية سنة 953هـ/1547م، وعن هذه الترجمة الإيطالية قام (سالمون اشفجر) بترجمتها إلى الألمانية سنة 1025هـ/1616م وعن هذه الترجمة الألمانية تُرجمت إلى الهولندية سنة 1051هـ / 1641م، ومن هنا يتبين لنا الأثر السيئ الذي تركته هذه الترجمات، على صورة الإسلام في الغرب سيما وقد قامت عليها الكثير من دراسات المستشرقين عن الإسلام .. وهذا يلقي عبأً كبيراً على الجاليات الإسلامية والدعاة في هذه البلاد مهمة تصحيح هذه الأخطاء الشنيعة وإظهار الإسلام علي حقيقته.
2- رسالة النصراني الشرقي: وهي الأخيرة في المجموعة الطليطلية، ويرجح أنها للطبيب والفيلسوف النصراني يحيى بن عدي المتوفي سنة 364هـ / 975م، وتُعرف باسم: الرسالة الإسلامية والجواب المسيحي، وهي عبارة عن رسالة وجواب، الرسالة مرسلة من رجل مسلم يُدعى عبد الله بن إسماعيل الهاشمي إلى صديق له نصراني يدعى عبد المسيح بن إسحاق الكندي، وقد صيغت رسالة الهاشمي المزعومة بحيث يبدو قريباً للخليفة المأمون، بينما صيغ الجواب وكأن الكندي المزعوم يعمل في بلاط الخليفة نفسه .. ويبدي الهاشمي المزعوم تعبيرات مختلفة من الاحترام لصديقه الكندي، والإشادة بتقواه وثقافته ومعرفته، ويدعوه إلى اعتناق الإسلام الذي هو دين الحنيفية، دين أبيهما الأول إبراهيم عليه السلام، وهو التوحيد الخالص لله تعالى، ثم يعرض عليه أركان الإسلام الخمسة والجهاد، ويسهب في ذكر نعيم الجنة لإغراء صديقه النصراني باعتناق الإسلام، وأنه إذا اعتنق الإسلام يمكنه الزواج بأربع زوجات ويطلق متى يشاء ويملك من الجواري ما يشاء، ويحصل على ترقية في بلاط الخليفة .. وفي النهاية يعرض على صديقه أن يجيبه بكل صراحة على عرضه وأن يقول ما يحلو له في الدفاع عن دينه ويحثه على التخلي عن عبادة الثالوث.
ويبدأ يحيى بن عدي جوابه على لسان الكندي بالعرفان بالجميل لصديقه الهاشمي والدعاء للخليفة المأمون، ثم يدافع عن عقيدة الثالوث، ويزعم أن عقيدة الحنيفية التي يدعو إليها الهاشمي التي كان عليها إبراهيم عليه السلام إنما هي عبادة الأصنام، حيث يزعم أن إبراهيم ظل يعبدها لمدة سبعين سنة في حرّان مع آبائه .. ويحاول بأسلوب فلسفي تفنيد عقيدة التوحيد، ثم يوجه هجومه على النبي عليه الصلاة والسلام، ويتهمه بأنه تطلّع إلى المُلك، ولما كان يعرف أن نفوس قريش تأبى أن يصبح ملكاً عليها ادّعى النبوة للوصول إلى هدفه .. كما زعم أن النبي عليه الصلاة والسلام اغتصب مربد غلامين يتيمين وبنى عليه مسجده بالمدينة، وأنه اصطحب قوماً فراغاً لا عمل لهم وبدأ في شن الغارات وممارسة النهب والسلب وقطع الطريق وإخافة السبيل، واتهم النبي بأنه أمر باغتيال بعض الآمنين في بيوتهم، ثم يشير إلى جروح النبي عليه الصلاة والسلام يوم (أحد)، ويرى أنه لو كان رسولاً لمنعه الله من الضرر، وأنه لم يكن له هم إلا امرأة جميلة يتزوجها، كما يتهمه بالاستخفاف بالله في محاباة زوجاته ويكرر حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها.
وبعد ذلك يثير جواب الكندي المزعوم موضوع النبوة وعلاماتها ويزعم أن شروط النبوة لا تتوافر في محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه لم يأت بشيء من المعجزات، وأن الإسلام انتشر بالقهر وبحد السيف، وأن نجاح الفتوح الإسلامية كانت من الله لمعاقبة المذنبين، ويزعم في المقابل بأن النصرانية انتشرت بالتبشير واستشهاد الحواريين .. كما يزعم أن لغة القرآن ليست معجزة، ويعتبر لغة الشاعر امرئ القيس أقوى من لغة القرآن .. وأن الإغراء المادي والوعد بالملذات الحسية في جنة شهوانية هو الذي أغرى العرب المحرومين أن ينضموا إلى الإسلام وجيوشه، وأن جيوش المسلمين كانت مليئة بالمنافقين الذين انضموا إليها طلباً للغنائم.
ثم يهاجم شعائر الإسلام، ويعتبر الحج عملاً من أعمال الوثنية، ويرى أن الجهاد في سبيل الله إنما هو عمل الشيطان، ويزعم أن محمدا ًعليه الصلاة والسلام لم يكن يهدف مثلما هدف المسيح عليه السلام إلى أن يخلّص ويهذب الإنسان، وإنما كان يهدف إلى أن يوسع مملكته، ويزعم- عليه من لله ما يستحق- أن النصرانية هي الصراط المستقيم المذكور في سورة الفاتحة، وأن الشرائع ثلاث: شريعة الكمال الإلهي وهي التي جاء بها المسيح عليه السلام، وشريعة العدل وهي التي جاء بها موسى عليه السلام، وشريعة الشيطان وهي التي جاء بها - بزعمه- الكاذب محمد عليه الصلاة والسلام .. كما ادعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلقى من راهب طُرد من الكنيسة وذهب إلى تهامة واسمه (سرجيوس)، وأنه هو الذي كان يسميه عليه الصلاة والسلام جبريل أو الروح القدس .. وزعم هذا النصراني أن النبي عليه الصلاة والسلام أجبر الناس على الإقرار بنبوته وعلى قبول القرآن: ( وقال من لا يقبل كتابي هذا ويقول إنه مُنزَّل من عند الله وأني نبي مرسل قتلته وسلبته ماله وسبيت ذريته واستبحت حريمه) .. وأن عبد الله بن سلاّم وكعب الأحبار عمدا إلى ما في يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه من القرآن بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وأدخلا فيه أخبار التوراة وأحكامها وزادا عليه وأنقصا منه .. كما سخر من عملية جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وزعم أنه وقع فيه التحريف والتبديل، وأن الحجاج بن يوسف الثقفي جمع المصاحف وأسقط منها أشياء كثيرة عن بني أمية، وذكر كلاماً كثيراً ملفقاً في هذا الموضوع وختم جوابه بدعوة الهاشمي المزعوم لاعتناق النصرانية.
وقد نالت هذه الترجمة للمشروع الكلوني في الغرب شعبية هائلة وأصبحت بمثابة إنجيل المنصرين والمستشرقين منذ ترجمتها وإلى اليوم حيث اعتبروها أفضل دفاع عن النصرانية وأقوى هجوم على الإسلام .. وهناك ثلاث مصنفات أخرى تُرجمت في المشروع الكلوني هي (نشؤ محمد) و (عقيدة محمد) و (الأحاديث الإسلامية) ولكن لم يكن لها تأثير يضاهي تأثير رسالة الكندي المزعوم، والترجمة المخطئة والمغرضة لمعاني القرآن الكريم من جانب (روبرت أوف كيتون) .. وبعد أن انتهى بطرس المكرم من ترجمة مشروعه الآنف الذكر قام بتأليف ردين على الإسلام هما:
1- المجمل الكامل عن الهرطقة الإسلامية وقسمه إلى ستة فصول تكلم فيها عن: الرب والمسيح ويوم الحساب، ثم عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ثم عن القرآن ومصادره، فالجنة والنار والتعاليم الأخلاقية، ثم عن انتشار الإسلام، وأخيراً عن الإسلام بوصفه هرطقة مسيحية.
2- الدحض وقسمه إلى كتابين كل كتاب مكون من فصلين وكلاهما كتبه باللاتينية.
وكان هدف بطرس المكرم من تأليف رديه أن يغرس في قلوب النصارى موقفاً معادياً للإسلام ينبغي على كل نصراني أن يتخذه ويعتقده تجاه العقيدة الإسلامية .. ففي مجمله وبعد أن عرض بتهكم مشاهد يوم القيامة التي انفرد بها القرآن ولا توجد عندهم في كتبهم المقدسة قال: "إلى هذا الحد الفعلي (محمد) القذر الشرير علّم أتباعه إنكار جميع أسرار الدين المسيحي، وحكم تقريباً على ثلث الجنس البشري بعدم معرفة يوم الدينونة للرب، بواسطة حكايات مجنونة يهذي بما لم يُسمع بمثلها استجابة لإبليس والهلاك السرمدي"، ثم يقدِّم مختصراً مشوهاً لسيرته صلوات الله وسلامه عليه إلى أن يقول :"هكذا كان (محمد) ناشطاً جداً في الشؤون العالمية .. هو انبثق من الأصل الوضيع والفقر إلى الغنى والشهرة، ونهض بنفسه إلى أعلى شيئاً فشيئاً، وهاجم كل الذين كانوا بجواره، وكان يضم إليه الأقرباء بالخداع والسلب والغزوات، قاتلاً أي شخص غيلة إن استطاع، ثم بدأ يطمح إلى منصب الملك على شعبه، ولما كان يدرك أنه لا يستطيع أن يحقق هذه الرغبة بسبب أصله الوضيع، قرَّر أن يصبح ملكاً عن طريق السيف، وتحت قناع الدين وادعاء الرسالة".. أي رب ما أحلمك!!
ثم يتناول هذا البطرس المهان في (مجمله)، القرآن مدعياً أن مصادره إبليس، وسرجيوس (نسطوريوس )، وبحيرا، ويرفض بشدة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ويتناول بعد ذلك التعاليم الأخلاقية والجنة والنار ويهاجم التصوير القرآني لهما فيقول فيما يقول:"محمد يصف عذاب جهنم كأنها تسرهُ.. وهو يصور جنة .. ويعد أتباعه هناك بالأكل من اللحم، وكل أنواع الثمرات، هناك أنهار من اللبن والعسل والمياه المتدفقة، هناك العناق والإشباع الشهواني من النساء العذارى الأجمل، فيها أشياء كثيرة، جنته كلها حسية"، ثم يتناول هذا البطرس اللعين، تعدد الزوجات في الإسلام باعتباره عملاً من أعمال الزنا وفق المنظور الرهباني، دون أن يعلم أن المجتمع الغربي سيصل إلى ما هو عليه الآن من ممارسة الزنا علناً في الشوارع وعلى الأرصفة بسبب تلك الرهبانية المصادمة للفطرة البشرية التي فرضها رجال الدين على المجتمع الغربي طوال العصور الوسطى.
وبالمقارنة يتضح لنا أن (مجمل) بطرس المكرم و(دحضه) قد اعتمد فيهما على رسالة الكندي المزعوم حيث نسج على منوالها، وأصبح هذان الردان ضمن المشروع الكلوني الذي غدا مع ما كتبه نصارى الشرق وبيزنطة وأسبانيا في متناول الرهبان المتعصبين في عصرنا الحاضر للاعتماد عليه في كتاباتهم العدائية ضد الإسلام ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام، ومن ثم في الهجمة الصليبية التي تتزعمها أمريكا الآن على مسلمي العراق وأفغانستان .. وغيرهما، تماماً كما مثلت هذه الدراسات المغلوطة عن الإسلام والمليئة بالحقد الدفين، الوقود الذي أشعل نار الحرب أيام صلاح الدين.
وصفوة القول: إن هذا العدوان الفكري الإعلامي على الإسلام ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام من جانب رجال الدين الإنجيليين ووسائل الإعلام الغربية- الذي يُعبِّر عن عقيدة موروثة ويمثل الدوافع الحقيقية لحرب دينية مصطنعة- ليس إلا وسيلة تمهيدية ضمن وسائل كثيرة يشملها هذا العدوان السافر على الإسلام والمسلمين والذي يهدف ضمن ما يهدف- رغم كل الأقنعة الزائفة التي يستتر بها- إلى مسخ هوية الأمة الإسلامية وتحويلها عن دينها وتدمير عقيدتها، وتمزيقها إلى دويلات وطوائف متناحرة لا تدين بالولاء إلا لأمريكا وإسرائيل، ونهب ثرواتها ومقدراتها، وتحويلها إلى مجرد مجتمعات استهلاكية لمنتجاتهما وتحويل كل فرد مسلم إلى مجرد كائن بهيمي لا حافز له ولا هم إلا السعي اللاهث وراء لقمة العيش وإشباع غرائزه الفطرية.
ولعله قد وضح لنا الآن بالحقائق كيف نمت حضارة الغرب وترعرعت في منبت السوء بعيداً عن القيم والأخلاق والمبادئ وها هي الآن تؤتي ثمارها مراً وحنظلاً وتفرغ جام حقدها على الإسلام وتعض اليد الكريمة التي أسهمت في نموها وامتدت لإنقاذها من وهدتها .. ولعله كذلك قد وضح كيف تداعت- بدافع الحقد وبمجموعة من الأغاليط- علينا الأمم وتحققت فينا بسبب غفلتنا وانغماسنا في شهوات الدنيا نبوءة نبينا صلى الله عليه وسلم .. وكيف مهدت هذه الأمم المنساقة في عصرنا الحاضر وراء شهواتها وشبهاتها لحروبها الصليبية بالغزو الفكري والثقافي تماماً على غرار ما فعلت أيام الناصر صلاح الدين .. وكم هي الفخاخ التي نصبت لأمة الإسلام وهي تغط في ثبات طويل ونوم عميق .. وكم هي الفتن التي يتعرض لها إخوة الدين هنا وهناك وهي في غفلة من الزمن .. وكم هي المحنة التي يعاني منها مسلمو العراق وأفغانستان وغيرهما من بلاد المسلمين ولا تحرك رغم كل ما يجري لهم ورغم الأحداث المتلاحقة ساكناً، بل ولا تذكرهم حتى بالدعاء ورفع أكف الضراعة إلى الله حتى يزيل الغمة عن هذه الأمة؟ (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، صدق الله مولانا العظيم.
فصل ثاني في: (الإسلام في مواجهة الغزو الصهيوصليي)
المقال الأول: (من افتراءات اليهود في حق الله وملائكته وكتبه ورسله)
وإذا كان ما ذكرنا يمثل بعض جرائم الصليبية الحاقدة في حق الله وفي حق خاتم أنبيائه ورسله وفي حق كتابه المهيمن على جميع الكتب، ويشكل لب الصراع الديني والحضاري بين الإسلام والمسيحية على مدار القرون الماضية .. فقد استعلن صراع اليهود الضارب بجذوره في القدم ضد كل ما هو حق، استعلن في هذه الآونة حتى تجاوز حرب العرب والمسلمين إلى حرب الإسلام ذاته في ثوابته ومبادئه وقيمه، كما لوحظ أن هذا الصراع أخذ أبعاداً جديدة بإقحام أمريكا والغرب اللتين ضربتا له المثل الأعلى في انتهاك حقوق الإنسان المسلم، وعصفتا بكل المثل والقيم النبيلة وخرقتا بدافع الحقد الدفين جميع القوانين والأعراف الدولية، ولسنا هنا بصدد الحديث عن تيكم الجرائم التي يرتكبها الصهاينة ومن وراءهم في حق الإنسانية والتي لم تعد خافية على أحد، بل سينصب كلامنا على جرائم تلك الأمة الغضبية المحرضة والتي هي وراء كل كارثة تحل بالمسلمين وخلف كل محاولة للتشكيك في معتقداتهم، جرائمها في حق ربها الذي فضلها في يوم من الأيام على العالمين، وفي حق أنبيائها الذين بعثوا لهدايتها .. والغرض من ذلك هو الحد من غلواء التعصب اليهودي لليهودية الذي علا صوته في هذا الصراع لبيان أنه ما هو إلا نوع من التعصب للباطل .. وأيضاُ كرد فعل لما يثيره بنوا صهيون- في إطار هذه الحرب القذرة ضد الدين الخاتم الذي تكفل رب العالمين بحفظه وجعل من ابتغى غيره من الخاسرين- من لغط وصخب ظهرا بوضوح هذه الأيام على شبكات الإنترنيت وغيرها من جميع وسائل الإعلام المنظورة والمقروءة والمسموعة ضد الإسلام ونبي الإسلام وقرآن المسلمين.
ونبدأ الحوار بطلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام لإله يعبدونه من دون الله على ما ورد في قوله سبحانه: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة .. الأعراف/ 138) .. كذا بما يشير إلى ما جبل عليه القوم حيثما حلوا وأينما وجدوا، فقد طبعوا واعتادوا على عبادة آلهة القوم الذين يحلون لديهم حتى أيام الكليم موسى عليه السلام، ومعلوم أن ما طلبه بنوا إسرائيل من موسى عليه السلام جرى بعد ما أحدثه الله لهم من نعم وتمكين ومن إنجاء وتفضيل على العالمين، وكان من المفترض أن يقابل ذلك بالشكر والاعتراف بالجميل والانكباب على عبادة الله وحده، لكن ما حدث منهم كان على العكس من ذلك تماماً فقد وقع منهم ما أحس به موسى عليه السلام وما تخوف منه، فما أن تجاوزوا معه البحر قاصدين ما اشرأبت إليه نفوسهم وتطلعت إليه أفئدتهم من دخول الأرض المقدسة، حتى تناسوا كل ما أوصاهم به ربهم على لسانه، وراحوا وهم في صحبته يؤملون أنفسهم بعبادة الأصنام بل وشرعوا- دون ما حياء ولا استحياء- يرجون ذلك منه، وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلهاً، فيعبد إلهاً مخلوقاً مجعولاً بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات، ألا يعرف حقيقة الإله ولا أسماءه وصفاته ونعوته ودينه، ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره، فأي جهل فوق هذا؟ وكيف يكون الإله مجعولاً بينا هو الجاعل لكل ما سواه، والمجعول يستحيل- لكونه مربوباً مصنوعاً- أن يكون إلهاً؟ بل كيف يطلبون ذلك من موسى في حياته فينسبونه إلى الشرك وعبادة غير الله بل عبادة أبلد الحيوانات، والعهد بإنجائه عليه السلام وإنجائهم- من قِبل الإله القادر على كل شيء- من فرعون وإغراقه وإغراق قومه، قريب؟ ، لهذا ولغيره كان أبلغ رد على هذه التساؤلات قول موسى عليه السلام: (إنكم قوم تجهلون* إن هؤلاء متبّرٌ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون* قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين .. الأعراف/138-140).
ولكن هيهات لموسى ولا لعشرات أو مئات أو آلاف من أمثاله أن تجدي دعوتهم مع أولئك الذين جرى الكفر وإغاظة الرب به- ولا يزال- في أوصالهم مجرى الدم في العروق، فقد كان من أشهر آلهة تلك الأمم التي عبدتها اليهود والتي ذكرتها التوراة التي لا يزالون يتعبدون بها: (آشور) و(نسروخ) و(مولوك) إله الأرض، و(عشتورت) ملكة السماوات وزوجة الإله (تموز)، و(بعل) إله الشمس، و(داجون) و(ملكوم) و (كموش) و (نرجل) و(أشيما) و(نيحز) و(ترياق) و(آدرملك) و(عنملك)، وفي سفر القضاة 3: 5- 8 عن ترك ما وصى به موسى آباءهم من عبادة الله وحده، ما نصه: "فسكن بنوا إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفِرزّيين والحوييّن واليبوسيين. واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم. فعمل بنوا إسرائيل الشر في عيني الرب ونسوا الرب إلههم وعبدوا البلعيم والسواري. فحميَ غضب الرب على إسرائيل".
لقد تحدثت جميع الكتب السماوية عما جرى من بنى إسرائيل عقب ذلك وذكرت أنه ما أن ذهب موسى لميقات ربه حتى أعلمه سبحانه من هناك بأن قومه اتبعوا السامري واتخذوا العجل معبوداً لهم من دون الله، وذلك بعد أن فشلت معهم دعوة هارون وبعد قوله لهم: (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري .. طه/90)، وبعد أن كان جوابهم له (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى .. طه/91)، الأمر الذي أوقع هارون في حرج مع أخيه موسى ظناً من الأخير أن هارون قصر في نهيهم عن عبادة العجل أو لم يحسن تنفيذ ما كلفه به في قوله: (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين .. الأعراف/142)، أو أنه على ما أفاد ابن القيم في إغاثة اللهفان تخوف إن هو سار بمن معه من المسلمين وترك عبدة العجل على عبادة العجل أن يقول له موسى (فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .. طه/ 94).
وكان حاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم تأثماً وعبدوا العجل! وذلك بعد أن صاغوه من الذهب والحلي الذي استلبوه من مصر واصطحبوه معهم، وكان هارون قد أوضح لهم أن حلي القبط غنيمة ولا يحل لهم التصرف فيه، وأشار عليهم أن يلقوا به في حفرة فيها نار فيجعلونه سبيكة واحدة حتى إذا رجع موسى عليه السلام رأى فيه ما يشاء، لكن كان ما حكاه القرآن في قوله سبحانه: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً)، من خيري الدنيا والآخرة ومن حسن العاقبة ومن نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه ومن الوصول إلى جانب الطور الأيمن، وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن، وغير ذلك مما وعد الله تعالى أهل طاعته، (أفطال عليكم العهد)، بنسيان ما سلف من نعمه وما بالعهد من قدم (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي .. طه/86)، وكان الغضب الذي أصابهم بإرادتهم وافترائهم، أن أذلهم الله ولم يقبل منهم توبة حتى يقتل بعضهم بعضاً كما قال تعالى على لسان نبيهم موسى: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم .. البقرة/54).
وعلى الرغم من استنكار موسى عليه السلام الشديد لعبادتهم للعجل- على نحو ما رأينا وعلى نحو ما حكى القرآن- إلا أنهم- وذلك من عجائب أمرهم- جعلوه إلهاً له فنسبوا موسى عليه السلام إلى الشرك، ثم لم يكتفوا بذلك حتى نسبوا إليه الخطأ والضلال وذلك قوله سبحانه حكاية عنهم وعن السامري: (فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي .. طه/ 88)، قال ابن عباس: أي ضل وأخطأ الطريق، وفي رواية عنه: نسي أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم، وعنه أيضاً: أن موسى ذهب يطلب ربه فضل ولم يعلم مكانه، وقال السدي: أي ترك موسى إلهه وذهب يطلبه.
وجاءت تصريحات التوراة والإنجيل والقرآن بعبادة القوم ومن تلاهم من الأبناء والأحفاد لغير الله، وبقتلهم الأنبياء بغير حق وبنقضهم المواثيق التي أخذها الله عليهم في معظم فترات حياتهم، مما يعنى أن ما حُكى عنهم في هذا الصدد- مما لا يستطيعون إنكاره أو تكذيبه- هو الذي أدي بهم إلى إيقاع وعيد الله بهم من تشتيت ومحق كانوا هم السبب فيه.
ومن المواطن التي أشارت إلى هذا النمط في حياتهم ونصت على إصرارهم وصلابة رقابهم وعلى عنادهم وجحودهم كلما حلت بهم نعم الله، وعلى سعة رحمته بهم أملا في إصلاح أمرهم لكن دون جدوى.. ما جاء في مناجاة نبيهم نحميا عليه السلام في الإصحاح التاسع العدد11 وما بعده وفيه: "وفلقت اليم أمامهم وعبروا في وسط البحر علي اليابسة وطرحت مطارديهم في الأعماق.. ونزلت على جبل سيناء وكلمتهم من السماء وأعطيتهم أحكاما مستقيمة وشرائع صادقة..عن يد موسى عبدك. وأعطيتهم خبزاً من السماء لجوعهم، وأخرجت لهم ماء من الصخرة لعطشهم، وقلت لهم أن يدخلوا الأرض التي رفعت يدك أن تعطيهم إياها. ولكنهم بغوا هم وآباؤهم وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا لوصاياك. وأبوا الاستماع ولم يذكروا عجائبك التي صنعت معهم وصلبوا رقابهم .. فلم تتركهم. مع أنهم عملوا لأنفسهم عجلاً مسبوكاً وقالوا هذا إلهك الذي أخرجك من مصر وعملوا إهانة عظيمة. أنت برحمتك الكثيرة لم تتركهم في البرية.. ولم تمنع منّك عن أفواههم وأعطيتهم ماء لعطشهم. وعُلتهم أربعين سنة في البرية.. وأعطيتهم ممالك وشعوباً.. وأكثرت بينهم كنجوم السماء وأتيت بهم إلى الأرض التي قلت لآبائهم أن يدخلوا ويرثوها. فدخل البنون وورثوا الأرض.. فأكلوا وشبعوا وسمنوا وتلذذوا بخيرك العظيم. وعصوا وتمردوا عليك وطرحوا شريعتك وراء ظهورهم.. فدفعتهم ليد مضايقيهم فضايقوهم، وفي وقت ضيقهم صرخوا إليك وأنت من السماء سمعت، وحسب مراحمك الكثيرة أعطيتهم مخلّصين خلّصوهم من يد مضايقيهم. ولكن لما استراحوا رجعوا إلى عمل الشر قدامك فتركتهم بيد أعدائهم فتسلطوا عليهم ثم رجعوا وصرخوا إليك وأنت من السماء سمعت وأنقذتهم حسب مراحمك الكثيرة أحيانا كثيرة. وأشهدت عليهم لتردهم إلى شريعتك، وأما هم فبغوا ولم يسمعوا لوصاياك وأخطأوا ضد أحكامك التي إذا عملها الإنسان يحيا بها، وأعطوا كتفاً معانِدة وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا".
ونقرأ في المزمور78: 40 وما بعده عن تماديهم في غيهم: "كم عصوه في البرية وأحزنوه في القفر.. لم يذكروا يده يوم فداهم من العدو. حيث جعل في مصر آياته وعجائبه في بلاد صُوعن. إذ حوّل خلجانهم إلى دم.. أرسل عليهم بعوضاً فأكلهم وضفادع فأفسدتهم.. وهداهم- يعني بني إسرائيل- آمنين فلم يجزعوا.. وطرد الأمم من قدامهم.. فجربوا وعصوا الله العليّ، وشهادته لم يحفظوا. بل ارتدوا وغدروا مثل آبائهم، انحرفوا كقوس مخطئة. أغاظوه بمرتفعاتهم وأغاروه بتماثيلهم. سمع الله فغضب ورذل إسرائيل جداً..".
وفي سفر حزقيال20: 5 وما بعده يقول الرب ممتناً على بني إسرائيل: "رفعتُ يدي لنسل بيت يعقوب وعرفتُهم نفسي أرض مصر ورفعت لهم يدي ..لأخرجهم من أرض مصر إلى الأرض التي تجسْستُها لهم تفيض لبناً وعسلاً هي فخر كل الأراضي. وقلت لهم اطرحوا كل إنسان منكم أرجاس عينيه ولا تتنجسوا بأصنام مصر .. فتمردوا عليّ ولم يريدوا أن يسمعوا لي .. فقلت إني أسكب رجزي عليهم لأتم عليهم سخطي في وسط أرض مصر. لكن صنعت لأجل اسمي لكيلا يتنجس أمام عيون الأمم الذين هم في وسطهم.. فأخرجتهم من أرض مصر وأتيت بهم إلى البرية. وأعطيتهم فرائضي وعرفتهم أحكامي التي إن عملها إنسان يحيا بها.. فتمرد علىّ بيت إسرائيل في البرية، لم يسلكوا في فرائضي ورفضوا أحكامي .. فقلت إني أسكب رجزي عليهم في البرية لإفنائهم. لكن صنعت لأجل اسمي لكيلا يتنجس أمام عيون الأمم.. ورفعت أيضا يدي لهم في البرية بأني لا آتي بهم إلى الأرض التي أعطيتهم إياها تفيض لبنا وعسلاً.. لأنهم رفضوا أحكامي ولم يسلكوا في فرائضي بل نجسوا سبوتي لأن قلبهم ذهب وراء أصنامهم. لكن عيني أشفقت عليهم عن إهلاكهم فلم أفنهم في البرية. وقلت لأبنائهم في البرية لا تسلكوا في فرائض آبائكم ولا تحفظوا أحكامهم ولا تتنجسوا بأصنامهم .. فتمرد الأبناء عليّ.. فقلت إني أسكب رجزي عليهم لأتم سخطي عليهم في البرية. ثم كففت يدي وصنعت لأجل اسمي لكيلا يتنجس أمام عيون الأمم الذين أخرجتهم أمام عيونهم. ورفعت أيضاً يدي لهم في البرية لأفرقهم في الأمم وأذريهم في الأراضي. لأنهم لم يصنعوا أحكامي بل رفضوا فرائضي ونجسوا سبوتي وكانت عيونهم وراء أصنام آبائهم"، وهكذا كان حالهم طوال تاريخهم ومع كافة أنبيائهم وبشهادة جميع كتبهم.
فهل ينكر عاقل أن هذه الفعال التي نص عليها العهد القديم تختلف كثيراً عما نراه ونشاهده ونسمعه عن يهود زماننا المعاصرين؟ وهل يشك من في قلبه حبة خردل من إيمان في أن ما يتأتى منهم ويقع لهم ما هو إلا صورة طبق الأصل لما وقع فيه الأسلاف من ترك أحكام الخالق جل وعلا ونقض تعاليمه ومواثيقه؟
لقد حكت التوراة عنهم من غير ما ذكرنا بعضاً من مزاعمهم في حق الله تبارك اسمه، من ذلك ما ادعوه من أن للقمر- وكذا للشمس والمنازل- ضرراً يحدثه بالناس ومن ثم ساروا وراءها من دون الله واستشاروها وسجدوا لها (سفر الملوك الثاني 23: 5 والمزامير 121: 5-7 وإرميا 8: 2 وحزقيال 8: 16)، وما ادعوه من أنه تعالى عما يقولون علواً كبيراً "استراح في اليوم السابع- واستوى على عرشه مستلقياً على قفاه وواضعاً إحدى رجليه على الأخرى- بعد أن فرغ من جميع عمله الذي عمل"، يعني من خلق السماوات والأرض وكل جندها على حد ما جاء في سفر التكوين 2: 1، 2 والموسوعة الميسرة في الأديان، وأنه سبحانه أمر بني إسرائيل عند خروجهم من مصر بسلب المصريين وسرقة أمتعتهم وحليهم وثيابهم وقال لهم على حد ما جاء في سفر الخروج3: 21، 22 "لا تمضون فارغين. بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين"، ونعتوه تعالى بالجهل وأنه لم يكن يعلم ما وقع في الجنة من معصية آدم وذلك حين "نادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟!. فقال: سمعت صوتك فخشيت لأني عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟!"، تكوين3: 9: 11.
كما نعتوا ذاته بما يحمل معنى التجسيم فشبهوه تارة برجل حروب (إشعياء 42: 13)، وبالأسد أخرى (هوشع13: 7، 8)، وبالإنسان تارة ثالثة مدعين عليه قوله: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا .. فخلق الله الإنسان على صورة الله خلقه"، تكوين 1: 26 -27، 9: 7 ، بل ونسبوا له ما لا يليق به من الحواس والأعضاء من نحو الفم (إرميا 9: 12 وأخبار الأيام الثاني 6: 15)، والشفتين واللسان (إشعياء 30: 27 وأيوب 11: 5)، والأنف (حزقيال 38: 18 وصموئيل الثاني22: 16 ومزامير 18: 15)، والأذن (عدد 11: 1وصموئيل الثاني 22: 7 ومزامير 34: 15، 86: 1ومراثي إرميا 3: 56 وحزقيال 8: 18، 9: 1)، والذراع والصوت (أيوب 40: 9 وإشعياء 52: 10)، والرأس (إشعياء 59: 17 وإرميا9: 1)، والقدمان والرجلان (إشعياء 66: 1 وزكريا 14: 4 وخروج 24: 10)، والقلب والأحشاء (إرميا19: 5 ،4: 19، 20)، والإصبع والوجه والقفا (خروج8: 9 وإرميا 18: 17).
كما خلعوا عليه جل جلاله من صفات الأفعال ما لا يليق بذاته وبما ينم ويحمل معاني الغفلة وضآلة التفكير وسذاجة اللفظ وطفولة السلوك من نحو النوم والاستيقاظ (مزامير 44: 23)، والحزن والسقم (تكوين6: 6، 7 وإرميا 8: 18)، واللهو واللعب على ما أفاده التلمود الذي نص على "أن النهار اثنتا عشرة ساعة، في الثلاث الأولى منها يجلس الله ويطالع الشريعة، وفي الثلاثة الثانية يحكم، وفي الثلاثة الثالثة يطعم العالم، وفي الثلاثة الأخيرة يجلس ويلعب مع الحوت ملك الأسماك"، والاستمتاع والسرور برائحة شواء الطعام ونص ذلك في سفر العدد 28: 1 - 8 وبنحوه في لاويين 21: 1 -7 "وكلّم الرب موسى قائلاً. أوصِ بني إسرائيل وقل لهم قرباني طعامي مع وقائدي رائحة سروري تحرصون أن تقربوه لي في وقته. وقل لهم هذا هو الوقود الذي تقربون للرب، خروفان حوليان صحيحان لكل يوم، محرقة دائمة. الخروف الواحد تعمله صباحاً والخروف الثاني تعمله بين العشاءين. وعُشْرَ الإيفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرّضِّ تقدمه. محرقة دائمة هي المعمول في جبل سيناء لرائحةِ سرورِ وقوداً للرب"، ناهيك عما يقدم له في المناسبات وكل سبت من خروفين صحيحين وعشرين من دقيق ملتوت بزيت فضلاً عن المحرقة الدائمة وسكيبها، وفي رؤوس الشهور من المزيد، لكل مُحرقة سرورٍ وقوداً للرب وسكائبهن.
بل شرعوا- غير مكتفين بذلك يصفونه- تعالى عن يقولونه في حقه علوا كبيراً- بالمشي والسير (تكوين 3: 8)، وأنه يقطن ويسكن (مزامير 68: 15، 16)، وأنه جل جلاله حين تضرع له موسى وذكر عليه السلام ما فعله الرب ببني إسرائيل بُعيد ذهابه عليه السلام للميقات واتخاذهم العجل "ندم على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه" خروج 32: 14، كما أنه- على حد ما جاء في التلمود- "يتندم على تركه اليهود في حالة التعاسة حتى أنه يلطم ويبكي كل يوم فتسقط من عينيه دمعتان في البحر فيسمع دويها من بدء العالم إلى أقصاه، وتضطرب المياه وترتجف الأرض في أغلب الأحيان فتحصل الزلازل"، وما أكثر ما يتندم الرب في اعتقاد اليهود ولأجلهم على نحو ما جاء في صموئيل الأول 15: 35، والثاني 24: 16، وأخبار الأيام الأولى 21: 15، والمزامير 106: 45وإرميا 18: 8، 10، 26: 13، 19، ويونان 3: 10 .. بل نسبوا له الزوجة والطرب والاستمتاع بالحظيات ونص ذلك في المزامير 45: 8 - 11 "من قصور العاج سرتك الأوتار. بنات ملوك بين حظياتك جُعلت الملكة عن يمينك بذهب أُوفير. اسمعي يا بنتُ وانظري وأميلي أذنك وانْسي شعبك وبيت أبيك. فيشتهي الملك حسنك لأنه هو سيدك فاسجدي له"، كما نسبوا له تعالى عما يقولون أولاداً من الذكور وقد فتنهم جمال بنات الآدميين فاتخذوهن خليلات وولدن منهم نسلاً امتاز ببساطة الجسم وهم الجبابرة الذين سكنوا الأرض قبل الطوفان (تكوين 6: 1 -4).
ولم يكتفوا بتشبيههم الخالق- جلت قدرته وتعالت حكمته- بالإنسان حتى جسدوه وجعلوه إلهاً ملموساً فأظهروه عياناً في صورة رجل يراه سيدنا موسى عليه السلام ويتكلم ويراه معه سبعون رجلاً ويستمع شعب بني إسرائيل لكلامه، ففي أسفارهم "أما عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي. فماً إلى فم وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز وشبه الرب يعاين" (عدد 12: 7، 8)، وفي (الخروج 23: 11) "ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه" .. ولم يسعهم أن نسبوا له الأعضاء والحواس والزوجة والأولاد حتى ادعوا أنه- تعالى عما يقولون- دخل في مصارعة مع يعقوب ظلت طوال الليل فقال يعقوب بعد أن انخلع حُق فخذه وجعله الرب كما يقولون (في خانة اليك): "أطلقني لأنه قد طلع الفجر فقال: لا أطلقك إن لم تباركني. فقال- أي الرب- له ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال لا يدعى أسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال أخبرني باسمك، قال- أي الرب-: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك" (تكوين32: 26 - 31).
هكذا هو رب العالمين وخالق القوى والقٌدر وفاطر السماوات والأراضين في معتقدهم وكما ورد في أسفارهم، ولا معنى لهذا مما لا يزالون يدينون به سوى انحرافهم في توحيد الله والقدح في خصائص ربوبيته، إذ فيما ذكروه من نسبة الجهل والضعف والغفلة والتنقيص في مقام الألوهية والربوبية ما فيه، فحتى يثبت توحيد الله المحض على الوجه الذي يليق بجلاله لا بد من إثبات مباينة الرب لخلقه وامتيازه عنهم بصفات الجمال والجلال والإقرار بكمال علمه وقدرته وحكمته تعالى في خلقه.
ولا عجب بعد أن ساغ لدى معشر يهود أن يدعوا على الله وينسبوا إلى خالقهم ما ذكرنا مما لا يليق به، أن يدّعوا على الملائكة كذلك ما لا يليق بهم، فقد رموهم بصفات البشر واعتقدوا بأنهم يأكلون ويشربون ويرتاحون (مزامير78: 24 ، 25وتكوين 18: 1- 22 ، 19: 1- 4)، بل زعموا أنهم ثمرة زواجه سبحانه من الجن فـ (جعلوا بينه وبين الجنة نسباً .. الصافات/ 159).. كما سول لهم خيالهم المريض ونفوسهم الأمارة بالسوء أن ينسبونهم إلى الله وأن يصورونهم على أنهم أبناء له، وينظر مما جاء في نسبتهم إلى الله على أنهم أبناؤه أسفار (أيوب 1: 6، 2: 1، 38: 7 ومزامير 29: 1، 89: 6 ودانيال 3: 25)، والغريب أنه على الرغم من جعلهم إياهم أبناء لله، يصفونهم أو بعضاً منهم على أنهم أشرار (مزامير78: 49)، وأن فريقاً منهم نزل إلى الأرض وقد فتنهم جمال بنات الآدميين، فاتخذوهن خليلات وولدن منهم نسلاً امتاز ببساطة الجسم وهم الجبابرة الذين سكنوا الأرض قبل الطوفان (تكوين 6: 1 -4)، وبذا يتبدى انحراف عقيدة اليهود في الملائكة فيما ينسبونه إليهم من البنوة والذكورية والزواج والتناسل والانحراف، إذ وصفهم كذلك يتعارض مع الهدف الذي خلقهم سبحانه لأجله عبادة ورسلاً وجنوداً وسفرة له إلى الإنس والجن، ولقد سجل الله تعالى عداوتهم لجبريل عليه السلام واتهامهم إياه بأنه ملك الفظاظة والغلظة والإعسار وبأنه على حد زعمهم أمير النار، وبيّن القرآن تبعاً لذلك عداوتهم لجميع ملائكته ورسله وعداوتهم لله تعالى القائل مفنداً دعواهم تلك الظالمة: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين. من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين .. البقرة/ 97، 98)، وسبحان من وسع معتنقي كل ذلك في ملكه.
وعلى نحو ما حكى العهد القديم عن مخالفات معشر يهود ما حكاه .. فقد كشف القرآن هو الآخر وأماط اللثام عن طرف من ذلك وأوقفنا على الكثير من طباعهم التي جبلوا عليها وورثوها عن أجدادهم كابراً عن كابر، فأوضح أنهم أحرص الناس على حياة وأحرصهم على إثارة الأحقاد وإيقاد نار الحروب بين الأمم والشعوب وأنهم (كلما أوقدا ناراً للحرب أطفأها الله .. المائدة/64)، كما وصفهم بأقبح الصفات حتى إنه ليجعلهم أشر وأحط من القردة والخنازير التي هي أنجس المخلوقات (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل .. المائدة/ 60)، وما ذلك إلا بسبب عصيانهم لله وتعديهم لحدوده (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين .. البقرة/ 65)، وكذا بتطاولهم على الله ووصفهم إياه بالفقر والبخل وبأن يده مغلولة، وبسبب غرورهم وتعاليهم على غيرهم على ما جاء في قوله تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه)، وقد كذب سبحانه بالدليل ادعاءهم بقوله: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق .. المائدة/18)، كما كذّب بالدليل ادعاءهم بأنهم أهل للدخول في رحمة الله وجنته فقال: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .. البقرة/ 80، 81)، وكذا ادعاءهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم فقال: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديه والله عليم بالظالمين ..البقرة/94، 95) .. وذكر القرآن عنهم فيما ذكر نقضهم للعهود والمواثيق وخيانتهم وغدرهم .. وأظهر حقدهم على أهل الإيمان من أمة محمد عليه السلام وحسدهم على انتقال موعود الله إليهم: (ود كثير من أهل الكتاب لو يرونكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق .. البقرة/109)، (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً .. النساء/55).
كما ذكر تحريفهم الكلم عن مواضعه (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه)، ونسيانهم بعضه (ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم .. المائدة/13)، وليهم اللسان به (وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .. آل عمران/ 78)، وإخفاءهم أكثره (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً .. الأنعام/91)، (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير.. المائدة/ 15)، وكتمانه (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون .. آل عمران/ 187)، وتعطيله (ولو أنهم أقاموا التوراة الإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم .. المائدة/ 66)، (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم .. المائدة/ 68)، (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين .. الجمعة/ 5)، ونبذه وإهماله (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون .. البقرة / 101)، والأخذ فيه بالظن (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون .. البقرة/ 78)، والتزوير فيه (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله .. البقرة/ 79)، وبيعه بالقليل (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون .. آل عمران/ 187)، والإيمان ببعضه والكفر بالبعض (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض .. البقرة/ 85)، والقول فيه بالكذب (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون .. آل عمران/ 93، 94)، ولبس الحق فيه بالباطل (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وانتم تعلمون .. البقرة/ 42)، (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون .. آل عمران/ 71).
وإذا كان الجانب الآخر من الكبر يتمثل- بعد الكفر بالله وبطر الحق- في غمط الناس وظلمهم، فان الناس الذين غمطهم بنوا إسرائيل ليسوا كأي أناس، لكنهم أنبياء معصومون ومبلغون عن الله رسالاته، أي أنهم- مع شديد معرفتهم بهم لكونهم منهم- مصدر هداية لمن أرسلوا إليهم .. ومع كونهم كذلك كفروا بهم ورفضوا الإذعان لهم وأعلنوا تمردهم وعصيانهم ولم يستجيبوا لدعواتهم و"لم يسمعوا ولم يميلوا آذانهم بل صاروا في مشورات وعناد قلبهم الشرير وأعطوا القفا لا الوجه"، على حد ما جاء في سفر إرميا 7: 24 .
ويبدو أن هذا لم يرق لمعشر يهود ولم يكفهم فراحوا ينفون عن أولئك الأنبياء العصمة، وطفقوا يشتمونهم بأقذع الشتائم ويلصقون بهم أشنع التهم، ويطاردونهم ويجيزون عليهم ارتكاب المنكرات كالخداع وقتل الأطفال والنساء وعبادة آلهة من دون الله والزنا والكذب وشرب الخمر وسلب النساء من أزواجهن وأنهم كانوا يقبحون في عين الرب، ويدّعون مع كل ذلك وفوقه أن هذا ما نطقت به كتب السماء التي أنزلها الله إليهم.
ففي سفر التكوين 9: 20- 25جاء ما نصه: "وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً. وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجاً. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته"، هكذا يلعن نبي الله نوح عليه السلام كنعان ويجور عليه ويعاقبه على ذنب اقترفه أبوه حام، وهكذا تعمل الخمر عملها في رأسه وتظل به حتى تتبدى عورته، يا لله !!.. وفي نفس السفر19: 30- 36ورد ما نصه: "وصعد لوط من صُوغَرَ وسكن في الجبل وابنتاه معه لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمراً ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلاً. فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمراً الليلة أيضاً فادخلي اضطجعي معه. فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً وقامت الصغيرة واضطجعت ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما".. فهل يصدق إنسان فيه ذرة من عقل أن يصدر مثل ذلك عن نبي كريم بابنتيه؟ وهل يحسن من الله عز وجل أن يدفعهما إلى ذلك في آخر عمره ويحكيها للأمم ويذيعها عنه بتوراته المنزلة كما زعموا؟.
كما جاء في سفر الخروج 32: 2- 5 أن هارون هو الذي أشار على بني إسرائيل بعباده العجل بعد أن قال لهم: "انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها. فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون. فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالأزميل وصنعه عجلاً مسبوكاً فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر. فلما نظر هارون بنى مذبحاً أمامه.. وقال غداً عيد للرب"، بل أجازوا على سليمان بن داود عليهما السلام عبادة الأصنام، ونص ذلك كما في سفر الملوك الأول 11: 4- 7، 9، 10 "وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه. فذهب سليمان وراء (عشتروت) آلهة الصدونيين و(ملكوم) رجس العمونيين. وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه... فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين. وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى فلم يحفظ ما أوصى به الرب".
كما اتهموا موسى ويشوع بالقتل والتمثيل وبارتكاب المجازر الوحشية بالنساء والأطفال والعجزة، كذا نطقت به توراتهم في سفر العدد بالإصحاح 31، ويشوع بالإصحاحات 8، 10، 11.
وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر صموئيل الثاني الذي بأيديهم 2- 5: "أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك- وكان ذلك في وقت المساء- فرأى من على السطح امرأة تستحم وكانت المرأة جميلة المنظر جداً. فأرسل داود رسلاً وسأل عن المرأة فقال واحد: أليست هذه (بَتْشبَع) بنت أليعَام امرأة أوريا الحثي. فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حبلى"، وبعد أن يسوق سفر صموئيل الثاني بإفاضة محاولة داود التخلص من أوريا زوج المرأة بعد فعلته الشنيعة، وقصة إرساله إلى الحرب ليقتل بعد زناه بها، يقول في الآية 26، 27 من نفس الإصحاح: "فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها ندبت بعلها. ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له ابناً وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب"، ثم يتابع السفر سرد معاتبة الرب لداود وإماتة الله للولد الذي جاءت به بتشبع من الزنا الذي كان داود قد وقع فيه، ثم توبة داود وصيامه، ثم دخوله على امرأة أوريا بعد أن عزاها في زوجها، واضطجاعه معها وإنجابه منها ولداً آخر هو سليمان.. وبمثل ما اتهموا به نبي الله داود اتهموا نبي الله (هوشع) لكن بعد أن زعموا هذه المرة أن ذلك كان بأمر من الله وبعد قول الرب له 1: 2 "اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب"، ففعل ولدت له ابناً أمره الله أن يسميه (يزْرعيل)، ولا ندري كيف يقبح ذلك في عين الرب عندما يتعلق الأمر بداود بينا يأمر به ويباركه عندما يكون في حق نبيه (هوشع) .. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.
ويدرك من له أدنى بصيرة من خلال ما ذكرناه، منزلة أنبياء بني إسرائيل في نفوس اليهود واللاأخلاقية المتأصلة في نفوسهم تجاه أنبياء الله ورسله والمتعمقة الجذور في قلوبهم، إذ كيف يجري على هؤلاء ما ترويه أسفارهم وعفن مخطوطاتهم من موبقات يعف عن ارتكابها الإنسان العادي؟ وكيف- وهم ما أتوا إلا ليرجعوا الناس عن الكفر إلى الإيمان- يتأتى منهم ذلك الكفر؟ وكيف تقع كل هذه الخبائث في منازل الوحي وبيوت الأنبياء وفي رحاب الرسالة وعلى درب النبوة كما هو باد على صفحة التاريخ الآسن لهؤلاء القوم؟.
ولو كان غمطهم إياهم اقتصر على مجرد الافتراء عليهم وتكذيبهم وإلصاق التهم والكبائر بهم لهان الخطب، لكنه تعدى ذلك بكثير ووصل إلى ما هو أبعد من التكذيب بمراحل، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح وكذا تلميذه ابن القيم في (إغاثة اللهفان) و(هداية الحيارى) من ذلك الشيء الكثير، ومما نص عليه الأخير في (الهداية) أنهم "قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقاً كثيراً من الأنبياء حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئاً"، وفي الحديث عن أبي عبيدة: "قتلت بنوا إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة وسبعون رجلاً من بنى إسرائيل فأمروا مَن قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم الله عز وجل- يعنى في قوله: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم..آل عمران/21)"، كما أورد ابن كثير في تفسير قول الله تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .. البقرة/61)، قول ابن مسعود: (كانت بنوا إسرائيل تقتل ثلاثمائة نبي في أول النهار- يا لقساوة القلوب- ثم يقيمون سوق بقلهم في آخره) وأعقبه بالقول: "إنه لما ارتكب بنوا إسرائيل ما ارتكبوا من الكفر بآيات الله وقتلهم أنبياءه أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وكساهم ذلاً في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقاً".
وحسبنا أن نستشهد هنا على تلك المذابح التي نصبوها لأنبيائهم بما ورد في سفر نحميا 9: 26 "وقتلوا أنبياءك الذين أشهدوا عليهم ليرُدَّهم إليك وعملوا إهانة عظيمة"، وسفر الملوك الأول 19: 10، 14 "وقتلوا أنبياءك"، وسفر إرميا 11: 19وعلى لسانه "وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم أعلم أنهم فكروا عليّ أفكاراً قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلا يذكر بعدُ اسمه"، وإنجيل متى 23: 31، 34-36 "أنتم تشهدون على أنفسكم أنكم قتلة الأنبياء .. هاأنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون في مجامعكم وتطردون من مدينة إلى مدينة. لكي يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن بَرَخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح. الحق أقول لكم أن هذا كله يأتي على هذا الجيل".. وأن نشير كذلك إلى ما ورد في إنجيل متى في الإصحاح21 عدد33 وما بعده، مما سبق ذكره من أمر الكرامين الذين ما أن جاءهم عبيد صاحب الكرم ليأخذوا أثمار غرسه إلا وأعملوا فيهم القتل والجلد والرجم، ولم يكتفوا بذلك حتى فعلوا مثله مع كافة من أرسله إليهم ممن كانوا أكثر من سابقيهم، بل لم يكفهم كل هذا حتى تآمروا في نهاية المطاف على وارثه الذي أرسله إليهم، في إشارة واضحة إلى المسيح عيسى عليه السلام.. ورد مثله في إنجيل مر قس12: 1-12، وفي إنجيل لوقا20: 9-19 وأعمال الرسل 4: 11.
الأمر الذي يعنى أن أمر اعتدائهم على الأنبياء لم يقتصر مجيؤه على القرآن بل تحدثت به أيضاً كتب القوم يهوداً كانوا أم نصارى، كما لم يقتصر على أنبيائهم بل طال خاتم الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولا عجب وقد عرفنا مدى كراهيتهم للأنبياء أن تنشر إحدى مجلاتهم وتسمى (جاليليو) صوراً كلاسيكية للسيدة مريم العذراء وهي تحمل سيدنا المسيح عليه السلام بعد أن استبدلت رأسها برأس بقرة .. وسيظل يوم السبت 28 يونيو 1997 محفوراً في ذاكرة المسلمين حتى يقضي الله في أحفاد القردة والخنازير أولئك أمراً كان مفعولاً، فقد حدث في هذا اليوم أن قام عدد من المستعمرين اليهود في مدينة الخليل وبحراسة من الجيش، بلصق وتوزيع شعارات ورسوم تكيد للإسلام وللمسلمين، وقد ظهر في أحد هذه الرسوم صورة خنزير على رأسه كوفية فلسطينية كتب عليها اسم (محمد) بالإنجليزية والعربية وأمسكوا هذا الخنزير قلماً يكتب به كلمة (القرآن)، كما تلقت جهات فلسطينية رسمية عبر البريد الاكتروني رسماً مهيناً للنبي عليه السلام كتب عليه (محمد) وتحته خنازير صغار يرضعون منه وقد كتب عليها كلمة (فلسطينيون).
إنه وإزاء كفرهم بالله وتآمرهم وبغيهم على أنبيائه ورغبتهم عن ملة إبراهيم ومن صار على نهجه من النبيين، ولقاء ظلمهم وطغيانهم وتحريفهم للكلم عن مواضعه، الذي يؤذن بألا صلاح بعده- على المدى القريب أو البعيد- لأمرهم، ولا فائدة ترجى للبشرية من ورائهم، كان لابد حسب ما تقضي به سنن الله الكونية في الاستبدال والاستخلاف، من أن تتحول إمامة وخلافة وريادة هذا العالم إلى آخرين يحافظون على العهد ويصونون الأمانة ويحفظون الوصايا وينفّذون التعاليم، فيستحقون عندئذ وعد الله الذي لم يتحقق لغيرهم لا في الأرض المقدسة وحسب بل في إرث النبوة والأرض جميعاً، حيث يقول تعالى وهو أصدق القائلين: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين .. الأعراف/28)، ويقول: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم .. محمد/38)، "أي: ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره" كما قال: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين.. الأنعام/133)، وقال: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على كل شيء قديراً.. النساء/133)، وقال: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على الله بعزيز.. إبراهيم/19، 20وفاطر/16، 17)، أي يذهبكم إذا خالفتم أمره ويستخلف من بعدكم قوماً آخرين على غير صفتكم يعملون بطاعته، كما أذهب القرون الأولى وأتى بالتي بعدها وما ذلك عليه بممتنع ولا صعب بل هو سهل عليه يسير لديه.
الأمر الذي يعني أن سنة الله في خلقه وكونه، لا تتبدل ولا تتغير، بل إنها لتجري حتى في أمة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه ممن هم من نسل إسماعيل كما جرت فيمن هم من نسل إسرائيل، بمعنى أن المسلمين إذا تولوا عن نصرة ربهم ولم يقفوا على أمر دينهم فسيبتليهم الله بمن لا يرقب فيهم إلاً ولا ذمة كما ابتلى الأولون ثم يستبدلهم إذا لم يراجعوا أنفسهم (بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم .. المائدة/ 54).
ولعل هذا ما يومئ إليه قوله تعالى لمن هو أب لجمهور الأمم: (إني جاعلك للناس[كذا بما يفيد العموم] إماماً)، ثم قوله تعقيباً على عبارته (ومن ذريتي): (لا ينال عهدي الظالمين.. البقرة/124)، ولما اقتضت حكمة الله فيما يخص ميراث النبوة أن يجعل نبي بني إسماعيل خاتماً للأنبياء، فقد تعين أن يكون الابتلاء في حرمان أمته إن هي خالفت منهج الله، قاصراً على ميراث الحكم والأرض والخلافة، إلى أن يقضي الله فيه أمرأً كان مفعولاً.
المقال الثاني: (وماذا عن الإرهاب الغربمركي والصهيوصليبى في حق المسلمين)
يتحدث العالم عند حلول شهر (أيلول) من كل عام عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي وقعت في سنة 2001وعن الإرهاب الذي يمارسه بعض الشباب المتحمس للإسلام ضد مصالح الغرب، ويتغابى عن عمد عما يفعله هذا الغرب الحاقد ومعه قوى الشر في أمريكا بعد انتهاء الحرب الباردة مع ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي في حق المسلمين، ويتجاهل ما ارتكبه هذا الثنائي الآثم خلال سنوات ما قبل هذه الهجمات ولا يزال يوقعه على فقراء العالم ومسلميه من بغي وظلم واعتداء وإرهاب طف به الصاع وفاق كل حد.
يتكلم العالم كله عن ضحايا انفجار المركز التجاري وقد لا يعرف أن ضرب دولة أفغانستان وتدميرها من قِبَل أمريكا كان مخططاً له من قبل ذلك، لتطويق الصين وللحصول على نفط بحر قزوين، وأن تسعة تقارير ذكرتها صحيفة الأسبوع المصرية بتاريخ 26/ 11/ 2001 تحدثت جميعاً عن اعتزام أمريكا للاعتداء على هذا البلد الذي أنهكته الحرب مع السوفييت كي ينال استقلاله، مما يعني أن تدمير مركز التجارة- حتى على افتراض أن الذي قام به إسلاميون- ما هو إلا رد فعل لما اعتزمت واشنطن القيام به ولما تمخضت عنه إدارة بوش الحمقاء، وبالتالي يكون هو الإرهابي الذي ينبغي أن يحاسب عن وقوع ذلك الانفجار وليس غيره.
نذكر باختصار من بين هذه التقارير التسعة تقريراً كُتب في صحيفة (العالم الاشتراكي) في يوليو 2001 - يعني قبل حادث الانفجار بشهرين تقريباً- للصحفي (ماريتك)، يقول التقرير: "لو أن العمل العسكري سيبدأ فلا بد من التبكير به قبل سقوط الثلوج في أفغانستان في منتصف أكتوبر على أقصى حد" .. وآخر ذكرته (نيوزويك) وعلى لسان (وولتفيز) جاء فيه: "إن الولايات المتحدة تفكر في الحرب منذ عام 1999بل وسمت العملية (بنت فيلد)" .. وآخر نشرته (واشنطن بوست) في2 /2/ 2001وفيه: "أن كلينتون ونواز شريف اتفقا على عملية مشتركة لقتل أسامة بن لادن- أمريكا بالقمر الصناعي والصواريخ عن بعد وباكستان بخبراء لغة باشتونية- وأن الفريق كان جاهزاً للضربة في 99 لولا أن أجهضته في 12/ 10/ 99انقلاب برويز مشرف" .. وآخر نشرته (واشنطن بوست) في 18/ 11/ 2001جاء فيه: "أن المخابرات الأمريكية تنفذ عمليات إسقاط مظليين في مهام سرية في الجنوب الأفغاني منذ عام 1997" .. وآخر نشرته (جين للأمن العالمي) في 15/ 2/ 2001جاء فيه: "أن الإدارة الأمريكية كانت تعمل مع الهند وإيران وروسيا ضد طالبان" .. وآخر ورد في كتاب ظهر في فرنسا بعنوان (بن لادن- الحقيقة الممنوعة) جاء فيه: "أن إدارة بوش كانت موافقة على التعاون مع طالبان لو تعاونت الأخيرة معها في بترول وسط آسيا وأن الخلاف بدا حين أدركا صعوبة ذلك" .. وكان ما أراد بوش، فقد دمر هذه الدولة الفقيرة بالأسلحة المحرمة دولياً وأوقعت هذه الحرب الملعونة التي شنتها واشنطن ما لا يعد من القتلى والجرحى كان معظمهم من النساء والأطفال والعجائز، في وجوم منقطع النظير من المجتمع الدولي، (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).
يتحدث العالم أجمع عن تدمير المركز التجاري التي تعد آلاف ضحاياه على أصابع اليد الواحدة، ولا ينبث ببت شفه عن أن أمريكا وتحالفها الشرير ووراءها الصهيونية العالمية هم السبب المباشر في كل ذلك، ولا عن دماء المسلمين التي تسيل أنهاراً بشكل يومي وفي ديار الإسلام وذلك فيما أعلنوه أكثر من مرة بأنها حرب صليبية وبأنها الحرب العالمية الثالثة أو الرابعة- على اعتبار الحرب الباردة مع السوفييت- ضد الإسلام، والعجيب في الأمر أن أولئك المعتدين يودون أن يسلم لهم احتلال البلاد وأن يوقعوا عليها وعلى أهلها ما يوقعونه من الظلم والعنت دون أن يصاب واحد منهم بأي أذى، فإذا ما قتل أحدهم أو جرح أو أسر تقوم الدنيا كلها ولا تقعد، في الوقت الذي يقتل على أيديهم كل يوم العشرات بل المئات ولا يحرك ذلك- حتى لدى من يوالونهم من المنافقين وضعاف الإيمان- ساكناً، وكأن أولئك العجم خلقوا من طينة غير الطينة التي خلق منها المسلمون والعرب، وكأنهم الذين يستحقون فقط أن يعيشوا على هذا الكوكب الذي أضحى لهم وحدهم، وعلى المسلمين أن يرحلوا إلى كوكب آخر يقضون فيه-إن لم يقض عليهم- باقي سنوات عمرهم، على الرغم من أن ما حدث ويحدث وسيحدث- لو استمر الحال على هذا- من ذلك الشباب المتحمس الذي يقوم بواجبه دفاعاً عن دينه وعرضه وأرضه، ما هو إلا رد فعل متواضع لما يُقترف من فظائع في حق الأبرياء من المسلمين هنا وهناك، وعلى الرغم من أن حرمة الدماء والأعراض المسلمة أعظم عند رب العالمين من حرمة الكعبة على ما نطق به نبي الإسلام، وهي كذلك لكونها دماء أهل الإيمان والحق والعدل لا البغي والظلم والطغيان، ولكن صدق في أيامنا قول القائل: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر * وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر.
ومثقفو العالمين الإسلامي والعربي عن بكرة أبيهم ودون ما استثناء، في حالة ذهول لما تفعله الإدارة الأمريكية الآن مع هذا التحالف البغيض الذي استباح لنفسه سلب الأرض وانتهاك العرض في أرض الرافدين، بعد أن فعل الشيء ذاته في البلد المسلم أفغانستان الذي مزقته الحرب والساعي لأجل تحرير وطنه من قبضة الروس، وبعد أن بارك ما يفعله الإرهابي بحق (شارون) الذي لا يتورع عن سفك دماء رضع، وقتل أطفال لا تتجاوز أعمارهم مراحل الصبى .. يتساءلون ما الذي يجعل إدارة بوش وأنظمة الغرب الحاقدة تصر على البقاء في أرض المسلمين بعد أن انتهت أسبابه وبعد أن أعملوا فيهم القتل وأذلوهم، وانتهكوا أعراضهم وسلبوا أرضهم وأهلكوا حرثهم ونسلهم وهدموا مساجدهم بل والكنائس التي بنيت على أرضهم، وحاولوا غير ما مرة إشعال فتيل الحرب والإيقاع بين السنة والشيعة تارة، وبين المسلمين والنصارى تارة أخرى، وبين المجاهدين المقاومين لهذا الاحتلال والمنافقين الموالين والمؤيدين له حتى صار بعضهم يقتل بعضأً تارة ثالثة؟.
يتساءلون كيف يتأتى لهذه الإدارة وتحالفها الذي انمحت شخصيته وذابت هويته وأضحى بانسياقه لا رأي له مع أمريكا، أن تستخدم الأسلحة المحرمة دولياً فتحصد وتقتل وتمطر بها من دون رحمة ولا هوادة، المئات من أبناء هذه البلاد وهم عزل وفيهم الأطفال والنساء والشيوخ في الوقت التي تزعم- وهي تخفي أطماعها في سلب ثروات البلاد ونهب نفط الخليج وبحر قزوين- أنها جاءت لتخلص العالم من تلك الأسلحة المحرمة؟
يتساءلون! ماذا لو أن قوة بشرية أتت أمريكا أو أياً من دول هذا التحالف الذي استعبدته أمريكا، وفعلت في أهلها ما تفعله هذه القوى الباغية في بلاد المسلمين؟ هل كانت شعوب وإدارات هذه البلاد ترضى لنفسها بذلك؟ ولو أن احتلالاً وقع لأمريكا مثلاً أيستنكر أحد على سكان الولايات الأمريكية مقاومة هذا الاحتلال أو يعد دفاعهم عن أنفسهم إرهاباً؟، وإذا كان الجواب: أن من حق الشعوب التي احتلت أراضيها أن تدافع عن نفسها، ففيم الاستنكار إذن في أن تدافع الشعوب الإسلامية المغلوبة على أمرها عن نفسها؟، ولم- وأنتم الذين صنعتم الإرهاب وفرضتم على هذه الشعوب مقاتلتكم- تسمون دفاعه ومقاومته إرهاباً؟ ولم تحرمونه حقه في أن يستنصر ببني قومه وبأبناء دينه من الشعوب المجاورة في الوقت الذي تأتون فيه- وأنتم أهل البغي والعدوان- بقضكم وقضيضكم من كل حدب وصوب ومن دون وجه حق؟.
يتساءل أصحاب العقول السوية: أليس ما تكَشّف من أساليب التعذيب التي جرت في العراق على سبيل المثال والتي لم تخطر على بال من نحو التهام الكلاب المدربة للأعضاء الذكرية لـ 300معتقل في سجن أبو غريب بعد فتح أرجلهم عنوة عبر قيود حديدية في أيديهم وأرجلهم مثبتة في الحائط ووفاتهم على الفور، ومن مصرع 60 طفلاً بعد تقطيع أطرافهم أمام أمهاتهم، ومن ربط الأعضاء الذكرية والألسنة أحيانا للعديد من أبناء العراق الصامد بالأسلاك الكهربائية، ومن إجبار المعتقلين على اللواط والإتيان بحركات جنسية مهينة وهم عراة ليتم تصويرهم على أنهم همج، ومن دهسهم أحياناً بالأحذية العسكرية على الرأس والرقبة والأماكن المجروحة، ومن تقييد بعضهم وربطهم بالأسرة وهم عراة وحرمانهم من الطعام الشراب لساعات طويلة، ومن تعليق البعض منهم لعدة ساعات لإجبارهم على الإدلاء باعترافات كاذبة، ومن تبول على أجساد بعضهم العارية وجراحاتهم، ومن وضع حبال حول رقاب بعضهم وجرهم بها كالكلاب، ومن حلق رؤوس عراقيات وضربهن وإجبارهم على المبيت في الماء وعلى عدم النوم والوقوف لمدد طويلة أحياناً ووفاة العديد منهن بعد اغتصابهن، إلى غير ذلك مما تواترت أخباره ويعف اللسان عن ذكره وكان ضمن 100 ألف حالة تعذيب أكدتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان وأظهرتها عدسات الكاميرات وتناقلتها جميع وكالات الأنباء ووقف عليه العالم كله، وكذا غيره مما أوقعته إدارة بوش على العراقيين في سجون الموصل وأم قصر وبوكا وغيرها، وعلى مجاهدي طالبان في سجون أفغانستان وفي (جوانتانامو) بـ (كوبا) .. ألا يعد ذلك انتهاكاً لحقوق الإنسان وجرائم حرب في حق الإنسانية؟
على أن القول بإعفاء بوش من مسؤولية ما جرى في سجون العراق وأفغانستان لعدم علمه، قول مجاف للحق ومناف للحقيقة، وليس أدل على تورطه ومسؤوليته عن هذه الجرائم بصورة مباشرة- واستحقاقه بالتالي لأن يعامل كإرهابي ويحاكم كمجرم حرب- مما بدا من تقريرات وصحف أمريكا نفسها .. ونختار من ذلك ما جاء في كتاب (تسلسل القيادة) للصحفي الأمريكي (سيمورهيرش) الذي نشرت (الجارديان) البريطانية مقتطفات منه ذكرت فيها ضمن ما ذكرت، "أن المسئولين في إدارة بوش كانوا يعلمون بالمعاملة السيئة التي يلقاها المعتقلون في سجن (جوانتانامو) في أواخر2002وأن بوش بنفسه أعطى موافقته مقدماً على قتل أو أسر أي مشتبه فيه يعتقد أنه من الشخصيات المهمة في طالبان أو تنظيم القاعدة"، كما ذكر مؤلف الكتاب أن "أحد المحللين بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية زار هذا السجن وعاد منه وهو مقتنع بأن الأمريكيين يرتكبون جرائم حرب ضد المعتقلين بالجزيرة" .. وكذا ما جاء في مجلة (نيوزويك) في 17/ 5/ 2004 التي كشفت عن أن "بوش ووزير دفاعه وافقا على استجواب معتقلي طالبان والقاعدة بشكل شديد القسوة لانتزاع الاعترافات منهم بأي وسيلة، وأن موافقة بوش على عدم الالتزام بمعاهدات جنيف- على حد ما جاء في المجلة- شجعت رامسفيلد على تطبيق القاعدة نفسها على سجناء العراق"... بل وموافقة بوش شخصياً على ممارسة 12أسلوباً للتعذيب بعد اطلاعه على تقارير أعدتها لجنة القوات المسلحة لجماعة تطلق على نفسها (جماعة الله)، كان ضمن هذه الأساليب استخدام الوسائل الكهربائية للإدلاء بمعلومات أدت إلى اعتقال 400سيدة وفتاة و600طفل و700رجل مورست ضدهم جميعاً كافة أنواع التعذيب النفسي والبدني.
والسؤال الذي يلح في طرح نفسه، أليس لهؤلاء البشر- كما لضحايا مركز التجارة- كرامة يتحلون بها، وأمة ينتسبون إليها ويخشى في يوم من الأيام أن تثأر لهم، وأليس لهم أهل وآباء وأمهات؟ وهل تقبل شعوب الغرب التي تدعي لنفسها الحضارة والتقدم والحرية- وقد أضحى بينها وبين هذه المعاني برضائها عما يفعله أولئك الجبناء بُعد المشرقين- هل تقبل على نفسها أن يفعل بها مثل هذا؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فما معنى أن يكتفوا بتأنيب (بلير) و(رامسفيلد) وأن يعيدوا ترشيح بوش أو على الأقل بفارق بسيط بينه وبين منافسه وقد فعل كل هذا وأكثر منه؟ وأليس ما ذكرناه مما شهدوا به على أنفسهم كفيلاً بأن يخلق صراعاً بين الحضارات وينشأ جيلاً يريد أن يثأر لكرامته ويعامل الغرب- والبادي أظلم- بمثل ما عومل به سيما بعد أن اتهمت منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر في 13/ 9/ 2004 نصارى أمريكا بممارسة التمييز العرقي بشكل واسع النطاق ضد الأشخاص المنحدرين من أصول شرق أوسطية ومسلمين داخل أمريكا نفسها وأصبح يؤثر بسبب الإعلام المضلل على واحد من كل تسعة أمريكيين، وبعد أن أوضحت (كيرت جورينج) نائب المدير التنفيذي للمنظمة أن ما يقرب من 32 مليون أمريكي تعرضوا لهذا التمييز بطريقة مهينة وخطيرة بسبب أصولهم العرقية أو الدينية وبحجة مكافحة الإرهاب؟.
بل وبعد أن أجاب البروفيسور (لاري موسكيدا) أستاذ الاقتصاد السياسي في (إيفرجرين سنيتكوليدج) بولاية واشنطن عن سؤال طرحه في (يوإس إيست كوست) بعد انهيار برجي التجارة يقول: لماذا تعد أمريكا هدفاً للإرهاب؟ وكانت الإجابة: صحيفة سوابق حافلة بالجرائم الأمريكية في كل مكان في العالم ضد الإنسانية راح ضحيتها أكثر من ثمانية ملايين مواطن .. منها أكثر من مليون و 500 ألف عراقي قتلوا جراء الحصار والعقوبات المفروضة على العراق منهم حسب أرقام اليونيسيف 500 ألف من الأطفال الذين قالت عنهم (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية الأمريكية يومها: "إنهم يستحقون هذا العقاب"، وبمعدل 6700 كل شهر حسب ما ذكر (رمزي كلارك) المدعي العام الأسبق الأمريكي .. ومنها و200 ألف عراقي قتلهم جورج بوش عندما هاجم في 16/ 1/ 1991 بغداد في مذبحته التي أطلق فيها الطيارون الأمريكيون النار على ظهور المدنيين والعسكريين المنسحبين .. ومنها 200 ألف من الفلاحين قتلوا سنة 1954في (جواتيمالا) على أيدي النظم الديكتاتورية التي نصبتها أمريكا طيلة أربعة عقود وذلك إثر انقلاب على الديمقراطية- طبعاً- التي لا تروقها لتستبدلها بديمقراطية زائفة تتمشى مع مصالحها وإن رغمت بها أنوف أفراد الشعب، يعني على نحو ما عليه الحال الآن في العراق وأفغانستان .. ومنها ثلاثة آلاف مواطن ساعدت على قتلهم عندما أطاحت بحكومة (الدومينكان) في 1965، ومنها 30 ألف ساعدت على قتلهم سنة 1973عندما دبرت انقلاب شيلي الذي كان ضد الحكومة الديمقراطية المنتخبة بقيادة (السلفادور الليندي) .. ومنها 800 ألف مواطن قتلتهم أمريكا عندما دبرت انقلاباً سنة 1965 في أندونيسيا بدعوى مقاومة الحزب الشيوعي، وطفت الجثث يومها فوق مياه الأنهار، وعلقت مجلة (تايم) ما حدث بـ (أنها أحسن أخبار سمعها الغرب في آسيا)، أما الإدارة الأمريكية فقد عبرت كما قالت الـ (نيويورك تايمز) عن سعادتها، وكذا المذبحة التي أشرفت عليها سنة 1975 والتي سقط فيها 250 ألف مواطن من الأبرياء في تيمور الشرقية .. ومنها 30 ألف قتلوا أثناء رعاية الولايات المتحدة للحرب التي شنتها جماعة الكونترا الإرهابية في (نيكاراجوا) في الثمانينات وهي الحرب التي أدينت فيها واشنطن من قبل المحكمة العالمية في 1984بسبب قيامها بتلغيم المواني .. ومنها 80 ألف مواطن قتلتهم أمريكا إبان حربها ضد (السلفادور) في الثمانينيات أيضاً .. ومنها نحو مليون راحوا ضحية حروب إرهابية رعتها أمريكا منذ السبعينيات وإلى الآن ضد شعوب غرب أفريقيا وخاصة (أنجولا) .. ومنها أكثر من 8000 قتلتهم أمريكا في بنما ليلة أعياد (الكريسماس) أثناء إلقاء القبض على (مانويل نورييجا) رجل بوش أثناء رئاسته للـ (CIA) والذي تحول فيما بعد إلى عدو .. ومنها 70 ألف قتلهم شاه إيران المدعوم أمريكياً وذلك حين أعيد للسلطة بانقلاب أشرفت عليه واشنطن وذلك بين عامي 1952، 1970.
وعندما اندلعت الحرب الكورية عام 1950 اتبعت أمريكا أبشع الطرق الإجرامية مع المدنيين، وعلى حد تعبير الجنرال (كورتزلي ماي): "أحرقنا على مدى ثلاث سنوات كل مدين في شمال كوريا وفي جنوبها أيضاً، وقتل في هذا القصف 3 مليون كوري" .. وبالطبع كان الاعتداء على الهند الصينية منذ 1954 إلى 1975 أكبر جريمة حرب في النصف الثاني من القرن العشرين حيث قتلت أمريكا من 2 إلى 3 مليون بذخيرة تساوي 15 مرة ما رمي على (هيروشيما) .. وفي صفحة أخرى لتاريخ أمريكا الأسود تعرض أكثر من أربعة ملايين في (فيتنام) و (كمبوديا) للقصف والحرق بالنابالم والقنابل التي قدرت بثمانية ملايين طن، 80 % منها افترش على مساحات مدنية ليس بها أهداف عسكرية، وتعرضت فيتنام بالذات وعلى مدار تسع سنوات بدءً من العام 1964للقتل بالرصاص الذي طال 160 ألف فيتنامي كما تم تشريد أكثر من 700ألف آخرين واغتصاب 21 ألف امرأة ونزع أحشاء أكثر من 3 آلاف شخص وهم أحياء وإحراق 4 آلاف آخرين والهجوم على 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة وقد اعترف (مارتن لوثر كينج) ساعتها أن "حكومته- يعني بها حكومة أمريكا- زعيمة الإرهاب العالمي"، كما أشار (دانييل اليسبرج) الباحث بمؤسسة زاندا إلى أن "الرؤساء الأمريكيين من ترومان إلى نيكسون كانوا يكذبون ويخدعون الرأي العام الأمريكي بشأن غرض الحرب وأهدافها ووقائعها"، يعني تماماً كما يفعل بوش وبلير الآن.
يضاف لهذا السجل الأمريكي الحافل بإرهاب الدول والشعوب والمكتظ بانتهاك حقوق الإنسان، هجوم أمريكا على الشعب الليبي في الثمانينيات، وغزو (جريناوا) في 1993، وأفعال الجيش الأمريكي والمخابرات المركزية في هايتي وأفغانستان والسودان والبرازيل والأرجنتين ويوغسلافيا وما خلفه كل هذا من مئات الآلاف من الضحايا ناهيك عن أعداد الجرحى والأسرى والنازحين واللاجئين وهي بالطبع أعداد لا تقدر، وعما تفعله أمريكا إلى الآن من جرائم إنسانية في حق الشعب الياباني وصلت لحد اغتصاب ضباط أمريكان لفتيات، في استمرار لمسلسل إذلال الشعب الياباني بعد ضربه بالقنبلتين الذريتين اللتين راح ضحية الأولى منهما والتي وقعت في 6/ 8/ 1945 وكانت من نصيب (هيروشيما) وأطلق عليها (الولد الصغير)، أكثر من130 ألف ياباني ماتوا على الفور و 200ألف آخرين ماتوا على مدى خمس سنوات جميعهم باستثناء عشرين ألفاً من المدنيين، وذلك بعد تدمير كامل لأربعة أميال مربعة من مباني تلك المدينة، بينا راح ضحية الثانية التي وقعت بعد أيام ثلاثة في (ناجازاكي) في عملية أطلق عليها (الولد السمين)، أكثر من 70 ألف مواطن ماتوا على الفور و 140 ألفاً ماتوا في غضون خمس سنوات جميعهم ما عدا 150 فرداً من المدنيين.
ولأي منصف أن يعجب من تأييد أمريكا المطلق لإسرائيل منذ عام 1948 وإلى الآن والذي لم يقتصر على مساواتها بين الإرهاب الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية حتى غضت الطرف عن الأول واعتبرت الثاني إرهاباً، ناهيك عما تمارسه الإدارات الأمريكية المتعاقبة من ضغوط وإرهاب على مؤتمرات وزراء الخارجية العرب بل والقمم العربية والإسلامية لتجنب أدنى إشارة إلى مسئولية أمريكا عن تمادي العنف الإسرائيلي وبشاعته وتجاوزه لكل الخطوط الحمراء، وناهيك عما يعانيه المسلمون قاطبة من العجز عن فعل أي شيء تجاه إخوانهم في أرض الأقصى والإسراء والمعراج، وما يقع على الشعب الفلسطيني المسكين من إنكار لحقه في الحياة وفي أن يعود لوطنه الذي سلب منه تحت سمع العالم وبصره، وفي أن يعيش كما يعيش سائر البشر على أرضه التي يقتطع كل يوم منها جزءاً إن لم يتم له ذلك بمحو قرى بأكملها من على وجه الأرض تحت وابل من رصاص وصواريخ عدو لا يحترم القوانين الدولية ويقتل الأطفال والعجائز والنساء والرضع ولا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلاً.
لقد مات آلاف الفلسطينيين بطرق تعذيب، لا تساوي تلك الطريقة التي مات بها ضحايا مركز التجارة مثقال ذرة، وما مذابح دير ياسين وصبرا وشتيلا وغيرها - مما جرى بتواطئ وبتوجيه مباشر من حلفاء إسرائيل وفي مقدمتهم أمريكا وبريطانيا- ما تلك المذابح بخافية على أحد، وما مثلها مما جرى في لبنان حيث قتل في الثمانينيات عشرات الآلاف من المواطنين- دون ما حتى إشارة إلى حقيقة أن الذي ارتكب كل هذا الإرهاب هي إسرائيل بمساندة الولايات المتحدة- بمنأى عمن يعيشون معنا على هذا الكوكب، وهذه المشاهد وتلك المذابح وإن لم يعاد بثها على غرار ما يفعله الإعلام المضلل لأحداث سبتمبر، فستظل محفورة في أذهان مسلمي العالم كله بل وفي أعماق أصحاب المبادئ والقيم من غير المسلمين، ومن المناسب ونحن نتحادث في حقوق المسلمين الضائعة على يد الإرهابيين من اليهود والأمريكان والغرب أن نهدي هذه المشاهد للمعلقين والصحفيين الذين يتجاهلون حقيقة الإرهاب الأمريكي والإسرائيلي وما يحدث في الأراضي الفلسطينية، وندعوهم لمشاهدتها علها تحرك قلوبهم وتوقظ ضمائرهم وتبطل دعاويهم.
وإذا ما حاولنا طي هذا الماضي الذي لا زلنا نعاني من بعضه مع شعورنا الدائم بمرارة هذا وذاك في حلوقنا معاشر المسلمين، إلى واقعنا المعاصر .. واجهتنا وكالات الأنباء على الصعيد الميداني بعناوين: "بعد مصرع 110 عراقيين مقتل 18 عراقياً بينهم أطفال ونساء وإصابة 29 في غارات جوية على الفلوجة .. سبعة من القتلى لقوا حتفهم عندما أطلقت الطائرات الأمريكية صاروخاً على سيارة إسعاف كانت تنقل الجرحى بالقرب من المدخل الشمالي للمدينة .. سقوط قذيفة أمريكية في سوق مكتظ بالمدنيين"، وعما قامت به ربيبتها إسرائيل تطالعنا الصحف بعناوين: "طائرات إسرائيلية ودبابات تطلق عدة قذائف صاروخية ومدفعية تجاه ملعب في الشعف أدت إلى استشهاد عدد كبير من الفلسطينيين بعد أن تحولت أجسادهم إلى أشلاء وأصابت العشرات بجروح .. القوات الإسرائيلية تعتقل أربع شبان وسط قطاع غزة وتنقلهم إلى جهة غير معلومة كما اعتقلت 11 آخرين في الضفة الغربية .. وتتوغل في عدة مناطق في دير البلح وتطلق النار بشكل عشوائي تجاه منازل الفلسطينيين مما أدى إلى حالة من الذعر في صفوف المدنيين"، تلك هي حصيلة يوم واحد هويوم14/ 9/ 2004، وتسمع عن مثل هذا كل يوم، وفي كل مرة تدعي أمريكا وإسرائيل أنها كانت تستهدف عناصر تابعة لأبي مصعب الزرقاوي وحماس في وقت يشهد العالم كله بكذب أمريكا وربيبتها وخداعهما، لأنه يرى أن مرتادي المستشفيات والذين توارى أجسادهم وتشيع جنائزهم هم نساء وأطفال العراق وفلسطين، كما يشهد العالم كذبهما وادعاءهما بأن القوات الأمريكية والإسرائيلية كانتا حريصتين في كل هجماتهما على حماية أرواح المدنيين، ولا ندري ماذا لو لم تكونا كذلك؟
لقد طف الصاع إلى الحد الذي جعل كوفي عنان وهو الحريص على إرضاء وتنفيذ سياسة أمريكا وخطب ود دول إمائها في أوربا على حساب المسلمين وعلى حساب الحق والحقيقة، لأن يخرج عن صمته ويعلن في 16/ 9/ 2004على الملأ أن "الحرب على العراق غير شرعية وتخالف ميثاق الأمم المتحدة"، ويصرح مكرراً: "بأن هذه الحرب تتناقض مع مبادئ الأمم المتحدة ولا تتفق مع مواثيق المنظمة الدولية، وأن قراراتها اتخذت بطريقة فردية دون الرجوع إلى المجتمع الدولي"، وبعد تصريحه أذاعت مونتكارلو أن بريطانيا تعتزم بكل بجاحة إرسال تعزيزات إلى العراق وأنها كانت تخطط لهذه الحرب منذ عام مضى، كما أعلنت أن بوش بكل صفاقة إنما أراد بغزوه العراق أن ينتقم لوالده من صدام حسين، فهل بعد هذا من إرهاب؟
والسؤال: كيف يتسنى للمجتمع الدولي أن يسكت عن مثل هذه المهازل التي ليس وراءها من دافع من غير ما ذكرنا- من حرمان المسلمين من حقهم في أن يعشوا في ظل شريعتهم السمحاء غير عابدين لطواغيت الأرض، والسيطرة على منابع بترولهم- سوى تصفية الحسابات وفرض الهيمنة على العالم وتجريب أسلحة فتاكة في بلاد المسلمين لمعرفة مدى قوة تدميرها؟ لماذا تخون المنظمات الدولية ما أنيطت به من الحفاظ على كيان المجتمع الدولي، ولماذا لا تكبح جماح وسعار هذه الدولة الخارجة على القانون والمواثيق والمعاهدات الدولية وتفرض عليها وعلى الدول التي تسير في ركابها فتقتل وتقصف وتعيث في الأرض فساداً، تفرض عليها عقوبات تماماً كما يفعل الشيء ذاته في المسلمين بصفة خاصة وفي الدول الفقيرة المغلوبة على أمرها بصفة عامة؟ أليس ما ذكرناه من تدمير وإبادة جماعية وقصف للمدن وإهلاك للحرث والنسل خاصة في العراق وفلسطين وأفغانستان، كفيل بأن يحال لأجله بوش وشارون وسائر قادة الدول المشاركة لهما من معسكر الغرب، للمحاكم الدولية باعتبارهم-وبشهادة كثير من المحللين السياسيين والمنادين بحقوق الإنسان- مجرمي حرب، وبخاصة بعد اندلاع المظاهرات واحتجاج العديد من القادة والعسكريين القدامى في كل من أمريكا وبريطانيا وبعد ما صرح به عنان من أن هذه الحروب القذرة ضد المسلمين خاطئة وليس لها ما يبررها، على الأقل حتى لا يتكرر مثله في حق مسلمي إيران والسودان وسوريا ولبنان والقائمة طويلة وكل ينتظر دوره؟ وألا يعد السكوت عن هذه الجرائم تواطأ من الشعوب التي مكنت لهؤلاء القادة الذين تسببوا بقبيح فعالهم في إلحاق الضرر بها قبل غيرها، وبخاصة بعد اعتراف منفذو هذه الجرائم- الذين ضمنت لهم حكومات بلادهم رغم تحفظ واعتراض الأمم المتحدة أيضاً، بألا يتعقبون لدى محاكم جرائم الحرب الدولية مهما قاموا هم من أعمال سادية أو وحشية، والاكتفاء إن لزم الأمر بمحاكمتهم محاكمات صورية في بلادهم- بعد اعتراف هؤلاء الأوباش بأنهم كانوا يؤدون واجبهم وينفذونها بأوامر قادتهم؟ وألا يستجلب أولئك الظلمة البغاة الساعين في الأرض فساداً بحروبهم تلك التي ليس لها ما يبررها، سخط الشارع العربي والإسلامي ويزرعون الضغينة بين شعوب العالم كله شرقه وغربه؟
يتساءل مثقفو العالم الإٍسلامي كيف تستبيح إدارة بوش وتحالفه البغيض ونحن في القرن الواحد والعشرين احتلال أراضي الغير بالقوة وتستمرأ ذلك وتستمر فيه بعد أن زالت أسبابه، فلم يعد الآن خطر من صدام الذي أصبح في قبضتهم ويمكن لهم التخلص منه لو أرادوا، وبعد أن تبين للجميع كذب وادعاء ما قيل من امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وتبين كذلك أن الشعب العراقي بكل طوائفه يلفظ هذا الاحتلال على الرغم من كل أساليب التعتيم والتضليل الإعلامي، كما يرفض هذه الألاعيب التي تخترعها أمريكا والغرب باسم الديمقراطية من نحو فرض حكومات صورية عميلة تبارك وتساند ما يفعله الغزاة بأرضها وشعبها ولا تملك حتى حق الاعتراض على العمليات العسكرية التي تنفذها وتخطط لها قوى الاحتلال الغاشم تلك، ومن فرض مجالس وطنية عميلة لا تمثل شعوب بلادها في قليل ولا كثير وإنما تمثل أمريكا ومصالح الغرب وفقط، وتنفذ سياستهما في البلاد والعباد كما هو الحال الآن في العراق وأفغانستان؟
وإن تعجب فعجب أن تصل الحملة المحمومة على الأخيرة وعلى شعبها الذي طحنته الفتن الداخلية وأنهكته الحرب مع السوفييت كيما يحصل على حريته واستقلاله .. لحد الإبادة الجماعية، ولم يكتب التاريخ في سطوره الكثيرة أبشع ولا أسوأ مما نفذته القوات الأمريكية- التي تمكنت من حشد ما يزيد عن 10000 نصفهم تقريباً من أفراد الحرس الوطني واحتياط القوات الجوية، وإنزال نحو 2000جندي منهم في الأراضي الخاضعة لتحالف الشمال- في أطفال ونساء أفغانستان في نهاية العام 2001 وتحديداً في شهر نوفمبر من استخدام قاذفات بي 52 التي تحدث نفس آثار القنابل النووية من تفجير وتقليب للأرض، وإلقائها حسب ما أشارت إليه وزارة الدفاع الأمريكية 500 طن من المتفجرات المصممة لقتل القوات المعادية حتى المختبئ منها .. واستخدام قذائف (إي سي 130) ذات القدرة التدميرية الفائقة والتي تستطيع أن تلاحق هدفاً على الأرض .. وقذائف اليورانيوم المشع التي ينتج عن احتراقها (أيروسلات) تنقلها الرياح والمياه فتصيب الكثيرين بالسرطانات في الدم وبتدمير الجهاز العصبي .. واستخدام قنابل الوقود والهواء التي تزداد فعالياتها في المناطق المحصنة حيث يتغلغل منها سحابة الرزاز كالملاجئ والخنادق والكهوف وتزيد الأماكن المغلقة من انفجارها .. والقنابل العنقودية المعروفة بخطورة قوتها التدميرية، إذ تشمل هذه القنابل 30 نوعاً تنشطر إلى 200 قنبلة وهي مجهزة للانفجار فوق الأرض لتنتشر في مساحة أوسع على شكل قنابل صغيرة تنفجر بدورها لدى ارتطامها بالهدف المفترض، ويقول الخبراء أن 10% من هذه القنابل الصغيرة لا تنفجر على الفور بل يبقى على الأرض مثل ألغام مضادة للأشخاص، ومن تلك القنابل العنقودية ما هو موجه بالليزر والقمر الصناعي وتحدث دماراً هائلاً في محيط ميل مربع وتزن الواحدة منها ألفي رطل .. ناهيك عن حشد 38 دولة أخرى وأكثر من 50 ألفاً من المارينز تم استدعاؤهم من الاحتياط، و 21 بارجة حربية و500 طائرة بين قاذفة ومقاتلة إلى غير ذلك من الأسلحة التقليدية الأخرى التي استخدمت لإبادة الشعب الأفغاني المسلم والتي منها سائر أنواع الغواصات وصواريخ توماهوك والقنابل وبخاصة قنابل (جي بي يو 28) ذات القدرة الكبيرة على اختراق التحصينات والأنفاق الموجودة تحت الأرض لمسافة 30 متر وتحطيم حواجز وحوائط الأسمنت المسلح بسمك 6 متر ويبلغ وزن الواحدة منها خمسة آلاف رطل وطولها حوالي 4 متر تقريباً وقطرها 37 سم، وقنابل (بي إل يو82) التي يبلغ وزن الواحدة منها نحو سبعة أطنان ولديها القدرة على تفتيت الصخور الجبلية والنفاذ في وقت لاحق لمخابئها، ولديها القدرة كذلك على إحراق كل شيء في دائرة تبلغ 600 ياردة، بل وتلحق دماراً بالحياة البشرية لسنوات عديدة قادمة، كما أنها تترك فجوة في الأرض تعادل مساحة كيلو متر مربع، وقادرة على إصابة الأنفاق وجدران الكهوف الخارجية، وتحدث لحظة إلقائها دوياً هائلاً في كافة المناطق المجاورة.
وعلى الرغم من مطالبة منظمة العفو الدولية عدم استخدام هذه الأسلحة سيما المحرمة منها، ومخالفة ما تفعله أمريكا للقانون الدولي ولاتفاقيات جنيف لعام 1949 التي تحرم الاعتداء على المدنيين والتجمعات السكانية أو دور العبادة أو المستشفيات أو النساء والأطفال وكل من لا يحمل السلاح وتعتبر ذلك حرب إبادة، إلا أنها تمادت في اعتداءاتها على كل هذا بحجة استخدامها من قِبل طالبان كمخابئ لهم، بل واستطاعت في ظل التقاعس الدولي ووقوف دول العالم موقف المتفرج إزاء المشاهد التي تراها يومياً لقتل المدنيين والأطفال الأبرياء- أن تقنع بذلك وتضم إليها أوربا وروسيا واليابان .. كما قامت قوات الطاجيك المنتمية إلى تحالف الشمال بزعامة (رباني) والتي ضمت بين صفوفها أفراد من القوات الخاصة الأمريكية في التمهيد للزحف صوب (كابول) فـ (قندهار) التي قتل فيها نحو 300 قروي، بارتكاب أبشع المجازر في مدينة (مزار الشريف) عندما أبادت 600 من رجال طالبان الذين استسلموا، وذبحت إبان اجتياحها لقرى وطرق هذه المدن مائة طفل دون العاشرة أمام ذويهم، ودمرت قريتان بالكامل في قصف أمريكي عنيف استمر ثلاث ليال كما تم العثور في قرية (شاه أغا) على 133 جثة، وأشارت الأنباء حينها إلى قيام قوات الجنرال الشيوعي (عبد الرشيد دوستم) الموالية لأوزبكستان وتركيا والذي كانت واشنطن تفضله بإبادة ثلاثة آلاف من قوات طالبان كانوا يختبئون بدون أسلحة في إحدى المدارس بعد أن رفض استسلامهم ومحاكمتهم إن رغب، وكان الأمريكان قد أصروا على القيام بمذبحة أخرى في (قندوز)، وأعلن (رامسفيلد) وزير الدفاع الأمريكي بكل وضوح أن بلاده لا تريد استسلام المحاصرين من قوات طالبان والعرب كما لا تريد توفير ممر آمن لهم بعد تسليم أسلحتهم، ولكن ما تقبله فقط هو إبادتهم تماماً، ويجب- برأيه وزعمه- ألا تتاح لهم فرص الحياة كي لا يهددوا أمريكا مرة أخرى، وفي هذا الاتجاه قامت قاذفات بي 52 بتدمير المدينة بمن فيها تمهيداً لدخول التحالف الشمالي، وتخالف أمريكا عامدة بكل ذا جميع القوانين والأعراف الدولية التي تمنع قتل الأطفال وتحمي الأسرى وتعتبرهم مدنيين بمجرد إلقاء أسلحتهم، لتضرب بها عرض الحائط.
والأشد غرابة مما ذكر، ما كشفت عنه جريدة (الأوبزرفر) البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 11/ 11/ 2001 من "أن المخابرات الأمريكية تعد الآن- يعني وقت اجتياح أفغانستان- ملفاً يربط بين العراق وتنظيم القاعدة، ويزعم تورط الأول في الهجمات التي تعرضت لها أمريكا في 11/ 9/ 2001ونقلت الجريدة عن مصدرين بالمخابرات الأمريكية مزاعمهما بأن هناك معسكراً آخر مقام على جزيرة في نهر دجلة إلى الجنوب من بغداد يعرف بمعسكر (سلمان بك) يقوم بتدريب الإرهابيين عبر تنظيم القاعدة ، وكشفت الصحيفة النقاب عن أن واشنطن تريد توسيع دائرة الحرب الحالية لتشمل توجيه ضربات عسكرية للعراق، وأن هناك مفاوضات بين واشنطن ولندن بهذه الشأن، وأنه قد تم الانتهاء من وضع خطة تتعلق بهذا الأمر، وأن وزير الخارجية الأمريكي (باول) أعلن في تصريح له بالكويت بأنه يعد لمحاربة الإرهاب في العالم كله وأن النية تتجه لدول معينة مثل العراق .. وعبثاً حاول يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان، وكذا سكرتير عام الأمم المتحدة كوفي عنان في مؤتمر صحفي عقده في العاصمة النرويجية (أوسلو) في 12/ 2001 أن يثنيا أمريكا عن السير في هذا الطريق وحذرا من توسيع دائرة الحرب خارج أفغانستان، وأعرب الأخير عن أمله أن تسمع أمريكا لصوت العقل، موضحاً أن قرار الأمم المتحدة الذي أجاز العمليات العسكرية في أفغانستان لم ينص عل توسيع هذه العمليات، وقائلاً: إنه يتعين على مجلس الأمن أن ينظر أولاً في هذا الأمر، لكن دون جدوى .. الأمر الذي يؤكد النوايا الحقيقية لدى أمريكا والتحالف في السير قدماً والإصرار على اندلاع الحرب الصليبية التي جاء ذكرها على لسان الرئيس الأمريكي (جورج بوش)، ويؤكد حقيقة أن أمر الاعتداء على العراق كان مبيتاً بليل.
فإلى أولئك المعتدين نهدي قول الله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.. الأنفال/30)، وقوله: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.. الصف/8، 9) ... وإلى المنافقين الذين يصرون على مساندة أعداء الإسلام في حرب الإسلام والمسلمين في كل مكان، ويؤيدونهم- رغم ما يقع عليهم من تقتيل- في انتهاكهم الأرض والعرض، نهدي قوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليما. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً.. النساء/138، 139)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أصروا في أنفسهم نادمين .. المائدة/51، 52) .. وإلى من لحقوا بأهل النفاق من مدعي السلفية من شباب العراق الحبيب، رداً على الشبهات التي يخدعهم بها مشايخ السلطات وشياطين الإنس والجن حول ضرورة اتباع ما كان عليه السلف قبل نسخ آيات العفو وأن يكون الجهاد وراء إمام ممكن، نهدي- بعد إجماع الأمة سلفاً وخلفاً وفقهاء ومحدثين على (قتال العدو إذا دهم أهل بلد مسلم أو اعتدى على شبر من أرضهم حتى أن الولد يخرج بغير إذن أبيه والمرأة تخرج بغير إذن زوجها)، وبوجوب تنصيب واحد يتولى تنظيم صفوف المجاهدين على غرار ما فعل المسلمون في مؤتة حين وقع اختيارهم على خالد في عدم وجود الإمام الممكن وبعد موت من عينهم النبي عليه السلام- نهدي لهم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير.. التوبة/38، 39)، وقوله في نفس السورة: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين. لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين..) إلى آخر سورة التوبة، وقوله عليه السلام فيما رواه البخاري ومسلم: (ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على ما ناوأهم- يعني ناهضهم وعاداهم- إلى يوم القيامة)، وقوله في بيان ذلك فيما رواه الهيتمي في مجمع الزوائد10/ 60وقال عنه رجاله ثقات: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق، إلى أن تقوم الساعة)، كذا بالفعل (لا تزال) المفيد الاستمرار حتى فيما علم الله أزلاً من أزمان ليس للمسلمين فيها إمام ممكن، كما نهدي لهم قول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 4/ 608 "إذا هجم العدو فلا يبقى وجه للخلاف .. فإن دفع ضرهم عن الدين والنفس والحرمات واجب إجماعاً"، وقول أبي بكر الجزائري في منهاج المسلم المفيد أنه في حال عدم وجود إمام يحارب المسلمون تحت رايته وبإذنه، "فإنه: يجب على أية مجموعة من المسلمين تريد أن .. تتحرر وتتخلص من قبضة الكافر أن تبايع أولاً رجلاً منها تتوفر فيه أغلب شروط الإمامة من علم وتقوى وكفاية، ثم تنظم صفوفها وتجمع أمرها وتجاهد بألسنتها وأموالها وأيديها حتى يكتب الله لها النصر" ، ونهدي لهم كذلك فتوى علماء السعودية الـ 29 وتحذير الأمين العام للحملة العالمية لمقاومة العدوان بشأن الأحداث الجارية في مدينة الفلوجة فضيلة الشيخ (سفر الحوالي) من مغبة التهاون أو السكوت عما يجري في أرض العراق المسلمة .. وإلى المجاهدين في سبيل الله المدافعين عن الدين والأرض والعرض نهدي قوله جل وعلا: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم .. البقرة /216)، وقوله: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل .. البقرة/190، 191)، وقوله: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا منكم ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين .. آل عمران/139: 142)، وقوله: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون .. النساء/ 104) ... وإلى الشعب العراقي الشقيق: (لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم .. آل عمران/73)، وكونوا ولو بالدعاء مع من يدافع عن أراضيكم وأعراضكم، فعدوكم لا يرحم ولا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة ولا يهمه إلا نفط بلادكم وتغييب شريعتكم وهتك أعراضكم وردكم على أعقابكم، وكل متمناه منكم إقامة حكومة علمانية تنفذ سياسته فيكم وتكون منزوعة من جذور العروبة والإسلام، وصدق الله القائل: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. بل الله مولاكم وهو خير الناصرين.. آل عمران/149، 150)، والقائل: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .. البقرة/ 217)، ولن يستطيعوا بإذن الله.
والله معكم وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
فصل ثالث في: خطر النفاق ودوره في تأخير النصر وإلحاق الأذى بالمسلمين
المقال الأول: (واقع المسلمين والنفاق السياسي في ميزان الشريعة)
في هذا المنعطف الخطير من تاريخ الأمة الإسلامية وفي هذا الوقت العصيب الذي تداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.. يستشعر المتأمل في واقع المسلمين عامة والمتابع لمجريات الأحداث على الساحة العراقية بخاصة، لماذا يتأخر النصر عن المسلمين؟ ويدرك - وربما أكثر من أي وقت مضى- أن أعظم معوق لإحراز النصر لأمة الإسلام هم المنافقون، وكيف أضحوا - بعد أن اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً وباعوا دينهم لطواغيت الإنس وشياطين الجن- غصّة في حلوق المجاهدين الشرفاء، وشوكة في طريق المدافعين والمناضلين والساعين لتحرير أرضهم وديارهم، وكيف صاروا هم أخطر أثراً وأشد ضرراً على الإسلام وعلى أمة الإسلام من أعداء الإسلام قاطبة، وأضحى مكر عدو الله وعدو المؤمنين لا يساوي بجانب مكرهم شيئاً .. كما يلحظ كيف يتزلفون ويذلون أنفسهم ويفصّلون منها نعالاً وأحذية في أرجل أهل الكفر، ينفذون مخططاتهم ويقومون بما يعجز الأعداء عن القيام به بل ويكفونهم في كثير من الأحيان مئونة الاقتتال، يستجلبون عطفهم ورضاهم ويطلبون منهم العون لقتل ذويهم وبني قومهم، ويوالون ويعادون عليهم ويحبون ويكرهون لأجلهم، ولا نبالغ إذا قلنا أنهم في سبيل جلب رضاهم يساهمون بشكل فعال في تخريب بلادهم وتدمير اقتصادهم وإهلاك حرثهم ونسلهم، ناهيك عن دورهم المشبوه في حجب نور الله وإقامة دينه والتمكين في مقابل ذلك لأعداء الإسلام.
يلمس المتابع لما يجري على أرض الرافدين وكل غيور على عروبته حريص على دينه، حجم الضرر الناتج عن أولئك الذين أصبحوا دمىً تحركهم أمريكا كيف تشاء، وكيف يسارعون في أهل الكفر يتكلمون بلسانهم ويتقدمونهم ويفدونهم بأنفسهم ويسهلون لهم مهمتهم في تكريس الاحتلال وفي قتل المسلمين وتعذيبهم وكشف عوراتهم واغتصاب نسائهم حتى صاروا حقراء حتى عند من قدموا ذلك لهم وفعلوه لأجلهم .. كما يلحظ كيف أضحوا عقبة كأداء في تحقيق موعود الله بالتمكين وسبباً مباشراً وحقيقياً في تأخير ما أوجبه الله وأحقه على نفسه في قوله: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)، وما وعد به عباده المؤمنين في قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً).
ولقد أوضح لنا القرآن الذي ما ترك فيه رب العزة سبحانه شاردة ولا واردة إلا وأودعها فيه، و(الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)، أوضح أن أبرز علامات المنافقين وأخص ما يميزهم عن غيرهم هو ولاؤهم للكافرين ولأعداء الدين، وذلك في مواضع عديدة نذكر منها قوله جل جلاله في سورة النساء الآية الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين بعد المائة: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)، كذا بمجيء صفتهم بطريقة الموصول ليفيد علة استحقاقهم العذاب الأليم، وأنهم اتخذوا الكافرين أولياء وآثروا صحبتهم في مضادة المؤمنين والتربص بهم، لا لقناعتهم بما هم عليه من كفر، وإنما ليَقوُوا بهم- فيما استشعروه في نفوسهم- من ضعف، ويَعزوا بهم من ذل .. ظناً منهم أن أعداءهم هم الأعزاء الأقوياء وأنهم بذلك يدفعون عن أنفسهم وعمن يوالونهم من أهل الكفر شر أهل الإيمان المتوقع منهم، وهنا يأتي الاستفهام المنبئ عن التوبيخ والإنكار (أيبتغون عندهم العزة) "إيماء- على حد ما ذكر الطاهر بن عاشور- إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة"، وإلا لهان الخطب في اتضاح أمرهم وانكشاف طويتهم، بل اتخذوهم ليلتمسوا منهم ما لا يملكونه مما أخبر الله عنه في قوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.. المنافقون/ 8)، وفي ذلك نهاية التجهيل والذم لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثم أتي جواب الله على هؤلاء بأسلوب التأكيد في قوله: (فإن العزة لله جميعاً)، إذ "لا عزة إلا به لأن الاعتزاز بغيره باطل، كما قيل: من اعتز بغير الله هان.. وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية"أ.هـ
وتأتي هذه البشارة التهكمية- المنبئة بالسخرية والاستهزاء والمناسبة لتهتكهم بأهل الإيمان- عقب نداءين محببين للمؤمنين أحدهما يأمر بالعدل الذي يعم الأحوال كلها، إذ العدل في الحكم وأداء الشهادة على وجهها على ما جاء في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم)، هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي، والانحراف عنه إلى الجور مفض إلى فساد متسلسل، وما ذلك إلا لأن العدل يقتضي عدم محاباة الظالمين، تماماً كما يقتضي عدم مجاراتهم أو الركون إليهم ولو كانوا من أهلنا أو من أهل ملتنا أو حتى من أقرب الناس إلينا (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون .. التوبة/ 23)، (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .. الممتحنة/9)، فما بالك بمن لم يكتف بمحاباة وتولي الكافرين ممن ليسوا بأهلنا، حتى شاركهم في بغيهم على المسلمين فجمع في نفاقه واقتراف ما نهى الله عنه بين ظلم نفسه، والركون إلى أهل الكفر، ومقاتلة أهل الإيمان .. والنداء الثاني: يأمر بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله (يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل)، وما ذلك إلا ليداوموا على ما أمر الله ويحذروا مآرب ما يخل به.
وجاء عقب تلك البشارة التهكمية سالفة الذكر وفي معرض إقامة الحجة، نداء ثالث لأهل الإيمان يصب في نفس الإطار ويحذر من موالاة الكافرين بعد أن شرح دخائلهم وطريقة استحواذهم على المنافقين بقصد أذى المسلمين، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً)، وهذه آية جامعة للتحذير من موالاة أهل الكفر على اختلاف مللهم وبما فيهم أهل الكتاب، ومن موالاة المنافقين الذين تظاهروا بالإيمان ولم يوالوا أهله بل ناصبوهم العداء وراحوا يطيعون فيهم اليهود والنصارى، فهي تشهير بالنفاق وتحذير من الاستشعار بشعاره والتدثر بدثاره، وتسجيل على المنافقين أن لا يقولوا: كنا نجهل أن الله لا يحب موالاة الكافرين، لذا كان التذييل الذي مراده أنكم إذا استمررتم على ذلك جعلتم لله حجة واضحة على فساد إيمانكم.
وهنا يأتي الحسم لمصير هؤلاء الذين استهانوا بتحذير الله ولم يبالوا به: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً. إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله) فلم يشُبْه بتردد ولا تربص بانتظار من ينتصر من الفريقين فإن كان للمؤمنين (فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)، أي وصولاً إليهم بهزيمة أو غلبة.
وفي سياق مماثل للنظم الوارد بسورة النساء، وفي ثنايا التصريح في سورة المائدة بكفر النصارى الذين قالوا: (إن الله هو المسيح ابن مريم) والذين قالوا: (إن الله ثالث ثلاثة)، وبلعن اليهود الذين (عصوا وكانوا يعتدون) والذين هم (أشد الناس عداوة للذين آمنوا)، والتنويه بكذب مقولة هؤلاء وأولئك (نحن أبناء الله وأحباؤه) .. يستمر حديث القرآن وتحذيره من مؤازرة أهل الكتاب أو التعاون معهم أو إحسان الظن بهم فضلاً عن مناصرتهم في قتال المسلمين وفتح المجالات أمامهم لتحقيق مآربهم، وذلك حتى لا يفصل أحد ممن خالط بشاشة الإيمان قلبه بين من هم بين ظهرانينا ويناصبوننا العداء ويقتلون منا الطفل والمرأة والعجوز في العراق وأفغانستان وفلسطين وغيرها من بلاد المسلمين، وبين من ناصبوا من قبلنا ممن سبقونا بالإيمان العداء أيضاً، أو يشكك في مشروعية قتال هؤلاء أو أولئك عندما ينحازون لحرب المسلمين، أو يتهاون تحت أي مبرر في شأن التحذير والنهي عن موالاتهم .. يتواصل حديث القرآن عن ضعاف النفوس- فيما يشبه أن يكون درساً قاسياً في أيامنا لجميع مرضى القلوب من المسلمين حكاماً ومحكومين- وعما يظهرونه من خوف وهلع لبشر أمثالهم تكون نتيجته في نهاية المطاف الندم لكن بعد فوات الأوان حيث لا ينفع الندم، وما يبدونه تجاه من (لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة) من ود ووفاق يطمّع فيهم أعداء الإسلام ممن (بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) ويصل بهم إلى حد أن يجعل منهم أداة طيعة يضربون بها أهل الإيمان، ومن حب ووئام عادة ما يكون على حساب مبادئ الإسلام، ومن تفان وإخلاص دائما ما يكون ثمنه دماء المؤمنين وأشلاء ضحاياهم واحتلال بلادهم، إذ في ذلك لا محالة ضرر وأي ضرر.
ويمهد سبحانه لكل ذلك- حتى لا يعمى الأمر أو يختلط لدى المذبذبين بين هؤلاء وأولئك، وحتى تتميز لديهم بالدليل القاطع والحجة البينة صفات أهل الإيمان الذين لا يجوز التعدي عليهم ولا تسليمهم ولا خذلانهم ولا معاداتهم ولا مناصرة عدوهم، عن صفات أهل النفاق الواضح أمر نفاقهم بمسارعتهم في أهل الكفر، والبين أمر موالاتهم لعدو الله وعدوهم- بالإفصاح عمن تجب موالاتهم ومناصرتهم والوقوف بجانبهم ومؤازرتهم وعدم تسليمهم أو خذلانهم، فيقول في محكم آياته بأسلوب الحصر والقصر موجهاً خطابه لمن بقي منهم على الإيمان وجهل حقيقة أمره: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.. المائدة/ 55)، فموقع هذه الجملة- على ما أفاده أهل التفسير- موقع التعليل للنهي عن معاونة أعداء الله أو اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، إذ الأصل أن تكون ولاية أهل الإيمان لله ورسوله مقررة عندهم بموجب ما أظهروه من إسلام، وبالتالي يكون ولاؤهم للمسلمين لأن من كان الله وليه لا يكون أعداء الله أولياءه، وتفيد هذه الجملة تأكيد النهي عن ولاية اليهود والنصارى.. فهي جملة خبر مستعمل في معنى الأمر، والقصر المستفاد فيها من (إنما) قصر حقيقي وهو من قبيل قصر الصفة على الموصوف، وإجراء صفتي (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) وكذا جملة (وهم راكعون) للثناء عليهم، ومعنى أن يكونوا أولياء للذين آمنوا أن يناصرونهم ويعاضدونهم ويكونون منهم ومعهم ضد عدوهم كالبيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فهو في معنى قوله تعالى: (والمؤمنون بعضهم أولياء بعض).
ويجئ هذا الأسلوب القصري على غرار ما جاء في سورة المائدة عقب نداءين محببين لأهل الإيمان، أولهما: أتي بعد تهيئة النفوس لقبول النهي عن موالاة أهل الكتاب الذين بدت محاولاتهم في تضليل المسلمين والنيل منهم، فيشبه من تولاهم في استحقاق العذاب بواحد منهم (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، كذا في صورة الشرط والجواب، وقد استحق هذا الذي أضحى واحداً منهم أن يكون كذلك لأنه كما ذكر القرطبي "خالف الله ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم"، فإنه ومن كان على شاكلته على حد قول الآلوسي: "بالموالاة يكونون كفاراً مجاهرين"، "وهذا- كما في تفسير الرازي- تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين"، يقول ابن عطية: "من تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلالٍ بالإيمان، فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم"، ويدخل فيما ذكره أهل التأويل- بالطبع ومن باب أولى- ما يحدث في أيامنا من مشاركة لهم في حربهم لمسلمي الفلوجة والموصل وأفغانستان وكل من كان على دينهم من أهل الإيمان، ومن إدلائهم على عورات المسلمين، ومن فتح أيٍّ من مجالات بلدان المسلمين برية كانت أو بحرية أو جوية أمامهم، ومن وضْعِ الحواجز ومنع المتناصرين من حربهم، ومن إنفاذ مخططاتهم في إهلاك حرث المسلمين ونسلهم، ومن إضفاء شرعية على الحكومات الموالية لهم .. إلى غير ذلك مما أغرقت الحكومة العراقية المؤقتة فيه نفسها حتى الثمالة وتقع فيه الأنظمة العربية والإسلامية وبمساندة أحيانا من علماء سلطاتهم، فإن هذا كله لا يتأتى إلا من ضعاف إيمان ومرضى قلوب (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) والدائرة المخشية هنا هي خشية انقضاض المسلمين على المنافقين، والأرجح أنها خشية "أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين فتكون لهم- على حد ما ذكر ابن كثير- أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك"، وما ذكره الحافظ هو ما يشهد له في أيامنا سطوة الباطل وهيمنة أهل الكفر كما أنه المتناسب مع واقع المسلمين الآن ومع ضعفهم.
وتفيد كلمة المفسرين أن قول (نخشى أن تصيبنا دائرة) صدر عن عبد الله بن أبي بن سلول وذلك حين عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال بني قينقاع الذين كانوا أحلافاً لابن سلول ولعبادة بن الصامت فلما رأى الأخير منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فقال: (يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا أولي إلا الله ورسوله)، وكان عبد الله ابن أبي حاضراً فقال: (أما أنا فلا أبرأ من حلفهم فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر)، وما قالاه وفعلاه إنما يمثل الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق في كل عصر فليس العبرة بخصوص السبب بل بعموم اللفظ، والتاريخ دائماً وأبداً ما يعيد نفسه، ويؤكد موقف ابن سلول، أن المنافق لا دين له ولا عهد وأن تأرجحه بين الإيمان والكفر إنما هو لأجل الدنيا فهي ذاته ودائرته التي يعيش لها ويميل معها حيث مالت ويدور معها حيث دارت.
وقد اقتضى تحذير أهل الغفلة والنفاق الذين يرجى منهم خيراً، وأملاً في صلاح نفوسهم .. اقتضى تحذيرهم من أعدائهم الذين يبغون صرفهم عن دين الله وودوا لو يكفرون كما كفروا فيكونون سواء، ألا يخرجهم من دائرة الإيمان وأن ينبههم سبحانه من خلال نداء ثان على أن صلاحهم في ملازمة الدين والذب عنه، وأن الله لا يناله نفع من ذلك وإنما يعود نفعه عليهم، وأنهم لو ارتد منهم فريق أو نفر لن يضر الله شيئاً وسيكون لهذا الدين أتباع وأنصار وإن صد عنه من صد (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).
كما دعا اعتراض هذا النداء بين ما قبله وبين جملة (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) مناسبة الإنذار في قوله (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، في إشارة إلى أن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء طريق وذريعة مؤدية إلى الارتداد، لأن استمرار فريق على موالاة اليهود والنصارى يخشى منه أن ينسل عن الإيمان فريق، فأنبأ المترددين ضعفاء الإيمان إن هم اختاروا طريق الموالا ة المنهي عنها، بأن الإسلام غني عنهم .. وأتى بجملة (فسوف يأتي الله بقوم.. إلخ)، لبيان أن وعد الله آت لا محالة، ولإظهار الاستغناء عن المنافقين الذين في قلوبهم مرض وقلة الاكتراث بهم، وتطمين المؤمنين بأن الله يعوضهم بالمرتدين خيراً منهم، وطمأنتهم- فيما يشبه المحصلة من ذلك- بأن(من يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.. المائدة/ 56)، واستغنى هنا عن جواب الشرط وهو الإيذان بوعد الله وبأن هذا الدين لن يعدم أتباعاً بررة مخلصين، بذكر ما يتضمنه للإشعار بأن للشرط جوابان.
ويتوالى النداء عقب التحذير من موالاة أهل الكفر وضرورة التمسك بموالاة الله ورسوله وكل ما هو منهما بسبب: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين).. ليكون بمثابة التأكيد لمضمون الكلام الذي قبله والتحذير من عدم امتثال ما نهى عنه ولتكون الحجة ألزم فلا يبق بعدها عذر لمعتذر، وفي ذكر الشرط استنهاض للهمة في الانتهاء، وإلهاب لنفوس المؤمنين ليظهروا أنهم مؤمنون لأن شأن المؤمن دائماً الامتثال.
هذا بعض ما جاء في شأن النفاق والمنافقين في مسألة اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، إنما أردنا من خلاله معالجة هذا المرض المفضي إلى تأخير النصر وإلحاق الأذى بالمسلمين، والذي يفتك بالقلوب ويعصّيها حتى يجعلها أقسى على ذوي القربى من الحجارة، وإلا فآيات سورتي التوبة والمنافقون في كشف المزيد من حيلهم ماثلة للعيان، وهي في نهيهم عن اتخاذ الكافرين أولياء أكثر من تعد ونذكر منها قوله عزمن قائل: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء.. آل عمران/28)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم هؤلاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور .. آل عمران/118، 119)، وقوله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً .. النساء/ 89)، وقوله: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.. المجادلة/ 22)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا اعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون .. الممتحنة/ 1، 2).
فما العذر بعد ذكر هذه الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة، لأناس تزيوا بزي العلماء جعلوا الشبهات طريقهم، والصد عن سبيل الله بسبق إصرار وترصد دأبهم، والخروج على إجماع الأمة في وجوب دفع من داهم بلداً من بلاد المسلمين ديدنهم، وطرح صحيح المنقول من الكتاب والسنة الموافقين لصريح المعقول في إخراج من أخرج المسلمين من ديارهم سبيلهم، والمبالغة في تصوير قوة أعدائهم بقصد إخافة أهل الإيمان منهم وإيجاد مبرر للقعود وخذلان إخوانهم عدتهم، والتشكيك فيما يفعله المجاهدون في سبيل الله من صد أعداء الإنسانية والإثخان بهم في الأرض والصبر على مقاتلتهم والأخذ بثأر أبنائهم وآبائهم وأمهاتهم وإخوانهم بضاعتهم؟
والسؤال الأشد إلحاحاً والذي يفرض نفسه على كل من يحمل السلاح في وجه الأهل وأبناء الوطن الواحد مع أعداء الإنسانية ومدعي- كذباً وزوراً وبهتاناً- حقوق الإنسان وتحرير العراق ورافعي شعارات الحرية والديمقراطية في الوقت الذي يقتلون ويهلكون ويدمرون كل شيء .. ما يكون النفاق إن لم يكن ما ذكره القرآن من المسارعة في نجدة ونصرة هؤلاء اليهود والنصارى، وإن لم يكن التزلف والتقرب والمساعدة والمساندة والمعاونة بشكل أو بآخر والمشاركة لأولئك المحاربين الذين جاءوا من كل حدب وصوب ليهتكوا العرض ويسلبوا الأرض ويقتلوا النفس ويهلكوا الحرث والنسل؟ وما يكون الرأي في تلك الجرائم التي فاحت وشاع أمرها والتي لم يرتكبها في حق أهليكم وإخوانكم وأبناء جلدتكم سوى الأمريكان والبريطانيين ومن حالفهم من معشر يهود ومن أهل الصليب؟ وأين أنتم وقد رفع هؤلاء شعار الصليب وأقروا بأن حروبهم (صليبية) واعترفوا أن العراق ستكون عاصمة دولة ربيبتهم المزعومة من النيل إلى الفرات؟ أين أنتم يا جنود الحرس الوطني والشرطة العراقية من دينكم الذي يحرّم قتل النفس المسلمة، ومن وعيد ربكم القائل في قرآنكم (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً.. النساء/ 93)، ومن تحذير نبيكم القائل (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة كتب بين عينيه آيس من رحمة الله)، والقائل: (لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، والقائل: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً)، والقائل: (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليك كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)، ومن إجماع المسلمين على حرمة سفك دم المسلم ولو أكره القاتل وهدد بالقتل .. أين ذلك كله مما تفعلونه طواعية بحجة أكل العيش وعدم وجود فرص عمل؟ وهل هذا العمل الذي تتقاضون من أجله حفنة من الدولارات وتحرمون لأجله رحمة الله وجنته وتسهمون فيه بشكل مباشر أو غير مباشر في الإضرار بدينكم ووطنكم وأهليكم فتقتلون لأدائه طفلاً أو امرأة أو تحمون به مستعمرة أو تفادون من خلاله كافرًا أو تنتهكون به حرمة إلخ، يُعدّ في أي عرف وفي أي ملة وعند من له عقل أو ضمير عملاً شريفاً؟، وكيف تهنأون به وتقتاتون منه أنتم وأولادكم وقد دفعتم ثمنه دماء ذكية بغير حق ومساجد هدمت وحرمات انتهكت سواء كان ذلك بفعلكم أو بمعاونتكم؟ وإذا كان الصليبي الذي أشرك معه اليهودي والذي أتيتم أنتم لتشاركوهم في حرب إخوانكم وبني قومكم، جاء ليحقق هدفه في نهب ثروات بلادكم وقبض أثمان نفطكم وأخذ خيرات وأقوات أبنائكم، فما هدفكم أنتم وأين خدمتكم لدينكم وأين جهادكم في سبيل ربكم وأين دفاعكم عن عرضكم وذبكم عن نساء أهليكم، وأين نخوتكم ورجولتكم وقد جاءتكم الفرصة سانحة بعد أن دهم العدو أرضكم واغتصب زوجاتكم وأخواتكم وأمهاتكم وبناتكم وعماتكم وخالاتكم وبناتهن، أو فعل مثل ذلك في نساء إخوانكم في الدين والوطن؟، وألا كان حرياً بكم بدل أن تمكنوا لهذا المغتصب الآثم والمعتدي المجرم أن تسهموا مع إخوانكم في دفعه فتبتغون بذلك الأجر من الله وتدخلون معه في تجارة رابحة قال عنها (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها النهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين. يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله .. الصف/ 10- 14).
وهاكم يا أبناء ديننا وعروبتنا ويا كل من يحمل السلاح في وجه أهله وبني قومه ليحارب به مع أعداء الإنسانية، وكل من يكرس للاحتلال عن طريق انتخابات: 1) مزيفة ومحكوم عليها بالفشل الذريع ومطعون في نزاهتها وتصب في خدمة المحتل ولا تمثل الحقيقة من قريب أو بعيد، وتدور في ظل قانون إدارة الدولة المرسوم بقلم الاحتلال لكون المفوضية المشرفة عليها مؤتمرة بأمر الحاكم المدني (بريمر) رقم 92 بتاريخ 4/ 5/ 2004، ورقم 96 بتاريخ 4/ 6/ 2004 ولكونها في ظل احتلال مباشر .. 2) وبديلة عما شرعه الله وأجمع عليه أهل العلم سلفاً وخلفاً من جهاد العدو ودفعه بالقوة وإخراجه من بلاد المسلمين.. 3) ومعلوم سلفاً نتائجها وما ستسفر عنه من حتمية أن يكون المنتخبون ممن يوالون وينصاعون لسياسة وأوامر من يمسك بزمام الأمور وليس هنا إلا أمريكا التي اغتصبت الأرض والعرض .. 4) وغير مرتبطة بإنهاء الاحتلال ولا حتى بوضع جدول زمني لإنهائه، بل هي لتكريسه ولا أدل عل ذلك مما صرح به (بلير) في واشنطن بتاريخ 13/ 11/ 2004 من "أن القوات الأمريكية والبريطانية لن تنسحب من العراق تحت أي ضغوط"، وقال: "لقد أوضحت طوال الوقت أنني لن أذعن في هذا الأمر أو أتراجع .. لن أتزحزح عن موقف أؤمن به"، وأضاف: "أن جورج بوش لن ينسحب هو الآخر من العراق تحت الضغط بالطريقة التي انسحبت بها إدارات أمريكية سابقة من لبنان والصومال"، ومن جانبه قال بوش: "إن الدعم الدولي للانتخابات العراقية المرتقب إجراؤها في يناير أمر أساسي"، ولا تعليق .. 5) وتكون ذريعة في إنجاح خطة العدو وإغرائه بتكرارها في بلاد إسلامية أخرى، والرامية إلى خداع العالم وإيهامه كذباً وزوراً أنه يفي بالتزاماته بالقرار 1546 وأنه حقق للشعب العراقي ما كان يحلم به من نشر الحرية والديمقراطية وبناء دولة جديدة واعدة متناسياً جرائمه التي ارتكبها ولا يزال والتي يجب ألا تمر دون عقاب .. 6) وحسْب القول بحرمتها في هذه الآونة إصرار أهل النفاق على إجرائها ليخلعوا على أنفسهم أو على من كان على شاكلتهم صفتي الديمومة والشرعية .. 7) وحرمان من يمثل البلاد بحق من المجاهدين الشرفاء ومن أهل الحل والعقد الأمناء لانشغالهم بالواجب الشرعي المنوط بهم والواجب على جميع أهل البلاد المشاركة فيه .. 8) والاعتزام على وضع دستور للبلاد دائم وقائم على قوانين كفرية تحرم الحلال وتحل الحرام ولا تعبر عن التوجهات الحقيقية للشعب العراقي .. 9) وإقامة ديمقراطية مفصلة على مقاس المصالح الأمريكية ومبنية على القهر والظلم والبطش والعدوان وملطخة بدماء الأبرياء وأشلاء الضحايا .. 10) وإشاعة حرية قائمة على الفوضى والتعذيب وآتية عن ظهور الدبابات وعن طريق الأباتشي والقنابل المحرمة .. 11) وتحقيق مصالح المحتل التي على رأسها الحفاظ على هيبته التي تحطمت على يد المقاومة، والتغطية على انتكاساته وتدني معنوياته، والاستحواذ على نفط العراق وثرواته، وإسكات الانتقاد الدولي عما يرتكبه من جرائم حرب، والعمل على تفتيت وحدته وإغراقه في بحر من الدماء فيما بين مؤيد ومعارض على غرار ما هو جار الآن في أفغانستان وكما جاء في قوله: (ودوا ما عنتم).. 12) واستبقاء الأوضاع على ما هي عليه الآن وإلى ما لا نهاية رغبة في فرض العدو هيمنته وثقافته على العالم العربي والإسلامي وتمشياً مع سياسته في إضفاء الشرعية على احتلاله وإنشاء حكومته العميلة المرتقبة على أمل تصفية المقاومة داخلياً ومحاصرتها عربياً ومن ثم السعي في تحقيق حلمه الكبير في بناء شرق أوسط جديد ..13) وكسب الوقت بغية التمكين لإرساليات التبشير ولشراء اليهود للمزيد من أرض العراق وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى.
هاكم فيما ذكرنا نماذج وبعضاً مما جاء في صحفهم وبشهادتهم وعلى ألسنتهم (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة): أفردت جريدة (روبنز بنورث) الأمريكية على صدر صفحتها الداخلية قصة اغتصاب 5جنود أمريكيين للفتاة العراقية ( س ) التي كانت متجهة لسوق البصرة لشراء احتياجات منزلها مخلفة وراءها طفلتين، وفي نهاية المقال يتساءل الكاتب الأمريكي: "أي أمن وأمان وديمقراطية أراد بوش أن يحققها في البلد العربي المسلم إنه يريد شيكاغو ثانية .. يريد أن يصرف أنظار مواطنيها عن دينهم وعبادتهم .. يريد بث الرعب وإنهاء حياتهم المستقرة"، كما ذكر الكاتب الأمريكي (ديفيد كول) عملية بشعة قام بها أربعة جنود أمريكان كانوا مخمورين يدخنون الماريجوانا ضد أسرة المواطن ( ص ح ز ) الذي اقتحموا منزله في ساعة متأخرة من الليل، ولما لم يجدوا ما يسرقونه التقط أحدهم ذراع الزوجة البالغة من العمر 27 عاماً ولديها طفلان، وبكل قسوة اختطفوها من بين أحضان طفليها الصغيرين اللذين كانا يرتعدان خوفاً وهلعاً من أصوات بنادق المحتلين، ثم اقتادوها بعد أن أشهروا السلاح في وجه زوجها الذي حاول دفعهم فأصابوه ليسقط مدرجاً في دمائه وسط بكاء طفليه.. الكاتب الأمريكي (وليام بود) لم يكن أقل صراحة وهو يروي في صحيفة (ويست بومفريت) الأمريكية في صدر صفحتها الأولى تحت عنوان (الاغتصاب الديمقراطي) تفاصيل جريمة بشعة ارتكبها جنود الاحتلال ويقول: "إن بوش قد ترك لجنوده أن يفعلوا ما يحلو لهم مع ضحايا سجنه الكبير في العراق، ترك (كول) و(ديفيد) اللذين يتميزان بالعدوانية الشديدة والهمجية يغتصبان نساء عراقيات بلغ عددهن وقتها26فتاة وضحية، يقومان بعد الثامنة مساءً باختطاف ضحيتهما من شوارع العاصمة دون تبرير ويجردانها من ملابسها أولاً ثم يُقدمان على تصويرها وإرسال هذه الصور المشحونة بأوضاع مخلة إلى أصدقائهما للاستمتاع بها وكأنهما ما حضرا إلى العراق إلا لهذا، فقط بنادقهم هي التي تتحدث وتتكفل بإسكات أي ضحية وبث الرعب في المحيطين بهم، عشرات الشكاوى وصلت إلى رؤسائهما ولم يتخذوا ضدهما أي إجراء يمكن أن يمنعهما عن هدفهما"، ويضيف الكاتب الأمريكي منتقداً: "هذه ليست ديمقراطية، يكفي تحقيق بعض الأهداف كالبترول والتوسع من أجل مصلحة الأعوان ولترحل أمريكا وترحم نساء وأطفال وشيوخ العراق".
فكيف- وهذه شهادة بعضهم- يتأتى لأبناء العراق الحبيب ولجنود شرطته وحرسه الوطني وللأنظمة العربية الذين مكنوا لأولئك الأوغاد أن يسكتوا عن هذا دون ما احتجاج فضلاً عن أن يغضوا الطرف عنه بل ويتعاونوا مع فاعليه وينفذوا مخططاته التي منها ضرورة إجراء انتخابات تحت نير هذا احتلال غاشم لا يبقي ولا يلوي على شيء.
ولم يكن (بود) الذي ذكرنا شهادته هو آخر من انتقد الاحتلال وندد به فقد انتقده (وليام أركلين) وأفرد على صدر صفحات (ويست بومفريت) جرائم حرب لجنود أمريكان ارتكبوها في العراق، وذكر- بعد أن ندد بعمليات النصب والسلب التي يقومون بها- قصة جنود أمريكان راحوا يفتشون أحد المنازل فقام الأب والأم بحمل الطفلتين (زينب) و(هاجر) لتوسيع المكان أمامهم فشاهدوا قطعاً ذهبية بأذنيهما وبقسوة قاموا بانتزاع الصغيرتين من أحضان الأبوين وجردوهما من المشغولات الذهبية وحين تأخرت عملية تجريد الطفلة (هاجر) من قرطها انتزعه بشدة ليصيب الطفلة بجرح قطعي ولم يستطع أحد من أفراد الأسرة حمايتها خوفاً ورعباً من السلاح الفتاك الذي يحملونه واكتفى الأب (محمود) بوضع يده على أذن طفلته حتى لا يهدد نزفه حياتها"، والحمد لله أن نجا ونجتا من هلاك محقق.
وعن قتل المدنيين المتعمد حدثوا ولا حرج، وفي إطار الحديث عن بعض حوادث قتلهم وعن حجم الخسائر في الأرواح والضحايا التي سقطت على أيدي أولئك الذين يحصون عدد قتلاهم بالواحد- في الوقت الذي فيه لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة- نكتفي هنا بما أكدته مؤسسة مدنية قامت بمسح المستشفيات والمقابر والأسر العراقية من وجود آلاف المصابين ومن أن أكثر من 5000عراقي من المدنيين لقوا مصرعهم في الفترة ما بين 20/ 3/ 2004 وحتى إعلان انتهاء العمليات الرئيسية في1/ 5 يعني في غضون شهرين فقط، ناهيك عن عشرات المئات من القتلى التي تسقط بشكل يومي عند كل مداهمة لمدينة على نحو ما جرى ولا يزال في الموصل والرمادي وبعقوبة والفلوجة وغيرها، فماذا يا ترى تكون حصيلة القتلى منذ بداية وطوال فترة الاحتلال إلى يومنا هذا؟ يجيب عن هذا التساؤل (مارك ريزيكه) مؤسس منظمة اجتماعية أجنبية الذي صرح عندما سؤل عن عدد الضحايا المدنيين: "إن الجيش الأمريكي لا يتعقب أثر هذه الأشياء ولا يهمه عددها"، وكان مسئولون عسكريون قد أوضحوا أنه لا توجد لديهم أرقام دقيقة أو تقديرات عن عدد القتلى والجرحى من المدنيين العراقيين حيث قالت المتحدثة الرسمية لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) (جان كامبل): "إننا لا نحتفظ بالقائمة"، وبالطبع يغيب عن أمثال هؤلاء ما جاء في الحديث: (لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)، وقوله عليه السلام: (لو اجتمع أهل الأرض على قتل مسلم لأكبهم الله جميعاً في النار).
لكن التبعة واللائمة تقع في المقام الأول على أهل النفاق الذين مكنوا قوى التحالف من إعمال القتل في أهليهم وذويهم رغم ما يتعرض له أولئك المنافقون أنفسهم، ورغم عجز قوى التحالف البيّن عن إحراز نصر بدونهم، الأمر الذي يؤكد إمكانية انتهاء الاحتلال منذ بدايته لولا مباركة أولئك المنافقين الذين قدموا على طائرات المحتل وظهور دباباته واستعانوا به بل وطلبوا- ولا يزالون- ذلك منه صراحة، كما يفسر إصرار أمريكا إزاء ضراوة المقاومة وشدتها ورغم فداحة ما تتكبده كل يوم في العدد والعدة.. على إجراء انتخابات بأي شكل .. لتخرج من هذا المستنقع الآسن وذاك الفخ الذي نصبته لنفسها وقد حفظت ماء وجهها .. ولتوقع أهل البلاد مع الحكومة التي ارتضتها لتحقيق مصالحها في بركة من الدماء.. ولتقف هي فيما بعد موقف المتفرج بعد أن توهم العالم أنها أدت مهمتها ووضعت العراق على بداية طريق الحرية والديمقراطية، فإياكم يا أبناء عراقنا الحبيبة وإنفاذ مخططاتها.
ولعله قد وضح الآن أن ما سبق أن ذكرنا بعضه مما يفعله أعداء الله وأعداء الإنسانية ومما جاء في فلتات ألسنتهم وهو قليل من كثير، مقصوده إقامة الحجة على أهل النفاق الذين يجدّون في البحث عن أسباب يغطون بها جرائمهم في حق دينهم ووطنهم وأهليهم وقد وجدوها بالفعل فيما يردده أضرابهم من المرجفين خارج المدينة وداخلها من تسمية المقاومة العراقية إرهاباً وتسمية تخريب البلاد وتدميرها ودكها إعادة إعمار .. وفيما أوحى لهم به أعداء الإنسانية من ضرورة ضبط الحدود وعقد مؤتمرات لدول الجوار للغرض ذاته ولمنع العناصر الأجنبية المتسللة (وهم لا يعنون بالطبع قوى البغي والعدوان الذين أتوا من أقاصي بلاد الدنيا وأدانيها عبر محيطات العالم وأجوائه ليحاربوا عرباً مثلهم ومسلمين في عقر دارهم ويغتصبوا نساءهم ويهلكوا حرثهم ونسلهم، ولا أولئك المرتزقة الذين أتوا بهم لتحقيق نفس هذه الأغراض من العجم، بل يقصدون بها حفنة من شباب البلاد العربية المجاورة عز عليهم أن يتركوا إخوة الإيمان وأصحاب الجنب الذين وصى الإسلام بهم وأمر بنصرتهم) .. كما وجدوها في إطلاق عبارات (متمردين) و (مسلحين) و(قوى الظلام) إلخ، (ويعنون بهم أهل البلاد التي احتلت أراضيهم وتهدمت بيوتهم ودمرت مساجدهم وأجهز على جرحاهم) .. ووجدوها كذلك فيما منّاهم به أهل الكفر من إشاعة الحرية وإقامة الديمقراطية وفي تهيئة المناخ الملائم لإجراء انتخابات علم سلفاً ما يكون مصيرها ومن سيحظى بها على غرار ما حدث في أفغانستان والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
ومقصود ما ذكرنا كذلك، بيان أن ما يجري من مدافعة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ما هو إلا سنة من سنن الله التي أخبر عنها في قوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين .. البقرة/ 251)، وقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب .. البقرة/ 214) .. وما هو إلا قتال في سبيل الله أمر الله به وأوجبه كما جاء في قرآن المسلمين (كتب عليكم القتال وهو كره لكم .. البقرة/ 216)، (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً. الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً .. النساء/ 75، 76) .. وما هو إلا ابتلاء منه سبحانه لعباده المؤمنين ليعلم من ينصره ورسله بالغيب على ما جاء في قوله: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب .. الحديد/ 25)، وقوله: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم .. محمد/ 31)، وليميز به بين أهل النفاق وأهل الإيمان ويبين به درجته لدى كلِّ حتى لا يدعيه أي أحد كما جاء في قوله: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين .. العنكبوت/ 11)، وقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين .. آل عمران/ 142) .. ما هو إلا لبث روح الأمل لدى عباده المؤمنين لكونه اقتراب لما وعدهم به في قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم .. النور/ 55) .. وما هو إلا تحقيق لما ساقه الله في قوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .. آل عمران/ 173)، وقوله: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد .. آل عمران/ 12)، وقوله: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون .. الأنفال/ 36)، والنبي في قوله (تتداعى عليكم الأمم .. الحديث) .. ما هو إلا إجمال لما حدث في مكة على يد أبي جهل وأضرابه ولما حدث في أحد وبدر، هو (ليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء .. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين.. آل عمران/ 141)، (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون .. آل عمران/ 167).
ولا ينبغي أن نتهاون أو يفوتنا التنبه لما كشفت عنه آية آل عمران الأخيرة من جعل أهل النفاق أقرب للكفر من الإيمان، وما أكثر ما زاوج القرآن بينهما، ولنتأمل في ذلك قوله تعالى: (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً.. النساء/ 140)، وقوله: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم .. التوبة /68)، وقوله: (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً.. التوبة/ 97)، وقوله: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم .. الحشر/ 11)، كما لا ينبغي أن يفوتنا أمر الله لنبيه بجهادهما معاً- كذا دون تفرقة- وذلك في قوله: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم .. التوبة/ 73 والتحريم/ 9)، ونصحه بعدم طاعتهم والسير في ركابهم (ولا تطع الكافرين والمنافقين .. الأحزاب1، 48).. وعلى غرار ذلك ولخطورة ما عليه أهل النفاق زاوج القرآن كذلك بينهم وبين المشركين في قول الله تعالى: (ليعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .. الأحزاب/ 73) وقوله: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .. الفتح/ 6)، وفي ذلك من شديد غضب لله على هذا الصنف من الناس- كما لا يخفى- ما فيه.
كما شهدت آي الذكر الحكيم بفسادهم (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون .. البقرة/ 12)، وكذبهم (والله يشهد إن المنافين لكاذبون .. المنافقون/1)، ووسمتهم بالفسق والخروج عن طاعة الله (نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ..التوبة/ 67)، وقلة الفقه والعلم (ولكن المنافقين لا يفقهون.. لا يعلمون.. المنافقون/ 7، 8)، وبظنهم بفعالهم القبيحة أنهم (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون..البقرة/ 9)، وأنهم العون الوحيد للكفر والكافرين.. وبأن نفاقهم لا يظهر إلا في وجود قوتين متصارعتين يتذبذب بينهما على ما هو عليه الحال الآن خلافاً لعصر الخلفاء الذي خمدت فيه قوة الكفر .. وأوضحت أنهم لخفائهم أخطر في حربهم المسلمين من الأعداء الظاهرين وأن أخطر ما في حربهم للإسلام سهولة الاستحواذ على عقول البسطاء من عامة المسلمين ثم نشر الفتنة بألوانها بينهم وأن شخصاً واحداً يستطيع أن يفسد الآلاف من هؤلاء السذج كما استطاع ابن سلول حين رجع بثلث الجيش في غزوة أحد على سبيل المثال، ومسيلمة الذي أفلح في إفساد عقيدة عشرات الألوف من أهل اليمامة، وابن سبأ الذي استطاع أن يصدع كيان الأمة بعد مقتل عثمان .. كما أفصحت آيات الذكر الحكيم عن تحالفاتهم مع جميع أطياف الكفر لكونهم- من الناحية المادية وحسب نظرتهم للأمور- الأكثر عدة وعتاداً ولكون صحبتهم- من وجهة نظرهم- أخف ضرراً وأيسر عبئاً.. ولم تعذرهم فيما أقدموا عليه من جرائم في حق دينهم وذويهم لا في الدنيا حيث الذلة والاستكانة ولا في الآخرة حيث العذاب المهين في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة.. ووصفتهم بالحرص على الدنيا والإرجاف والكبر والبخل والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والتكاسل عن الصلاة إشاعة الفاحشة في المؤمنين والخوف منهم وبكثرة الحلف وأظهرت مدى خطورتهم وعداوتهم لأهل الإيمان في عصر لم يجرئوا فيه على حمل السلاح في وجوههم، بل ونزل فيه قول الله تعالى: (هم العدو فاحذرهم) كذا بأسلوب القصر المفيد أنهم العدو البالغ العداء لا غيرهم، وبأنهم في الدنيا في قلق نفسي لا يستقرون على حال (يحسبون كل صيحة عليهم .. المنافقون/4)، الأمر الذي يعكس ما في بواطنهم من وساوس وتصورات لأنهم متلبسون بجرائم من الكذب والبهتان فهم لذلك على حذر دائم، ومع احترافهم الكذب والحذر الشديد سرعان ما ينكشف بهتانهم (إن الله مخرج ما يحذرون ..التوبة/64)، ولا يهنأ لهم مقام (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورون فيها إلا قليلاً .. التوبة/ 60).
وفي نور الذكر الحكيم وعلى ضوء ما أفادته آياته المحكمات وأشارت إليه السنة الصريحة والعقل الصحيح أفتى أهل العلم بجواز قتل المسلم الذي تترس به العدو إذا تحقق في قتله الخلوص إلى العدو فما بالك بمن قاتل من المنافقين دون العدو، وضحى بنفسه في سبيله، كما أفتوا بأن التحرج من قتال أهل النفاق إنما كان في حال عدم مساهمتهم في قتال وقتل أهل الإيمان واكتفائهم في معاداة المسلمين بحرب المؤامرات والدعايات "حتى لا يستغلوا ذلك- على حد ما ذكر د/ عبد الحليم حفني في كتابه (أسلوب القرآن في كشف النفاق ص71)- في الدعاية لمصلحتهم ضد المسلمين"، أما مع مواجتهم المسلمين وتعاونهم في ذلك مع العدو فلا فرق بينهم إذاً وبين أهل الكفر على ما أفاده ابن القيم في (مفتاح دار السعادة ص 76) وكما أفاده إجماع المفسرين فيما سقناه لهم في آيات سورة المائدة سيما وقد جمع القرآن بين الفريقين وأمر الله نبيه بمجاهدتهما معاً، وأفاده كذلك كلام الشيخ سيد سابق في كتابه فقه السنة 3/ 75 حيث نص على "أن حكم القرآن في هؤلاء الذين يتعاونون مع الاستعمار وأعداء العرب والمسلمين بيّن واضح، وأن ذلك خيانة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وأنهم لم يراعوا حق الإسلام ولا التاريخ، ولا حق الجوار ولا حق المظلومين، ولا حق حاضر هذه المنطقة ولا حق مستقبلها، وهؤلاء الخونة بتصرفهم هذا قد باعوا أنفسهم للشيطان، وسجلوا على أنفسهم الخزي والعار خزي الدهر وعار الأبد".
وقد حدا ما ذكرنا بـ 29عالماً من علماء السعودية يمثلون غيرهم من العلماء وكذا بعلماء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالأزهر الشريف لأن يصدروا فتواهم التي تقضي بعدم جواز قتال رجال المقاومة الذين يقومون بواجبهم في صد وإخراج المحتل ولا الاعتداء عليهم وبعدم جواز التعاون مع أعداء الإنسانية أو تنفيذ مخططاتهم التي يدخل فيها بالطبع تنظيم الانتخابات التي تكرس احتلالهم أو تمكن لهم وبعدم جواز اتخاذهم أولياء أو مدهم بالمعلومات تحت أىّ ظرف من الظروف .. ففي خطابهم المفتوح إلى الشعب العراقي المجاهد دعا علماء السعودية فيما يشبه الإجماع إلى التحلي بالإخلاص والتخلي عن المطامع الدنيوية وحظوظ النفس والمصالح الشخصية والحزبية والفئوية، ونصحوا فيما يشبه وضع النقاط على الحروف بأنه في ظل هذا الوضع القائم الذي يمر به أخوة الإيمان والعروبة في العراق البلد الشقيق وفي ظل الظروف الصعبة الداعية إلى الانقسام وقيام حكومة مهيمنة تابعة للمحتل وحتى يأتي وعد الله بالنصر، يجب
أولاً: "التعاون وإمضاء العدل والإنصاف فيما بينكم, ورفق بعضكم ببعض, وتجنب أسباب الفتن وموجباتها التي تطل برأسها في هذه المرحلة الحرجة، ومن أعظم أسباب الفتن التعاند وإعجاب كل ذي رأي برأيه, وأن يظن بنفسه الصدق والصواب وبالآخرين الريبة وسوء النية، وهذا يمهد للحرب التي ينتظرها الكثيرون من خصوم هذه الأمة, ويسعدهم أن تقع بأيدينا لا بأيديهم.
2- ثم إن من شروط النجاح فهم الظرف والمرحلة والواقع الذي يعيشه الإنسان فهماً جيداً، فإن أي طموح أو تطلع لا يعتد بالرؤية الواقعية، ولا يقرأ الخارطة بكل تداخلاتها وتناقضاتها وألوانها، فإنه يؤدي به إلى الفشل، وإذا كان الله تعالى قال: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ .. الأنفال/ 60)، فإن أعظم القوة هي قوة العقل والنظر والرؤية الاستراتيجية، وأكثر الإشكالات تأتي من جهة اختلاف الرؤية للواقع وعدم تمثله بشكل صحيح, أو من النظر إليه من زاوية واحدة, أو من التعويل على صناعة المستقبل دون اعتداد بالحاضر, أو إدراك لصعوباته، وهذا شأن يعز إدراكه على الكثيرين، ويحتاج إلى رؤية جماعية ذات معايشة وفهم ودراية ودربة وتعقل وتجربة.
3- ولا شك أن جهاد المحتلين واجب على ذوي القدرة، وهو من جهاد الدفع, وبابه دفع الصائل, ولا يشترط له ما يشترط لجهاد المبادأة والطلب، ولا يلزم له وجود قيادة عامة، وإنما يعمل في ذلك بقدر المستطاع، كما قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)، وهؤلاء المحتلون هم - ولا شك - من المحاربين المعتدين الذين اتفقت الشرائع على قتالهم حتى يخرجوا أذلة صاغرين بإذن الله، كما أن القوانين الأرضية تضمنت الاعتراف بحق الشعوب في مقاومتهم.
وأصل الإذن بالجهاد هو لمثل هذا، كما قال سبحانه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ علَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ .. الحـج/ 39)، وقد قرر سبحانه سنة التدافع التي بها حفظ الحياة وإقامة العدل وضبط الشريعة، فقال: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.. الحـج/ 40)، فالمقاومة إذاً حق مشروع، بل واجب شرعي يلزم الشعب العراقي الدفاع عن نفسه وعرضه وأرضه ونفطه وحاضره ومستقبله ضد التحالف الاستعماري كما قاوم الاستعمار البريطاني من قبل.
4- لا يجوز لمسلم أن يؤذي أحداً من رجال المقاومة, ولا أن يدل عليهم فضلاً عن أن يؤذي أحداً من أهليهم وأبنائهم, بل تجب نصرتهم وحمايتهم.
5- يحرم على كل مسلم أن يقدم أي دعم أو مساندة للعمليات العسكرية من قبل جنود الاحتلال، لأن ذلك إعانة على الإثم والعدوان، أما ما يتعلق بمصالح البلد وأهله- من توفير الكهرباء والماء والصحة والخدمات وضبط المرور واستمرار الأعمال والدراسة وديمومة المصالح العامة ومنع السرقة ونحوها- فلا بد من السعي في توفيرها بحسب الإمكان.
6- من مقررات الشريعة الثابتة المستقرة- التي لا خلاف عليها بين أهل الإسلام- حفظ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.
ولم يرد في القرآن وعيد على ذنب بعد الشرك كما ورد في وعيد من قتل مؤمناً متعمداً، قال الله سبحانه: (وَمَن يَقْتُل مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا .. النساء/ 93)، وفي صحيح البخاري عَن ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم: (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ ، مَا لَمْ يُصِب دَمًا حَرَاماً)، ولسنا نعرف لغة أقوى وأوضح وأصدق في إقامة الحجة وقطع المعذرة عن المتأولين والمتحايلين والمتساهلين وأكثر حفظاً لدماء المسلمين وأعراضهم من هذه اللغة النبوية المحكمة، ولهذا يجب أن يحفظ هذا الأصل الذي هو حقن دم المسلم، وتحريم ماله وعرضه وعدم فتح باب التأويل في ذلك.
7- من المصلحة الظاهرة للإسلام والمسلمين في العراق وفي العالم ألا يستهدف المستضعفون ممن ليسوا طرفاً في النـزاع، وليست دولهم مشاركة في الحملة العسكرية على العراق كمن يقومون بمهمات إنسانية أو إعلامية أو حياتية عادية لا علاقة لها بالمجهود الحربي [ويضيف كاتب هذا المقال: بأن ذلك مشروط بألا يكونوا في مهام قتالية أو تبشيرية لكونهم حينذاك في حكم المحاربين الذين لا حرمة في دين لدمائهم]، وقد قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، وقد ثبت في الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم- ترك قتل المنافقين وعلله بقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابهُ)، [ونضيف: أن ذلك مشروط كذلك بألا يشاركوا العدو في حربه، فإن المنافقين- على حد ما ذكر ابن القيم في مفتاح دار السعادة ص 76- لم يكونوا يقاتلون المسلمين- كما يفعل منافقو أيامنا- بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم. أ.هـ يعني على عكس ما تفعل شرطة وحراس مصالح وجنود أمريكا وحكومتها العميلة تماماً، وما تقرر هنا هو ما أفاده أهل التفسير فيما سقناه لهم سلفاً لأنه ما كان أحد منهم في زمن النبي وأصحابه ليجرأ أن يرفع بذلك رأساً أو يشارك أهل الكفر علانية في حرب، وإلا فالإجماع على جواز قتل من تترس بهم العدو ممن لم يحاربوا فما بالك بمن يشارك العدو بسلاحه].
8- إن المحافظة على وحدة العراق مطلب حيوي وضروري، وهناك أصابع خفية تحاول إيقاد نار الفتنة, وتمزيق العراق إلى طوائف, وإثارة المعارك الداخلية بين الشيعة والسنة, أو بين الأكراد والعرب، ومثل هذا الاحتراب الداخلي -الذي قد ينجر إليه المتسرعون من كل فئة- ضرر ظاهر وخدمة مجانية لليهود الذين يتسللون إلى العراق، ولقوى التحالف التي توظف الخلاف في ترسيخ سيادتها, وتسليط كل طرف على الطرف الآخر يقتل رموزه, ويفشي أسراره، والمحصلة النهائية أن كل فئة تقول: الأمريكان خير لنا من هؤلاء، ولهذا يجب أن يتواضع العراقيون جميعاً على أن حقهم أن يعيشوا بسلام – تحت راية الإسلام- بعضهم إلى جوار بعض، وهذا وضع تاريخي مرت عليه قرون طويلة, وليست هذه الفترة الحرجة من تاريخ العراق بالفرصة الذهبية التي يطمع كل طرف أن يوظفها لصالحه، والأولوية في هذه المرحلة هي لترسيخ وحدة البلد والمصالحة الداخلية وتجنب أسباب الفتنة والاحتراب, وكف بعض الطوائف عن بعض، فهذه مصلحة مشتركة.
9- إذا استطاع أهل الإسلام عامة والمنتسبون إلى الدعوة خاصة أن يتجهوا إلى الإصلاح والبناء والإعمار المادي والمعنوي والأعمال الإنسانية والتربوية والعلمية والمناشط الحيوية, وكانوا قريبين من نبض الناس ومشاعرهم, متصفين بالحلم والصبر وسعة الصدر، وتركوا خلافاتهم جانباً - إذا استطاعوا ذلك - فسيكون لهم في بناء البلد وإعماره وقيادة مؤسساته تأثير كبير، والبلد الآن في مرحلة تشكل وتكون, والأسبقية مؤثرة، خصوصاً إذا صحبها إتقان لفنون الإدارة والتدريب العملي والعمل الجماعي المؤسسي، لذا يجب الاستفادة من المساجد والمدارس وغيرها في توجيه الناس ومخاطبتهم واستثمار وسائل الإعلام، من الإذاعات والقنوات الفضائية والصحف والمجلات، وإقامة الدروس والمحاضرات والحلقات على هدى وبصيرة وعلم وتأسيس صحيح، بعيداً عن التحيز والهوى والموقف الشخصي والحزبي، وبعيداً عن إقحام الناس في الانتماءات الخاصة والمواقف الضيقة، والخلافات المذهبية التي تؤدي إلى الشتات والفرقة والاختلاف والتطاحن.
10- ونوصي إخواننا المسلمين في العالم بالوقوف إلى جنب إخوانهم في العراق بالدعاء الصادق والتعاطف والتراحم والنصرة قدر الإمكان، كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً وهم يشهدون معاناتهم في قبضة المعتدين بالقصف العشوائي والتدمر والقتل الأعمى الذي طال معظم مناطق العراق، ولعل من آخرها ما نشهده اليوم في مدينة (الفلوجة) الصامدة المنصورة- بإذن الله- وما حولها، ونوصيهم بإعانة إخوانهم بالرأي السديد والنظر الرشيد المتزن البعيد عن التسرع والاستعجال, وأن يكفوا عن إطلاق الفتاوى المربكة ذات اليمين أو ذات الشمال مما يتسبب في اضطراب الأمر بينهم، ونوصيهم بمؤازرة الشعب العراقي في محنته الأليمة، وأن تسارع الجمعيات والمؤسسات الخيرية إلى السعي في سد حاجة العراقيين للغذاء والدواء واللباس وضروريات الحياة.
نسأل الله أن يحفظ شعوب الإسلام في العراق وفلسطين وفي كل مكان, وأن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً، والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه والحمد الله رب العالمين.
الموقعون:
الشيخ الدكتور أحمد الخضيري أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
الشيخ الدكتور أحمد العبد اللطيف أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى
الشيخ الدكتور حامد بن يعقوب الفريح أستاذ التفسير بكلية المعلمين بالدمام
الشيخ الدكتور الشريف حمزة الفعر أستاذ أصول الفقه بجامعة أم القرى
الشيخ الدكتور الشريف حاتم العوني أستاذ الحديث بجامعة أم القرى
الشيخ الدكتور خالد القاسم أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود
الشيخ الدكتور سعود الفنيسان أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة الإمام
الشيخ الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي أستاذ العقيدة في كلية الشريعة – أبها
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي أستاذ العقيدة في جامعة أم القرى سابقا
الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة المشرف على مؤسسة الإسلام اليوم
الشيخ الدكتور سليمان الرشودي محام
الشيخ الدكتور صالح بن محمد السلطان أستاذ الفقه في جامعة القصيم
الشيخ صالح الدرويش القاضي بالمحكمة العامة في القطيف
الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن علوش مدخلي أستاذ الحديث في كلية المعلمين
الشيخ الدكتور عبد العزيز الغامدي أستاذ الفقه بجامعة الملك خالد بأبها
الشيخ الدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام
الشيخ الدكتور عبد الله بن عبدالعزيز الزايدي أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام
الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد مدير الجامعة الإسلامية سابقاً
الشيخ الدكتور عبد الله بن وكيل الشيخ أستاذ الحديث في جامعة الإمام
الشيخ الدكتور عبد الوهاب بن ناصر الطريري نائب مشرف مؤسسة الإسلام اليوم
الشيخ الدكتور علي بن حسن عسيري أستاذ العقيدة في كلية الشريعة- أبها
الشيخ الدكتور علي بادحدح أستاذ الحديث وعلوم القرآن – جامعة الملك عبد العزيز
الشيخ الدكتور عوض بن محمد القرني أستاذ أصول الفقه في جامعة الإمام سابقا
الشيخ الدكتور قاسم بن أحمد القثردي أستاذ التفسير في كلية الشريعة- أبها
الشيخ الدكتور محمد بن حسن الشريف أستاذ القرآن وعلومه بجامعة الملك عبدالعزيز
الشيخ الدكتور محمد بن سعيد القحطاني أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى سابقا
الشيخ الدكتور مسفر القحطاني أستاذ الفقه بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
الشيخ الدكتور مهدي محمد رشاد الحكمي أستاذ الحديث في كلية المعلمين- جازان
الشيخ الدكتور ناصر العمر المشرف على موقع المسلم
نشر أصل الخطاب في موقع الإسلام اليوم الالكتروني على الشبكة العنكبوتية في 2/9/1425 (الموافق 05/11/2004جرية).
= كما تدارس مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي من أحداث جسام، وما يمتلئ به واقعنا المعاصر من نذر الشر والدمار الذي يصنعه جنون القوة التي تدوس بأقدامها كل القيم والأعراف الدولية التي جاهدت البشرية، وضحت في سبيلها عبر التاريخ بالأنفس والأموال، وعاشت تعاني لإعلانها و الالتزام باحترامها.. تدارس المجمع هذه الأحداث، واستصحب ما يحيط بعالمنا العربي و الإسلامي من نذر الدمار والشر التي تمثلها الحشود العسكرية مدججة بأقوى وأخطر آلات الدمار.
وأيقن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف أن أمتنا العربية و الإسلامية بل وعقيدتنا الدينية (الإسلام) هي هدف أساسي لكل هذه الحشود العسكرية التي تستهدف ملايين البشر من أبناء أمتنا، وتستهدف كذلك عقيدتنا وكافة مقدساتنا، وكل ما يملكه عالم العرب والمسلمين من مصدر الثروة والقوة، متمثلاً هذا كله في مرحلته الأولى ضربَ العراق واحتلال أرضه وامتلاك ثروته الوفيرة من النفط، وأيقن المجمع أن هذا الإصرار على ضرب العراق ما هو إلا مقدمات لضربات أخرى تستهدف بقية الوطن العربي الذي أعلنت القوى المعادية للإسلام و العروبة أنها بعد السيطرة على العراق ستعيد تقسيم وترتيب الأوضاع في المنطقة العربية بما يحقق المصالح الأمريكية والإسرائيلية ويُنهي مقاومة الشعب الفلسطيني.
وفي ضوء ما سبق يعتقد الجميع أن العدوان على العراق واقع لا محالة، وهنا وبمنطق و شريعة الإسلام أنه إذا نزل العدو في أرض المسلمين يصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم و مسلمة، لأن أمتنا العربية والمسلمة ستكون أمام غزوة صليبية جديدة تستهدف الأرض والعرض والعقيدة والوطن.
وبناء عليه فإن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف يدعو العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم أن يكونوا على استعداد للدفاع عن أنفسهم وعن عقيدتهم، وأن يعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا، ويكونوا فوق ما يحيطهم من خلافات حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ويدعو المجمع جميع العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم ألا يهنوا وألا يضعفوا أمام هذا العدوان لأن الحق تبارك وتعالى متكفل بنصرة دينه وإظهاره على الدين كله، وختاماً يذكر المجمع بقوله تعالى: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، السيد أبو الوفا عجور.
ونستطيع بعد ذلك القول: بأن هذه الفتنة التي أطلت برأسها وتمثلت في الاحتلال الأمريكي وتحالفه البغيض للعراق وما أحدثه أولئك المجرمون القتلة أعداء الحرية والديمقراطية والإنسانية في تلك البلد المسلم، من دمار وخراب طال الأرض والشجر والإنسان، ومن سفك دماء وحصد لا نقول لأرواح عشرات الآلاف من الأبرياء بل لمئات الآلاف، وقتل جرحى واغتصاب نساء واعتداء على أطفال، وانتهاك حرمات وتدنيس مقدسات وهدم مساجد ونهب متاحف وسرقة آثار، وارتكاب جرائم حرب واستخدام أسلحة دمار شامل وقنابل محرمة دولياً بلغت مئات الآلاف من الأطنان، واحتلال لأرض الغير بالقوة عن قصد وبعد تفادي أسباب ذلك والعلم به، واستعمال لأعمال أقل ما توصف به أنها أعمال بلطجة وهمجية، وعصف بما يدين هذه الأعمال البربرية من قرارات دولية، وإعلان بأن ما ذكر يأتي في إطار حرب صليبية، وفرض لعقيدة النصارى عن طريق مبشرين، واستحضار لليهود وإعطائهم الحق في حرب وقتل وتعذيب المسلمين وشراء أراضيهم في كركوك والموصل وأربيل تمهيداً لتطويق بلاد المسلمين ولتحقيق حلمهم من النيل إلى الفرات، وسماح لآلاف من جنودهم ولعشرات من حاخاماتهم للمشاركة في هذه الحرب القذرة، وعدم إخلاء الشوارع والمناطق الساخنة من جثث المسلمين وتركها تتعفن وتصبح مرتعاً لكلاب أتوا بها لهذا الغرض، وتقطيع أطباء أمريكيين لأوصال وأعضاء القتلى وبعض الجرحى العراقيين بقصد المتاجرة بها وبيعها للمرضى وللمراكز الطبية في أمريكا على ما أفادته تقارير أجهزة الاستخبارات الأوربية مؤخراً، وحرمان الجرحى من مواد الإغاثة الطبية سعياً إلى التخلص منهم، وتدمير العديد من المستشفيات والعيادات، ونهب محتوياتها أحيانا وضرب العاملين فيها حتى من الأطباء، وفرض أشخاص غير مرغوب فيهم ولا يمثلون هذا الشعب المقهور، وإكراه على اتباع نظم انتخابية تمهيداً لتعيينهم ولفرض أمر واقع على نمط ما جرى في تجربة أفغانستان، واصطناع ديمقراطيات مفصلة ومعدة سلفاً لتحقيق مصالح المحتل، وتداعي الأمم الكافرة من كل حدب وصوب، ومنع شباب المسلمين- في الوقت ذاته- من مناصرة إخوانهم في الدين، وتبجح بإمرار كل ذلك بحجج كاذبة ودعاوى مختلقة يقومون بأنفسهم بتفنيدها ويقرون- لكن بعد فوات الأوان وبعد تحقيق الهدف منها وبعد ارتكابها عن عمد- بخطئها .. ونضيف لما ذكرنا ما وقع من إدانةِ خبراء وعسكريين ومختصين من نفس دول الاحتلال، ومن اعترافات صريحة منهم ولأكثر من مرة بخطأ هذه الحرب، ومن تظاهرات اندلعت من جميع دول العالم وفي قلب الدول المشاركة، ومن سحب بعض هذه الدول لقواتها بعد أن أدركت خطأ هذه الحرب ..إلخ.
كل هذه الأمور جعلت ليس أبناء العراق فحسب بل المسلمين في كل بقاع الأرض في المحك وأمام اختبار صعب (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)، فهل إلى خروج من هذا النفق المظلم وطريق النفاق المسدود من سبيل غير سبيل الجهاد؟ وهل من ملبٍ للنداء وتائب مقلع عن نفاقه معتصم بربه مشمر لرائحة الجنة مدافع عن دينه وأرضه وعرضه؟ هذا أملنا وليس لنا أمل سواه (إن المنافين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً . إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً . ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً.. النساء/ 145:147)، (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.. آل عمران/ 126)، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. يوسف/ 21).
المقال الثاني: (سنة الله في استبدال أهل الصلاح بمتخذي الكافرين أولياء من دون المؤمنين)
يكفي- كي نقف على فظاعة ما ارتكبته قوات الاحتلال والمارينز في حق مسلمي العراق ولا زالت، وكي نتعرف على مدى الحقد والرغبة في الانتقام والتشفي لدى هذه القوات- لأن نشير إلى ما ذكره الكولونيل (مايكل شوب) في 14/ 11/2004 أثناء اجتياح الفلوجة في قوله: "لن ندع حجراً واحداً في المدينة دون أن نقلبه" .. وإلى ما قيل عن قتل آلاف الضحايا من النساء والأطفال والعجزة، وعن تدمير 33 مسجدًا كانت خالية من أية أسلحة ولم تستخدم إلا للصلاة ولمعالجة المصابين تم تسويتها بالأرض.. وإلى ما جاء على لسان مصدر عسكري أوربي عن قيام فريق سري من الأطباء الأمريكيين الذين يرافقون قوات الاحتلال في العراق بنزع وتقطيع الأعضاء البشرية للقتلى وبعض الجرحى قبل القضاء عليهم نهائياً وبيع هذه الأعضاء إلى المراكز الطبية والمرضى في أمريكا والمتاجرة فيها .. وإلى ما ذكره مراسل وكالة (أسوشيتدبرس) الأمريكية (بلال حسين) في تقريره الذي أعرب فيه عن أسفه من فتح النار على المنازل ومقتل من فيها بطريقة عشوائية، وما وصفه بقوله: "رأيت بأم عيني مصرع عائلة كاملة من خمسة أفراد برصاص المروحيات الأمريكية عندما كان أفراد هذه الأسرة يحاولون عبور نهر الفرات"، ومن أنه بنفسه دفن أحد أفراد هذه الأسرة عند ضفة النهر.. وما ذكره الكولونيل (ليوناردو)- الذي كان قائداً للفرق المدنية التابعة للكتيبة القتالية ومكلفاً بمهمة طمس معالم جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات المارينز في حي الجولان ومواراة القتلى التراب في مقابر جماعية قبل السماح لوكالات الأنباء بتصويرهم- في تصريحاته لوكالة الأنباء الفرنسية في 17/ 11/ 2004 من أنه يتوقع "أن يبلغ عدد الجثث في حي الجولان وحده حوالي 600 جثة".. وكذا ما ذكره مراسل وكالة الأنباء الفرنسية (فارس الديلمي) في (يوميات صحفي تحت النار في الفلوجة) من رائحة الموت التي كان يشمها في كل مكان، ومن أشلاء الأبرياء المتناثرة في الشوارع والبيوت التي تهدمت على أصحابها، ومن استهداف مراكز العلاج وتعمدهم ترك الجرحى من النساء والعجائز والأطفال ينزفون حتى الموت، ومن أنه سمع امرأة تبكي على مقتل طفلة وطفل لها في الثانية عشرة والعاشرة على يد قوات المارينز، إلى غير ذلك مما تشيب من هوله الولدان.
ويقتضي المقام هنا- وبعد أن تسنى لنا تفنيد حجج المنافقين الذين هان عليهم ما يجري لذويهم .. من الوجهة الشرعية- أن نؤكد على أن المبررات التي استند إليها أعداء الإنسانية ومن والاهم من أهل النفاق العلمي والعملي لشن هذه الحرب الظالمة، لا تعدو أن تكون سيلاً من الافتراءات والأضاليل، ففيما يخص أبرزها وهو ما احتجت به هذه القوى الباغية من وجود علاقة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة وأحداث سبتمبر، أكدت جميع وكالات الأنباء ما كان مقرراً من قبل من أن صدام من حيث الفكر ينتمي إلى الجناح العلماني في الحركة القومية، وهو من حيث المسيرة يملك سجلاً حافلاً من الصدامات مع الإسلاميين داخل العراق وخارجه، ولم يستطع أحد- رغم وجود الدافع القوي- أن يقيم علاقة من أي نوع بينه وبين أسامة بن لادن بل لا يبعد ألا يكون صدام قد سمع عنه فضلاً عن أن يكون له دخل أو تأثير في حياته، ولعل هذا هو ما حدا بمستشار الأمن القومي الأسبق (زيجينو بريجنسكي) أثناء مشاركته في برنامج (سي إن إن) الإخبارية الأمريكية ووفق ما جاء في أهرام 28/ 12/2004 لأن ينتقد الرئيس الأمريكي الأسبق في غزوه العراق، في إشارة منه إلى أن واشنطن لم تكن في حاجة للإطاحة بالرئيس العراقي لأنها نجحت في احتوائه، مؤكداً على ضرورة أن تخفض الإدارة الحالية من سقف طموحاتها في العراق، وحسبنا لتفنيد مزاعم وجود علاقة بين صدام ومبررات هذه الحرب ما جاء في اعتراف وزير الدفاع الأمريكي (رامسفيلد) بتاريخ 4/ 10/ 2004 للمرة الأولى "بعدم وجد دليل على علاقة الرئيس السابق (صدام حسين) وهجمات 11 سبتمبر 2001 أو تنظيم القاعدة".. لكن هيهات فإنها التطلعات والحجة التي وجد بوش من خلالها فرصته لتمرير احتلال العراق طمعاً في السيطرة على ثاني أكبر مخزون بترولي في العالم، كما وجد في أحداث سبتمبر الحجة في احتلال أفغانستان والسيطرة على بترول بحر قزوين.
أما بالنسبة لما قيل عن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل فقد كانت الدنيا كلها على دراية أن قدرات العراق في هذا المجال قد دمرت تماماً، وقامت فرق التفتيش- التي توافدت على بغداد منذ عام 1991وبعد صدور قرار مجلس الأمن رقم1441الذي كان في نوفمبر عام 2002والذي أعطى للمفتشين الحق في دخول أي مكان وفي أي وقت- تجوب البلاد طولاً وعرضاً لتؤكد في النهاية وتحديداً في منتصف ديسمبر 2002 حقيقة أن العراق لا يمتلك أية قدرة نووية، وهو ما دعمته تقارير لجان التفتيش التي عرضت على المجلس فيما بعد وتضمنت المطالبة بمنحها مهلة إضافية للتأكد من نتائج أعمالها، وكانت الطامة الكبرى ما أعلنت عنه الإدارة ووزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) مؤخراً وتحديداً في 12/ 1 / 2005 من وقف عمليات البحث عن أسلحة دمار شامل في العراق ومطالبة الرئيس الأمريكي (بوش) بتقديم تفسير للشعب الأمريكي عن السبب وراء خطئه الكبير لشن الحرب على العراق، واعتراف الأخير وقوله بأن "الأسلحة التي كنا نتوقع وجودها كانت بناء على معلومات استخبارية غير صحيحة"، وقد جاء ذلك تعقيباً على تقرير نشرته صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية يفيد توقف التفتيش عن هذه الأسلحة قبل عيد الميلاد بناء على ما أوضحه المتحدث باسم البيت الأبيض (سكوت ماكليلان) من تأكيد رئيس فريق المفتشين الأمريكي في العراق (تشارلز دولفر) على عدم العثور على أسلحة الدمار العراقية التي كانت ذريعة لشن الحرب ضد العراق .. وحسب ما جاء في أخبار 8/ 10/ 2004 وأهرام 13/ 1/ 2005 و 10/ 7/ 2004 القاهريتين فقد ذكرت صحيفة (الإندنبدنت) البريطانية أن تقرير (دولفر) أثبت أن غزو العراق ارتكز على تخيلات وأوهام بدلاً من معلومات أساسية، وأن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1441 أعطى للولايات المتحدة وبريطانيا حجة زائفة لتبرير غزو العراق، كما ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي ) أن (دولفر) لا يعتزم العودة إلى بغداد مجدداً .. وكانت صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية قد كشفت النقاب عن أن البحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق قد انتهى الشهر الماضي وأن (دولفر) ومعه كبار مساعديه عادوا إلى الولايات المتحدة، وأضافت أن تقريراً قدمه (دولفر) للكونجرس في سبتمبر الماضي سيكون بمثابة النتيجة النهائية لعملية التفتيش عن أسلحة العراق المزعومة، وخلص تقرير (دولفر) إلى أن العراق لم يكن لديه مخزونات من الأسلحة الكيميائية والبيلوجية وأن برنامجه النووي كان قد انتهى قبل الغزو الأمريكي البريطاني .. وقد صاحب ذلك صدور تقرير لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ الأمريكي في 9/ 7/ 2004 الذي أوردته في أربعمائة صفحة وانتقدت فيه وكالة الاستخبارات الأمريكية وواصفة المعلومات والتحليلات حول حجم أسلحة الدمار الشامل العراقية بأنها مبالغ فيها، وموضحة أن معامل الأسلحة البيلوجية المتنقلة في العراق والتي تعد من أهم المبررات التي استشهدت بها الإدارة الأمريكية لشن الحرب، غير موجودة .. ونفى التقرير مجدداً مزاعم كبار المسئولين في إدارة (بوش) وخاصة نائبه (تشيني) حول وجود علاقة بين النظام العراقي السابق وتنظيم القاعدة.
لكن ما ينبغي العلم به والتأكيد عليه هو أن الرئيس الأمريكي بوش الذي كانت لديه الرغبة الجامحة لمواصلة مسيرة أبيه ولتحقيق ما عجز الأخير عن تحقيقه، كان يخطط لغزو العراق وكان يمهد لهذه الحرب ويستعد لها منذ دخوله البيت الأبيض في مطلع عام2001، وأمام إصراره على خوضه هذه المعركة ضد العراق أراد أن يوجد لنفسه- ومن خلال قمة (الأوزو) التي حضرها معه بلير ورئيس الوزراء الأسباني ورئيس الحكومة البرتغالية- الشرعية التي عجز عن انتزاعها من مجلس الأمن، أما الاجتماع نفسه فكان أقرب إلى مسرحية هزلية اختار أبطالها أن يعرضوها بمفردهم وفي عرض المحيط الأطلنطي حتى لا يتاح لأحد أن يوقف عجلة الحرب التي أعطوها إشارة البدء ببيان أوردوا فيه أن العراق يمثل خطراً على الأمن العالمي وأن قيادته قد انتهكت المواثيق الدولية وحقوق الشعب العراقي، وأعلنت هذه العصابة التي تزعمها بوش في بيانها الختامي أنها ماضية في مهمتها لإسقاط النظام العراقي عقاباً له على عدم تعاونه مع قرارات الأمم المتحدة، وفي اليوم التالي مباشرة وجه الـ (استرنج مان) إنذاره الشهير إلى حاكم العراق بالتخلي عن السلطة ومغادرة البلاد قبل 19/ 3/ 2003لتجنيب شعبه ويلات الحرب التي انطلقت بالفعل في الساعات الأولى من يوم 20/ 3وقال بوش في خطاب الحرب الذي ملأه بالأكاذيب ما نصه: "في هذه الساعة تخوض القوات الأمريكية وقوات التحالف المرحلة الأولى من العمليات العسكرية من أجل نزع أسلحة العراق وتحرير شعبها والدفاع عن العالم في مواجهة خطر كبير"، أما أساطير الأولين فقد تبدت في خطابه للجنود حين ذكر لهم: "أن مهمة تحقيق السلام في عالم مضطرب وآمال شعب مضطهد تعتمد عليكم الآن، والأعداء الذين تواجهونهم سيعرفون مقدار مهارتكم وشجاعتكم، والشعب الذي ستقومون بتحريره سوف يشهد المعاملة المشرفة والمهذبة التي تعكس روح العسكرية الأمريكية"، وبين الأكذوبة والأسطورة حمل الخطاب كثيراً من الغرور وكثيراً من الوقاحة التي تمثلت في نحو قوله: "سوف نمضي قدماً للعمل من أجل السلام، سوف ندافع عن الحرية وسنأتي بالحرية للآخرين وسوف ننتصر فليبارك الرب بلدنا وكل من يدافع عنا".
إذ سرعان ما تبدت هذه الحرية في اجتياح العراق وإغراقه في دوامة العنف وفي بحر من الدماء وفي عمليات السادية والاغتصاب وجرائم الحرب التي سادت البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وفيما ذكرناه وعلى ألسنتهم ما يكفي في إثبات حقيقة نواياهم وخبث طويتهم.
وقد كانت بداية كشف مزاعم عصابة لصوص البترول العراقي وآثاره التاريخية وفضح افتراءاتهم فيما برروه لأنفسهم لشن هذه الحرب.. تقريراً موجزاً بثته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في إطار تغطيتها لخطاب بوش عن نهاية العمليات العسكرية، وفيه وردت معلومة عن قيام المخابرات البريطانية بتضخيم الخطر النووي العراقي، وأفسد التقرير فرحة (بلير) وأعاده مجدداً إلى قلب العاصمة حيث المطالبة الشعبية والنيابية لمعرفة حقيقة الأمر وراح (ديفيد كيلي)- الرجل الذي زود المحرر بالمعلومة القنبلة من واقع زياراته الـ36 للعراق وانطلاقاً من التزامه الأخلاقي- يكشف عن المزيد من المعلومات عن أكذوبة الأسلحة العراقية قائلاً: "إنه من غير المحتمل العثور على مثل هذه الأسلحة"، وبدأت أصابع الاتهام تتجه لـ (بلير) وكانت المحصلة أن انتحر (ديفيد) نتيجة ضغوط مورست ضده، وتصور (بلير) أن بموته أغلقت القضية لكن معارضوه واصلوا جهودهم وتمكنوا من إجباره على الاعتراف بوجود أخطاء مخابراتية أدت إلى تضخيم الخطر العراقي وتشكيل لجنة تحقيق لبحث الأمر.
ولم يكن بوش أسعد حظاً، ففي واشنطن كان صدى (كيلي) واسعاً حيث بدأت الصحف في التنقيب وراء الحقيقة مطالبة الرئيس بوش بأن يقدم دليلاً واحداً على صدق أيٍّ من الاتهامات التي رددها قبل غزو العراق، حتى العلماء العراقيين الذين وقعوا في الأسر واعتبرهم صيداً ثميناً لم يجد لديهم ما يستر به عورته في مواجهة خصومه، واضطره ذلك لأن يهرب من كذبة إلى كذبة، ولما لم يجد أحداً يصدقه في زعمه بأن العراقيين هربوا أسلحتهم لسوريا وأن صدام كان يخبئها في أماكن غير معروفة وأنه كان ينوي تجهيز بلاده بأسلحة دمار شامل وأن مجموعة المخابرات البريطانية والأمريكية قد عثرت على مختبرات وتجهيزات لصنعها .. عاد مجدداً إلى القول بأن عمليات البحث لا زالت جارية، فكان ذلك أشبه بنكتة سخيفة إذ كيف تكون قواته مسيطرة على كل شبر من أرض العراق دون أن يتوصل للمبرر الرئيسي لخوض معركته ومجابهة خصومه في الداخل والخارج، وحين أعيته الحيل قرر تشكيل لجنة تحقيق في المعلومات المخابراتية بشأن أسلحة العراق قبل الحرب، وبدل أن يعترف بخطأ ما أقدم عليه ويقوم بسحب قواته المعتدية من أرض المسلمين في العراق، راح يؤجل إعلان نتيجة هذه التحقيقات إلى ما بعد إعادة فترة رئاسته، لكن من جهتها لم تتوقف الصحف الأمريكية عن مساعيها لكشف حقيقة الأمر، حتى تمكنت من الوصول إلى أدلة تدحض مزاعمه وتضليله لشعبه وخداعه للعالم كله على امتداد عام كامل، وتبين أن أجهزة مخابراته استمدت معلوماتها من ضابط سابق في المخابرات العراقية يدعي أحمد جلبي كان يتقاضى340 ألف دولار شهرياً ويتزعم جماعة تطلق على نفسها (جماعة المؤتمر الوطني العراقي)، كان يبالغ في معلوماته التي وضعت في تقرير أجهزة المخابرات الصادر في أكتوبر عام 2002وتحولت إلى سند لشن الحرب، والمثير- وهذا للعلم وللتاريخ- أنه لم يجد حرجاً في الاعتراف بجريمته بل قال بالحرف الواحد: "إنه غير مهتم بأية اتهامات توجه إليه طالما أن الهدف من هذه المعلومات قد تحقق"، مبدياً استعداده لأن يكون كبش فداء للرئيس الأمريكي ، وقد عد بذلك مع إياد علاوي من أكبر المنافقين والخونة الذين جروا على بلادهم ويلات الحروب وتلطخت أيديهم بدماء آلاف الضحايا من الأبرياء .. وجاء رد (ريتر) مفتش الأسلحة السابق على العراق على (جورج تينيت) مدير الـ (سي أي ايه) بأن "أحاديث الإدارة الأمريكية بشأن حيازة صدام أسلحة دمار شامل لم تكن مدعومة بأدلة كافية"، جاء تأكيداً لما ذكره الأخير من أن ما حدث كان نتيجة "تناقض في بعض المعلومات التي قدمتها مصادر قبل الحرب بشأن إنتاج أسلحة بيلوجية يمكن نقلها".
ضيقت هذه التطورات من فرص الخداع على الرئيس الأمريكي بوش، فسارع في فبراير2004 إلى القول بأن "رؤيته لخطر أسلحة العراق هي نفسها رؤية البنتاجون والكونجرس ومجلس الأمن الدولي، وأن الرئيس السابق (بيل كلينتون) والكونجرس عام 1998جعلوا سياسة الولايات المتحدة هي تغير النظام في العراق بغض النظر عن التوصل إلى أدلة دامغة على وجود أسلحة دمار شامل".
تلك باختصار هي قصة الصراع بين الصليبية والإسلام في عصرنا الحاضر، وإن شئت فقل بين الكفر والإيمان، وقد تمثلت فصولها في جرائم حرب ترتكب في حق مسلمين بلا مبرر إلا أن يقولوا (ربنا الله) (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).. كما تمثلت في مبررات صيغت بإحكام بغرض النيل من الإسلام وأهله ومسوغات ترمي إلى تحقيق أهداف تصب في خدمة أعداء الإنسانية شاء الله لها أن ينكشف أمرها .. وفي أعمال فاضحة يقوم بها حانقين على الإسلام وتصرفات همجية وضعت البشرية كلها والعالم أجمع في مختبر صعب وأظهرته بجميع طوائفه على حقيقته، ليتمايز الناس وليشهدوا على أنفسهم شهادة يحاسبون بموجبها أمام صاحب القوى والقدر يوم يقوم الناس لرب العالمين، ويسجلها التاريخ وملائكة الرحمن لهم أو عليهم ويتحدد من خلالها ما إذا كانوا مع قوى الشر والبغي والعدوان، أم عليهم في معسكر الإيمان ضدهم وضد أعمالهم البربرية، أم أن الأمر عندهم يستوي .. فما بال منافقي العرب والعراق يواصلون سعيهم ويصرون- على الرغم من ظهور الحقائق- على القتال في سبيل الطاغوت ويكرسون احتلاله بشتى الطرق والوسائل؟.
لقد توالت الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية تعلن في أنحاء العالم منذ بداية هذه الحرب القذرة استياءها لما ترتكبه أمريكا وتحالفها البغيض من تدمير وإبادة جماعية وجرائم حرب في حق مدنيين، نذكر مما وقع منها في النصف الثاني من العام 2004 ما جرى في يونيو حيث تدفق أكثر من ألفي شيوعي حاملين الأعلام الحمراء وقرابة خمسة آلاف من الأورثوذكس حاملين أيقونات مسيحية على ميدان الاستقلال بوسط العاصمة (كييف) مطالبين حكومة بلادهم بسحب القوات الأوكرانية التي تقدر بـ 1600 جندي معتبرين ذلك محاولة رخيصة ومكشوفة لتحقيق مآرب شخصية ولإصلاح العلاقات التي توترت مع واشنطن .. وما جرى في 17 / 10/ 2004 من تظاهر عشرات الآلاف من ناشطي مناهضة العولمة في لندن في ختام اجتماعات المنتدى الاجتماعي الأوربي الثالث بالحرب على العراق .. وما جرى في30/ 10/ 2004 من مشاركة نحو 70 ألف شخص في مظاهرة حاشدة في روما احتجاجاً على الحرب في العراق وللمطالبة بانسحاب القوات الإيطالية البالغ قوامها 3 آلاف جندي، وذكرت وكالة (رويتر) أن المتظاهرين أغلقوا أجزاء من وسط العاصمة ورفعوا شعارات تطالب بوقف قصف المدن العراقية وأن عدداً لا بأس به من قادة المعارضة قد شاركوا في هذه المظاهرة .. وما جرى في 12/ 2004 من مظاهرات حاشدة في كندا بلغ مجموع المشاركين فيها 13 ألفاً كلهم ينددون بزيارة الرئيس الأمريكي لبلادهم ويصفونه بالجهل وبأنه مجرم حرب .. فما بال المنافقين العرب يواصلون سعيهم وتظاهراتهم، ويصرون- على الرغم من هذه الحقائق وتلك التظاهرات- على القتال في سبيل الطاغوت ويكرسون بشتى الطرق والوسائل وبزعم مكافحة الإرهاب احتلاله.. وعلى نحو ما توالت الاحتجاجات، توالت كذلك الاعترافات التي كان على رأسها اعتراف (تشارلز دولفر) رئيس فريق المفتشين الأمريكي الذي قررت الإدارة الأمريكية و (البنتاجون) على إثره وقف عمليات البحث عن أسلحة دمار في العراق، واعتراف السيناتور (جون كيري) المرشح السابق للإدارة الأمريكية الذي أعرب لشيخ الأزهر في 12/ 1/ 2005 عن أسفه للوضع الصعب للعراقيين وأقر بارتكاب الأمريكيين أخطاء فظيعة في العراق .. وكان رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي (عاموس ملكا) قد صرح بتاريخ 24/ 9/ 2001 أي عقب هجمات سبتمبر بقليل بأن العراق غير متورط في الاعتداءات التي تعرضت لها الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر، وذكر في مقابلة أجرتها معه جريدة (يديعوت أحرونوت) أنه لم يجد أي رابط مباشر بين العراق وعمليات خطف الطائرات والاعتداءات التي شهدتها أمريكا .. ومن جانبه وإبّان فاعليات المؤتمر السنوي لحزب العمال البريطاني في أواخر 9/ 2004 وتحت وطأة انتقادات شديدة واجهها من الجناح المعارض اضطر (بلير) رئيس الحزب للاعتراف بأن المعلومات التي أفادت بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، كانت خاطئة .. وعلق المراقبون على الكلمة التي ألقاها ووعد فيها بإعطاء لأولوية العملية السلام في الشرق الأوسط بأنها لن تفيد في معالجة الانقسام الشديد داخل الحزب حول العراق.
كما توالت الإدانات والانتقادات من جميع المؤسسات الصحفية والهيئات والمنظمات الراعية لحقوق الإنسان، ومن ذلك ما قامت به نقابة المحامين الأمريكيين الذين أدانوا بشدة في أغسطس 2004 لجوء العسكريين الأمريكيين لوسائل التعذيب والمعاملة القاسية وغير الإنسانية والمهينة أثناء استجواب السجناء الذين اعتقلوا في حربي أفغانستان والعراق، وطالبوا بالتحرك لمعاقبة المسئولين عن هذه الفظائع والانتهاكات، وقد سبق لهذه النقابة التي تمثل أكبر تجمع للمحامين في أمريكا أن نددت بهذه العمليات واتخذت مواقف قوية ضد سياسة بوش بشأن حرمان المعتقلين من حقوقهم القانونية .. ومنه ما أعلنته إحدى هذه الجماعات المعنية بحقوق الإنسان الأمريكية في أواخر نوفمبر من العام 2004 من أنها رفعت دعوى على مسئولين كبار منهم وزير الدفاع (رامسفيلد) و (جورج تينيت) المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي إي إيه) وثمانية مسئولين آخرين في محكمة بألمانيا، تتهمهم بارتكاب جرائم حرب في سجن أبو غريب مبررين ذلك بأن القانون الألماني رائد في هذا المجال .. ومنه ما جاء في صحيفة (نيويويرك تايمز) الأمريكية بتاريخ 5/ 10/ 2004 من أن "الرئيس جورج بوش عمد إلى تضليل الشعب الأمريكي من خلال الزعم بأن العراق يوشك على صنع قنبلة نووية ربما يستخدمها ضد أمريكا- وذلك لإعطاء المبرر ومن ثم الحصول على الموافقة على غزو أمريكا للعراق"، ووجهت الصحيفة بعد أن فندت تلك المزاعم وكشفت عن حقيقة معرفة مستشاري بوش بحقيقة الأمر انتقاداتها بصورة مباشرة لـ (كونداليزا رايس) وقالت: "إن وظيفتها تتمثل في ضمان أن يحصل الرئيس على أفضل نصيحة ممكنة بشأن قضايا حياة أو موت مثل الحرب"، وأضافت: "إذا كانت (رايس) أدت عملها وأطلعت بوش على الحقيقة فإنه يكون قد ضلل الشعب الأمريكي متعمداً، أم إذا لم تفعل فيجب عليها في هذه الحالة الاستقالة"- لكن كان لبوش الذي ضلل الشعب الأمريكي ما أراد وما كان يصر عليه من قبل وما عين لأجله بدل أن يقيلها (رايس) لتكون وزيرة لخارجيته بعد أن كانت مستشارة أمنه القومي .. ووسط غضب وانتقاد معارضي الحرب في بريطانيا أثار منح قائد غزو العراق والذي أطاح بحركة طالبان الجنرال المتقاعد (تومي فرانكس) (وسام فارس)، حفيظة منتقدي الغزو الذين أشاروا إلى تزايد أعداد القتلى من المدنيين في حرب العراق التي تكللها الفضائح وإراقة الدماء، ووصفت (أليس ماهون) إحدى أبرز معارضي الحرب من داخل حزب العمال الذي يتزعمه (بلير)، وصفت الوسام بأنه "منتهى الافتقار إلى الذوق"، وأبلغت صحيفة ((ديلي ميرور) بأن "هذا ليس هو الوقت المناسب لتكريم شخصيات عسكرية في حين نواجه يومياً بأسوأ صور الإيذاء العراقيين" .. كما جدد كوفي عنان سكرتير عام الأمم المتحدة- حسب صحيفة (واشنطن بوست)- انتقاده للولايات المتحدة في 9/ 2004 وحملها مسئولية ما يجري في العراق، ونقلت الصحيفة عن مسئولين كبار بالأمم المتحدة أن عنان سيخبر أعضاء المنظمة الدولية بأن حكم القانون الدولي تآكل من بعد هجمات سبتمبر2001 وأنه سيعلن ذلك أمام الجمعية العامة في دورتها التاسعة والخمسين أمام 64 رئيساً و25 رئيس وزراء و86 وزير خارجية، وأشارت الصحيفة أن خطاب عنان يأتي بعد أن صرح بأنه يعتبر غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة غير مشروع .. ومن تلك الإدانات الموجهة لما يجري لمسلمي العراق ما أكدته منظمة العفو الدولية في غير ما مرة من أن تصرفات قوات الاحتلال الأمريكية في العراق ضد المعتقلين العراقيين تُعَد "انتهاكًا صارخًا للقوانين الدولية"، مشيرة إلى أن الأمريكيين يعاملون المعتقلين العراقيين بطرق "قاسية وغير إنسانية ومهينة"، وما أوضحته في تقريرها الصادر في 30/ 6/ 2003 ونقلت صحيفة (الجارديان) البريطانية فقرات منه من أن "القوات الأمريكية تحتجز مئات العراقيين في مخيم أعدته في بغداد، وتحرمهم من رؤية عائلاتهم أو محامين أو حتى المثول لمحاكمة"، ولم تعطِ المنظمة في تقريرها أرقاماً محددة لإجمالي عدد المعتقلين العراقيين على يد الاحتلال الأمريكي، واكتفت بالإشارة إلى أن المحتجزين "لا يسمح لهم باستخدام المياه أو حتى الدخول إلى دورات المياه في أول أيام اعتقالهم"، وأن "القيود البلاستيكية التي تستخدمها القوات الأمريكية في تقييد المعتقلين تظل مؤثرة على أيديهم لمدة كبيرة تزيد عن شهر"، وطالبت المنظمة الدولية الولايات المتحدة والحاكم الأمريكي في العراق (بول بريمر) بمعاملة المعتقلين العراقيين بطريقة إنسانية، وبالتحقيق فيما يتردد حول استخدام القوات الأمريكية (القوة المفرطة) ضد العراقيين، بينما رفض متحدث عسكري أمريكي في العراق التعليق على التقرير، مشيراً إلى أنه لم يحصل على نسخة منه.
ومن ناحيتها أشارت (جوانا أويديران) الباحثة بالعفو الدولية: إلى أن وثائق المنظمة تشمل حالات متعددة من الإساءة للمعتقلين، من بينها احتجاز طفل يبلغ من العمر11 عاماً، احتجزته القوات الأمريكية ثلاثة أسابيع، بالإضافة إلى حادث آخر وقع في 12 يونيو 2003 عندما أطلق جنود أمريكيون النار على محتجزين قاموا بأعمال شغب، وهو ما أسفر عن مقتل شخص وإصابة سبعة آخرين من بينهم أطفال، ووصفت أيضاً حالة أربعة أشقاء من المدنيين ألقت السلطات الأمريكية القبض عليهم وقيدت أيديهم إلى الوراء بقيود شديدة ووضعت رءوسهم في أكياس، وهي نفس الإجراءات التي تتبع مع المعتقلين، وقال الأشقاء الأربعة: إن القوات الأمريكية احتجزتهم تحت أشعة الشمس الملتهبة لمدة يومين، ولم تسمح لهم باستخدام المياه، ونقل تقرير منظمة العفو عن أحد المحتجزين قوله: "قضينا أول ليلة بعد الاعتقال راقدين على الأرض في مدرسة، ولم يسمحوا لنا بالذهاب إلى دورات المياه، ولم يمنحونا مياهًا أو طعاماً" .. وفي تقرير آخر صدر في مايو 2004 اتهمت المنظمة الحكومة البريطانية بتقويض حكم القانون الدولي، لإخفاقها في التحقيق في حالات قتل خارج إطار القانون لمدنيين عراقيين على أيدي الجنود البريطانيين، وذكر التقرير أن الجنود انتهكوا المعايير الدولية لحقوق الإنسان بقتل وإساءة معاملة مدنيين كان واضحاً أنهم لا يشكلون خطراً، وأورد تقرير تسع حالات قتل وقعت في مدينتي البصرة والعمارة من بينها قتل طفلة في الثامنة من عمرها وأب لتسعة أطفال كان يعمل حارساً لمدة 53 عاماً في مدرسة للفتيات.
وعلى صعيد الأوساط الدينية، أكد اتحاد علماء المسامين برئاسة د / يوسف القرضاوي أن مقاومة الشعب العراقي المجاهد لجيوش الاحتلال الأجنبي بغية تحرير الأرض تعد واجباً شرعياً على كل مستطيع داخل العراق وخارجه ما دام ينتمي لأمة الإسلام، وأن هذا القتال من باب جهاد الدفع الذي لا يلزم له وجود قيادة عامة وإنما يعمل فيه بحسب المستطاع .. كما تابع مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا ذاتها بقلق بالغ ما يتعرض له شعب العراق المسلم من عدوان غاشم يشيع في ربوعه الخراب والدمار، وما يستهدفه هذا العدوان من انتهاب مقدرات الأمة وتفتيت دولها وطمس هويتها بدءاً من العراق، ومروراً ببقية ديار الإسلام، لحساب الغطرسة الأمريكية وتحقيق أوهام التوسع الصهيونية .. وأوضح أن أمانة المجمع انطلاقا من ثوابت الشريعة وأصولها القطعية، ووفاء بالميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم وحملة الشريعة بالبلاغ والنصيحة، تعلن على الأمة الإسلامية قاطبة وعلى كل محبي الحق والعدل من البشرية كافة ما يلي:
أولا: أن ما يقوده التحالف الأمريكي البريطاني على أرض العراق من حرب ظالمة يعد جريمة منكرة وعدواناً صارخاً تدينه الأرض والسماء بل سطو مسلح وصيال على الأنفس والأموال والأعراض لا تحله شريعة ولا قانون.
ثانيا: أن جهاد الدفع متعين على جميع العراقيين، لا إذن فيه لأحد ولا يُستثنى منه أحد، لقوله تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله إن كنتم تعلمون .. التوبة/ 41) ولإجماع أهل العلم قاطبة على ذلك [فما بال أهل النفاق العلمي والعملي لا يكادون يفقهون حديثاً؟].
ثالثا: أن الجهاد ماض مع كل بر وفاجر إلى يوم القيامة ما قوتل الكفار وكان لهم شوكة، فلا يبطله جور جائر ولا عدل عادل. رابعا: أن على بقية الأمة شعوباً وحكومات إقدار أهل العراق على دفع هذا العدوان، وإمدادهم بكل ما يحتاجون إليه من أنواع الدعم الأدبي والمادي إلى أن ينقشع هذا العدوان وتنكسر شوكته.
خامسا: أن كل تأييد على هذا العدوان بقول أو عمل جريمة منكرة وإثم عظيم، وأن الإكراه لا يصلح عذراً في هذا المقام إذ ليس لأحد أن يفتدي نفسه بدماء الآخرين، فليس دم المقتول بأرخص من دم القاتل، ولا دم القاتل بأغلى من دم المقتول. سادسا: أن من أُحصر دون الجهاد بالنفس فهو معذور إذا نصح لله ورسوله، وبذل المقدور من أنواع الجهاد الأخرى، وذلك بالصدع بإدانة هذا العدوان، وإدانة من يظاهرون عليه، وعدم مشايعتهم على باطلهم بقول أو عمل، وبذل الميسور من ماله وصدق الله في تضرعه وابتهاله.
سابعا: أن ما وقع من كثير من الدول المحيطة بالعراق من تقديم تيسيرات عسكرية وغير عسكرية أعمال محرمة تُسخط الله ورسوله، وأن على أهل العلم في هذه الأقطار بذل النصيحة الواجبة، وبيان خطورة هذا المسلك على أصل الدين ومساسه بثوابت الملة.
ثامنا: أن على المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب التواصي بالصبر، وممارسة حقوقهم في التعبير عن إدانة هذا العدوان، والتنادي لإيقافه، وإغاثة المنكوبين بأقصى ما يستطيعون، وذلك من خلال الطرق والوسائل السلمية المشروعة في هذه المجتمعات، ونوصيهم بالتحلي بضبط النفس وعدم الانسياق وراء الأعمال التخريبية التي تُعطي مبرراً للمزيد من التنكيل بالمسلمين وإثارة مشاعر الغضب و الكراهية ضدهم.
تاسعا: أن على أهل العلم وحملة الشريعة في مختلف المناطق القيام بما أنيط بهم من أمانة البلاغ، والصدع بالحق، وتجديد الثقة بوعد الله عز وجل والرد على شبهات المثبطين والمرجفين. عاشرا:على المسلمين كافة التوبة إلى الله عز وجل، وصدق اللجأ إليه فإنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يُكشف إلا بتوبة، وإن ذنوب الأمة أخوف عليها من عدوها، كما يجب عليهم السعي الحثيث إلى التراص ووحدة الكلمة ونبذ الفرقة والاختلاف، فإن هذا أرجى لنصر الله عز وجل، وأقوى لهم في مواجهة عدوهم.. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
كما أشارت وكالات أنباء عديدة ومختلفة إلى ما جاء في بيان علماء السعودية الذي وقع عليه 29 عالماً من علماء الأمة المخلصين ووافقهم عليه فيما بعد قرابة هذا العدد من علماء اليمن، وكذا ما جاء في بيان مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وبيان المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة الذي يضم أكثر من ثمانين منظمة إسلامية عالمية غير حكومية تنتشر في مختلف قارات العالم .. وهي في مجموعها لا تخرج عما جاء في البيان سالف الذكر من استنكار الإرهاب الدولي المنظم الذي تقوده أمريكا وبريطانيا بصورة انفرادية وخارجة عن الشرعية الدولية مستخدمة وسائل الدمار المتطورة والأسلحة المحظورة، ومن وجوب جهاد المحتلين على أي حال لأنهم من المعتدين المحاربين الذين اتفقت الشرائع والقوانين البشرية والأعراف الدولية على قتالهم ومقاومتهم، ولكون جهادهم من قبيل جهاد الدفع الذي لا يشترط له وجود قيادة علنية، ومن أنه لا يجوز لمسلم أن يؤذي أحداً من رجال المقاومة أو يدل عليه بل يجب نصرته وحمايتهم، كما أنه يحرم على كل مسلم أن يقدّم أي دعم أو مساندة للعمليات العسكرية التي يقوم بها جنود الاحتلال لأنهم يستهدفون عقيدتنا ومقدساتنا وأمتنا وسائر بلاد المسلمين وإلا عُدّ ذلك خيانة وإعانة على الإثم والعدوان، وناشد الجميع العالم الإسلامي قاطبة بالوقوف إلى جوار رجال المقاومة ومناصرتهم، وبتحريم القتال تحت راية المحتل الكافر, لأن ذلك من أشد صور الموالاة التي نهى الله عنها في نحو قوله: (يا أيها الذين آمنوا لاتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، كما أنه سيؤدى إلى إيقاد الأحقاد والثارات بين أبناء الشعب العراقي, وغير ذلك من المفاسد التي تنذر بالعواقب الوخيمة في الدنيا والدين وتستهدف السيطرة على جميع دول المنطقة.
ومن جانبها استنكرت الحملة العالمية لمقاومة العدوان والتي يترأسها فضيلة الشيخ سفر الحوالي العدوان الأمريكي على أرض العراق ، ونقلت وكالات الأنباء تصريحه بـ "أن الحملة العالمية لمقاومة العدوان تعلن باسم الشعوب الإسلامية الممثلة فيها عن استنكارها الشديد لما يحدث من عدوان سافر وانتهاك فاضح لحرية الشعب العراقي وكرامته وما يحدث في مدينة الفلوجة خاصة من تدمير وإبادة, على أيدي القوات الأمريكية الاستكبارية الجائرة التي تنتهك كل أحكام الشرائع السماوية والقوانين الدولية والأعراف البشرية، وأن هذا الهجوم الوحشي على الفلوجة الصامدة, ما هو إلا مقدمة لما بعده, فقد وضع المحتلون الأمريكان والمتنكرون لدينهم وأصالتهم في السلطة المفروضة أمريكيا على الشعب العراقي مشروعاً رهيباً لاجتياح المدن الآمنة في العراق بغرض تدميرها واحدة تلو الأخرى, وهم بذلك يكشفون عن عدوانهم الغادر على الآمنين في تلك المدن التي لا ذنب لها إلا أنها قاومت الاحتلال ورفضت التعاون مع المحتل ضد مواطنيها الشرفاء.
وعليه فإن الحملة العالمية لمقاومة العدوان تذكر إخواننا المسلمين في العراق بتحريم القتال تحت راية المحتل الكافر, لأن ذلك من أشد صور الموالاة التي نهى الله عنها بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لاتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، كما أنه سيؤدى إلى إيقاد الأحقاد والثارات بين أبناء الشعب العراقي, وغير ذلك من المفاسد التي تنذر بالعواقب الوخيمة في الدنيا والدين.
وإننا إذ نعلن استنكارنا لما يحدث لنُذكّر حكومات المنطقة والعالم بأن محاولة إخضاع العراق ما هي إلا مقدمة للسيطرة على المنطقة, وفقا لأهداف المشروع الصهيوإنجيلي المتطرف, ثم ينقلون الحرب إلى مناطق أخرى في العالم, وهو ما يفتح الباب لظهور نازية جديدة ويهدد أمن العالم كله .. نناشد كل حكومات العالم والهيئات الدولية والمنظمات الحقوقية والمؤسسات الأهلية إلى تحمل مسؤولياتها في إيقاف هذا العدوان على الشعب العراقي, كما نناشد الشعوب المسلمة خاصة الوقوف مع إخوانهم المظلومين في الفلوجة, وغيرها من مدن العراق المحتلة, وبذل المساعدة لآلاف النازحين والأيتام والأرامل، كما نذكر إخواننا المسلمين في العراق بوجوب الصبر والاحتساب والاتحاد والتعاون على البر والتقوى ونبشرهم بأن نصر الله تعالى قريب, وأن استهانة أعداء الله بحرمة الشهر الكريم والعيد المبارك, وتدنيسهم مساجد الله, واستهدافهم المتعمد للضعفاء والنساء في موسم الرحمة والإحسان, ليزيدنا إيماناً بأن الله تعالى سينتقم منهم ويذيقهم الخزي في الحياة الدنيا وفي الآخرة .. هذا ونسأل الله تعالى أن يرد عدوان المعتدين وأن يعاجلهم بعقوبته وأن ينصر إخواننا المستضعفين إنه قوي عزيز، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ... الأمين العام للحملة سفر بن عبد الرحمن الحوالي29 رمضان 1425.
وفي بيان سابق من الحملة العالمية لمقاومة العدوان حول الاعتداءات الأمريكية الهمجية على المدنيين العراقيين صدر في 19 صفر 1425جاء فيه ما نصه: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله).
إن الحملة العالمية لمقاومة العدوان تدين وتستنكر بشدة العدوان الهمجي الذي تقوم به قوات الاحتلال الأمريكي في العراق والتي استهدفت المدنيين الأبرياء وقصفت المساجد واستباحت حرماتها ودمرت المنازل وقتلت الرجال والنساء والأطفال وحاصرت المدن والأحياء. هذا العدوان الذي ترفضه جميع الشرائع السماوية ومبادئ العدل، وإننا إذ نستنكر هذا العدوان الغاشم فإننا نطالب قوات الاحتلال الأمريكي بالانسحاب فورا من أراضي المسلمين ونناشد الشعب الأمريكي عامة وأمهات الجنود خاصة أن يضعوا حدا لهذا المصير المأساوي الذي تستدرجهم إليه قيادتهم المتطرفة وندعو الأمة الإسلامية لمناصرة إخواننا المعتدى عليهم في العراق بكل ما يستطيعونه، فإن ذلك مما يوجبه عليهم دينهم وتقتضيه مصلحتهم وهذه الأمة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. كما نناشد محبي العدل والسلام في العالم أن يتحركوا لوقف هذا الظلم وردع إرهاب الإدارة الأمريكية الذي يستهدف الأبرياء والمستضعفين في الأرض وهم آمنون في ديارهم، نسال الله تعالى أن ينصر إخواننا ويرد كيد المعتدين في نحورهم أ. هـ.
وتجدر الإشارة إلى أنه إنما أردنا بسوق هذه الإدانات وسرد تلك الحقائق التأكيد على أن أمر الهجمة التترية الجديدة والغارة على العالم الإسلامي مبيت بليل، ومعدّ له سلفاً من أيام الرئيس الأمريكي الأسبق (كلينتون) بل ومنذ أن سقطت الشيوعية عندما راح زعماء أمريكا يبحثون عن عدو جديد يحل محلها، وأقرهم على ذلك غالبية الشعب الأمريكي الذي آثر مؤخراً إعادة ترشيح بوش على انتخاب (كيري) على الرغم من مواصلة الأول وإصراره على حرب الإسلام بدعوى مقاومة الإرهاب، وعلى الرغم من مئات الصناديق المحملة بنعوش أبنائهم الذين قتلوا في هذه الحرب الظالمة .. كما أريد بسردها إدانة المجتمع الدولي الذي عجز وعجزت منظماته عن فرض عقوبات على تلك القوة المهيمنة على العالم إزاء ما ترتكبه من جرائم، أو حتى عن اتخاذ خطوة إيجابية تحسب لها أو المطالبة بوقف هذا السيل من الانتهاكات التي يندى لها جبين الإنسانية .. وكذا التنديد بمنافقي العصر والأوان وإدانة الأنظمة العربية والإسلامية التي جبُنت حتى عن أن تفعل ما فعلته الأمم الكافرة من توجيه اللوم والمناداة برفع الظلم عن أخوة الدين والوطن، وراحت بدل ذلك وبحجة محاربة الإرهاب- الذي كانوا هم فيه السبب المباشر على ما سيتضح- تتقرب لمن احتل الأرض واغتصب العرض بقتل الشباب المسلم واستحلال دمه والحكم عليه بالإعدام وبإغداق أموال المسلمين في عقد المؤتمرات والاجتماعات والندوات التي لا طائل من ورائها سوى جلب رضا أمريكا.. وهذا أمر عجيب!!.
والأعجب منه أن نجلب نحن على أنفسنا كل ذلك بمخالفتنا لما جاء به ديننا الحنيف من عدم جواز الاستعانة بكافر ولصريح ما جاء على لسان رسولنا: (لا تستضيئوا بنار المشركين)، فإنه قبل وإبان وبعد الغزو وتوالي هذه الإدانات والاعترافات له، وفي الوقت الذي كان العالم كله يحتج ويشهد بفظاعة الإجرام الذي يرتكبه الغرب ويندد بالانتهاكات الصارخة لحقوق أخوة العقيدة والعروبة .. لم تكتف تلك الأنظمة العربية وبخاصة الخليجية منها بعدم إدانة العدوان أو حتى بالتزام الصمت إزاء ما يقع، حتى أتبعت ذلك بمساندة وتقديم دعمها لقوى الشر فصارت معها ضد الإسلاميين المدافعين عن بلادهم وأموالهم في خندق واحد، تتهافت على نصرة أولئك القتلة المجرمين الذين شهد العالم كله ببغيهم، وتشرع في مناصرتهم والدفاع عنهم داخل العراق وخارجه، وتجدّ- على الرغم من كل ما حكيناه عنهم مما لا يمثل سوى قليل من كثير- في طلب رضاهم، وتسارع في تلبية رغباتهم وتتهالك وتتفانى في تنفيذ مخططاتهم وتقف معهم وتدعم قضاياهم وتؤيد عملاءهم، بل وتدفع أثمان حروبهم الخاسرة وغير العادلة من أقوات المسلمين بعد أن منعوها عن مستحقيها من مستضعفي أفغانستان والعراق وعن مصارفها الشرعية التي منها (وفي سبيل الله).
وكانت صحيفة الأهرام القاهرية في عددها الصادر بتاريخ 7/ 9/ 2004 قد نقلت في مقال تحت عنوان (كيف تم التآمر لغزو العراق) عن كتاب (خطة الهجوم) لـ (بوب وودوارد) أنه "وفي يوم الجمعة 5 /11/ 2002 طلب الأمير (بندر بن سلطان) السفير السعودي في واشنطن مقابلة الرئيس الأمريكي فاستقبله في المكتب البيضاوي بحضور (تشيني) و(رايس) نائب ومدير مكتبه يومها، وقام الأمير السفير بتسليم رسالة من الأمير عبد الله ولي العهد مكتوبة بالعربية وبخط اليد مرفق بها ترجمتها بالإنجليزية، يقول فيها عبد الله بالحرف الواحد: منذ عام 1994 كنا على اتصال مستمر معك وعلى أعلى مستوى بخصوص ما يعمل إزاء العراق ونظامه، وطوال هذه المدة كنا نتطلع إلى الاتفاق الجدي معكم لعمل خطة مشتركة بين حكومتينا للتخلص من صدام، وفي عام 1994 اقترح الملك فهد على الرئيس (كلينتون) تحرك سري مشترك لقلب نظام صدام، وفي أبريل 2002اقترح ولي العهد على بوش أنه يمكنه إنفاق بليون دولار لتنفيذ الأمر مع وكالة المخابرات المركزية، ولكن رغم ذلك وفي كل المقابلات التي تتم بيننا- والكلام لا يزال لسمو الأمير ولي عهد المملكة السعودية عبر رسالته لحامي حمى الحرية والديمقراطية- نفاجأ بأن أمريكا تسألنا عما يمكن فعله إزاء صدام، مما شكك في جدية أمريكا في تغيير نظام حكمه، والآن يا سيادة الرئيس نريد أن نعرف نواياكم الحقيقية بخصوص هذا الموضوع حتى نقرر سياستنا، وهذا أمر صعب وحساس ولكننا في النهاية سنتخذ القرار الصحيح المبني على صداقتنا ومصالحنا، فإن كنتم جادين فإننا سوف نقدم المساعدة الواجبة التي تحتاجها القوات المسلحة في بلدينا لخدمة العمليات الحربية الأمريكية، وهذا سيجعل السعودية حليفاً رئيسياً لأمريكا .. وللمحافظة على مصالحنا ومصالحكم نطلب منكم أن تؤكدوا لنا أنكم ستتدخلون لحل مشكلة الشرق الأوسط، كما نتوقع أن تلعب السعودية دوراً لتشكيل الأوضاع في المنطقة كلها بعد سقوط صدام"، وحسب تعليق الأهرام شكر بوش ولي العهد باعتباره حليفاً عظيماً واعداً بأنه سوف يخطرهم حينما يتخذ قراره، ثم انفرد بوش بالسفير في نهاية المقابلة لمدة ربع ساعة، أما عن ماذا قيل في هذه الربع ساعة!! فهذا ما لم تذكر المصادر عنه شيئاً.. ويبدو أن الأمير السفير لفرط استعجاله ترك ذقنه دون تشذيب حتى يُتخذ القرار ويتم الغزو وهو على أحر من الجمر، وعندما طالت المدة كان يتندر مع أصدقائه الأمريكان بأنه "يشعر بأن شعر لحيته سيطول حتى يبلغ شعر لحية بن لادن قبل أن يصلوا إلى قرار".. ولكن كان في النهاية ما أرادوا .. ولا تعقيب!!
وإذ قد عرفنا ذلك فليس بغريب أن يتم في كل مرة دفع فاتورة هذه المعارك القذرة من أموال سفهاء المسلمين الذين يفكرون بهذه الطريقة، وأن نقرأ في جريدة الأسبوع بتاريخ 26/ 11/ 2001 وتحت عنوان (عندما تحارب أمريكا بفلوس المسلمين) أن مصادر خليجية مطلعة وموثوق صحة معلوماتها أفادت بأن أمريكا طالبت قطرين عربيين خليجين على جهة الإلزام بدفع مبلغ 28 مليار دولار مناصفة بصفة مبدئية لتغطية تكاليف الحرب التي تشنها أمريكا ضد طالبان وضد تنظيم القاعدة في أفغانستان، وأن هذه المطالبة كانت مصحوبة بسلسلة من التعليمات فيما يجب على الدولتين اتباعه لترشيد التعليم الديني والدعوة الإسلامية على النحو الذي يقضي على التعصب الديني وبالتالي يجتث جذور التطرف والإرهاب.. ويثير ذلك حفيظة صاحب المقال فيصدره بقوله: "أن تحارب أمريكا بفلوس عرب الخليج فيما يخصهم، فهذا أمر يمكن فهمه، أما ما لا يمكن فهمه ولا يحتمل ابتلاعه أو هضمه هو أن تحارب أمريكا بفلوس عرب الخليج فيما لا يخصهم ولا يعنيهم من قريب أو بعيد" .. ومن نكد الدنيا الواقع على أمة الإسلام ومن عظيم البلاء الناتج عن عظيم المهانة والمذلة، ما أوردته نفس الصحيفة في نفس التوقيت من نبأ رد عمدة (نيويورك) مبلغ عشرة ملايين دولار كان قد تبرع بها رجل الأعمال السعودي الأمير الوليد بن طلال مساهمة منه في تعويض الخسائر الأمريكية في حرب أخوة الإسلام في أفغانستان .. وذلك لمجرد أن أشار الأمير في تصريح صحفي إلى ضرورة اضطلاع أمريكا بدور فاعل في حل المشكلة الفلسطينية باعتبارها ظلماً يولد الإرهاب .. وقد جرأ ما ذكرنا بوش وأغراه، لأن يطلب قبيل ترشيحه لفترة رئاسته الثانية- وذلك عن طريق سفراء بلاده في دول الخليج وطلبات بوش كلها أوامر- أموالاً أخرى تكون بعيدة عن ميزانية الحرب تقدر بـ 50 بليون دولاراً بصورة عاجلة لتنفيذ مهام عسكرية في العراق، أما حكاية ميزانية الحرب هذه، فهذا ما سيتبدى يوم تبلى السرائر.
ونقرأ في 11/ 2004 من أعاجيب ما جنيناه على أنفسنا: "مؤتمر شرم الشيخ الذي شاركت فيه دول الجوار إلى جانب مصر والدول الصناعية الثماني الكبرى والمنظمات الدولية وتونس والبحرين والجزائر عن الجامعة العربية .. استمرار للتآمر الرسمي العربي ضد عراق المقاومة"، "البيان الختامي للمؤتمر يدين أعمال المقاومة الشعبية المشروعة ضد الاحتلال الأجنبي ويضيق الخناق عليها ويصفها بالإرهاب، ويشجع العناصر الرافضة للعنف على الانخراط في العملية السياسية، ويكرس الدعم لاحتلال العراق ويضفي الشرعية عليه وعلى مهزلة الانتخابات التي تصر الحكومة العميلة على إجراءها تحت نير الاحتلال، ويعد مخرجاً لعلاوي الذي يستمد حمايته من الأمريكان، ويخلو من أية إشارة تؤكد عروبة وهوية العراق الإسلامية أو تدين جرائم الحرب التي ترتكبها القوات الأمريكية في الفلوجة التي جرى تدميرها بالكامل وقتل نسائها وأطفالها وجرحاها وقصف بيوتها ومساجدها، ويدعم الاحتلال ولا يضع سقفاً زمنياً لإنهائه"، "فرنسا تعترض بشدة على ما جاء في البيان وتجدد مطالبتها بضرورة مشاركة القوى المناوئة للاحتلال وبالوقف الفوري لإطلاق النار في الفلوجة والمدن الساخنة الأخرى وبتحديد جدول زمني للانسحاب الأمريكي من العراق"، "أمريكا هي الرابح الأكبر بعد أن نجحت وبموافقة الحكومات المشاركة في فرض وتمرير أجندتها السياسية في العراق ومن ثم وبعد ذلك في (الشرق الأوسط الكبير) بزعامة إسرائيل".
و"في البيان الختامي لدول الجوار بطهران بمشاركة مصر، أعرب الوزراء عن استعداد البلدان المجاورة للعراق لتدريب وتجهيز الشرطة وقوات الحدود العراقية بناء على طلب الحكومة العراقية، وأكدوا على ضرورة تعزيز التعاون المتبادل بشأن أمن وضبط الحدود إضافة إلى دعمهم لمكافحة تهريب الأسلحة ومنع انتقال رأس المال إلى أفراد المقاومة للحيلولة دون دعم النشاطات الإرهابية عبر حدودهم"، ويتكرر مثل ذلك في العديد من مؤتمرات دول الجوار الأخرى .. وفي إسقاط هذه البنود على أرض الواقع وإخراجها إلى حيز التنفيذ نطالع في12/ 7/ 2004 "سلمت السلطات الأردنية المختصة الولايات المتحدة معلومات عن تنظيمات مسلحة وإسلامية وصفت بأنها خطيرة وتعمل على الساحة العراقية وخارجها، وذلك في إطار التعاون الأمني وتبادل المعلومات بين الأردن والولايات المتحدة"، وفي ديسمبر من نفس العام: "عاهل الأردن يؤكد في ختام لقائه مع علاوي مساندة الأردن الكاملة للحكومة العراقية"، "الأردن تقوم بتدريب ألف جندي عراقي لمواجهة المتمردين (المقاومة العراقية)"، كما نقرأ في 6/ 1/ 2005 :"على هامش اجتماعات وزراء خارجية دول الجوار بعمّان، زيباري يشير إلى وجود عملية سياسية تمنع هيمنة أية مجموعة دينية في العراق" .. وهلم جراً.
إن هذه الوقائع والفظائع والكبائر- والتي لا ينبغي أن تفهم على أنها دفاع عن صدام وإلا فهو أحسن حالاً وأوفر حظاً في وقوفه أمام الوقاحة والابتزاز الأمريكي وتجاه الصلف والغطرسة الإسرائيلية من أولئك المتسترين بالدين- هذه الوقائع وأمثالها كثير، لا تصب إلا في دائرة الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا تعني إلا تقرير حقيقة أن ولاة أمور المسلمين هم الذين يعطون بسبب أفعالهم وولائهم لأهل الكفر الفرصة للشباب المتحمس لأن يتمرد، وأنهم لم يعودوا يصلحوا لحكم المسلمين لخيانتهم ولاتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بل وحقيقة أننا الذين نعذب أنفسنا بأنفسنا ونحن أولئك الذين يجعلون مصائرهم في أيدي أعداءهم .. كما لا تعني إلا معرفة كيف تهدر أموال المسلمين وتسخر على أيدي ولاة أمور سفهاء لقتل مسلمين ولتدمير مساجدهم، وكيف يلتقي النفاق ويتوافق مع ما يخطط له الكفر وكيف يصدر أهلاهما في تفكيرهما من مشكاة واحدة وتلتقي مساعيهما لتحقيق هدف واحد .. لا تعني هذه الوقائع إلا معرفة مغبة ما وقع فيه أولياء أمورنا ولا يزالون ومدى مخالفتهم وعلماء السوء الصريحة لنصوص القرآن والسنة ولما استقر عليه ساعتها وفيما بعد أمر العلماء العاملين في عدم جواز الاستعانة بالكفار بموجب ما نطق به وحيا المسلمين.
وهذا يجعلنا نقرر بأن كل من ساهم أو تسبب بالقول أو بالفعل أو بالفتوى، له كفل من كل عِرض اغتصب في أرض الإسلام سيما أرض العراق وأفغانستان، ومحاسب مع من يحاسب عن كل جريح أجهز عليه وكل نقطة دم مسلمة أريقت، ومساءل- إزاء السماح بتمكين من لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة من رقاب المسلمين- أمام محكمة العدل الإلهية عن كل مسجد أبيد وكل منزل دمر وكل قذيفة سقطت وكل شبر ديس، لكونه السبب المباشر في كل هذه التداعيات.. بل ولا يبعد أن يكون له نصيب ممن قال الله في حقهم (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري والحاكم: (لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وقوله فيما رواه مسلم النسائي والترمذي والبيهقي وابن ماجة: (لقتل مؤمن أعظم من الدنيا وما فيها) .. وواحد ممن عناهم صلوات الله وسلامه عليه في قوله فيما رواه ابن ماجه والبيهقي ورفعه: (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة قي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)، وقوله فيما أخرجه النسائي والحاكم وأبو داود: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا رجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً)، وما ذلك إلا لأن حرمة المسلم الذي يقتل في العراق أو السعودية أو الكويت أو اليمن هي من حرمة الكعبة على ما تقرر على لسان بني الإسلام وصاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه.
لقد صدق في كل من أعمل في مسلم خيانة أو أحسن الظن بكافر قول محمود درويش: "سقط القناع/ عرب أطاعوا رومهم/ عرب وباعوا روحهم"، وقول آخر: وإخواناً حسبتهم دروعاً * فكانوها ولكن للأعادي. وخلتهم سهاماً صائبات * فكانوها ولكن في فؤادي. وفي خضم هذا المسلسل الخياني والإجرامي واستكمالاً له وجعله في طور التنفيذ، وعن العلاوي صنيعة أمريكا الذي أعطى أوامره لقوات الاحتلال باجتياح قرى ومدن العراق .. في أقاويله وأفاعيله التي فاق بها ابن سلول وإبليس اللعين نقرأ ما جاء على لسانه في صحيفة (لوفيجارو) الفرنسية بتاريخ 13/ 9/ 2004 من "أن الحكومة العراقية- يعني التي يترأسها- هي التي طالبت القوات الأمريكية بالتدخل في مدينة (تلعفر) بعد أن تبين استحالة قدرة قوات الجيش والشرطة العراقية على مواجهة الإرهابيين، وأنها سوف تدرس في بداية كل عام مسألة بقاء قوات التحالف في العراق"، وقد جاء تصريحه هذا بعد تأكيده "بأن القوات الأمريكية تشن هجماتها على مدينتي(النجف) و(الفلوجة) بموافقته مؤكداً على استثناء الأخيرة- عشية مغادرة مئات العائلات منها وإصابة أكثر من 29 ومقتل 18 بينهم نساء وأطفال في غارات جوية أمريكية- من التصويت في الانتخابات في حالة عدم تطهيرها من الإرهابيين" .. ويعجب كل حر مما بثته وكالات الأنباء بتاريخ 25/ 1/ 2005 من تصريحه بأنه "من غير المجدي تحديد موعد لانسحاب القوات الأمريكية من العراق"، وهو ما صرح به من قبل ممثله في الأمم المتحدة قبل افتتاح مؤتمر كفر الشيخ، الأمر الذي يعني بقاء قوات الاحتلال إلى أجل غير مسمى وربما إلى ما لا نهاية، ناهيك عن تقديم هذا العلاوي لفروض الولاء لقوى الاحتلال وما قيل تقديمه التحية العسكرية لفصيل من الجيش الأمريكي اصطف لتحيته بعد أن بذل لهم عرضه وأرضه وبلده وشرفه وكرامته وأهله ونفطه ورجولته، وما قيل من قتله بيده ستة من الموحدين قيدت أيديهم بالسلاسل لأنهم في نظره من عتاة الإرهابيين .. كما نطالع ما جاء في دورية العراق (المدار) بتاريخ 16/ 9 /2004 :
"بدعوى معارضة النظام السابق قام كل من إياد علاوي وأحمد الجلبي بتشكيل ما يسمى بحركة الوفاق الوطني العراقي والمؤتمر الوطني العراقي، لكن هذه الحجة كانت مجرد واجهة إعلامية للتغطية على تخطيط مسبق مع الموساد والـ CIA بهدف تدمير العراق وتحويله إلى ثكنة للقوات الأمريكية وعملاء الموساد، وبعد الغزو بدأ المدعوان علاوي والجلبي بتنفيذ مخططهما وبدأت المناورات والاتصالات المكثفة بينهم وبين العدو الصهيوني بهدف إيجاد تطبيع كامل وتمثيل دبلوماسي كامل بين إسرائيل وعراق ما بعد الغزو، علاوي والجلبي هما أبطال المؤامرة، أما محور ومركز الاتصالات أو كما يسمى بحلقة الاتصال السرية في محاكم المخابرات– فهو المدعو وفيق السامرائي - أما هيئة التنسيق والضغط فتتكون من ستة أشخاص يتصدرها ثلاث أسماء كردية هي البرزاني والطالباني ورئيس وزراء كردستان نيجرفان البرزاني أما مستشارهم الأمني في مسألة المفاوضات فهو رئيس مليشيا البشمركة الذي اعتاد زيارة إسرائيل، وعلمت المدار أنه خلال إحدى زياراته إلى تل أبيب التي تمت في الأسبوع الثاني من شهر آب الماضي قد أُدخل إلى إحدى المستشفيات الإسرائيلية في تل أبيب حيث جرت معالجته على حساب الحكومة الإسرائيلية .. شخصيات الضغط الستة- التي تريد أن تحكم عراق المسلمين- تتردد على إسرائيل باستمرار عبر مطارات تركية، وعلمت المدار أن إحدى الشخصيات الخليجية البارزة على إطلاع تام بهذه الاتصالات والمشاورات التي زادت في الفترة الأخيرة في فندق دان بهر تسيليا.
أثناء اللقاء السري الذي جمع بين علاوي وشخصية أمنية إسرائيلية كبيرة في عاصمة عربية داخل مبنى السفارة الأمريكية خلال جولة علاوي الأخيرة في المنطقة، أثناء هذا اللقاء تم الاتفاق على إرسال وفد عراقي إلى إسرائيل لإجراء المفاوضات النهائية المتعلقة بكيفية إيجاد علاقات متميزة بين بغداد وتل أبيب، وفعلاً بعد أن أنهى علاوي جولته قام بتشكيل وفد من أربع عراقيين يرأسه وفيق السامرائي، وبقي الوفد في إسرائيل ستة أيام كاملة عقد خلالها لقاءات عديدة كان معظمها في مقرات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية باستثناء اجتماعان، عقدا بسرية تامة في فندق دان بهرتسيليا.
أما آخر اللقاءات بين فريق المحاورين العراقي وبين الجانب الإسرائيلي فقد علمت المدار أنه تم في 23 من شهر آب الماضي في مدينة ساحلية إسرائيلية ضمن فيلا تعود لمسئول أمني إسرائيلي كبير، وقد مثل الجانب العراقي في هذا الاتصال السري كلاً من وفيق السامرائي ومسعود البرزاني والمدعو أحمد زاده رئيس مليشيات إياد علاوي ومستشاره للشؤون الأمنية إضافة لثلاث ضباط عراقيين وشخصيتان عراقيتان إحداهما تقيم في لندن والأخرى في الولايات المتحدة، أما الجانب الإسرائيلي فقد ضم خمس مسئولين أمنيين رفيعي المستوى إضافة لمدير عام وزارة الخارجية، وبحث الوفدان نص الاتفاق المتعلق بإقامة العلاقة الدبلوماسية بين بغداد وتل أبيب والزمن المناسب لإعلان هذا الاتفاق، والتعاون في شؤون كثيرة في مقدمتها ما أسمته مسودة الاتفاق بمكافحة الإرهاب، وتؤكد المصادر للمدار أن طاقماً أمريكياً خاصاً ساهم بدور بارز في رسم مسار هذه الاتصالات واللقاءات التي عقد بعضها في بغداد وأربيل ولندن داخل معسكرات أمريكية أو داخل إسرائيل حيث عقدت كل الاجتماعات داخل مباني أجهزة الأمن أو في هرتسليا، واجتماع واحد فقط عقد ليلاً داخل أحد أجنحة وزارة الخارجية الإسرائيلية في القدس الغربية.
ويصب هذا الاتفاق بالطبع في مصلحة الجميع، أما الإدارة الأمريكية الحالية المعنية بإقامة تمثيل دبلوماسي بين بغداد وتل أبيب، فلأن ذلك يمثل خطورة إيجابية لصالح حملة بوش الانتخابية.. وأما إسرائيل فلأنها ترى في الخطوة نجاحاً واختراقاً باتجاه دول الخليج والدول المجاورة له ووصولاً يهودياً إلى نهر الفرات وتحويل الوجود الإسرائيلي في العراق إلى واقع محمي بغطاء حكومة الاحتلال المؤقتة تنطلق منه مخابراتياً باتجاه سورية وإيران لزعزعة استقراره، إضافة لاستخدام هذا الواقع في الضغط على السعودية وما ستجنيه إسرائيل من فوائد اقتصادية هائلة .. أما حكومة الاحتلال المؤقتة التي يترأسها علاوي، فمصلحتها تتمثل بتقديم خدمة كبيرة لواشنطن وفاءاً لما فعلته المخابرات الأمريكية من حسنة تجاههم حين عينتهم على رأس حكومة الاحتلال المؤقتة، وهو المنصب الذي طالما أباحوا من خلاله دماء الشعب العراقي وماله للوصول إليه، إضافة لما ستحققه هذه الخطوة في توجيه ضغوط على الدول المجاورة التي يخشى علاوي أن تتخذ مواقف سلبية تجاهه وتجاه حكومته المعينة أمريكياً .. وقد أكدت صحيفة هآرتس الإسرائيلية هذه العلاقات المشبوهة حيث نقلت عن صلاح الشيخلي سفير العراق في بريطانيا قوله: "أن هناك لوبي قوي في العراق يؤيد إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل".. فما أشبه هذا العلاوي اللعين في اسمه وفعله بوزير الخليفة المستعصم (مؤيد الدين العلقمي الرافضي) الذي خان وغدر وراسل التتار سراً، وحاك الخطط والمؤامرات ومكن لـ (هولاكو) بمكيدة حقيرة من قتل الخليفة وكل العلماء والفقهاء وسهل لهم دخول بغداد بوعد منهم أن يكون نائبهم في حكمها، فكان أن قتل أكثر من ألف ألف (أي مليون) عراقي، ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة كما ذكر ابن الأثير، وعلى حد ما ذكر الذهبي لم يتم له ما أراد وذاق من التتار الذل والهوان ولم تطل أيامه بعد ذلك .. وهكذا تخطط قوى الظلام وتتآمر على شعب العراق المسكين والمغلوب على أمره، وهكذا تكون نهايتهم، وصدق عز من قائل: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
وفي خبر مثير أشارت جريدة (الزمان) إلى اشتراك كويتيين (مترجمين وضباط أمن) في تعذيب أبطال المقاومة في سجن أبو غريب، ولا غرابة مع هذا لأن نقرأ في تصريح مضحك- وشر البلية ما يضحك وإذا لم تستح فاصنع ما شئت- وتحت عنوان: (مسئول كويتي يصرح بعدالة العمليات العسكرية الأمريكية في الفلوجة): "الشيخ جابر مبارك الأحمد الصباح وزير الدفاع الكويتي يعلن أن بلاده تعترف بما وصفه بعدالة العمليات العسكرية التي تنفذها القوات الأمريكية ضد المقاومة في العراق، بدعوى أن هذه العمليات العسكرية من شأنها إشاعة الاستقرار هناك، وكانت وكالة الأنباء اليابانية (كيودو) قد نسبت للمسئول الكويتي قوله خلال اجتماعه أمس مع رئيس الوزراء الياباني (جونيشيرو كويزومي): "إن القوات التي تقودها الولايات المتحدة تعمل الشيء الصحيح في محاربة الجماعات المسلحة"، كما نقلت البيان الإماراتية عن الوكالة قول الصباح: "إن الجماعات المسلحة لا تشكل تحدياً للقوات الأمريكية فقط بل للشعب العراقي أيضاً".. ولله في خلقه شئون!!
ويأتي هذا التصريح بالطبع متسقاً مع التوجهات الكويتية التي تسمح بالطعن في رموز وثوابت الإسلام، والتي وافقت على طبع ونشر قرآن أمريكا (الفرقان الحق) ومنحته جوائز لطلبة الكويت المتفوقين .. والتي سمحت لمجلة (المنبر) الصادرة عن هيئة خدام المهدي بالكويت لأن تنال بكل وقاحة من صحابة النبي فتزعم أن عمر كان مصاباً بداء يدفعه للشذوذ الجنسي وأن أبا بكر لم يكن مع الرسول في الغار، وأن (أم المتسكعين) ويقصد الوقح بها أم المؤمنين عائشة عليها الرضوان كانت ساقطة وكاذبة ومتسكعة وقوادة .. تلك التوجهات الكويتية هي عينها التي أغدقت على المطربة (نانسي عجرم) 70 ألف دولار وعلى المطربة (أليسا) 50 ألف لإحياء حفل رأس السنة الميلادية للعام 2005 .. والتي فتحت أبوابها لاستقبال القوات الأمريكية, ومنها انطلقت لغزو العراق واحتلال أرضه وقتل أطفاله وتدمير مساجده واغتصاب نسائه.. ويذكر أن السلطات الكويتية لاحقت ولا زالت عدداً من أبنائها المخلصين بل وقتلت بعضهم تحت مسمى تأييد الجهاد في العراق, وحث الشباب على التوجه إلى العراق لنصرة أهلها من قوات الاحتلال الغازية, كما منعت مؤخراً أيّاً من علماء المملكة العربية السعودية الـ29 الذين وقعوا على بيان بوجوب الجهاد في العراق من دخول أراضيها أو استضافتهم في الندوات واللقاءات.
والسؤال الذي يلح في طرح نفسه ونود أن نختم به، أإلى هذا الحد تصل الجرأة بأصحاب تلك العروش وتصل خيانتهم للدين والأهل والولد، والعروبة والأرض والعرض؟ وهل هناك مصطلح شرعي أو غير شرعي يمكن أن يطلق على هذه التصرفات وتلك التصريحات، سوى العمالة والخيانة والنفاق ومحاربة أولياء الله والإعانة على قتلهم ليس بشطر كلمة بل بكل كلمة وبكل درهم؟ هل هناك من ينكر أو يماري أن ما ذكرناه يدخل في باب المجاهرة بموالاة أعداء والمسارعة فيهم وتجهيز من يغزو في سبيل الطاغوت بدلاً من تجهيز من يغزو في سبيل الله، أو ينكر أن فاعله هو المتوعد بنحو قوله تعالى: (والْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)، وأنه المعني بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في باب الزهد: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)؟.
لقد تباينت آراء الأمم المسلمة وتوجهاتها دولاً وشعوباً أفراداً وجماعات وتفتتت وفتنت وفجعت واحتارت في أمر عدوها على الرغم من الظلم البين الذي أوقعه احتلاله على بلدة من بلاد المسلمين وعلى الرغم من سيل الإدانات حتى ممن قاموا بهذه الحروب وأعدوا لها.. وما ذلك إلا بسبب مواقف أنظمتنا المحسوبة على العروبة والإسلام التي لم يكفها السكوت عما يفعله فينا عدو الله، فصارت- بعد أن ضيعت شرائع الله وخالفت أوامره، واستعانت ومنذ البداية بعدوها واستأمنته على وضع أموالها التي تقدر بأكثر من واحد وأربعة من عشرة تريليون دولار في خزائنه حسب إحصائية المؤسسة العربية لضمان الاستثمار بالكويت لتستخدم في تمويل الحرب التي أعلنها الغرب بقيادة أمريكا وفي خدمة اللوبي الصهيوني وربما في تصنيع السلاح الذي يوجه إلى الصدور العربية ويغتال بها أطفالنا ونساؤنا، بعد أن حرمت منها أصحابها من فقراء المسلمين- صارت تغض الطرف حتى عن مجرد إدانته، وتعينه على تنفيذ خططه وتتركه يلوغ في دماء المسلمين ويعيث فساداً في أرضهم، يستحل بيضتهم ويقتل شبابهم ويخرب ديارهم ويدمر بيوتهم ويعذب نساءهم وأطفالهم دون أن تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلاً .. وطفقت طواعية بعد أن انطلت عليها حيل عدو الله وعدو الإنسانية الذي لا حكم له في شريعة الإسلام بل وفي جميع الشرائع والقوانين والأعراف الدولية إلا رد اعتداءاته وإخراجه من البلاد التي احتلها.. تجاريه في تسميته الأشياء بغير مسمياتها، وراحت بعد أن هان عليها دماء الأبرياء التي تسيل مدراراً وجراحات الضحايا التي تنزف ليل نهار، وبعد أن قدمت له الدعم المعنوي وأرست له القواعد وهيئت له الموانئ البحرية والجوية لينقل إليها ومن خلالها جنوده وأفراده وعدته وعتاده، ومكنته من أن يفعل ما فعل دون أن تدرك من نفسها مغبة ما تقبل عليه، ودون أن تصغي لصوت العقل ولا لرأي الشرع في هذا الأمر الخطير على الرغم من كثرة الناصحين لها، ودون أن تنبث ببنت شفة معلنة أو مخفية ندمها، ولا أن تزرف دمعة واحدة على ما تسببت فيه تجاه هذه الآلاف المؤلفة من ضحايا الإرهاب الأمريكي وتحالفه البغيض .. فضلاً عن عجزها عن أن تصمت ولا نقول تدين أو تُكرِه أو تقاوم الاحتلال على مغادرة بلاد المسلمين أو حتى تدين احتلاله، بل راحت بدل ذلك وإرضاء للعدو الغاشم تسارع في إرضائه ولسان حالها يقول (نخشى أن تصيبنا دائرة) تخطب وده وتحقق مطالبه وتركن إليه وتوالي عليه وتحب، وتبغض فيه وتعادي، وتقتل لأجله شبابها وتخون في سبيله شعوبها وبلادها، وتكرس جهودها لاحتلاله بشكل مباشر أحياناً وغير مباشر- بإقرار وبدعم حكومات عميلة تحقق أهدافه ولا تمثل شعوبها من قريب أو بعيد- أحياناً أخرى.
وما اجتماعات ومؤتمرات شرم الشيخ وطهران ودول الخليج ودول الجوار ووزراء العدل والداخلية والخارجية بخصوص الشأن العراقي بزعم الاستقرار والتهيئة لإجراء انتخابات الكل يعلم سلفاً نتائجها وما تهدف إليه، وما عدم مطالبة أمريكا بوضع جدول زمني لإنهاء الاحتلال .. إلا شاهد عيان على صدق ما نقول، وإلا خطوة لتكريس الاستعمار في بلاد المسلمين وإطالة أمده، وإلا مزيداً من البطش والظلم والطغيان للشعوب المسلمة المغلوب على أمرها.
إن ما يحدث من ولاة أمور المسلمين هو بكل المقاييس صد عن سبيل الله وخروج على إجماع الأمة في وجوب دفع من داهم بلداً من بلاد المسلمين ديدنهم، وطرح لصحيح المنقول ولصريح المعقول ومخالفة لما نادت به لا نقول شرائع السماء فحسب بل ولما نادت به أيضاً الفطر السليمة والقوانين الوضعية وعقلاء البشر وأعرافهم .. هو النفاق بعينه، وهو المستوجب- حسب سنن الله في خلقه- لاستبدال أهل الصلاح المدافعين عن دينهم وأرضهم وحرماتهم بمتخذي الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ولن يتم ذلك بمشيئة الله- بعد استفراغ جهد أهل الصلاح- إلا بتدخل إلهي وعلى يد الأعداء الذين سينقلبون على من أتوا بهم انقلاب السحر على الساحر على ما أفاده قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً) .. (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
الفصل الرابع: نحو خلافة على نهج النبوة
المقال الأول حقوق الإنسان بين الغزو (الأنجلوأمركي) والفتح الإسلامي
من الأمور الدالة على عظمة الإسلام والتي تدعو إلى المزيد من التعقل والتأمل، ما جاء به نبي الإسلام محمد صلوات الله وسلامه عليه من قوله في إحدى وصاياه لأصحابه الذين هم جند الحق: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) ، والنهي عن الاعتداء على النساء يعني بالضرورة النهي عن التحرش بهن جنسياً وانتهاك أعراضهن ولو بكلمة نابية، والحال كذلك بالنسبة للأطفال، والحق أننا نظلم الإسلام إن نحن قارناه- فيما لفت نبي الإسلام هنا أنظارنا إليه إبان إظهاره وأصحابه نور الله وهدايته للعالمين وأثناء نشره وإياهم رسالة السماء إلى الأرض، وفيما يعد نظاماً غير قابل للتعديل إلى قيام الساعة- نظلمه أن نحن قارناه بما يجري الآن على أرض الواقع في العراق على سبيل المثال من هجمة شرسة ليس لها ما يبررها، سوى نهب نفط وثروات البلاد والعباد بالقوة بعد سقوط النظام العراقي وبعد أن اتضح منذ البداية كذب ما ادعوه عن وجود أسلحة دمار شامل.
ففي إحصائية لعدد القتلى من المدنيين والمصابين ذكرت وكالات الأنباء إبان بدء اقتحام بلدة الفلوجة أن الاقتحام أسفر في غضون أيام قلائل عن قتل ما يزيد عن سبعمائة قتيل وألف مصاب كان معظمهم من النساء والأطفال، وتزداد بين يوم وآخر وبشكل مستمر أعداد القتلى والجرحى من المدنيين العراقيين في ظل الاحتلال الغاشم لأرض الرافدين وحاضرة الخلافة العباسية والذي مهد له ثلة من أهل النفاق وقوّت من أزره جملة من الأكاذيب التي تم ترويجها عن عمد وعلم سلفاً وتأكد فيما بعد عدم صحتها.
ويكفي لنقف على فظاعة ما ارتكبته قوى الاحتلال في حق المسلمين ولا زالت، أن نعرف أن أعداد الضحايا من المدنيين في الفلوجة وحدها إبان اقتحامها بلغ خلال أيام تعد على الأصابع وحسب التقديرات المبدئية الأمريكية 3000 طفل و4000 امرأة و1800شيخ و2000من الشباب وقالوا يومها أنها تقديرات أولية قابلة للزيادة، والغريب في الأمر أنه مع شدة الاحتجاجات وكثرتها، لم تتوقف القوات الأمريكية حتى فيما بعد الاجتياح عن قتل وذبح المدنيين، بل ولا عن تحويل المساجد والمنازل إلى مقرات إبادة وتعذيب يشمل الضرب الشديد في أماكن متفرقة وحساسة من الجسد واقتلاع العيون والاعتداء الجنسي للنساء والأطفال أمام ذويهم وحرق أجساد الأطفال بلهب من النار أو إلقائهم في براميل مملوءة بالمياه الساخنة، وكان قد تم- حسب جريدة الأسبوع في 22/ 11/ 2004 – اختيار 50 فتاة في أعمار متوسطة والدفع بهن في أحد المساجد عاريات حيث جرى اغتصابهن من قبل الجنود الأمريكيين داخل المساجد، وقد رصد تقرير أمريكي مجزرة وقعت في أحد أحياء الفلوجة عندما حاول الأطفال والشيوخ إنقاذ النساء اللاتي كن يصرخن داخل المسجد، فقامت القوات الأمريكية بقتل العشرات منهم على أعتاب المسجد بينما دوت طلقات الرصاص في أجساد النساء اللاتي قاومن محاولات الاغتصاب، كما أكد التقرير أن هناك أكثر من 123امرأة فارقت الحياة بعد مقاومتهن، وأن نساءً وأطفالاً كان جنود الاحتلال يحتمون بهم ويضعونهم على ظهور الدبابات حتى يتوقف المقاومون عن مقاتلتهم، ناهيك عن الخطط التي وضعها حقراء الأرض وأسافل وأراذل الخلق وعديموا الإنسانية والغارات المجنونة التي مهدوا بها لهذا الزحف التتري الذي تم عن طريق المتفجرات والطائرات الحاملة لآلاف الأطنان من القنابل والأسلحة المحرمة والمعدات الثقيلة التي كانت ترمي بحممها وتطلق داناتها باتجاه البيوت ودور العبادة لتقصفها ولتحرق البشر والأرض والزرع، وقد تمكنت إحدى الطائرات الأمريكية من رصد حركة لبعض المغادرين فقامت بإطلاق وابل من النيران والقذائف باتجاههم مما أدى إلى استشهاد 80 طفلاً و50أمرأة و40 شيخاً تزيد أعمارهم عن الستين عاماً بالإضافة إلى 20شاباً كانوا يشرفون على عملية إخراجهم من الفلوجة.
وكانت قناة الجزيرة قد بثت في 17 /11/ 2004 تقريراً لمصور شبكة (إن بي سي) الأمريكية (كيفين سايتس) ظهر فيه عدد ممن يلفظون أنفاسهم الأخيرة جراء إطلا ق الرصاص عليهم وهم جرحى ومدنيين عزل تم قتلهم داخل أحد مساجد الفلوجة، كما ذكرت صحيفة (الإندبندنت) البريطانية في 24/ 11/ 2004 عن شهود عيان أنه شاهدوا القوات الأمريكية وهي تقترف انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في الفلوجة، من بينها قتل مدنيين عزل ومهاجمة إحدى المستشفيات مما أدى لمقتل خمسة على الأقل من المرضى، برغم أنها وعدت من قبل بعدم استهدافها، وأنهم رأوا قناصة أمريكيين يقتلون كثيراً من الناس من بينهم أطفال ونساء، وكان من بين القتلى طفل لا يزيد عن أربعة أعوام، كما أوردت (اسوشيتدبرس) الأمريكية في تقريرها المطول بنفس التوقيت نبأ حصار من خرجوا عقب النداء عبر مكبرات الصوت ومصرع عدد من النساء والأطفال.
الأمر الذي يكشف مدى التدليس ويؤكد طمس معالم وحقيقة ما يرتكبه جنود الاحتلال من جرائم الحرب وما يمارسه الإعلان الأمريكي المضلل، وذلك حين يختزل كل هذا في صورة جندي أطلق النار على مدني جريح فأرداه قتيلاً على نحو ما فعل نفس المصور، وعلى نحو ما تم اختزال عمليات التعذيب البشعة في سجن أبو غريب في توجيه تهم محددة لبعض الجنود وقاموا فيما بعد بمحاكمتهم محاكمات صورية ذراً للرماد في العيون وحتى يوهموا العالم أنهم أصحاب قيم وأخلاق ومبادئ وأن ما يقال عنهم من بطش وظلم هو محض افتراء .. والشيء الذي يدعو إلى السخرية والضحك ويبعث على التقيؤ والاشمئزاز ويدل على مدى الغباء واللوثة العقلية عندما يستحكمان ويبتلى بهما المرء، ما قاله الـ (جيمس بوند) زعيم العالم الأوحد (بوش) عن رجال المقاومة: "إن ما يحدث في الفلوجة هو معركة ضد الذين يريدون تجميد التقدم ووقف المسيرة نحو الحرية".
وأعادت أخبار الفلوجة إلى الأذهان ما حدث- دون ما حساب ولا عقاب- في بلاد الرافدين في العام 2003 وتحديداً في شهري مارس وأبريل، حيث ذكرت وكالات الأنباء ومنظمات حقوق الإنسان أن قوات الاحتلال المجتلبة من بلاد الديمقراطيات بدافع الحقد على الإسلام والمسلمين وبزعم الدفاع عن الشعب العراقي ضد الدكتاتورية، ألقت ما يزيد عن 13000 ثلاث عشر ألف قنبلة وقذيفة عنقودية في مناطق مزدحمة بالسكان مما أدى إلى قتل وجرح ما يزيد عن ألف مدني أغلبهم من النساء والعجائز والأطفال، وفي تقرير إحصائي آخر كشفت عنه القيادة الوسطى للجيش الأمريكي أوضح أن هذه القيادة ألقت 10782من هذه القذائف المحرمة دولياً تحتوي بداخلها على مليون و800 ألف قنبلة صغيرة، كما ألقت القوات البريطانية70 قذيفة عنقودية من الجو و2100 أخرى تحتوي على113190 قنبلة صغيرة أطلقت من البر، وأن نسبة كبيرة من هذه القنابل المرفوضة دولياً استقرت في المناطق السكنية وكان النصيب الأكبر والحظ الأوفر منها لأحياء بغداد والناصرية وراح ضحيتها آلاف الأبرياء أغلبهم أيضاً من النساء والأطفال، وأن سجلات مستشفيات الحِلّة والنجف والناصرية رصدت في يوم 31مارس من نفس العام استشهاد وإصابة 2279 مدنياً خلال الشهرين المذكورين، ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم تسقط مئات وآلاف الضحايا من المدنيين معظمهم أيضاً من النساء والأطفال .. ولن نتحدث عن 340 طن من قنابل اليورانيوم المستنفد ألقيت فيما سمي قبل بـ (عاصفة الصحراء) قدر العالم الإنجليزي (روجر كوجين) أنها سوف تتسبب في إصابة أكثر من عشرة آلاف فرد- منهم بالطبع عدد لا يستهان به من الأطفال والعجائز والنساء- بأمراض سرطانية كما أنها تدمر وجه الحياة على الأرض لفترات قد تتجاوز عشرات السنين.
وفي مجال الاغتصاب وانتهاك الأعراض تشير لجنة حقوق الإنسان في العراق إلى اتهام قوات التحالف الأمريكية والبريطانية باغتصاب العشرات من نساء العراق، ليس هذا فحسب بل والأطفال أيضاً، وذكرت اللجنة في رسالة موجهة منها إلى المنظمة العربية لحقوق الإنسان أنها سجلت خلال شهرين من بدء الاقتحام 57 حالة اغتصاب لنساء و27 حالة اغتصاب لأطفال، كما اتهم العديد من سكان الفلوجة جنود الاحتلال الأمريكي بالتحرش بنسائهم مؤكدين أن ذلك يمثل إهانة تستوجب مقاومة المحتلين وقتلهم، كما تناقلت وكالات الأنباء نبأ قيام الجنود الأمريكان باغتصاب العراقيات المعتقلات بسجن (أبو غريب)، وأكد بيان نشرته وكالة (قدس برس) الذي حمل نداء استغاثة، أن كثيرات من المعتقلات فقدن عذريتهن وأن بعضهن يحملن في أحشائهن أجنة من جراء عملية الاغتصاب، ولم يكتف هؤلاء الهمج الرعاع بما فعلوه بل نشروا صورة على عدة مواقع على شبكة الإنترنت لجندي أمريكي يشير بعلامة النصر ويقف بجواره طفلان يبتسمان ويحمل أحدهما لوحة مكتوب عليها باللغة الإنجليزية التي لا يفهمانها (هذا الجندي قتل والدي واغتصب أختي)، الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة حتى في بعض الأوساط التي لا تدين بدين، فأية خسة هذه وأية نذالة، وصدق الله القائل: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم .. محمد/12) .. ناهيك عما حذر منه صندوق الأمم المتحدة (اليونيسيف) من الكارثة التي تهدد أطفال العراق نتيجة الحصار الذي دام قرابة 12 عاماً والحرب التي لا يعلم أحد إلا الله وحده متى تنتهي، حيث أشارت إحصائيات الأمم المتحدة أن هناك 700 ألف طفل لم يحصلوا على التطعيمات اللازمة لهم ماتوا، كما كشف تقرير أعدته المنظمة في أواخر نوفمبر 2004 يفيد أن حوالي 270 ألف طفل ولدوا بعد الاحتلال ولم يحصلوا عليها، وأن معدل الوفيات بلغ 131 لكل ألف كما وصل أثناء الولادة إلى 300 طفل لكل مائة ألف في مقابل 49 في تركيا المجاورة .. كما ذكرت المنظمة في وقت سابق وتحديداً في مارس 2003 أن نحو مليون وربع طفل وهو ما يمثل 30 % يمكن أن يتعرضوا لخطر الموت من سوء التغذية أثناء وبعد الحرب، وأن ما يقرب من 10 مليون شخص يمكن أن يتأثروا بدرجة كبيرة فيما يتعلق بتأمين الغذاء لهم أو أن يصبحوا مشردين أو يتأثروا بشكل مباشر بالحملة العسكرية، وأن حوالي 18 مليون وربع قد يحتاجون إلى مياه معالجة للاستخدام الآدمي، وأن حوالي خمسة ملايين و 210 آلاف من لأطفال دون الخامسة والنساء الحوامل والمرضعات سيعانون معاناة كبيرة وأن نحو 500 ألف سيتعرضون لإصابات محتملة، وأن 000,100مائة ألف طفل في البصرة وحدها مهددون بالإصابة بأمراض خطيرة بسبب توقف محطة تنقية المياه عن العمل.
والذي ينبغي أن تعلمه القوات الغازية وكل عراقي حتى أولئك الذين كانوا ولا يزالون يدعمون التواجد الأجنبي وأعمال الاحتلال بمشاركتهم من خلال مجالس الحكم في تنفيذ سياسة العدو ولا ينتفضون في وجهه لقاء دراهم معدودة ، ليعلم هؤلاء جميعاً أن إخراج العدو من بلاد المسلمين واجب على الجميع لا فرق بين عظيم ووضيع، وأن الجهاد ما شرع إلا لدفع مثل ذلك العدو الذي استعانوا به ومنعه عن انتهاك حرمة الدين والوطن والعرض (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان .. النساء/75)، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله .. البقرة/193)، وأن رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم قد أجلى يهود بني قينقاع عن بكرة أبيهم على فعل ما هو أقل مما ذكرنا بكثير، وعلّمنا عليه السلام أن (من قتل دون عرضه فهو شهيد)، وأن انتهاك عرض مسلمة واحدة لا يكفيه نقض عروش قوى التحالف مجتمعة، وأن المعتصم بالله أعلن عن تجهيز جيش بأكمله عندما علم أن مسلمة قد احتبسها عظيم الروم الذي كان يمثل قوة عظمى كأمريكا الآن حتى انتهى الأمر بالإفراج صاغراً ورغم أنفه عن هذه السيدة العفيفة، كما يجب عليهم أن يعرفوا أن إجماع المسلمين على أنه "إذا حضر العدو البلد الذي يقيم به المسلمون، فإنه يجب على أهل البلد جميعاً أن يخرجوا لقتاله، ولا يحل لأحد أن يتخلى عن القيام بواجبه نحو مقاتلته" ، والإجماع كما هو معروف حجة ومصدر تشريعي يأتي عقب الكتاب والسنة.
على أن ما يحدث على هذا النحو الذي ذكرنا في العراق من مجازر جماعية ومن قتل للآلاف من الأطفال والنساء والعجائز وانتهاك للأعراض، وقل أضعاف أضعافه في أفغانستان وفي البوسنة والهرسك ومن قبل ذلك في أندونيسيا، يدعونا إلى الجزم بأن هذا هو كل ما تمخضت عنه حضارة الغرب، وهو ما يجعل من المحتم البحث عن شريعة أخرى- غير شريعة الغاب تلك- تضبط حركة الحياة والأحياء في الحرب والسلم ويعيش الناس جميعاً أقلية وأغلبية في ظلها في أمن وأمان وليس ذلك إلا في الإسلام دين محمد العظيم، كما أن ما حدث وما يزال في هذه البلاد المسلمة الفقيرة والمغلوب على أمر أهلها، يجعلنا نلتمس العذر لهذه الشبيبة المؤمنة التي قيضها الله لتدافع عن أوطان المسلمين وأعراضهم حتى لا يصبحان كلأ مباحاً لكلاب ضالة وذئاب جريحة تريد أن تفترس كل ما أمامها بأي شكل ودون وازع من ضمير أو دين ودون رادع من شريعة أو قانون ودون ما مراعاة لأدنى معاني الإنسانية لكون ما يفعلونه لا يمت إلى القيم أو المبادئ أو المثل بأدنى صلة، وعلى قدر ما يكون الفعل يكون رد الفعل، ولا أظن أن منصفاً ولو من غير المسلمين يخالف في هذا.
كما أن ما حدث يكشف عن زيف ما تنادي به هذه الديمقراطيات التي عفى عليها الزمن وأضحت لا تصلح لإدارة هذا العالم لما أفصحت عنه من عنصرية ومن انتهاك لحرمة الآدمي ومن إهدار لحقه في الحياة ومن فضح لما تدعيه من المناداة بحقوق للمرأة أو للطفل، فلا حرمة لدى هذه الديمقراطيات الزائفة ديمقراطيات الكيل بمكيالين ديمقزاطيات القتل والاغتصاب والتدمير والإبادة الجماعية وهدم أماكن العبادة، لامرأة مسلمة، ولا حرمة لمسجد ولا حرمة لعجوز ولا حرمة لعالم دين ولا حرمة لطفل رضيع أو فطيم، الكل يهان والكل يباد والكل- وفي بلاده- يسجن، والكل يواجه بفوهات البنادق والدبابات ويقصف بصواريخ المدافع والطائرات، إنها الهمجية التترية التي فاقت بعجرفتها وفي شراستها الجاهلية الأولى وجاهلية العصور الوسطى، ولا بد من بديل يقيم العدل وينصف الظالم من المظلوم، إذ حاشاه سبحانه أن يترك أمر خلقه إلى حثالة من البشر ليس لها من عمل إلا الإباحية وإشباع الغريزة الجنسية من الحرام وإهلاك الحرث والنسل وإشاعة الفاحشة وإظهار الفساد في الأرض، فهو تعالى الرحيم بخلقه ومن رحمته أن أرسل إليهم من بعد عيسى عليه أزكى السلام، رسوله محمداً (بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .. الصف/9) وليخرج (الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.. إبراهيم/1)، وما حل ما حل بشعب العراق الأبي إلا لإحسانه الظن منذ البداية بمن ليسوا على دينهم وبمن حذرنا الله من اتباعهم في نحو قوله: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم .. آل عمران/ 73) حتى مكنوا لهم وحدث ما حدث.
فما أعظمك يا نبي الله ويا رسول الإنسانية ومبعوث العناية الإلهية للخافقين، وأنت تستنكر كل هذه الأعمال الوحشية التي اتسم بها أهل الباطل .. ما أعظمك وأنت توّجه قادة جندك وقد أحيط بهم من قِبَل أقوى قوتين في العالم يومئذ (الفرس والروم) توجههم لمعان الرحمة والإنسانية .. ما أعظمك وأنت تغرس وتبث فيهم كل معان ومبادئ القيم الفاضلة والأخلاق الرفيعة والمثل النبيلة، "لا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً (وحدث في ذلك عما يحدث من قوى الاحتلال الغاشمة ولا حرج)" .. ما أعظمك يا رحمة الله للعالمين وأنت ترى امرأة مقتولة فما يكون منك إلا أن تقول مستنكراً: (ما كانت هذه لتقاتل)، وتنهى بعدها عن قتل النساء والصبيان .. ما أعظمك وأنت تبعث في يوم الفتح الأعظم من يلحق بخالد ليخبره بألا يقتلن ذرية ولا عسيفاً- أجيراً- ولا امرأة .. ما أعظمك وأنت تعلم أتباع دينك ما جاء في وصية أبي بكر لأسامة حين بعثه إلى الشام: (.. ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع- يريد الرهبان- فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له" ، وفي وصايا ابن الخطاب لقادة جنده: (لا تغلوا ولا تقتلوا وليداً .. ولا تقتلوا هرما ولا امرأة وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند شن الغارات) .. ما أعظمك وأنت تعلمهم وتعلم العالم كله مدى حرص الإسلام على نشر السلام في ربوع الأرض وأن العدو المأمور بقتاله حتى الخونة الذين نقضوا عهدهم وحتى المنافقين الذين يدعون إلى السلام خدعة ورياء إذا جنحوا للسلم يجب الكف عنهم شريطة أن يفوا بعهدهم وألا يكون في ذلك إهدار لحق من حقوق الدين أو تعويق للدعوة (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم .. الأنفال/ 61، 62)، (فإن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً .. النساء/ 90) .. ما أعظمك وأن تعلم العالم كله أن الجهاد ما شرع لإكراه أحد على الإسلام، ولا للسيطرة والاستعمار والاستئثار بخيرات البلاد المفتوحة وتسخير وإذلال أهلها ومزاحمتهم في أرزاقهم وإنما لكف عدوان المعتدين ودفع ظلمهم عن أهل التوحيد وإلا لتحرير الشعوب المغلوبة على أمرها كيما تنعم بالعدل والحرية الحقيقية والشريفة (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .. البقرة/ 256)، (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله .. الحج/ 39، 40)، (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً .. الفتح/ 28)، وقد سئل عن الرجل يقاتل للمغنم .. وغير ذلك، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) .. ما أعظمك وأنت تُسمِع الدنيا كلها أن مما شرع الله له الجهاد، حماية معابد الأحبار والرهبان من اليهود والنصارى من اعتداءات المشركين ومن لا يدينون بدين من نحو البوذية الآن والشيوعية والملاحدة، وتشنف أسماع العالم كله بقول الله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً .. الحج/40)، وإنما كان الأمر كذلك باعتبار أن هذه الأماكن أماكن عبادة وباعتبار أن أصحابها أهل دين سماوي، وهم وإن خالفوا فيه المسلمين، إلا أن إيمانهم بإله سيكون عوناً لهم على معرفة دين الحق يوماً ما .. ما أعظمك يا نبي الإنسانية وأنت تمنع المسلمين في غزوة خيبر- بلد اليهود الذين نكثوا عهدهم مع المسلمين وحرضوا العرب على غزوهم وانضموا إليهم- من أن يدخلوا بيتاً من بيوت اليهود إلا بإذنه، ومن أن يضربوا نساء اليهود أو أن يعتدوا على ثمرهم .. ما أعظمك وأنت تعلمهم أن ينبذوا إلى من يهموا بقتالهم فيُعِلمونهم بذلك ويكاشفونهم بالعداء حتى يحاربوهم وهم على بينة من الأمر وحتى يستعد الأعداء للحرب كما استعدوا إعمالاً لقول الله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء.. الأنفال/58) وتلك أعظم درجات الأمانة وأقصى مراتب الوفاء .. ما أعظمك وقد تركت ُمثُلاً ونبلاً لا ولن يصل إليه الشرق أو الغرب أو غيرهما ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
ويشهد لما ذكرنا في هذا الصدد ما أورده البلاذرّي في فتوح البلدان من أن أهل سمرقند قالوا لعاملهم (سليمان بن أبي السُّري) إن قتيبة بن مسلم الباهلي غدر بنا وظلمنا وأخذ بلادنا- يعني دون أن يعلمنا- وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فأْذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكو ظلامتنا.. فأذن لهم فوجهوا منهم قوماً إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فلما علم عمر ظلامتهم كتب إلى سليمان يقول له: إن أهل سمرقند قد شكوا إليّ ظلماً أصابهم، وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم- يعني دون منابذة- فإن أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة، فأجلسَ لهم سليمان (جميع بن حاضر) القاضي، فقضى بأن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء فيكون صلحاً جديداً أو ظفراً عنوة، فقال لهم أهل السند: بل نرضى بما كان ولا نجدد حرباً، لأن ذوي رأيهم قالوا: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم وأمّنونا وأمّناهم، فإن عدنا إلى الحرب لا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان ورضوا ولم ينازعوا بعد أن عجبوا من عدالة الإسلام والمسلمين وأكبروهم، وكان ذلك سبباً في دخولهم الإسلام مختارين، وقالوا أن هذا عمل لم نعلم أن أحداً وصل في العدل إليه.
ولم يكن عجباً أن وجد المسلمون من سكان هذه البلاد المفتوحة وأمثالها عوناً في فتوحاتهم الظافرة، ولم يكن عجباً أن انبهر كثير منهم بسماحة الإسلام وتسامح من يدينون به ومن ثم انطلقت ألسنتهم بالثناء على المسلمين لأنهم رأوا منهم سمواً في الأخلاق ونبلاً في المعاملة وسماحة لم يعهدوها من قبل حينما كان يحكمهم الفرس أو الروم أو غيرهم من غير المسلمين.
إن من شأن المنتصر أن يستبد ويملي شروطه بدافع الغيظ والانتقام والغرور بالقوة، ولكن أهل الإسلام من أتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه كانوا دائماً وأبداً مع المغلوبين كراماً في فتوحاتهم رحماء في معاهداتهم، فأقروهم على عقائدهم وشعارهم الدينية وأوصوا برعايتهم والمحافظة على أموالهم .. وقد شهد بذلك حتى غير المسلمين، وحسبنا من ذلك ما جاء في كتاب (الإسلام خواطر وسوانح) ص 49 من قول (الكونت هنري دي كاستري): "لقد أيقنت من تتبعي للتاريخ أن معاملة المسلمين للمسيحيين تدل على ترفع في المعاشرة عن الغلظة، وتدل على حسن مسايرة ولطف ومجاملة، وهو إحساس لم يشاهد في غير المسلمين إذ ذاك، خصوصاً أن الشفقة والرحمة والحنان كانت إمارات ضعف عند الأوربيين، وهذه حقيقة لا أرى وجهاً للطعن فيها"، وما جاء في كتاب (الدعوة إلى الإسلام) ص 51 من قول السير (توماس أورنولد): "لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح"، والكلام في ذلك لا ينتهي.
وهل يمكن لأحد أن ينسى لعمر بن الخطاب قوله لرجل من أهل الكتاب مر به وكان ضريراً، من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، فقال عمر: فما الذي ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله وأعطاه مما وجده، ثم أرسل إلى خازن بيت المال وقال له: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفنا إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، ووضع عنه الجزية .. أو ينسى تراجعه- رغم صرامته- عما كان قد شرع فيه من نهي عن استقبال النصارى له بالشام باللعب أمامه بالسيوف والريحان كما تعودوا في احتفالاتهم، لما لفت أبو عبيدة نظره إلى أن هذه عادتهم وأنهم قد يعدون نهيه لهم نقضاً للعهد الذي أعطاه لهم وقوله ساعتها بكل تواضع: "عمر وآل عمر في طاعة أبي عبيدة" .. أو ينسى مواقفه مع أهل البلاد المفتوحة من النصارى وغيرهم والتي منها عزله الوليد بن عقبة واليه على بني تغلب من النصارى وذلك حين توعدهم، خشية أن يوقع بهم شراً .. لقد كان- على شدته مع المسلمين- رقيقاً بأهل الكتاب، ومن مظاهر شفقته معهم في الحروب أن نصح سعد بن أبي وقاص لما أرسله إلى حرب الفرس بأن يبعد معسكره عن قرى أهل الصلح والذمة، وبألا يسمح لأحد من أصحابه بدخولها إلا إذا كان على ثقة من دينه وحسن خلقه، وأوصاه ألا يأخذ من أهلها شيئاً لأن لهم حرمة وذمة يجب على المسلمين الوفاء بها، وحذره من أن تضطره حرب أعدائه إلى ظلم الذين صالحوه، ونص ذلك ضمن وصاياه له: "ونح منازلهم- يعني منازل أصحابك- عن قرى أهل الصلح والذمة .. فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يزرأ أحداً من أهلها شيئاً فإن لهم حرمة وذمة، ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فنولوهم خيراً، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح" .. أو ينسى وصية الإمام عليّ في كتابه إلى (مالك بن الأشتر) حين ولاه مصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر وفيها: "أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" .. فما أجمل هذه البنود والوصايا والقوانين المستقاة من شريعة الإسلام السمحة وأخلاقه الكريمة، وسيما ما جاء منها من أمر عمر قواده بألا يجعل بلاد الذميين ميداناً لحربه حتى لا يصابوا بشرور الحرب، ونحن نرى في العصر الحاضر أن الدول تعتدي وتتحارب في غير أوطانها وتنزل أفدح الخسائر والأضرار بالمسالمين ممن لا ناقة لهم في الحرب ولا جمل.
كما أوصى رضي الله عنه أبا عبيدة الجراح بقوله: "وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحقها، ووف لهم بشرطهم الذي شرطت لهم في جميع ما أعطيتهم"، فحقق أبو عبيدة ما أراد عمر وعاهد أهل الشام معاهدة سمحة، كما أعطى عمر أهل إيلياء أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وأنهم لا يضطهدون بسبب نصرانيتهم ولا يضار أحد منهم .. ومن أحب من أهل الروم أن يسيروا بأنفسهم وأموالهم إلى الروم ويخلوا بيعهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم .. وكتب لأهل اللد أمناً مثل هذا، وكتب لأهل بيت المقدس مثله .. وفي خلافة أبي بكر عاهد خالد بن الوليد أهل الحيرة على ألا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصراً يتحصنون فيه .. ونص ضمن ما نص على أن الجزية يعفى منها الشيخ الذي عجز عن العمل أو أصابته آفة أو كان غنياً وافتقر، وليس ذلك وحسب بل يعال هو وأولاده من بيت مال المسلمين ما أقام بدار الإسلام.
وما أكثر الأمور التي ساوى الإسلام فيها بين المسلم والذمي باعتبار أن الجميع فيها سواسية أمام القانون الإلهي لا تفضيل ولا محاباة، ونذكر من ذلك في مجالات المعاملات العامة ما تضافرت على ذكره كتب التاريخ والسيرة من أن ابناً لعمرو بن العاص ضرب قبطياً فاقتص له عمر قائلاً له: "اضرب ابن الأكرمين"، كما قال وهو يوجه تعنيفه إلى القائد المسلم: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" .. ومن أن يهودياً شكا في يوم ما علياً بن أبي طالب للخليفة عمر، فقال عمر لعلي: قم يا أبا الحسن فاجلس بجوار خصمك، ففعل علي وعلى وجهه علامة التأثر، فلما فصل عمر في القضية قال لعلي: أكرهت يا علي أن تساوي خصمك؟ قال: لا، لكني تألمت لأنك ناديتني بكنيتي فلم تسو بيننا- ومعلوم أن الكنية للتعظيم- فخشيت أن يظن اليهودي أن العدل ضاع بين المسلمين .. فهل سجل التاريخ أو عرفت البشرية سماحة في التعامل ودقة في المساواة وصلت إلى ها الحد؟ .. وأين ذلك من أعمال السادية التي بلغت مداها وتجلت بأقبح صورها- من غير الاغتصاب والتعذيب الذي قد يصل لحد الموت ومختلف أساليب السخرية والضغط والبطش والإيذاء بأعلى درجاته- تجلت فيما ذكرته مبعوثة رئيس الوزراء البريطاني من أن جنوداً أمريكان طلبوا من امرأة عجوز أن تمشي على هيئة حمار وركب أحدهم على ظهرها، وفي إدخال سجينات عراقيات عاريات على سجناء عراقيين عراة كذلك، وفي إجبار سجناء عراة على الزحف على أربع ثم إرغامهم على العرض هكذا أمام إحدى المجندات، وفي تبول بعض البريطانيين على وجه سجين عراقي مغطى الرأس، وفي أمر بعض الأمريكيين رجلاً معصوب الرأس بالوقوف على صندوق مقيد اليدين بأسلاك كهربائية، وفي تلك الجندية الأمريكية التي أشهرت سلاحها صوب الأعضاء التناسلية لأحد سجناء سجن أبو غريب، وفي هذا الجندي البريطاني الذي قام بعملية القذف داخل فم سجين آخر، وفي صورة المجندة (ليندي إنجلند) التي ظهرت صورتها وفي فمها سيجارة وهي تنظر بتشف إلى سجين عراقي عار تماماً وهو ممد على الأرض بينما تجره بسلسلة لربط الكلاب، وفي صورتها وهي تبتسم لعراقيين عراة يمارسون الجنس الجماعي عنوة بعد أن وضعوا على شكل هرم، وفي إجبار السجناء على ممارسة العادة السرية واللواط وارتداء الملابس الداخلية للنساء وربط أيديهم لساعات طويلة بأبواب الزنازين، وعلى امتصاص الحيوانات المنوية لسجناء آخرين، إلى غير ذلك مما يندى له جبين الإنسانية ولا يجُبّه إلا دفع الجزية عن يد وهم صاغرون ومما كان يقع بانتظام من الفرقة 372 وأفراد من المخابرات الأمريكية ونشرت (الواشنطن بوست) وغيرها تقريراً عنه مؤكدة أن لديها ألف صورة رقمية التقطت من الفترة ما بين صيف وشتاء عام 2003 فقط.
ويخطئ من يظن أن ما حدث لمسلمي العراق على يد مدعي- كذباً وزوراً- حقوق الإنسان، مجرد أعمال فردية قام بها مجموعة من الشواذ أو أنها لا تمثل جزءً من الثقافة الغربية التي ترسم لنفسها أحيانا ملامح مريضة ومنحرفة، كما يخطئ من يتصور أن هذه الأعمال تمت بدون علم مسئولين كبار في الجيش الأمريكي والبريطاني، فقد كشفت (واشنطن بوست) الأمريكية عن أن تقريراً سرياً للجيش الأمريكي حذر في شهر ديسمبر عام 2003 - أي قبل ما يزيد عن شهر من تفجر فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب- من انتهاكات ارتكبت بحق محتزين عراقيين في هذا السجن على يد وحدة خاصة بالجيش الأمريكي وعملاء للمخابرات المركزية، وأشار التقرير لذي أعده الكولونيل المتقاعد (ستيورات إيه هرينجتون) إلى أن عدداً كبيراً من كبار قادة الجيش الأمريكي من بينهم الجنرال (ريكاردو سانشيز) قائد القوات الأمريكية يومها في العراق، كانوا على علم بهذه الانتهاكات، وجاء في التقرير أن (هرينجتون) سأل احد الضبط في مركز للاعتقال عما إذا كانت هذه الانتهاكات أبلغت لرؤسائه، فرد قائلاً: إن "الكل كان يعرف ذلك" .. كما كشفت مصادر عسكرية بريطانية أن عمليات التعذيب الوحشية التي تعرض لها السجناء العراقيون لم تكن مجرد حوادث فردية أو متفرقة، وإنما كانت ممنهجة ومخطط لها بطريقة جيدة وجزءاً من نظام وضع خصيصاً لإساءة المعاملة والإذلال، وأن قواتاً خاصة استخدمتها بعد أن تلقت تدريباً عليها فيما يعرف بنظام (آر 21)، وذكر ضابط سابق بالقوات البريطانية الخاصة أنه تم تدريب جنود في الاستخبارات العسكرية على هذه الأساليب في مركز للخدمات الخاصة للاستجواب في (اشفورد) في (كينت)، وجرى نقله الآن إلى القاعدة الأمريكية في (كيكسانس)، وأضاف الضابط أن عديداً من هذه الأساليب جرى تعلمها على جانبي المحيط الأطلنطي تحت شعار (أطيلوا أمد صدمة الأسر)، كما كشف النقاب عن أن المجندين الذين كلفوا بالقيام بهذه الأساليب اختيروا بعناية من قبل قوات التحالف فهم من أكفأ المجندين المخضرمين في جميع أسالب التعذيب المهينة والمذلة، وأنه تم إرسالهم للقيام بمهامهم في سجون العراق، وقال: إن كل ما قام به هؤلاء الجنود كان من قبيل الخضوع للأوامر العسكرية وإرضاء لرؤسائهم كما أكد أن الجيشين الأمريكي والبريطاني لا يمكن أن يكون به أخطاء فردية ولا يمكن أن له يسمح بذلك، وأن رؤيته لهذه الأساليب الوحشية هو ما جعله يقدم استقلته للجيش البريطاني .. وفي تأكد لما قاله أشارت صحيفة (الجارديان) البريطانية إلى أن القوات البريطانية تدربت على طرق التعذيب المختلفة، وأن الامتهان الجنسي الذي تعرض له المعتقلون هو جزء من نظام وضع لإساءة معاملتهم، وتنقل الصحيفة عن أحد أفراد القوات الخاصة البريطانية أن طريقة معروفة باسم (مقاومة التحقيق) كان يتم تدريب الجنود الأمريكيين والبريطانيين عليها.
ومن ناحية أخرى أفادت شهادة كثير ممن شملهم التحقيق في هذه الجرائم في أمريكا أنها كانت تتم بموجب تعليمات واضحة وأوامر صارمة ومحددة من القيادة العامة، وقد أدلى رامسفيلد وعدد من الجنرالات القادة في البنتاجون من بينهم الجنرال (جورج كاسي) مساعد رئيس هيئة الأركان لسلاح البر وعناصر تابعة لجهاز (cia) والاستخبارات العسكرية، والجنرال (جانيس كاربينسكي) المسئولة عن سجن أبو غريب وبعض الجنود الذين كانوا يعملون تحت إمرتها في القسم (إيه ون) من معتق أبو غريب والبالغ عددهم 3400 جندي، والسير جنيت (إيفان فردريك)، و(ديفيز) والمقدم (جرانر) و(سابرينا هارمان) و(جاسون كينل) الذين شوهدوا وهم يكدسون المعتقلين في كومة ويركلونهم بالأحذية .. أدلى جميع هؤلاء وغيرهم بشهادتهم بعد أن وجهت إليهم أصابع الاتهام واعترفوا على رؤسائهم بما ارتكبوه .. وفي تطور آخر وفي رده على ادعاء كبار قادة البنتاجون أن ما قام به (رامسفيلد) والجنرال (ريتشارد مايرز) رئيس القوات المشتركة، هو من الوسائل والممارسات الشرعية المتفق عليها، ويتناسب مع المناخ العام ولا يتنافى مع القانون الدولي- على ما أخبرت به السلطات التشريعية وكل من يعمل في المجال الإنساني- علق السيناتور (ريتشارد دربان) بقوله: "إن الأساليب التي يقرها البتاجون تتجاوز أي معايير إنسانية ولا علاقة لها القواعد الدولية المنظمة للحرب، فلا يمكن للقانون الدولي أن يحتوي على بنود تجيز الأعمال غير الآدمية"، وبنحو ذلك أكد نشطاء حقوق الإنسان في أمريكا على أن حجج البنتاجون واهية، وأن ما فعلوه لا علاقة له بمعاهدة جنيف أو القانون الدولي .. كما تابع العالم كله تلك السيدة الأمريكية التي تحرك ضميرها أثناء إدلاء وزير الدفاع الأمريكي بأقواله وما كان منها إلا أن هتفت من هول ما سمعته قائلة بأعلى صوتها: "أطلقوا النار على (رامسفيلد)".
وبضلوع العديد من الأجهزة والمؤسسات والشخصيات القيادية والسياسية في تنفيذ هذه الممارسات التي ذكرنا نماذج منها وعلى هذا النحو الذي ذكرنا ووفق الاعترافات والمعلومات التي تم تسريبها والكشف عنها طيلة الأيام والأسابيع التي أعقبت فضيحة سجن أبو غريب .. تكون قد توفرت لهذه الممارسات الشاذة، الخصائص الثلاث التي تجعل منها جرائم حرب، فهي من ناحية لم تكن فردية بل كانت جماعية، وهي من ناحية أخرى لم تكن استثنائية بل وقعت بانتظام طوال فترة زمنية محددة، ثم هي من ناحية ثالثة اتخذت طابعاً مؤسسياً عبر مشاركة أجهزة الاستخبارات العسكرية والمخابرات المركزية الأمريكية ووزارة الدفاع وبعلم العديد من المسئولين الكبار في هذه المؤسسات.. وتمثل هذه الجرائم التي تكررت بنفس الخصائص سالفة الذكر في سائر سجون العراق وأفغانستان و(جوانتنامو)، والتي لا ينبغي أن تمر دون عقاب من المجتمع الدولي، تمثل بكل المقاييس هزيمة أخلاقية وسقطة حضارية لأقوى وأعظم قوة في العالم، ومن ثم تفقدها المصداقية في خطابها المهيمن والمبشر بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحرير البلاد من الاستبداد لكونها قوة غاشمة تمثل قانون الغاب وشريعة الطغيان والسيطرة والعودة بالبشرية إلى الخلف، ولا تخلق ولا تخلف وراءها سوى العنف والدمار، ولا تترك للآخرين خياراً سوى مقاومتها بكل قوة.
لقد اعتبر الإسلام حروبه مع من يعاديه عملية جراحية لا يجب أن تتجاوز موضع المرض فضلاً عن أن تكون للتشفي فيمن يتمكن منهم، وهو وإن أباح الحرب كضرورة من الضرورات دفعاً للعدوان وحماية للدعوة ومنعاً للاضطهاد وكفالة لحرية التدين، فإنه يجعلها مقدرة بقدرها فلا يقتل إلا من يقاتل في المعركة، وأما من تجنب الحرب فلا يحل قتله أو التعرض له بحال.. كما حرم الإسلام على نحو ما رأينا قتل النساء والأطفال والمرضى والشيوخ والرهبان والعباد والأجراء وحرم المثلة، بل حرم قتل الحيوان وإفساد الزرع والمياه وتلويث الآبار وهدم البيوت، وحرم الإجهاز على الجريح وتتبع الفار.. فأين ذلك كله مما يحدث الآن من معارك لا معنى لها ولا هدف من وراءها سوى فرض الهيمنة وإزهاق الأرواح البريئة والصعود فوق أشلائهم، أو إذلال الناس في بلادهم وأوطانهم وسلب أموالهم وانتهاك أعراضهم وحرماتهم، كما أن تعاليم الإسلام في مثل هذه الجرائم التي ارتكبت في حق غير مسلمي العراق، صارمة وصريحة وتتلخص في نهي النبي صلوات الله وسلامه عليه عن التعذيب بكل صوره وأشكاله، وفي قوله فيمن يفعل ذلك: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)، وقوله في آخر ما تكلم به فيما رواه عنه ابن عمر: (احفظوني في ذمتي)، وقوله كذلك: (من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة).
ويتسامى الإسلام في اتجاهه نحو المثالية في إقامة العدل وتحريم الظلم والاعتداء إلى غير ذلك من القيم الرفيعة، بدءً من وقت مشروعية القتال (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، وحتى احتفاظ المعتدى عليه بحق أخذ القود والقصاص من نفس صاحب الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم على ما أورده أبو نضرة عن أبي فراس في قوله: "خطبنا عمر بن الخطاب فقال: أيها الناس، إني والله ما أرسل عمالأً (قواداً وأمراء) ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فُعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلىّ فوالذي نفس عمر بيده أقصنه منه .. وكيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه" .. ومروراً بدعوة الناس قبل إعلانهم بالحرب، إلى دين الله الحق والتخلي عن عبادة البشر، أو التخلي عن الحيلولة دون دعوة الناس لذلك، قال أبو يوسف: (لم يقابل رسول الله قوماً قط فيما بلغنا حتى يدعوهم إلى الله ورسوله) .. والتحلي بالأخلاق الفاضلة أثناء الحروب على ما أفادته رسالة عمر إلى سعد التي يأمرها فيها ومن معه بتقوى الله على كل حال وبأن يكونوا أشد احتراساً من المعاصي منهم من عدوهم .. والمحافظة على نفوس من وقع من الأعداء في الأسر ووجوب التعامل معهم بالحسنى على نحو ما جاء في قوله تعالى: (فإما مناً بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها.. محمد/4)، وفيما أورده الإمام مسلم من حديث أنس من أنه صلى الله عليه وسلم أطلق سراح الذين أخذهم أسرى وكان عدهم ثمانين وكانوا قد هبطوا عليه وعلى أصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، وفيهم نزل قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم .. الفتح/ 24)، وفي قوله لأهل مكة يوم الفتح: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وفيما أقره عليه السلام في غزوة بدر من قبول الفداء بالمال، وفيما صح عنه مما رواه أحمد والترمذي أنه فدى رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل .. والنهي عن استعمال العنف معهم أو تعاملهم بقسوة على ما هو مفاد من حديث أبي مسعود الأنصاري الذي فيه يقول: (بينا أنا أضرب غلاماً إذ سمعت صوتاً من خلفي، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك من هذا الغلام)- أي من قدرتك عليه- فقلت: (هو حر لوجه الله)، فقال: (لو لم تفعل لمستك النار) .. والدعوة إلى إكرامهم والإحسان إليهم ومعاملتهم معاملة رحيمة على ما دل عليه قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسٍيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً .. الإنسان/ 8، 9) .. وإلى فك أسرهم على نحو ما جاء عن أبي موسى الأشعري من قوله عليه السلام: (فكوا العاني- أي الأسير- وأجيبوا الداعي وأطعموا الجائع وعودوا المريض)، وما ورد من جميل أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه من أنه لما وقع ثُمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة في أيدي المسلمين قال لأصحابه: (أحسنوا إساره)، ولما جاؤوا به إليه قال لهم صلوات الله وسلامه عليه: (اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه)، فكانوا يقدمون إليه لبن لقحة النبي عليه السلام- ناقته الحلوب- غدواً ورواحاً، وكان عليه السلام يغدو عليه فيقول ما عندك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تمنن تمنن على شاكر وأن تُرد المال نعطك منه ما شئت)، فمن عليه وأطلق سراحه بدون فداء فكان ذلك سبباً في إسلامه، فبعث به إلى أبي طلحة وأمره أن يغتسل فاغتسل وصلى ركعتين ثم قال: والله يا محمد والله ما كان على الأرض أبغض إي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي والله ما كان م بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي فما كان منه عليه السلام إلا أن وشهد له بقوله لأصحابه: (لقد حسن إسلام أخيكم) .. وما جاء في الصحاح في شأن أسرى غزوة بني المصطلق وكان من بينهم جويرية بنت الحارث من "أن أباها الحارث بن أبي ضرار حضر إلى المدينة ومعه كثير من الإبل ليفتدي بها ابنته، وفي واد العقيق قبل المدينة بأميال أخفى اثنين من الجمال أعجباه في شعب بالجبل، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا محمد أصبت ابنتي وهذا فداؤها)، فقال عليه السلام: (فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا؟)، فقال الحارث: (أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما أطلعك على ذلك إلا الله)، وأسلم مع الحارث ابنان له وأسلمت ابنته أيضاً، فخطبها رسول الله إلى أبيها وتزوجها، فقال الناس: (لقد أصبح هؤلاء الأسرى الذين بأيدينا أصهار رسول الله)، فمنّوا عليهم بغير فداء، تقول عائشة رضي الله عنها: (فما أعلم أن امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية، إذ بتزوج الرسول إياها أعتق مائة من أهل بيت بني المصطلق) .
وهل أتاك نبأ صلاح الدين وما فعله بعد أن انتصر على الصليبيين الذين فعلوا الأفاعيل في المسلمين، لقد أكرم رجال الدين المسيحي- خلافاً لما رأيناه وقصصناه من أمر جنود وقادة الصرب والغرب الذين يجدون لذتهم في إهانة علماء المسلمين وإذلالهم والسخرية منهم- أعطى صلاح الدين بطريرك القدس بكل احترام أمواله وأموال الكنائس وذخائرها، كما سمح للمسيحيين بالبقاء في ديارهم كرعايا للدولة، وأكرم كذلك ملكة بيت المقدس فسمح لها أن تصحب زوجها وأموالها وخدمها أثناء مغادرة البلاد، وفعل الشيء نفسه مع بقية الزوجات الأخريات، وحين تقدم له اليهود من نساء الفرنجة والدموع تملأ أعينهن يسألنه في استرحام .. أين يستطعن الذهاب بعد وقوع أزواجهن وآبائهن في الأسر وعدهن بأنه سوف يطلق سراح كل زوج أسير، أما الأرامل واليتامى فقد أعطى كل واحدة منهن منحة تتناسب مع مكانتها، وبهذا قدم العطف وأمر بالعفو عن هؤلاء الغزاة .. إلى غير ذلك مما جاء في إشادة السير (ستيفن رونشمان) أحد مؤرخي الحروب الصليبية وقوله: "كان صلاح الدين في معركة حطين وعلى أبواب أورشليم معلماً للإنسانية في مواجهة جند الصليب وفي كيفية سلوك الرجل العظيم في الاحتفال بالنصر"، في إشارة لما سجله له التاريخ بأحرف من نور وصدر عنه حينما أمر جنوده بألا يمثلوا بقتيل ولا يجهزوا على جريح وأن يرحموا الشيوخ والأطفال ولا يفضحوا النساء وألا يتعرضون لما يحملونه من أموال وذخائر.
والحق أن الكلام في هذا وفي صون حرمة غير المسلم في بلاد المسلمين والحفاظ على كرامته، أكثر من أن يحصى وأعظم من أن يحيط به كتاب أو مجرد مقال، وقد اعترف بهذه الحقيقة (كالفيلي) وأكدها حين قال: "إن الإسلام يؤكد على حسن معاملة غير المسلمين، انطلاقاً من قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)"، كما أقر بها المستشرق الإنجليزي (توماس أرنولد) حين نص في كلامه على "أنه على الرغم من أن صفحات التاريخ قد تلوثت بدماء كثير من الاضطهادات القاسية، فقد ظل الملاحدة ينعمون في ظل الحكم الإسلامي بدرجة من التسامح ليس لها مثيل" .. ولا عجب بعد هذا كله في أن نجد الشعوب المختلفة ترحب بالمسلمين الفاتحين وتنضم إليهم لتنجو من عسف الروم والفرس وتستظل بوارف من العدل والسماحة والحرية على نحو ما فعل المسيحيون عندما كتبوا في الشام لأبي عبيدة وهو معسكر في فحل يقولون له: "يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفي لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا" ، وعلى نحو ما فعلت قبائل عربية في الشمال دانت بالمسيحية زمناً طويلاً، فلما بدأ الإسلام يصطرع مع الروم سارع بعضها مثل بني غسان إلى اعتناقه والانضمام إلى المسلمين، وغيرها ممن كانت موالية للفرس وذلك بعد موقعة القادسية سنة 14هـ، وعلى نحو ما فعل القبط في مصر عندما رحبوا بالفتح الإسلامي الذي أنقذهم من الاضطهاد الديني ومن ظلم الروم وتنكيلهم بمخالفيهم، إذ كان بعضهم يعذب م يلقى بهم في اليم، كما قتل منهم مائتي ألف في مدينة الإسكندرية بأمر من الامبراطور (جستنيان)، وما زال التاريخ يقص علينا أن بعضهم أسلم قبل الفتح وبمجرد سماعه عن سماحة الإسلام وعدله، وأن عمراً بن العاص كتب بيده عهدا لهم- بعد استيلائه على حصن بابليون- بحماية كنائسهم، ولعن أي مسلم يخرجهم منها، وكتب أماناً للبطريرك (بنيامين) وأمر باستقباله بحفاوة بالغة، ورده إلى كرسيه الذي تغيب عنه ثلاثة عشر عاماً، والقائمة في ذلك طويلة يضيق بها المقام ، وكلها تشهد بما شهد به التاريخ وجميع الحقائق بأنه ما عاش أهل الأديان في ظل دين كفل لمخالفيه كرامتهم وصان حقوقهم وحريتهم الدينية، سوى دين المسلمين الذي هو في الأساس دين عيسى عليه السلام ودين جميع الأنبياء والذي قال عنه رب العزة سبحانه (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.. الشورى/13)، وعليه فـ (من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).
المقال الثاني في: (أهمية مراجعة النفس في إصلاح الأمة وتحقيق وعد الله المرتقب)
ما من شك في أن الأمة الإسلامية الآن تواجه ظروفاً صعبة وصنوفاً عديدة من البلاء يأتي على قمته تسليط عدوها عليها، والأمة الواعية هي التي تدرك أن ما يحل بها من بلاء إنما يرجع السبب الأساسي فيه إلى ابتعادها عن منهج ربها ووقوعها في معاصيه، فتعمل من ثم على تفادي ذلك حتى تثوب لرشدها وتسترد من ثمّ عافيتها، وفي بيان ذلك يقول سبحانه: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.. الشورى/30)، وفي الأثر عن العباس رضي الله عنه (ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة)، وسنة الله الماضية في خلقه (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. الرعد/11).
والأمة الواعية كذلك هي التي تدرك أنها بتجرئها على المعاصي وابتعادها عن منهج إسلامها وشريعة خالقها، تجلب عليها سخط الله الذي قد يتسبب في أن يبعث عليها من يسومها- بسبب معاصيها- سوء العذاب، وفي الأثر أن بعض أنبياء بني إسرائيل نظر إلى ما يصنع بهم بختنصر من إذلال وقهر وإبادة وقتل وتشريد فقال: (بما كسبَتْ أيدينا سلطتَ علينا من لا يعرفك ولا يرحمنا)، وذكر ابن أبي الدنيا عن الفضيل بن عياض قال: أوحى الله إلى بعض أنبيائه: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني) .. بل إن الجرأة على مبارزة الله بالمعاصي أو السكوت عنها قد تجلب على الأمة سخط جميع خلقه، لانشغال هذا الخلق العجيب بما غفلت عنه من ذكر وتسبيح (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .. الإسراء/44)، والقيام بما سخرت من أجله خير قيام، ولخروج الإنسان بتجرئه على المعصية عن منظومة هذا الكون، وتسببه بمعصيته في إلحاق الأذى به وبما فيه من مخلوقات، وفي أثر لأبي هريرة: (إن الحبارى- نوع من الطيور يشبه الأوز- لتموت في أوكارها من ظلم الظالم)، وقال مجاهد: (إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذ اشتدت السنة وأمسك المطر وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم)، ويقول عكرمة: (دواب الأرض وهوامها .. يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم).
ولقد أدرك السلف الصالح جيداً حقيقة هذه الأمور حتى أن بعضهم كان يقول: (إني لأعصى الله، فأرى أثر معصيتي في خلق دابتي وامرأتي)، ونذكر مصداقاً لذلك ما ذكره ابن أبي الدنيا من أن الأرض تزلزت على عهد رسول الله ، فوضع صلى الله عليه وسلم يده عليها ثم قال: (اسكني، فإنه لم يأن بعد)، ثم التفت إلى أصحابه فقال: (إن ربكم ليستعتبكم فأعتبوه)، أي يطلبكم للرجوع عن إساءته واسترضائه ، ثم تزلزلت بالناس على عهد عمر بن الخطاب فقال: (أيها الناس ما كانت هذه الزلزلة إلا على شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبداً) ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: "أما بعد، فإن الرجف شيء يعاتب الله عز وجل به العباد، وأمرهم بالصدقة وبالتوبة والاستغفار" ، كذا استشعر الرسول وصحابته وتابعيه بإحسان مدى خطر المعصية من خلال بعض تغيرات في الكون بل من خلال زلزلة واحدة قد تقع فينا ونمر عليها مرور الكرام، وفي تعليل ذلك وتقريره يقول كعب: (إنما تزلزل الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي فترعد فرقاً- أي خوفاً- من الرب جل جلاله أن يطلع عليها)،[السابق]، فما أكثر ما يمر بالمسلمين من نحو ذلك ومما لا يبعد أن يكون سبباً في تسليط عدونا وما من معتبر ولا مدكر.
والشيء بالشيء يذكر، فحين مر بجيل الصحابة وحل بهم من جراء الهزيمة في غزوة (أحُد) ما حل، أرجع سبحانه الأمر والسبب فيه إلى ذواتهم وعلمهم أن يراجعوا أنفسهم، وأن يعزوا ما حل بهم إلى ما جنته هذه الأنفس من معصية قد بدت في أعين أصحابها صغيرة، وأعلمهم أن مخالفة الوحي وعدم اتباع الرسول ولو في أمر واحد هو من أعظم الأسباب المؤدية للهزيمة وتأخر النصر، فأخذوا من ذلك درساً استفادوا منه في حياتهم وأفادوا به غيرهم، وفي شأنه جاء قوله تعالى: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير. وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين.. آل عمران/165، 166).
وفي ذكر أمهات وأصول بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في هذه الوقعة المباركة يقول ابن القيم: "منها تعريفهم بسوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك كما قال تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم .. آل عمران/ 152)، فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان، ومنها أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بان يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى لكن يكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائماً دخل معهم المسلمون وغيرهم ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انتصر عليهم دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة .. ومنها استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية، ومنها أنه سبحانه لو نصرهم دائماً وأظفرهم بعدوهم في كل موطن وجعل لهم التمكن والقهر لأعدائهم أبداً، لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يُصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته أنه بهم خبير بصير، ومنها أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خِلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار، قال تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة .. آل عمرا/ 123)، وقال: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً .. التوبة/ 25)، فهو سبحانه إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولاً، ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره، ومنها أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحن فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها، ومنها أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغناء طغياناً وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه، ومنها أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أولياءه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء يراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو، ومنها أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين.. آل عمران/ 139- 141)، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وهممهم، وبين حسن التسلية وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم"إلى غير ذلك مما أبدع فيه ابن القيم، ومما الأمة الآن في مسيس الحاجة لتذكره والتذكير به .
وقل عن مثل هذا في غزوة (حنين) حين ابتلوا بذاك المرض القلبي وهو داء العجب، فأراد سبحانه أن يبين "لمن قال: (لن نغلب اليوم عن قلة) أن النصر إنما هو من عنده وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئاً فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خُلع الجبر مع بريد النصر (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها.. التوبة/ 26)، وقد اقتضت حكمته أن خُلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون .. القصص/ 5، 6)" . وهكذا شاءت إرادة الله أن يستوعب أهل الإيمان الدرس جيداً وأن يدركوا على مر العصور والدهور أهمية التخلي عما حذر منه المولى سبحانه في قوله: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه.. الأنعام/120).
وفي هذا الصدد يروي الإمام أحمد في مسنده عن جبير بن نفير قوله: (لما فتحت قبرص جعل أهلها يبكون، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله عز وجل إن هم أضاعوا أمره بعد أن كانوا أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى) .. وتلك هي البداية الصحيحة إذا أردنا أن نضع أيدينا على مكامن الداء وأن نستعلي من ثمّ بديننا وننعم- في بحبوحة العزة- بدنيانا.
والأمة على هذا في أمس الحاجة إلى إحداث توبة، توبة عامة جماعية تشمل العصاة والمذنبين كما قال تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.. النور/ 31)، وكل الدلائل والوقائع تشير إلى أن الأمة التي تعود إلى طريق الرشاد وتصدق في التوبة والإنابة إلى رب العالمين، يفتح الله لها ويرفع من شأنها ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها نتيجة الذنوب التي ارتكبتها والمنكرات التي أشاعتها، ويمتعها متاعاً حسناً ويجعل الصولة والدولة لها، ويرزقها الأمن والأمان والاستخلاف في الأرض والتمكين فيها كما وعدها.. ومن الحكم الجليلة لمحبة الله لتوبة التائبين أن أسماءه الحسنى سبحانه التي تتضمن الصفات العظمى تقتضي ظهور آثارها في الكون، فاسم الله (التواب) الدال على اتصافه سبحانه بقبول التوبة دائماً وأبداً مهما تكررت، يقتضي إيجاد مذنب يتوب من ذنبه فيتوب تعالى عليه وهذا ادعى لان يراجع العبد نفسه فتقوي صلته بقيوم السماوات والأرض ويتحقق له من ثم التأييد والغلبة على العدو، وهكذا هي بقية أسماء الله الحسنى التي يأتي ضمنها (القوي) (العزيز)، وهما مع دلالتهما على اتصاف الله جل وعلا بالهيمنة وبأنه الغالب على أمره الذي لا مغالب له، يقتضيان وجود مخلوق ضعيف مغلوب على أمره، لا حول له ولا قوة إلا به ولا عز له ولا منعه إلا بالوقوف ببابه وإظهار العجز والاستكانة لجنابه، ولا يستمد العون والمدد والنصر على الأعداء إلا منه.
ونحن لو تأملنا العديد من أحاديث الرسول الكريم فيما نحن بصدده من تسليط أعداءنا علينا لوجدناها تصب في هذا الإطار، إطار مراجعة النفس وإحداث توبة نصوح تجب الذنب وتقرب العبد من الرب.. ومن المهم في هذا المقام تجلية أهم الأسباب التي جعلتنا نهون على عدونا والكشف عنها، فذلك ولا شك يجعلنا لا نستمرئ ما نحن فيه سيما مع قول الله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.. البقرة/217)، إذ ذلك تحذير لهذه الأمة يكشف عن طبيعة القوم، وعن أن الأمة إذا غضت الطرف عن عدوها فإن عين عدوها عليها ساهرة لا تغمض ولا تنام فهو لها بالمرصاد، يتربص بها ويتحين الفرصة السانحة المواتية حتى ينقض عليها.
ونذكر من تلك الأشياء التي أدت بالأمة إلى ما هي فيه مما جاءت به الإشارة في أحاديث رسول هذه الأمة الرحيم بها:
1- حب الدنيا وكراهية الموت: وذلك أمر هو من الوضوح بمكان وقد جاء ذكره في حديث ثوبان الذي أخرجه أحمد في مسنده وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الحياة وكراهة الموت)، فها هي الدنيا تربعت في قلب كل منا حتى أضحي ولاء المسلم عليها وعداءه عليها، ولا يمكن أن ينصلح حال أمة كان هذا حال أفرادها، لأن هذا يعني ارتضاءها بالدون من العيش والرخيص من العَرَض، وتلك هي صفة الذين ينبذون التضحية من أجل هذا الدين ويؤثرون على ذلك الركون إلى الدنيا والعيش في هذه الحياة بأي ثمن، ونحن لو تأملنا ما جاء في حديث القرآن عن أسباب هزيمة المسلمين في غزوة أحد للاحظنا كيف قرنت الآيات بين مخالفة أمر الرسول عليه السلام والانكباب على الدنيا، وكيف عرّضت بالمنشغلين بمتاعها الزائل الذي تمثل في جمع الغنائم عما أعده الله لمن آثر الآخرة على الأولى حيث يقول تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحثونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة .. آل عمران/152).
2– ممالأة الباطل وأهله على حساب الحق وأهله: وهذا من الأمور التي يُتهاون في شأنها وقلما يُفطن إليها، وذلك لتعلقه ربما بأسباب الحياة وبحكم الضرورة، لكن ما عند الله لا ينال بمعصية وسلوك هذا الطريق المتعدد الجوانب يبعث على نشر الفساد كما يشعر أهل الباطل الممسكين بتلابيب الأمور بنشوة تقلب لديهم الحق باطلاً ثم يعقب ذلك إكراه الناس على هذا الباطل الذي يمثل في وجهة نظرهم الحق، كما لا يخلو شيوع هذا الطريق واتسام أهله به من نقل عدواه إلى الآخرين، وفي الحديث: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، والأمة التي تتغلغل في قلبها الجرأة وتمتلئ جوانحها بالتمسك بثوابت هذا الدين، تجعل إحقاق الحق والصدع به فوق كل اعتبار، (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً. وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. الكهف/28، 29)، ولنا أن نتأمل في ذلك، ما تقرر في قول النبي صلى الله عليه وسلم مما جاء في مراسيل الحسن: (لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وفي كنفه ما لم يمالئ قراؤها أمراءها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يُهن أشرارها خيارها، فإذا هم فعلوا ذلك رفع الله يده عنهم، ثم سلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر)، ومن يستطيع اليوم أن ينكر واقع المسلمين الذي ينبأ بما ذكره عمر بن الخطاب فيما رواه عنه الإمام أحمد: (توشك القرى أن تخرب وهي عامرة، قيل وكيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها أبرارها وساد القبيلة منافقوها)، أو ينكر مصداقه في قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ذكره الأوزاعي عن حسان بن عطية: (سيظهر شرار أمتي على خيارها، حتى يستخفي المؤمن فيها كما يستخفي المنافق فينا اليوم)؟.
3 - ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وتلك من أعظم الأسباب المؤدية إلى تسليط العدو علينا وتمكينه من أمة الإسلام، يدل عليه ما جاء في مسند أحمد وغيره من حديث عروة عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فما تكلم حتى توضأ وخرج، فلصقتُ بالحجرة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (يا أيها الناس إن الله عز وجل يقول لكم: مروا بالمعرف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم وتستنصروني فلا أنصركم وتسألوني فلا أعطيكم)، ومن الأحاديث التي جاءت في معنى ما ذكر ما أورده ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر يرفعه وفيه: (.. لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليبعثن عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم).
4 - خفر العهد بمعنى نقضه: ومن الأحاديث الشهيرة في النهي عن ذلك ما جاء في قول ابن عمر رضي الله عنه: (كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا رسول الله بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، وما نقص قوم في المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء فلولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد- وفي رواية ولم ينقضوا عهد الله ورسوله-إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم) .. والسؤال: أفليس هجران شريعته جل وعلا كتاباً وسنة وترك التحاكم إليها واستبدالها بالقوانين الوضعية والأنظمة البشرية وسكوت الأمة عن ذلك نقض لعهده وعهد رسوله ونقض لعقد الإيمان- المتمثل في كل خطاب صدر بـ (يا أيها الذين آمنوا)- بعد توكيده، وأليس مخالفة أوامر الله وأوامر رسوله في كل ما خوطب به المؤمن هو من خفر العهد، لمخالفته لموجب ما جاء في عقد الإيمان هذا؟.
5 - ترك الجهاد بالنفس والمال لمن تعينا في حقه واستطاع إليهما سبيلاً: ففي الحديث الذي أخرجه ابن أبي الدنيا وأبو داود بإسناد حسن عن ابن عمر قال: (لقد رأيتنا وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم) .. ويسبق الجهاد على هذا النحو- بالطبع- جهاد النفس لدى كل فرد من أفراد الأمة بقمعها وتخليها عن ارتكاب الرذائل وحضها في الوقت ذاته على فعل الفضائل، ويسبقه بالضرورة مجاهدة الشيطان، إذ بغيرهما لا يقوى الفرد على مجاهدة عدوه الخارجي على ما أفاده تفصيلاً ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد)، ومن جميل ونفيس ما ذكره في هذا الصدد: "لما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، إذ كيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج، فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله ويرجف به ولا يزال يخيل له م في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ وفوت اللذات والمشتهيات ، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما وهو الشيطان، قال تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً)، والأمر باتخاذه عدواً، تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته كأنه عدو لا يفتر ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس، فهذه ثلاثة أعداء أمر العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بلي العبد بمحاربتها في هذه الدار، وسلطت عليه امتحاناً من الله له وابتلاء، فأعطى الله العبد مدداً وعدة وأعواناً وسلاحاً لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مدداً وعدة وأعواناً وسلاحاً، وبلا أحد الفريقين بالآخر وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم، ويمتحن من يتولاه ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه كما قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً)، وقال: (ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض)، وقال: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)، فأعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقوى، وأنزل عليهم كتبه وأرسل إليهم رسله وأمدهم بملائكته وقال لهم (إني معكم فثبتوا الذين آمنوا)، وأمرهم من أمره بما هو من أعظم العون لهم على حرب عدوهم، وأخبرهم أنهم إن امتثلوا ما أمرهم به لم يزالوا منصورين على عدوه وعدوهم، وأنه إن سلطه عليهم .. فلتركهم بعض ما أمروا به، ولمعصيتهم له، ثم لم يؤيسهم ولم يقنطهم بل أمرهم أن يستقبلوا أمرهم ويداووا جراحهم ويعودوا إلى مناهضة عدوهم فينصرهم عليهم ويظفرهم بهم، فأخبرهم أنه مع المتقين منهم ومع المحسنين ومع الصابرين ومع المؤمنين، وأنه يدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدفعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوهم، ولولا دفاعه عنهم لتخطفهم عدوهم واجتاحهم، وهذه المدافعة عنهم بحسب إيمانهم وعلى قدره، فإن قوي الإيمان قويت المدافعة، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وأمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته، وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا عصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر، فحق جهاده أن يجاهد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله، فيكون كله لله وبالله لا لنفسه ولا بنفسه، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعيده ومعصية أمره وارتكاب نهيه، فإنه يعد بالأماني ويمني الغرور ويعد الفقر ويأمر بالفحشاء وينهى عن التقى والهدى والعفة والصبر وأخلاق الإيمان كلها .. فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان وعدة يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله لتكون كلمة الله هي العليا" .
6 - ظهور الزنا والربا: وهو في معنى ما سبق ولا يخفى خطورة هذين الداءين بالذات على أمة الإسلام إذ هما من الأمراض الفتاكة التي هي كفيلة بأن تعصف بها عندما ينتشران- عياذاً بالله من ذلك- بين أفرادها، ويشيعان بين أبنائها، ويدرك من له أدنى بصيرة كيف سرت هذه الأمراض القاتلة وكيف حلّت بأمة التوحيد، فقد تعدى أمر الزنا- والعياذ بالله- جميع مراحله بدءاً من مقاربته بتعاطي الأسباب المؤدية إليه ومروراً بالوقوع فيه وعدم الشعور بالذنب وانتهاء باستحلاله عن طريق ما يسمى في أياما بالزواج العرفي أو السِّرى أو غير ذلك مما لا يكون الولي على علم به وينطبق عليه قول الصادق المصدوق فيما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل)، وقوله فيما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي موسى الأشعري وعائشة وابن عباس وجابر ابن عبد الله وأبي هريرة: (لا نكاح إلا بولي)، حتى سرت عدوى هذه الحمى القاتلة إلى مراحل التعليم الثانوي، بعد أصبح التعليم فارغاً من مضمونه الأخلاقي وبعد أن فقد أثره في الحياة العملية وأضحى لا يبتغى به وجه الله.. ومما زاد الطين بلة شيوع أمر الربا الذي ذمه الإسلام من كل وجه وذم كل ما يمت له بصلة على ما أفاده حديث جابر: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، هم فيه سواء) ، والذي شاب تعاملات المسلمين في كل مناحي حياتهم رغم تحذير الله منه وتعليقه الإيمان على الانتهاء عنه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين.. البقرة/ 278)، ثم توعد على فقال: (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله.. البقرة/ 279)، وقد أدى إلى شيوعه وعُد به واحداً من أسبابه القوية، ضنُّ الأغنياء بما معهم لفك كرب المكروبين وإلجاء الغارمين وأصحاب الأعذار والحاجات لطرق بابه، وغاب عن هؤلاء جميعاً ما صرح به نبي الرحمة صلوات الله عليه في قوله فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما: (من نفّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)، وفي حديث عبد الله بن مسعود الناهي والمحذر من مغبة وعواقب هذين الخطرين الداهمين يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله عز وجل بهلاكها)، وفي رواية: (فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله) وهل بعد هذا الإيذان وإعلان الحرب من وعلى الله ورسوله الذي جاء ذكره ضمناً في هذا الحديث وجاء ذكره صراحة في قول الله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله .. البقرة/278، 279) من رجاء في أمن أو أمان، أو من أمل في تحقيق نصر أو دفع هزيمة؟.
7- الأغاني الخليعة واللهو الماجن: وهما مما يصدان عن ذكر الله ويفسدان القلوب إفساداً ما بعده إفساد ويحمل لواءه سفلة القوم وأراذلهم ممن تركوا المروءة وفشلوا في حياتهم العملية وانتكست فطرهم، ومن غريب ما يجري أنهم يجعلون من هذه الأشياء الجالبة لسخط الله وسائل ترفيه لجنودنا وضباط جيوشنا وتسرية لهم حتى في المناسبات الدينية، وفي الحديث الصحيح أنه (سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر) ، وجميعها منذرة بعذاب الله في الدنيا قبل الآخرة، قال الحافظ ابن القيم: (وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة، وهو مقيد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء وشرب لخمر، وفي بعضها مطلق" كما حدث بذلك الشيخ يعقوب في بعض شرائطه.
ولا ينبغي أن يظن أنا وبحديثنا عن أثر المعصية قد بعدنا عن موضوعنا في تسليط العدو على أمتنا، فأمتنا سيما من كتب على أفرادها القتال وهو كره لهم، إنما تنصر بمشاركتنا لهم ولو بالنية وبطاعتنا وإياهم لله وبتجنبنا معاصيه، وقد تواترت الأنباء عمن حبسهم العذر فكتب الله لهم من الأجر ما كتبه لمن خرج للغزو، كما تواترت عمن نصروا برجوعهم لسنة السواك التي غفلوا عنها، وعمن عبروا الأنهار بخيولهم إلى غير ذلك مما خرقت فيه العادات وجعله الله سبباً لنصرتهم، ولقد كان عمر يخشى على جنده المعصية أكثر من خشيته سطوة أعدائه أو كثرة عدتهم وعتادهم، ومن وصاياه لقائد جنده سعد بن أبي وقاص فيما يشبه أن تكون وثيقة لعقيدة المسلمين في الحرب وقانوناً ثابتاً في غزوهم: "فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصى الله وأنت في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل- لما عملوا بمساخط الله- كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، واسألوا الله على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله ذلك لنا ولكم .. وإذا وطئت أرض العدو، فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه، والغاش عين عليك.. واجعل أهل السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخص بها أحداً بهوى فتضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك ..إلخ ما جاء في وصيته"، كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أنه لما حوصرت عكا من قبل الصليبيين في عهد صلاح الدين كتب إليه القاضي الفاضل الذي كان يجهز للسلطان ما كان يحتاج إليه: "إن سبب هذا التطويل في الحصار كثرة الذنوب وارتكاب المعاصي بين الناس، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته".
8 - التخلي عن نصرة المسلمين إخوانهم ولو بالدعاء: فقد أصبح ما يعانيه المستضعفين من المسلمين هنا وهناك لا يهم سوادهم الأعظم، وكأن ما يجاهد أولئك المغلوب على أمرهم من أجل تحريره، من أوطان ومقدسات أمر لا يخص هذا السواد ولا يعنيه في قليل ولا كثير، والغريب أن يحدث هذا في الوقت الذي يجتمع فيه أهل الباطل بقضهم وقضيضهم بخيلهم ورجلهم سعياً إلى الاعتداء على الجميع ظلماً وعدواناً ولاجتثاث بيضتهم، لذا كان التخلي عن نصرة المجاهدين ولو بالدعاء هو التقاعس والتسليم والخذلان بعينه المنهي عنه في قوله عليه السلام فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: (المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله)، وفي رواية (لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله) ، وفي المتفق عليها من حديث ابن عمر(لا يسلمه) .. كما أن ما جاء في قوله تعالى: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر .. الأنفال/72)، يقتضي بل يستوجب ما ذكرنا من حمل الهم ونصرة أولئك المستضعفين ولو بالدعاء وهو ما يمثل أضعف الإيمان وأقل ما يجب على المسلم تجاه أخيه، فلرب دعوة من رجل صالح كانت سبباً في إحلال نصر بأمة أو في دفع هزيمة عنها، وفي حديث سلمان الذي أخرجه الترمذي (لا يرد القضاء إلا الدعاء)، وفي حديث عائشة يقول صلوات الله وسلامه عليه: (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل وممل لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان- يعني يتصارعان ويتدافعان- إلى يوم القيامة).
وعلى قدر الالتزام بآداب الدعاء والإخلاص فيه على قدر ما تتحقق الإجابة، فلا يستبطئن مسلم الإجابة فقد تتحقق بعد حين، وليكن الشغل الشاغل للمخلص الداعي ربه أن يحمل هم الدعاء بأن يؤده على وجهه الصحيح ويراعي ضوابطه ويتحرى فيه أوقاته، ويوقن بأنه سبحانه كما جاء في الحديث عنه: (حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً)، كما أنه تعالى: (لا يتعاظم عليه شيء)، وما أكثر ما أتبع الإجابة بالدعاء فيما حكى لنا في كتابه العزيز وكما يبدو ذلك جلياً في التعبير عقب الدعاء بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب والواردة في نحو قوله تعالى: (ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم .. الأنبياء/ 76)، وقوله: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر .. الأنبياء / 83، 84)، وقوله: في حق يونس لما دعا في بطن الحوت: (فاستجبنا له ونجيناه من الغم .. الأنبياء/ 88)، وقوله في حق زكريا لما شكى الوحدة: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجة .. الأنبياء/ 90)، وهكذا هي رحمة الله بعباده الصالحين، تتجلى في قوله عز من قائل في جواب من سأل الرسول عليه السلام أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون .. البقرة/ 186)، بل وفي قوله عقب قصة يونس عليه السلام: (وكذلك ننجي المؤمنين .. الأنبياء/ 88)، وذلك حتى لا يظن أن أمر الإجابة قاصر على الأنبياء والمرسلين.. وقد كان الدعاء في الشدائد والملمات وملاقاة العدو بل حتى في السراء، من دأب نبي هذه الأمة عليه السلام، وهو من جعل الله تعالى لنا فيه القدوة.
وكما أنه صلوات الله وسلامه عليه كان مضرب المثل في الجهاد، وكان في الذروة العليا منه فاستولى على أنواعه كلها ومراتبه، فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان، والدعوة والبيان، والسيف والسنان، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده وكان أرفع العالمين عند الله قدراً والناس بعده متفاوتون في منازلهم عند الله .. فقد كان كذلك مثالاً فيما يمثل في دين الله (مخ العبادة)، في دعائه وتضرعه وجأره ومناشدته ربه الذي لا مولى ولا ناصر له سواه، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وتحكي لنا كتب السنة أنه صلى الله عليه وسلم ندب إلى الدعاء عند القتال ومما ورد عنه في ذلك قوله فيما أخرجه أبو داود: (ثنتان لا تردان، الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلتحم بعضهم بعضاً)، وقوله فيما أخرجه الثلاثة عن عبد الله بن أبي أوفى: (أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)، وأنه عليه السلام فيما رواه أصحاب السنن كان إذا غزا قال : (اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول- يعني أحتال في مكر كيد العدو- وبك أصول- أي أحمل على العدو- وبك أقاتل)، وكان في غزوة فقال: (يا مالك يوم الدين إياك أعبد وإياك أستعين) قال أنس راوي الحديث: (فلقد رأيت الرجال تصرعها الملائكة من بين يديها ومن خلفها) ، وأنه عليه السلام إذا خاف قوماً قال: (اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك ن شرورهم) ، وقال فيما رواه البخاري عن ابن عباس: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: (إن الناس قد جمعوا لكم)، وقال فيما روي عن ابن عمر: (إذا خفت سلطاناً أو غيره فقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله ربي، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، لا إله إلا أنت عز جارك وجل ثناؤك) .
كما تحكي سيرته العطرة ما جاء على لسانه في غزوة بدر بعد أخذه بالأسباب وبعد تعديله صفوف الجند: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك)، حتى إذا حمي الوطيس واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم القتال وبلغت المعركة قمتها، قال: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم)، وراح يبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده له الصديق قائلاً: (حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك)، "وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم، واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه، تلقوا هجمات المشركين وهم مرابطون في مواقعهم واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون: أحد أحد" ، وفي حقه وحقهم نزل قول الله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين. وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم. إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام .. الأنفال/ 9 – 11) .. ومن ينكر ما كان منه صلوات الله وسلامه عليه دعا في صلواته لمن حبستهم قريش إبان الهجرة مما عد أصلاً للقنوت، ولمن غدر ت بهم بعض قبائل العرب في الرجيع وبئر معونة (عضل وقارة .. ورعل وذكوان وعصية)، وعلى من فعل بهم ذلك ، وما كان منه (حين شيع محمد بن مسلمة ومن معه بعد أن انتدبهم لمهمة قتل (كعب بن الأشرف) الذي آذى الله ورسوله، وقوله: (انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم)، ثم رجع إلى بيته وطفق يصلي ويناجي ربه" ، وما كان من ثنائه على ربه في وقعة (أحد) مما رواه الإمام أحمد في مسنده وفيه: "لما كان يوم (أحد) وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استووا حتى أثني على ربي عز وجل)، فصاروا خلفه صفوفاً فقال: (اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت ولا مضل لما هديت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت، الله ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين،الله توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، الله قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سيبلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أتوا الكتاب، إله الحق) .. أو ينسى دعاءه في وقعة الخندق حين دعا على الأحزاب: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ، ودعاءه يوم أوقف جيشه ودنا من خيبر وأشرف عليها: (اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله) ، ودعاءه يوم حنين حين ظهرت شجاعته التي لا نظير لها، وطفق يركز بغلته قبل الكفار وهو يقول: أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب، ونزل بعدها وهو يدعو: (للهم أنزل نصرك) وكان نزول النصر واغتنام نحو أربعة وعشرين ألف بعير وأكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية من الفضة وكانت القسمة العادلة التي ألف بها قلوب من ألف والتي اخضلت على إثرها لحى الأنصار وقالوا: (رضينا برسول الله قسماً وحظاً) .
تلك مع تجنب ما نهى الله وإتيان ما افترض والاجتهاد في قيام الليل وفيما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عدة النصر على الأعداء والتي لا يتحقق موعود الله لهذه الأمة ولا ينصلح إلا بها، وتلك هي سياسة النبي الكريم في تربية أصحابه وفي رفع معنوياتهم وفي تزويدهم بأعلى القيم وبأنبل المعاني، والتي لم تعرف البشرية لها ولا لهم نظيراً، وفي شأنها وشأنهم يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تطلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) .. فنسألك اللهم أن تعيننا على اقتفاء آثارهم وأن تلحقنا بهم في أعلى عليين، وأن ترد عنا سوء القضاء وعظم البلاء وشماتة العداء، وأن تجيب اللهم دعاءنا بنصرة الإسلام وعز المسلمين إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير وأنت يا مولانا نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
خاتمة
من الجائز أن يهوِّن البعض من شأن ومن خطورة الحرب الدائرة الآن بين التحالف الأنجلوأمركي بحضارته الزائفة من جانب والإسلام دين الله العظيم ذو الحضارة الخالدة والضاربة بجذورها في العراقة من جانب آخر .. ومن الوارد ألا يصدق البعض أن ما يجري الآن على أرض العراق وأفغانستان وسواهما من بلدان المسلمين هو من قبيل حرب الأديان وصراع الحضارات، أو يعد ما نذكره هنا من حقائق- أقل ما يقال عنها أنها تمثل شهادتهم وتحمل إداناتهم لأنفسهم- ضرباً من المبالغة .. كما أنه من المحتمل أيضاً ألا يعول الكثير على ما جاء على لسان الرئيس الأمريكي الأسبق (نيكسون) حين قال في كتاب له منذ انهيار الشيوعية: "لقد انتهينا من الشيوعية وما زال أمامنا العدو الأكبر (الإسلاميون)"، وقال فيما يشبه أن يكون توضيحاً: "أما وقد زال العدو الماركسي الشيوعي فقد صار الإسلام هو العدو الأول"، بل ولا حين ترجم الرئيس الأمريكي الحالي (جورج دبليو بوش) هذا الكلام إلى واقع عملي بعد أن أعلن صراحة عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001أن "الحرب الوشيكة هذه المرة ستكون حرباً صليبية وأنها ستكون طويلة الأمد" .. وليس ببعيد أن يلتمس البعض العذر أو يصدق محاولات الأخير في التراجع والتصحيح، وما قاله حين اعتذاره من أنه لم يقصد من عبارته تلك دلالتها الدينية ولا التاريخية بما يعني أنها كانت منه زلة لسان، وما فعله حين قام بزيارة لأحد المراكز الإسلامية الأمريكية.
لكن مما يبدد تلك الشكوك ويدحض هذه الأوهام ويؤكد على أن الرئيس الأمريكي كان يقصد بالضبط ما نطق به وأن ما قاله هو ما كان يعتزم وينتوي القيام به ولو لم يقل، ويثبت بما لا يدع مجالاً لشك أن الصراع الدائر الآن هو كما نميل ونرجح ونؤكد من قبيل صراع الحضارات وأن الحرب الناشئة عن هذا الصراع إنما هي حرب ضد الإسلام وحضارته وأنها على نحو ما نطق بوش حرب صليبية.. أن زلة اللسان التي وقع فيها الرئيس بوش والتي صاحبت التوقيع على قرار الحرب، هي التي تتطابق مع تطلعاته في الهيمنة ومع تعصبه وتوجهاته الدينية ، كما أنها هي التي كشفت عن حقيقة نوايا الولايات المتحدة الخفية، وعن أهدافها ومعها بالطبع حليفاتها من هذه الحرب، وذلك حين سارعت بعد هجمات سبتمبر بتوجيه الاتهام لدول وجماعات إسلامية قبل أن تضع يدها على دليل واحد يثبت تورط هذه الدول أو تلك الجماعات، بل وأتبعت ذلك بحشود عسكرية ضخمة ومبالغ فيها على المياه الدولية .. أحاطت باليابس في شرق الكرة الأرضية وحولته إلى جزيرة مهددة بالدمار حتى لكأنها تستهدف شن حرب عالمية ضد دولة عظمى أو صد هجوم من الفضاء الخارجي .. يبدد تلك الشكوك ويدحض هذه الأوهام، هذا الواقع المرير الذي نعايشه حيث ينام العالم ويصحو كل يوم على إذلال للمسلمين هنا أوهناك، واحتلال جاسم على أراض هي ملك لهم دون منازع، احتلال يصر- بعد أن زالت أسبابه إن صح أن له أسباب- على البقاء، ويستمر حتى بعد أن اتضح لكل من يعيش على كوكبنا ما كان متضحاً من قبل وبعد أن تأكد له ما كان متأكداً من قبل من أنه لا صحة لمبرراته، بل وبعد أن تبين لكل ذي عقل أن من دق طبول هذه الحرب اللعينة ونسج على منوالها وقال بمشروعيتها واختلق لها أسباباً صدع بها أدمغة البشر وملأ بها الدنيا صحباً وضجيجاً، هم أنفسهم الذين قاموا بتفنيد ما قالوه، وهم أعينهم الذين أقروا بكذب ما قيل عن مبرراتها، وهم ذواتهم الذين اعترفوا بأن الحرب الدائرة الآن هي حرب خاطئة وظالمة ولا معنى لها ولا فائدة ولا جدوى من ورائها، فما فائدة ذلك إذن وما قيمة اعترافاتهم مع استمرار مسلسل العنف والتعذيب والبطش من قبل الاحتلال؟ وماذا يعني بقاؤه واستمراؤه؟.. يبدد تلك الشكوك كذلك ويدحض هذه الأوهام، أن هذه الحرب القذرة تأتي - على ما أشارت الصفحات الماضية- في إطار محاولات يائسة لاستئصال شأفة الإسلام الذي يطعنون فيه ويرونه سبباً مباشراً لتعاسة البشرية .. يبدد تلك الشكوك ويدحض هذه الأوهام أن ذلك الاحتلال وتلك الحرب الناشئة عنه يتمان- رضينا أم أبينا قلنا بذلك أو لم نقل- على أساس ديني بحت، وهو فرض المسيحية المغلوطة التي تلقاها ويدين بها المتعصب بوش والقائمة- على حد زعمه وفي ذهن من تلقاها عنهم- على العنصرية والقيم غير الحضارية والمبادئ غير الإنسانية، فرْضها- وهي المنسوخة على لسان عيسى بشريعة محمد الصادق الأمين- بطريقة بشعة فجة مشوهة من خلال مفاسد رائجة وفواحش شائعة وديمقراطيات زائفة، ومن خلال إباحة القتل وسفك الدماء وانتهاك الأرض والعرض، وهو ما يختلف بالطبع بل ويتنافى مع ما جاء به عيسى عليه السلام .. فرْضها وفرض الفكرة اليهودية معها، تلك الفكرة التي استطاعت إسرائيل أن تقنع بها الغرب وتتلخص في أن المسيح قادم ليحكم من القدس، وهي فكرة لها سندها في أساطير الأولين، وقد تنبأ بأسطورتها الطبيب والراهب الفرنسي اليهودي من 600 سنة وفيها أنه في عام القرن الجديد وفي الشهر التاسع منه سيأتي ملك الموت العظيم وتشتعل السماء وتقترب النيران من المدينة الجديدة ويحدث انهيار هائل وتؤدي الفوضى الناجمة عنه إلى تمزيق التوأم (برجي مركز التجارة العالمي) خلال سقوط القلعة (البتاجون) وتبدأ الحرب الثالثة العظمى، وعلى ما هو متضح فكلاً من الفكرة والأسطورة يجسد النبوءة والنظرية التي يدين بها ويعيش على نغمات أوتارها معشر يهود، ويتمشى مع تحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات ومع انتداب الغرب وتسخيره للقيام بتلك المهمة .. كما يبدد تلك الشكوك ويدحض تلك الأوهام حالات السادية والتشفي التي أضحت بادية للعيان ليس فيما يفعله قوات أمريكا والغرب في سجون العراق وأفغانستان وجوانتنامو وحسب بل وما تقوم به هذه القوات الفاجرة الباغية في سجون البصرة والموصل وبوكا وأم قصر وأبو غريب والمطار وبغداد والرصافة والكاظمية والناصرية والرضوانية، وغيرها مما امتلأت به طول العراق وعرضها، ولا معنى لتلك السادية- وأظن أن أحداً لا يخالفنا الرأي في ذلك- إلا أنها تنم عن عقدة الذنب وعن الحقد الدفين الكامن في صدور وقلوب القوم، ولا هدف من ورائها إلا إذلال المسلمين حتى لا تقوم لهم بعد ذلك- بزعمهم- قائمة.
إن المرء يجد نفسه مدفوعاً بقوة وثقة منقطعة النظير إلى الاتفاق مع وجهة النظر التي تتردد على استحياء في الشارع العربي والإسلامي والتي تؤكد أن ما جاء في خطط من سبق بوش أو ما جاء في صريح كلام بوش ذاته مما اعتبره البعض زلة لسان، لم يكن كذلك .. وليس أدل على إثبات ذلك من أن الاعتداءات على الحياة والأحياء في العراق أرضاً وعرضاً، طالت حتى الآثار القديمة وما يعده التاريخ والجغرافيا ضمن عجائب الدنيا السبع، ولن نتجنى على حضارة أم الديقراطيات (بريطانيا)، ولا على القطب الأوحد رمز الحريات (أمريكا)، فقط ندع الحقائق والأرقام وحدها هي التي تتكلم عن حضارة اللصوص وتشهد على ما يفعله أصحاب أسوأ وأحط وأقسى حضارة عرفتها البشرية.
في ملف آثار العراق المنهوبة وفي أحدث عمليات جرد أعقبت الغزو الأمريكي، تبين - حسب ما جاء في جريدة (الأسبوع) بتاريخ 22/ 3/ 2004 - 17/ 5/ 2004- 14/ 11/ 2004 وعلى لسان مدير المتاحف، ومدير المحفوظات الوطنية (سعد إسكندر) - أن هناك ما يزيد على (51) ألف قطعة أثرية عراقية مفقودة، فضلاً عن سرقة ونهب أكثر من 60% من تاريخ العراق المكتوب، وهذه النسبة تمثل ملايين السجلات والوثائق الملكية منذ العهد العثماني، كما تمثل لوحات الأدب البابلي أعظم نتاج أدبي في تاريخ البشرية والتي تحمل معاجم في اللغة ورسائل في الفلك والرياضيات والجغرافيا والطب والكيمياء وعلم الحيوان والنبات ومجموعات نادرة من الملاحم والأساطير، كما تمثل العديد من المخطوطات النادرة والثمينة التي من أبرزها كتاب (قانون الطب) لابن سينا الذي يعود إلى القرن التاسع الميلادي (980 هـ - 1037 م)، و(سحر البلاغة وسر البراعة) للثعالبي تلك النسخة النفيسة التي كتبت عام 482هـ وهما اثنين من 364 مجلد قديم تم الاستيلاء عليها أو حرقها بفعل فاعل .. في البداية قالوا إن العراقيين خرجوا يسلبونها وينهبونها مستغلين حالة الفوضى التي عمت البلاد جراء الاحتلال الغاشم، ثم أكدوا أن ملائكة الرحمة من الأمريكيين في طريقهم إلى استعادة ألفي قطعة أثرية من أصل ثلاثة آلاف!! ليتضح فيما بعد أن الجنود الأمريكان هم الذين سهلوا- بقصفهم أبواب المتاحف- المهمة على عصابات سرقة الآثار العالمية التي شنت هي الأخرى عدواناً مصاحباً للعدوان الأمريكي ليس بحثاً عن أسلحة دمار شامل ولكن بحثاً عن كنوز وثروات العراق .. كل ذلك يحدث – حسب قول الجريدة – في الوقت الذي لم تختف فيه وثيقة واحدة أو (كرسي أنتريه) من وزارة البترول العراقية التي كانت تنعم برعاية وحماية أمريكية.. وكان طبيعياُ أن يصاحب عمليات السطو المنظم هذه، دعاية إعلامية أمريكية من نوعية (جهود أمريكية حثيثة لاستعادة الآثار المسروقة) أو (القوات الأمريكية تتعقب اللصوص العراقيين) .. وكلها أخبار كان العالم يقرأها ويشاهد بعض العراقيين وهم يستولون على أثاث بعض الوزارات ويخرجون بها وهم يتراقصون أمام كاميرات القنوات الفضائية بينما كانت الكنوز الأثرية تأخذ طريقها لخارج البلاد .. ولم يكن غريباً حينذاك أن يتم ضبط (500) قطعة أثرية في فرنسا ومثلها في أمريكا و(250) قطعة في سويسرا و(1000) في الأردن.
وفي إشارة لمدير المتاحف في العراق ذكر أن قاعات العرض والمخازن كان بها حوالي 170 ألف قطعة تعود في معظمها إلى ما بين (3000 و 2500) سنة قبل الميلاد كانت موجودة بالمتحف قبل العدوان الأمريكي سنة 1991، ويُذكر أن القوات الأمريكية قصفت العديد من المواقع الأثرية مما أسفر عن دمار الكثير منها فضلاً عن استخدام بعض هذه المواقع حالياً كمقرات عسكرية وإتاحة الفرصة للخبراء الصهاينة للتنقيب والبحث وإن شئت للعبث بآثار وتراث العراق .. ولم تكن المواقع الأثرية فقط هي التي تعرضت للدمار ولسرقة بل طالت أيادي التخريب الأمريكية المكتبة الوطنية والمركز الوطني للأرشيف والمكتبة المركزية للأوقاف ولجامعة المستنصرية والمكتبة المركزية لجامعة الموصل والمركزية لجامعة البصرة وكلها كانت تحتوي على ملايين الوثائق والمحفوظات، بل طالت أوراقاً نادرة من المصحف الذي كتبه على بن أبي طالب.
ولم يكن غريباً- والحال هكذا- أن تسعى أمريكا ومنذ أن وطئت أقدام جنودها أرض العراق إلى محو التراث الحضاري والإنساني في العراق، ذلك التراث الذي يمثل أحد جناحي الحضارة التي قامت عليها البشرية، لفرض حضارة وثقافة (الكاوبوي) .. كما لم يكن غريباً أن تقوم مدرعة أمريكية وبمجرد سقوط بغداد على قصف بوابة المتحف الوطني وفتح الطريق أمام العصابات الدولية التي دخلت القاعات وهي تحمل معها أدوات ومعاول الهدم لسرقة المقتنيات وتدمير الآثار الموجودة وهو ما أكده شهود العيان .. ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل نجح المخربون بمساعدة سلطات الاحتلال في تدمير وسرقة متاحف الموصل وتكريت والبصرة حتى طال التدمير وعمليات السطو منطقة (نيبور) التي شهدت على مدار خمسة آلاف سنة، أعرق حضارات بلاد ما بين النهرين، وطال كذلك الموقع الملكي لـ (أور) الموطن الأصلي لإبراهيم عليه السلام الذي لم يسلم هو الآخر من عمليات النهب المنظمة .. وما لفت الانتباه في ظل هذا الطمس لمعالم ولهوية العراق ومحو ذاكرته، هو قيام سلطات الاحتلال بتدمير الجامعة المستنصرية ذات الطابع التاريخي والأثري، وقيامها ببناء مقرات لقواتها المسلحة في منطقة (كفر قاسم) إحدى المناطق التاريخية وذلك بعد تجريف تربتها التي يتداخل ترابها مع بقايا أحجار قديمة كانت في الماضي دوراً لجند عاصمة الخلافة، وقيامها كذلك باستخدام موقع الخليفة المعتصم الأثري وأحد معالم (سامراء) التي ظلت على مدى نصف قرن عاصمة للخلافة الإسلامية مقراً عسكرياً لها، وجعلت منه ميداناً للرماية يطلق من خلاله الجنود النيران دون معرفة السبب أو الاتجاه .. كما لفت الانتباه تدمير سلطات الاحتلال البوابة المؤدية إلى باحة (المئذنة الملوية) ودخولها المسجد الجامع لتعتقل كل من فيه من زوار ومسئولين كان آخرهم (عبد الصمد كريم) مدير الآثار في مدينة سامراء الذي أبلغ زوجته من خلال بعض المفرج عنهم بالحفاظ على الخرائط التي يرتسم بها شكل المدينة القديمة وأماكن القطع الثرية .. ولفت الانتباه أيضاً تعامل المخربين مع لوحات ملك بابل (بوختنصر) والتي سجل فيها انتصاراته على اليهود وتخريب أورشليم وأسر ما يزيد عن 40 ألف يهودي سخرهم عبيداً في بابل وعلى إثر إحدى الإفسادتين اللتين تحدث عنهما القرآن- على ما يرى البعض- حيث كشف تحطيمها على أيدي مدربين عن حقد دفين كما لو كانوا ينتقمون من ملكها .. وهو ما دفع الكثيرين إلى تأكيد القول بأن هؤلاء المخربين عناصر من الموساد أو يعملون برعايته، بل وإلى التأكيد على أن ما صاحب سقوط بغداد من نهب هائل تم التخطيط له قبل الغزو، إنما هو عملية تصفية أحقاد تاريخية عمرها 26 قرناً وقد جاءت انتقاماً من عملية السبي العظيم عندما قام ملك بابل سنة 586 قبل الميلاد بتدمير الهيكل اليهودي في القدس وساق كل يهود فلسطين أمامه إلى بابل .. يزكي ذلك ويشهد له قيام باحثين صهاينة بالتنقيب في عديد من المواقع التاريخية على نحو ما سبق أن ذكرنا، كما يزكيه ويشهد له ما تردد من أن قوات الغزو الاستعماري للعراق كانت تضم في صفوفها 13 ألف مقاتل إسرائيلي يحملون الجنسية الأمريكية إلى جانب جنسيتهم الإسرائيلية كما ذكرت المصادر الغربية نفسها.
والحق أن الجرائم الأمريكية والصهيونية على تراث الأمة وحضارتها لا تقف عند حد، فقد نشرت صحيفة (الجارديان) البريطانية بتاريخ 15/ 1/ 2005 مقالاً افتتاحياً عن التدمير المتعمد الذي تعرض له تراث الحضارة البابلية على يد قوات الغزو جاء فيه: "أن الدمار الذي سببه إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية على حطام مدينة بابل التاريخية أحدى أهم وأشهر المناطق الأثرية في العالم، يعتبر أحد أدنأ الأعمال البربرية الثقافية في الذاكرة الحديثة، حيث إنه عمل لا تبرره أي ضرورة عسكرية وكان من الممكن تجنبه تماماً إذ لم تكن هناك ضرورة لبناء المعسكر في المدينة حيث كانت توجد حدائق بابل المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم ، وندرك- والكلام لا زال على لسان (د/ جون كورتيز) من المتحف البريطاني وكما جاء في تقريره-- أن السلطات الأمريكية كانت على علم تام بتحذيرات علماء الآثار بالأهمية الأثرية العالية لهذه المنطقة ورغم ذلك فقد تجاهلت القوات الأمريكية هذه التحذيرات تماماً"، وأعرب د/ كورتيز عن دهشته إزاء "الدمار الهائل الذي لحق بالموقع فيما بعد والذي لم يقتصر على هدم بعض الصروح الأثرية النادرة مثل بوابة الإله (عشتروت) إحدى أشهر الآثار في العالم، بل امتد إلى ما يقرب من ثلاثمائة ألف متر مربع من المنطقة الأثرية تم تسويتها بالأرض ودفنها في الردم المأخوذ من مناطق أخرى، لإنشاء مهبط لطائرات الهيلوكوبتر ومواقف لسيارات النقل الثقيل لم يكن يجب أبداً وضعها فوق هذا الكنز الأثري- ويضيف د/ كورتيز- أن هذا العمل البشع من وجهة النظر الأركيولوجية، يعني أن مواقع أثرية لم يسبق التنقيب فيها قد أصبحت مدمرة للأبد، مما يحرم البشرية من الحصول على معلومات أثرية مستقبلة منها ومن هذه المنطقة الحدائق المعلقة نفسها، وقد تضاعف الدمار نتيجة استجلاب رمال وردم من مناطق أخرى قد يكون بعضها مواقع أثرية بدورها".
وقد أعربت إذاعة الـ (بي بي سي) اللندنية التي أذاعت هي الأخرى هذا النبأ وفي نفس التوقيت وعلى مدار يومين متتالين في نفس التوقيت، عن شديد أسفها لما اقترفته القوات الأمريكية وجنته في حق تلك الآثار القديمة، ونقلت الإذاعة عن مراسل من المتحف البريطاني أن الولايات المتحدة تسببت في خسائر فادحة في مدينة بابل العريقة التي فاقت في روعتها أية مدينة أخرى، وأضاف المراسل في تقريره أن طرقاً مرصوفة منذ ألفي عالم قد دمرت بالعربات العسكرية، وأن بقايا الآثار استخدمت لحشو أكياس الرمل عندما أقيمت قاعدة عسكرية هناك، وأن المركبات العسكرية الأمريكية سحقت تحت عجلاتها وجنازيرها ألفين وستمائة عام هي عمر حجارة الرصيف الأثري الذي دمرته تلك المركبات، أما الرمال الأثرية التي تحتوي- حسب قول الإذاعة- على قطع أثرية، فقد أزيلت هي الأخرى واستخدمت لملء أجولة الرمال ولأغراض عسكرية أخرى، الأمر الذي أدي إلى طمس المعلومات حول المكان سيما بعد أن أزيلت أتربة التربة السطحية لثلاثمائة ألف متر مربع من المنطقة وتم تغطيتها بالحصى ومواد معالجة كيمائية، ونقلت الإذاعة على لسان أحد الباحثين وعن متحدث باسم القوات الأمريكية قولهما: إن المنطقة شوهت معالمها تماماً، وأن الغزو والتدمير كان على نحو خطير، وطال إلى جانب الحدائق برج بابل الذي يعد هو الآخر كنزاً من كنوز العالم القديم ومعلماً بارزاً من معالم الحضارة البابلية التي قامت منذ أربعة آلاف سنة.
تلك- لحين إشعار آخر- هي حقيقة أمريكا والغرب المعلنة، على الأقل على المستوى الرسمي والسياسي والقيادي والعسكري، وإنكار البعض أنه ليس هناك عداء منهما للإسلام وحضارته على هذه الأصعدة لا يعني سوى تعبيراً عن الشعور بالنقص أمام الحضارة الغربية على سوآتها أو تعبيراً عن الإحباط في نفوسنا، لأن ذلك لا يعني سوى أن الحروب التي تشنها أمريكا والغرب على دولنا العربية والإسلامية لها ما يبررها .. وفي هذا الصدد وبعد مشاهداتنا للقليل من الصور التي تكشف عن حجم الأعمال السادية والتشفي الذي حلّ بأهلينا، وتفضح مدى التدمير الذي لحق عشية الاجتياح الأمريكي في أبريل 2003 بتراث أمتنا .. يتعين الانتباه العربي والإسلامي إلى ما يحاك لدين الأمة وعقلها، وما يدبر لحضارة الإسلام وثقافته، إذ لا معنى لهذه الأعمال البربرية سوى أن ما يجري هو ولا شك من قبيل صراع الحضارات، وإلا فما دخل الآثار والمخطوطات الكاشفة عن حضارة العرب والمسلمين في حرب ما أسموه بالإرهاب وهي حرب لا ناقة لهذه الأثار ولا لتلك المخطوطات فيها ولا جمل؟ ولعل الشكوك التي تساور من يحسن الظن بمن لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة قد تبددت الآن، ولعله قد تبين كذلك مدى الحنق والحقد والكراهية التي يضمرها الذين غلبوا على أمرهم من أهل الكتاب، ولعله قد وضح بعد كل ما ذكرنا في هذا الكتاب أن الأمر جد خطير..
والله نسأل أن يحفظ أمتنا من كيد أعدائه وأعدائها وأن يقيض لهذه الأمة من يعيد لها رفعتها ومكانتها، ويرد لها مجدها وكرامتها، وأن يهيأ لها أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير.