الحوار مع الآخر جسر للتواصل بين الحضارات والديانات
القاهرة ـ نهال قاسم
أكد المشاركون في ندوة القيم الاجتماعية في إطار التفاعل الثقافي مع الآخر بمعهد جوته في القاهرة على أن التسامح قيمة إنسانية اجتماعية ومبدأ أساسي في ديننا الحنيف لقوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، وهو ما يعني الاختلاف والتباين ما بين البشر،
وإن هذا لا يعني النزاع والشقاق والدخول في حروب وصراعات، وإنما التعارف يعني بذل المزيد من الجهد من أجل التعرف على الآخر والاقتراب منه ومن أفكاره وأسلوب حياته وديانته، وإنها قيمة تدفعنا إلى التفكير والتأمل حتى نصل في نهاية الأمر إلى أن البشر على اختلافهم من جوهر واحد متساوون في الحقوق والواجبات، وعليهم جميعاً مسؤولية مشتركة تتمثل في نشر ثقافة التسامح والمحبة والأمن والسلام والاحترام المتبادل حتى نجعل من هذه القيمة أساساً للحوار ما بين الحضارات المختلفة من أجل التعاون المثمر البناء والتعايش السلمي الإيجابي ما بين البشر!
أدارت الندوة مديرة معهد جوته بالقاهرة ـ يوته لينباخ ـ وتناولت الندوة ثلاثة محاور أساسية، الأول ما يعنيه التسامح بين الشعوب المختلفة، وتأثيره على الحوار الثقافي، ومدى إسهامه في إشاعة جو من التسامح والاستعداد لقبول الآخر والتفاعل معه بل واحترامه أيضاً!
وقال د. حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري: إن التسامح الثقافي هو الذي يسمح بالتنوع والاختلاف باعتباره سنة من سنن الله في الكون، مؤكداً أن الدين الإسلامي يدعو إلى التسامح من أجل الحياة في وئام وسلام مع ثقافات وحضارات الأمم الأخرى، مشيراً إلى التعايش السلمي ما بين أقباط مصر ومسلميها على مدى العصور المختلفة، ومنذ العصور الفرعونية بحكم التدين القطري للمصري سواء كان مسلماً أو قبطياً، وإن ما يحدث حالياً من قلاقل واضطرابات يعد ظاهرة طارئة،
كما استشهد د. زقزوق بالأزهر كمؤسسة تعليمية تقوم بتدريس التسامح كمادة أساسية منذ المرحلة الابتدائية وحتى نهاية الجامعة دون حساسيات! مشيراً إلى جامع السلطان حسن وهو من البقايا الإسلامية العظيمة، والذي يتكون من أربع مدارس متجاورة تقوم كل منها بدراسة مذهب معين ويعيشون جنباً إلى جنب في وئام في تناغم سلمي،
وضرب مثلاً برؤساء المذاهب الفقهية الأربعة كنموذج يحتذي به في التسامح مع الآخر وقبوله والأخذ عنه، مشيراً إلى الشافعي وقوله «رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب!»، وقول الإمام أبي حنيفة «رأينا هذا هو أفضل ما قدرنا عليه، فإن جاءنا أفضل منه قبلناه منه», وأشار إلى قول الشيخ محمد عبده في قدامى علماء المسلمين «إن الرأي إذا كان يحتمل الكفر من مئة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، فهم على الإيمان وليس على الكفر!»،
كما أشار إلى تجربته الشخصية واعتياده منذ نعومة أظفاره على سماع صوت المؤذن مجاوراً لدقات الكنيسة، وإنه مع ذلك لم يشعر يوماً بأي تناقض لإيمانه بأن الجميع مسلمين كانوا أم أقباطاً يعبدون إلها واحداً وبغض النظر عن المسائل الشكلية التي تتعلق بأسلوب العبادة داخل المسجد أو الكنيسة،
وقال إننا اعتدنا في مصر التعامل مع هذا الأمر على أساس أن الدين يدعونا إلى المحبة والمساواة والأخوة والتعايش السلمي مع الآخر، الذي يشاركنا الإنسانية، التي هي أعم وأشمل من أي رابطة أخرى، لقوله تعالى «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة»، وإن الإسلام ينظر إلى أي اعتداء على نفس ما، وكأنه اعتداء على البشرية جمعاء!
صراع الحضارات!
د. أحمد كمال أبوالمجد المفكر الإسلامي أشار إلى انعكاسات عصر العولمة على أصحاب الثقافات المختلفة، الذين ظلوا لقرون طويلة في شبه عزلة تامة، ولم يكن أحد يعرف عن العرب والمسلمين في ألمانيا سوى المستشرقين الذين تعرفوا بشكل علمي على الحضارة العربية الإسلامية، وإنه مع مجيء عصر العولمة الذي ألغى حدود الزمان والمكان،
وجعلت من العالم قرية واحدة، وهو الأمر الذي وضع الجميع أمام خيارين لا بديل لهما، الأول، هو الصدام مع الآخر، أو التواصل والتفاعل معه، وهو الأمر الذي لن يكون بغير ثقافة التسامح الإيجابي الذي ينم عن إيمان حقيقي بقبول الآخر واختلافه وتنوعه! وأوضح أن المشكلة الحقيقية تكمن في إن الأمر ليس في يد المستشرقين والمفكرين الذين تعرفوا على هذه الحضارة،
وإنما في يد الإعلاميين ودورهم في تقديم صور وانطباعات ليس لها أساس من الصحة، مما يؤدي إلى الالتباس وسوء الفهم، ولذلك فإنه يؤكد على دور الإعلام وتأثيره على نشر قيمة التسامح، والذي يتضاءل وجوده على الساحة الآن، مطالباً بضرورة تقديم صور أكثر واقعية عن المجتمعات العربية وحضارتها العريقة!
وحول حدود التسامح في كل من الشرق والغرب وأكدت«يوته لينباخ» مديرة معهد جوته على أن المجتمعات متعددة الثقافة تحترم مفهوم التسامح، وقالت إن تركيز الإسلام ومبادئه على هذه القيمة وتأكيده على قيم الحق والعدل من القضايا الأساسية، التي يقوم عليها الحوار ما بين دول أوروبا والشرق عموماً،
وقالت إن الغرب الذي يقوم دستوره على الفصل التام ما بين الكنيسة والدولة نجح إلى حد ما في الأخذ بثقافة التسامح إلى الحد الذي لا تختفي معه القيم الأساسية، التي جاء بها الإنجيل، والذي هو أساس التعامل الإنساني لدى الغرب، نظراً لأنه عند الحديث عن التسامح، فهذا يعني التمسك بالدستور أكثر من الأخذ بالإنجيل!
مؤكدة أن هذا هو السائد لدى الغرب، سواء كان في ألمانيا أو أميركا في حين يتسم هذا المفهوم بالغموض وعدم الوضوح في فرنسا، وأشارت إلى وجوب إشاعة التسامح وممارسته داخل نطاق الأسرة والمجتمع ككل، وانتقدت عدم وجود مناهج تربوية لدى الغرب تعمل على تنمية ونشر مثل قيم التسامح وقبول الآخر واحترامه لدى الأجيال الجديدة، مما يشيع روح الكراهية والعداء للآخر، ودعت إلى ممارسة حقيقية لهذه القيمة والعمل على نشرها منذ مرحلة الطفولة المبكرة والعمل على ترسيخها في عقول الأجيال الجديدة.
أما حدود التسامح مع الآخر في حالة حدوث اعتداء أو جريمة على نحو ما، كما حدث من قبل بعض المهاجرين المغربيين في أمستردام بهولندا فأكدت على أن التسامح يسمح بالاختلاف، على ألا يتعدى ذلك حدود إهدار كرامة الآخر أو تهديد حياته وحريته الشخصية وفي حالة تجاوز هذه الحدود، فإنه لا يوجد بالتالي سبب للتسامح في المجتمعات متعددة الثقافة،
كما هو الحال في ألمانيا، التي تحترم الآخر وتقدس حريته وممارسته لديانته أياً كانت، وإن حتى في حالة انتقاد هذه الديانة، فإن ذلك لا يكون على نحو جارح يمس حقه وكرامته كإنسان، وأشارت إلى وجود معايير أخرى للتسامح لدى الغرب على نحو العدل في التعامل مع الأعداء!
وأوضح د. أبوالمجد إن الحرية وحدودها تعد من أعقد المسائل القانونية لصعوبة تحديدها داخل إطار الممارسة في الجماعات المختلفة، مشيراً إلى حادثة امتهان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض الصحف الدنمركية أثار العديد من المناقشات حول حدود هذه الحرية ومدى التسامح حتى تم التوصل أخيراً في مجمع البحوث الإسلامية إلى أن الشرائع جميعها تتفق على إن الحق المطلق الوحيد في الجماعة،
هو حق التفكير والاعتقاد، أما في حالة الاعتراض على مذهب ما، فإنه أمر يقبل التنظير، بينما يختلف الأمر في حالة السب والقذف لأن، جميع الشرائع تتفق على اعتبارها جريمة، لأنها تفتح باب العداء تجاه الآخر احتراماً لأصحاب الرسالات السماوية وقدسيتها، ودعا د. أبوالمجد إلى تطوير التنظير التشريعي الخاص بهذه القضية في ظل انتشار وسائل الإعلام التي يمكن أن تشيع من خلالها هذه الجريمة وبشكل جماعي، مما يمثل اعتداءً وإيذاءً للمشاعر الجماعية، وقال إنه حتى يتم ذلك فلابد من تجريم ـ السب والقذف ـ من الناحية الثقافية.
وأكد د. حمدي زقزوق على أن حدود حرية التعبير والتسامح ينبغي ألا تتعدى حدود الاحترام المتبادل ما بين الأطراف المختلفة، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى امتهان كرامة الآخر وتدنيس مقدساته، وأشار إلى قيمة العدل في الإسلام حتى مع الذين يختلفون عنا في الدين، لقوله تعالى «لكم دينكم ولي دين».
وحول مفهوم التسامح ومدى ارتباطه بالرفاهية المادية أو الضعفاء والمهمشين، كما أشارت مديرة معهد جوتة إلى معاناة بعض المناطق المرفهة في ألمانيا من مشكلات من قبل المهاجرين والأجانب الموجودين بها، مؤكدة أنه ليس للرفاهية تأثير في هذه القضية، وإنما المشكلة تكمن في نظرة الآخر الألماني لهم، كأجانب جاؤوا لينازعوه في عمله ومورد رزقه، وذلك يأتي نتيجة لعدم وجود علاقة قوية مع الآخر ومعرفته عن قرب!
وأكد د. أبوالمجد على أن القلق الأوروبي من قبل الوافدين عليه من المجتمعات العربية والإسلامية، جاء خوفاً على نموذج الحياة الأوروبية السائدة نتيجة وضع الإسلام في قفص الاتهام بعد أحداث 11 سبتمبر ما تسوقه أميركا من تشويه صورة العرب والمسلمين خاصة حتى صار الانتساب للإسلام وصمة تدين أي مسلم لاتهامه بالعدوانية والإرهاب واعتباره مصدر قلق للآخرين، مشيراً إلى نزوع العالم كله نحو التدين نتيجة طغيان عصر المادة والعنف، ورغبة الناس في الهروب من واقعهم المؤلم إلى المطلق الذي يمثل بالنسبة لهم طوق النجاة.
واعتبر أبوالمجد أن الإيمان سبب كاف يدعو أصحاب الديانات المختلفة إلى التعاون والعمل معاً على دفع خطر العنف والأمراض والأوبئة وتدمير البيئة وفساد العلاقات البشرية وذلك حتى لا يفقد الجيل الجديد القدرة على التواصل مع الآخر!
العدل الإلهي
وأوضح د. زقزوق إن المساواة ما بين جميع البشر ـ كما خلقهم الله متساوون ـ في الحقوق والواجبات والكرامة، وقال إن المجتمع السوي هو الذي يسوده التسامح بين جميع أفراده غنياً كان أم فقيراً، وبغض النظر عن ديانتهم وأوضاعهم الاجتماعية.
وفي النهاية دعت لينباخ إلى إشاعة قيمة التسامح من أجل الحوار والتفاهم المشترك، وإلى منح مسلمي ألمانيا المزيد من الحقوق، وخاصة بعد ازدياد عددهم إلى 3 ملايين مسلم، والعمل على دعمهم عن طريق الإذاعة المسموعة والمرئية الحكومية، مشيرة إلى أن ألمانيا الآن تهتم بهذا الأمر من خلال بروز شخصيات إسلامية تحتل الآن مناصب مهمة في القضاء والمحاماة وغيرها من المهن والمناصب الرفيعة في المدينة الأم «برلين» بل وحصل بعضهم على الجنسية الألمانية،
وإنها بحكم منصبها كرئيسة للمحكمة لمدة 8 سنوات تمكنت من مساعدة العديد منهم في الحصول على حقوقهم، مما كان له أعظم الأثر في تطور المجتمع الألماني. مؤكدة أنها على يقين من قدرة مسلمي ألمانيا في إقامة جسر من التواصل ما بين الشرق والغرب، مما سيدفع بقيمة التسامح وجعلها محور الحوار المتبادل والتعاون من أجل خير الإنسانية جمعاء.
المصدر: http://www.albayan.ae/across-the-uae/1162996235574-2006-11-17-1.876431