العلاقات الدولية بين منهج الإسلام والمنهج الحضاري المعاصر

العلاقات الدولية بين منهج الإسلام والمنهج الحضاري المعاصر

معالي الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين

بسم الله الرحمن الرحيم
إيضاح
صممت هذه المقالة على أساس غياب شخصية المحرِّر كلياًّ، وعلى أن تكون عبارةً عن (ألبوم) من الصور الواقعية للأحداث والأفكار، ولم يتدخَّل المحرِّر إلا عند الضرورة وبغرض ربط الصور.
وقد اعتمد في إيضاح منهج الحضارة الغربية في العلاقات الدولية على كتاب البرفسور جوزيف فرانكل المعنون (( العلاقات الدولية ))، ترجمة الدكتور غازي القصيبي، الطبعة الثانية. فاعتمد على هذا الكتاب اعتماداً كلياًّ، وكلُّ النصوص الموضوعة بين قوسين المتبوعة بأرقام الصفحات غير المنسوبة لمؤلف آخر هي نصوص مقتبسةٌ من هذا الكتاب.
وفيما عدا ذلك جرى اقتباس النصوص كالتالي:
(أ) البرت انشتين: Out of my later years
The world as I see it
(ب) ارنولد توينبي: Civilization on trial
(جـ) جاك ماريتين: The range of reason
(د) رينولد نيبر: Christian realism and political problems
(هـ) برتراند رسل: Hopes for a changing world
(و) د. مراد هوفمان: (( الإسلام عام 2000 ))، ترجمة عادل المعلم، الطبعة الأولى.
(ز) محمد أسد (ليوبولد فايس): (( الإسلام على مفترق الطرق ))، ترجمة عمر فروخ، الطبعة الرابعة.
(ح) زيجريد هونكه: (( الله ليس كذلك ))، ترجمة د. غريب محمد غريب، الطبعة الثانية.
وفي إيضاح منهج الإسلام اعتمد على نصوص القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة وفق حكم علماء الحديث.

بسم الله الرحمن الرحيم
العلاقات الدولية
بين
منهج الإسلام والمنهج الحضاري المعاصر
تمهيد:
في ذروة تداعيات قضية الطائرة المدنية الأمريكية التي سقطت على لوكربي، وحينما كانت ليبيا تتلقى الضربات العسكرية العنيفة وعقوبات الحصار الاقتصادي الدولي، بسبب امتناعها عن تسليم متهمَيْنِ بجريمة إسقاط الطائرة تسليمهما للدولة موجهة الاتهام، كان طالبٌ في قسم القانون في كلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود بالرياض يُعدُّ بحث التخرُّج في موضوع يتَّصل بالقانون الدولي، وأثناء إعداده البحث اكتشف حادثاً مشابها وقع قبل ولادته. وذلك حادث الطائرة المدنية المصرية التي أسقطتها فوق سيناء الصواريخُ الإسرائيلية بسبب اشتباه إسرائيل أنَّ أحد الفدائيين الفلسطينيين كان بين ركاب الطائرة.
لاحظ الطالب أنَّ الفعل الجرمي في إسقاط الطائرة المدنية على لوكربي فرضية، وأن الشخصين المسند إليهما الفعل الجرمي متَّهمان لا مدانان، وأنَّ امتناع الدولة المعاقَبة عن تسليمهما أساسه في قانون العدل الطبيعي أن الخصم لا يجوز أن يكون هو الحكم.
بينما الفعل الجرمي في إسقاط الطائرة المدنية على سيناء محقَّق، والفاعل معترفٌ، وهو دولة لا فرد، أي أن الفعل خاضع للقانون الدولي.
لم يدهش الطالب لاختلاف ردود الفعل تجاه الحادث في الحالتين بين الحكومتين الأمريكية والمصرية، وإنما أخذته الدهشة لاختلاف ردود الفعل تجاه الحالتين لدى المجتمع الدولي، و - أكثر من ذلك إثارةً للدهشة - لدى الرأي العام العالمي. فبينما قامت الدنيا ولم تقعد بالنسبة لطائرة لوكربي وظلت قضيتها خبراً رئيساً في الإعلام الغربي لسنوات، مر حادث طائرة سيناء كحادث روتيني إعلامي، وفي الكلام على الحادثة الثانية لم ير أحدٌ مبرِّراً لاستعادة ذكر الحادثة الأولى، على وجه المقارنة، حتى الإعلام المصري نسيه تماماً كما نسيه الإعلام الليبي، وقد كان وزير الخارجية الليبي أحدَ الضحايا المدنيين.
لقد حمل هذا الطالب دهشته إلى أستاذه أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية، الذي أوضح له أن لا موجب للدهشة، لأنَّ العلاقات الدولية لا تحكمها القيم الأخلاقية والقانونية، وإنما تحكمها قيمٌ واقعية: المصلحة القومية، والقوة.
قال الطالب: ولكن هذه القيم ذاتها المصلحة الذاتية والقوة هي ما يحكم سلوك أيِّ قاطع طريق، أو أي عصابة إرهاب، أو أي تجمُّعٍ للحيوانات في الغابة. وكان أمام الأستاذ بالصدفة كتاب العلاقات الدولية لجوزيف فرانكل، فدفعه للطالب وطلب منه قراءة بعض السطور التي كان الأستاذ علَّم عليها بالخط الأحمر، فقرأ الطالب:
(( وفي تصدينا لحقوق الدول وواجباتها وفي تحليل أجهزة المؤسسات الدولية نحن نستخدم في ذلك عبارات مقاسة على تلك التي تستخدم… في البيئة السياسية الوطنية، ولسنا بحاجة إلى التنبه إلى ما يكتنف هذا القياس من عيب، فالقانون الدولي كما يعرف رجال القانون ذو طبيعة خاصة ومحاولة تطبيق القواعد الأخلاقية التي تحكم تصرفات الأفراد على تصرفات الدول محاولة فاشلة )) (ص 12).
(( ولقد نبه كثير من مفكِّري القارة الأوروبية - ومنذ ميكيافيلي - إلى ذلك التباين بين طبيعة البيئتين الداخلية والدولية )) (ص 13).
(( والحرب بين العصابات تزوِّدنا بمثل ذي دلالة، لأن العصابات شأنها في هذه الحالة شأن الدول تفتقر إلى وجود أنظمة قانونية قابلة للتطبيق )) (ص 91).
(( بل إن هناك ما يشبه العلاقات الدولية في السلوك الاجتماعي للحيوانات، وهذا السلوك هو موضوع بحث واهتمام علماء الحيوان اليوم، إن اعتبارات البقاء كضمان الطعام وحماية أماكن التناسل هي التي تحكم تجمعات الحيوانات، وكثيراً ما تثور نزاعات ضارية بين أبناء الفصيلة الواحدة حول الاستئثار بمنطقة ما وإبعاد الحيوانات الغريبة التي تحاول دخولها )) (ص 15).
هذا الطالب الذي لم يعُدْ طالباً بل مدرساً لمادة (( العلاقات الدولية )) كان يقص عليَّ حكايته، فذكرت له على سبيل المقارنة شيئاً من منهج الإسلام في العلاقات الدولية، فاقترح أن أكتب ورقة في هذا الموضوع.
لا أرى وقتاً أنسب لتنفيذ الاقتراح المنوه عنه من هذا الوقت الذي نعيشه الآن.
إن الظروف التي يمرُّ بها العالم في مستهل هذا القرن ظروفٌ غريبةٌ حقاًّ في مجال العلاقات الدولية.
في القرن المنصرم واجه العالم حربين عالميتين بين قوى متكافئة نسبيا. كان طرفا الحرب الأولى قوى التحالف The allied powers من جانب، والقوى الأوروبية المركزية The central European powers من جانب آخر. وكان طرفا الحرب الثانية قوى التحالف United nations powers من جهة، وقوى المحور Axis powers من جهة أخرى.
في الحربين استعملت الأسلحة التقليدية فيما عدا اللحظات الأخيرة في الحرب العالمية الثانية، حيث استخدمت القنبلة الذرية على سبيل التجريب، وربما بدافع الرغبة في الانتقام أكثر من الاستجابة لضرورات الحرب.
أما القرن الحالي فقد استهل بأغرب حرب عالمية يمكن أن يتصوَّرها الإنسان، إذ كان طرفاها قوى التحالف الدولي من جانب ومن الجانب الآخر قوة حكومة ضعيفة، وربما أضعف حكومة في آسيا، حكومة أنهكها الفقر والجفاف وطول الحصار الدولي الاقتصادي والسياسي، وكانت فقدت الجزء الأكبر من رصيد الولاء الشعبي نتيجة لإقدامها على معارضة عبادة القبور وإغلاقها أقدس قبر لدى الشعب ونتيجة قضائها كليا على إنتاج المخدرات في المناطق الخاضعة لها، الأمر الذي وصفه خبير أكاديمي أمريكي بأنه انتحار سياسي واقتصادي.
وكانت هذه الحرب العالمية الغريبة فرصة لتجريب أقصى ما وصلت إليه عبقرية الإنسان في تكنولوجيا التدمير، وفي الإستراتيجية الحربية.
يتوقع بعض الخبراء أن يتكرر هذا النموذج من الحرب غير المتكافئة، ولكن حتى إذا تكرَّر ليس هناك ما يضمن استمراره.
إن الثنائية القطبية للعالم في القرن المنصرم ساهمت عن طريق توازن الرعب بين القطبين العملاقين إلى تفادي الحرب العالمية لمدة نصف قرن.
ولكن انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتعارض المصالح وتكافؤ القوى والأخذ في الاعتبار إلى أنه بجانب قوة التسارع في التطور التكنولوجي الحربي، توجد قوى أخرى، فالأعداد أحياناً يكون لها معنى، ومن يؤكد أن من المستحيل سياسيا وعمليا على الصين أو حتى الهند أن تخاطر بالتضحية بعدد من سكانها يساوي سكان الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي أو روسيا.
ربما يواجه هذا القرن خطراً على الجنس البشري يفوق ذلك الخطر الذي شغل بال المفكرين في النصف الثاني من القرن المنصرم.
هل ذلك سوف يدعو الحضارة المعاصرة إلى إعادة النظر في منهجها في العلاقات الدولية؟
إن تداعي هذه الأفكار لدى الكاتب ساعد على حمله على كتابة هذه الورقة في المقارنة بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة في العلاقات الدولية.

الفصل الأول
العلاقات الدولية في الحضارة المعاصرة
إن الحضارة المعاصرة مرادف لفظي صحيح للحضارة الغربية. ذلك أن سلطان هذه الحضارة وشيوع قيمها، مضافاً إلى جاذبية سمعة التقدم التكنولوجي والمادي لديها جعل تأثيرها يصل إلى أعماق النفس البشرية، بل ويطرد أو يزاحم جزئيا أو كليا القيم الثقافية للحضارات الأخرى ليحل محلها.
هناك خاصيتان أساسيتان تطبعان منهج العلاقات الدولية في الحضارة الغربية (أو إذا شئت الحضارة المعاصرة):
أولاهما: هشاشة القوة الإلزامية لقواعد القانون الدولي المفروض أن تحكم العلاقات الدولية.
ثانيهما: هشاشة الأساس الأخلاقي الذي يرتكز عليه المنهج.
فمن الناحية الأولى: يلاحظ مبدئياًّ أنه (( كما أن أهم القواعد التي تحكم سلوك الأفراد تتجسَّد في القانون الوطني .. فكذلك نجد بعض القواعد التي تحكم سلوك الدول مجسدة في القانون الدولي. ومع هذا فالتشابه في الاسم لا يعني تماثلاً في طبيعة القانونين. إن القانون الدولي يعمل في محتوى اجتماعي مختلف تماماً، كما أنه لا ينهض في اتفاق اجتماعي شأن القانون الداخلي ودون سلطة مركزية تضمن تطبيق الجزاء على مخالفة قواعده، والدول تختلف عن الأفراد من حيث إنها لا تعتبر من رعايا القانون. ذلك لأن القانون الدولي ليس قانوناً فوق الدول، وإنما هو قانون بين الدول. وهذا الوضع لا يتفق وطبيعة النظام القانوني إلى درجة أن بعض رجال القانون ينكرون الطبيعة القانونية للقانون الدولي كليةً مدعين أنه يفتقر إلى الخاصية الأساسية، وهي الجزاءات الفعالة، لا يمكن منطقيا أن تتعايش دول ذات سيادة مع نظام قانوني دولي له طبيعة الأنظمة القانونية الداخلية. إما أن تكون الدول ذات سيادة فلا تعترف بقوة أعلى، وفي هذه الحالة لا يمكن أن تكون هناك قواعد قانونية ملزمة لها، وإما - إن وجدت مثل هذه القواعد - أن لا تكون الدولة ذات سيادة بالمعنى الصحيح. وهذا التناقض تحله نظرية القبول التي تذهب إلى أن الطبيعة الملزمة للقواعد القانونية مبنية على قبول الدولة لهذه القواعد … ونظراً لأن القانون الدولي قائم على هذا الحل الوسط القلق فليس من الغريب أن نجد اختلافاً كبيراً حول تقييم أهميته، فبينما يعتبره البعض مجرد قانون صوري يرى البعض الآخر أن رجال القانون بإمكانهم لو أتاح لهم رجال السياسة المجال أن يضعوا مجموعة من القواعد القانونية تكفل السلام على الأرض )) (ص 171-172).
ومن الناحية الثانية: فإن الحضارة المعاصرة (الحضارة الغربية) بالنسبة للقيم الخلقية بوجه عام تعاني من:
(أ) انحسار الإيمان بالله الذي يمكن أن يكون أساساً للالتزام الخلقي، وكما يعبر د. هوفمان: (( عوض الغرب خسارته لله بإيمان لا حدَّ له بالتقدم الذي جعل العالم يبدو أكثر استنارة وعقلانية … رغم كوارث المائة عام الماضية يبدو بطريقة لا تصدَّق أن الإيمان الأبله للغرب بالإله الجديد "التقدم" ما زال سائداً … [ ولكن ]، هل لم يستطع الناس أن يتحققوا أن الحكم المستنير للعقلانية والإنسانية لم يمنع حربين عالميتين وحشيتين استخدم فيها … القصف الإستراتيجي على المدنيين في مدن مثل درسدن … هل إستراتيجية مبنية على الردع المتبادل مع التهديد بالإبادة النووية تعتبر عقلانية؟! … يمكن للمفكِّرين الغربيين أن يستنتجوا - وقليل منهم فعلوا - أن الأحداث الرهيبة للقرن "العشرين" نفت إمكانية أن تعتمد الأخلاق على التقدم. تسليم الإنسان للأوامر الأخلاقية الإلهية - ولا شيء غير ذلك - يمكن أن يضبط الأعمال الأخلاقية للأفراد والجماعات )) (ص 26-29).
(ب) سيادة فكرة النسبية في القيم الخلقية، وليست النسبية محكومة دائماً بالعقل والمنطق، ولكنها - في الغالب إن لم يكن دائماً - محكومة بالهوى والوهم وإيحاءات الـ culture، الـ culture مثلاً يجعل التسامح تجاه تعدد الزوجات في الزواج العادي في كثير من دول الغرب مستحيلا، ولكن هل يكون مستحيلا التسامح تجاه تعدد الزوجات أو الأزواج في الزواج أحادي الجنس في البلدان التي تبيح هذا النوع الشاذ من الزواج؟
لقد كان من الطبيعي أن تتأثَّر الأخلاق في العلاقات الدولية في الغرب بنظرته إلى الأخلاق بوجه عام. ولا يقتصر الأمر على هذا، فمن وراء ذلك تعاني القوة الإلزامية للقيم الأخلاقية في مجال العلاقات الدولية من عوامل ضعف وإضعاف أخرى وربما أبلغ.
(( يقول الدكتور رينولد نيبر: إن البشر بدلاً من أن يمدوا قواعدهم الأخلاقية لتشمل السياسة الدولية ينزعون إلى استخدام السياسة للتنفيس عن نزعاتهم اللاأخلاقية وأنهم بالتالي بشر أخلاقيون في مجتمع لا أخلاقي )) (ص 171).
وحتى عندما نسلم بأن للقيم الأخلاقية أثراً ما في العلاقات الدولية تواجهنا مشكلة أخرى، هي الغموض في تحديد الأخلاق الدولية. (( إن الذي يجعل الأخلاق الدولية على ما هي عليه من غموض هو أن معناها لم يحدَّد قطُّ بوضوح كما أنه لم يوجد بعدُ اتفاقٌ بين المفكِّرين على العلاقة بين قواعد الأخلاق الفردية وقواعد الأخلاق الدولية، تذهب إحدى المدارس الفكرية متبعة في ذلك ميكيافيلي إلى إنكار الأخلاق الدولية كلية … غير أن أغلب المفكرين يقرون بوجود الأخلاق الدولية، ولكنهم يميزون بينها وبين الأخلاق الفردية. إن أي تحليل واقعي للعلاقات الدولية لا يسعه أن يتقبل دون مناقشة دعاوى رجال السياسة المكررة في كل البلدان بأنهم محكومون بالقيم الأخلاقية. إن من الواضح أن الأخلاق كثيراً تستدعى وبأسماء مختلفة لا لشيء إلا لإضفاء قدر من الاحترام على المصالح الأنانية للدولة، كما أن اللجوء إلى الأخلاقية تبرير شائع مريح في يد الطرف الذي يعارض الحقوق القانونية لطرف آخر )) (ص 169).
(( لا بدَّ أن يكون الإنسان هو المقياس، غير أن هذا لا يغير حقيقة أن الدول ليست أفراداً وأن الأفراد الذين يعملون باسمها يفكرون قبل كل شيء في مصالحهم الوطنية )) (ص 171).
لعل النتيجة التي ينتهي إليها القارئ مما سبق أن الحقيقة الواقعية أن العلاقات الدولية في الحضارة المعاصرة ترتكز أساساً إن لم يكن كلياًّ على المصلحة الوطنية، والقوة.
1 - المصلحة الوطنية.
(( المصلحة الوطنية هي "المفتاح الأساسي" في السياسة الخارجية، ويرتد هذا المفهوم في جوهره إلى مجموع القيم الوطنية، تلك القيم النابعة من الأمة والدولة في نفس الوقت، غير أن هذا المفهوم لا يخلو من غموض … وإذا كان من الصعب بيان المقصود بالمصلحة الوطنية بفكرة مجردة، فإن من المستحيل أن نجد إجماعاً على ما تعنيه في قضية معينة. إن الجدل المتكرر حول السياسة الخارجية يتركز حول التفسيرات المختلفة لمتطلبات المصلحة الوطنية … ليس من الضروري أن نعرف المصلحة القومية تعريفاً ضيقاً يستبعد الاعتبارات الخلقية والدينية وما على شاكلتها، وإنما تقتضي فاعلية هذه المصلحة الوطنية استيعاب هذه الاعتبارات كجزء منها … تحكم تصرفات الساسة جميعاً مصالحهم الوطنية المختلفة، غير أنَّ هذا لا يعني أنه ليس بوسعهم البتة الاتفاق على شيء ما، بل على العكس كثيراً ما يتفقون، وإن كان هذا الاتفاق ينطلق أيضاً من مصالحهم الوطنية، فإذا وافق سياسي على تقديم تنازلات فإنه لا يفعل ذلك إلا إذا اقتنع أن عمله سيعطي دولته بعض المزايا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة … إن فكرة المصلحة الوطنية مبنية على وجود قيم في الجماعة الوطنية، هذه القيم التي يمكن أن نعتبرها من نتاج ثقافتها ومعبراً عن روح تجانسها … غير أنَّ العلاقة بين هذه القيم وبين الأهداف السياسية المحددة تتطلب شرحاً أكبر، إن القيم تنتمي إلى مجال "ما يجب أن يكون"، وليس من الضروري أن تترجم إلى أهداف سياسية محددة … إن النظم القيمية يعوزها اليقين عامة، بل إنها أحياناً تتضمن قيما متضاربة، الأمر الذي يثير مشكلة: أي من هذه القيم الواجب التطبيق في الحالات المفروضة؟ … وقد تتعقَّد الأمور أكثر من ذلك، وقد يستهدف الساسة التضليل من وراء تصرفاتهم، بل إنه طبقاً لنظرية فرويد لا يعرفون بالضبط حقيقة الدوافع التي تُسيرهم، وأخيراً فإن الثقافات المختلفة لا تعطي الأهمية لنفس القيم … ولقد كان الإنسان يسعى طوال تاريخ الفكر السياسي إلى تصوير قيمة عليا تتخذ معياراً عاماًّ لتصرفاته، وللأسف فإن مجرَّد وجود نظريات متناقضة في هذا الموضوع يعني الشكَّ في إمكانية أن تكون أي منها صحيحة كل الصحَّة. ومعيار المصلحة الوطنية - رغم شعبيته - شديد الغموض … وعندما تصطدم قيمتان أو أكثر فيما بينها فإن الأهمية النسبية لأي منهما يجب أن تقدر وترسى … وهذا التصنيف للقيم ليس سهلاً، لأن التركيز على أهميتها يتراوح من حالة إلى أخرى، وكثيراً ما تحكمه العواطف … لا تبلغ القيم ذروة مدلولها السياسي إلا في الممارسة، أي عندما يحاول رجل الدولة أن يطابقها بالصورة الذهنية التجريدية الغامضة التي لديه عن البيئة … وهمزة الوصل الأساسية بين البيئة ورجل الدولة هي المعلومات … وبرغم أنه بإمكان كبار المسؤولين أن يطلعوا اطلاعاً تاما على المعلومات المتوافرة لحكوماتهم، إلا أنَّهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال هضم كل هذه المعلومات، وعندما تحمل المعلومات إليهم فإنها تكون في العادة قد تكثفت وانفصلت عن الواقع إلى درجة تسمح بإساءة تفسيرها تماماً. ولكي يختار المرء ما يمكن الاعتماد عليه من بين خضم المعلومات والأحداث يجب أن يكون لديه معيارٌ لذلك الاختيار لتحديد أهميتها … وعملية تفسير الحقائق والوقائع ليست معقولة تماماً. ولكنها غالباً ما تتأثر بالعواطف وبنزعة البشر في أن يطمسوا ما لا يسرهم وبالتفكير المفرط في التمني … وهكذا يتضح أن ما نعرفه عن بيئتنا بعيد عن الواقع إلى درجة أننا بدلاً من أن نتكلَّم عن المعرفة يجب أن نستخدم كلمة "الصورة الذهنية" … وبمجرد أن يكوِّن السياسي صورة ذهنية عن موضوع أو عن دولة أخرى فإن هذه الصورة الذهنية تصبح بمثابة جهاز لتنظيم المزيد من المعلومات ومصفاةً تمر من خلالها هذه المعلومات، ولهذا فالصورة الذهنية لا المعلومات هي التي تحكم السلوك السياسي )) (ص 52).
لا بدَّ أن يستنتج القارئ من الشرح السابق صعوبة تعيين المصلحة الوطنية الحقيقية، وأنه ليس من الضروري أن تكون محكومة بمعايير موضوعية، كما يستنتج قابليتها للمرونة والتكيف في يد صانع القرار. وسيكون في إمكانه نتيجة لذلك أن يقيِّم مدى أهلية المصلحة الوطنية لأن تكون أساساً للعلاقات الدولية.
2 - القوة.
(( إن مشكلة القوة تدخل جميع أنواع العلاقات الدولية، في الحروب والمنافسات تدخل القوة بمعناها العسكري، وفي التعاون يدخل التهديد بالقوة لقمع أحد الأطراف. يدور عالم السياسة كله حول ممارسة القوة والبحث عنها، غير أن القوة في السياسة الدولية أوضح بكثير وأقلُّ قيوداً من القوة في السياسة الداخلية. ولهذا فكثيراً ما تسمى السياسة الدولية بسياسة القوة … ولقد أدى الدور الهام الذي تلعبه القوة في العلاقات الدولية إلى نشوء مدرسة فكرية تفسر العلاقات الدولية على ضوء مفهوم القوة … [ ولكن ] بالرغم من أن القوة تلعب دوراً هاماًّ في السياسة الدولية، فإنها في الأساس وسيلة لتحقيق قيم وطنية، والسياسة الدولية لا تحددها القوة التي تملكها الدولة فحسب، وإنما تحددها بدرجة أكبر القيم التي تعتنقها هذه الدول، ومفهوم المصلحة الوطنية التي تحكم سلوك الدول لا يقف عند اعتبارات القوة وحدها )) (ص 93-94).
على أنا إذا استعدنا الشرح السابق عن المصلحة الوطنية، فربما يصح الافتراض بأن القوة تحكم تعيين المصلحة القومية أكثر مما تحكم المصلحة الوطنية القوة.
(( من الصعب أن تقيم القوة تقييماً مجرَّداً، فبإمكان القوة أن تكون في خدمة أهداف سيئة وأهداف خيرة على السواء. ومن المستحيل قطعاً إزالة القوة. والمشكلة التي تواجهنا ليست في كيفية إزالة القوة، ولكن في كيفية السيطرة عليها وإبقائها ضمن القنوات المشروعة )) (ص 94).
وعند الحديث عن عناصر القوة ينبغي أن نلاحظ (( أن قوة الدولة يمكن أن تجزأ إلى عدد من عوامل متميزة، ويميز أكثر الكتاب بين خمس مجموعات في هذا الصدد: الديموجرافية والجغرافية والاقتصادية والتنظيمية والسيكولوجية الاجتماعية والاستراتيجية الدولية )) (ص 101).
يبحث جوزيف فرانكل موضوع الدعاية والإعلام ضمن حديثه عن أدوات وتقنيات التعامل بين الدول.
نظراً لتعاظم تأثير الدعاية والإعلان في هذا الوقت، وأنه أصبح قوةً خطيرةً مؤثِّرةً رأيت الحديث عنه ضمن الحديث عن القوة.
(( تعني الدعاية عموماً أيَّ محاولة للتأثير على عقول وعواطف وتصرفات جماعة معينة تحقيقاً لهدف عام معين … والدعاية نشاط أناني لا تحكمه إلا اعتبارات المصلحة الوطنية للقائم بالدعاية. ولهذا فهو نشاط لا تقبله الدول الأخرى، ولا تحتوي الدعاية على أية محاولة للوصول إلى حل وسط بين المصالح الوطنية المتنافية، بل ينحصر هدفها في تحقيق امتيازات وطنية للقائم بالدعاية. ولهذا فإن الدعاية كما تعمل اليوم لا تخدم بالنظر إلى النظام الدولي سوى أغراض سلبية … ولقد باءت كل المحاولات الدولية التي بذلت للتخفيف من غلواء الدعاية - إن لم يكن السيطرة عليها - حتى الآن بالفشل )) (ص 123). (( والمشكلة الأولى في كل النشاطات الدعائية هي كيفية إيصال الدعاية إلى الأشخاص الموجهة إليهم، وهذه إلى حد بعيد مشكلة تكنولوجية، ويتوقَّف حلها على وجود موارد وخبرة كافية، وهناك عندما تتمكن الدعاية من الوصول إلى جمهورها مشاكل نفسية صعبة شبيهة بتلك التي تواجه الإعلان التجاري، كيف يمكن الحصول على اهتمام الناس؟ وكيف يمكن الوصول إلى رد الفعل المطلوب؟ وهذه الأسئلة هي التي تحدِّد طريقة العرض، ومن الوسائل السهلة في الدعاية تقديم الأخبار والمعلومات بأكبر قدرٍ من الدقة والموضوعية وترك القارئ أو المستمع يكوِّن الاستنتاجات التي يريدها … ومن الصعب بطبيعة الحال تحقيق الموضوعية الكاملة، وحتى في أكثر الإذاعات حرصًا على الحقائق والتجرُّد لا بدَّ أن تكون هناك عملية اختيار بين مختلف الأخبار على أساس تفضيل الأنباء التي تفيد الدولة صاحبة الإذاعة )) (ص 125-126).
على أن الغالب أن يستخدم بدل الموضوعية التظاهر بالموضوعية. (( أما التقنية المعاكسة فهي تقنية "الكذبة الكبرى"، وقد استعمل هتلر هذه التقنية متبعاً الفكرة التي عرضها في كتابه "كفاحي"، وهي أن الكذبة إذا كانت كذبة كبرى وردِّدت ترديداً كافياً فسوف يصدِّقها الجماهير تصديقاً جزئياًّ على الأقل. إذ أن أكثر الناس يفتقرون إلى سعة الأفق اللازمة لإدراك أن ترديد تصريحاتٍ ما لا يعني صحَّتها، وفرض رقابة على مصادر الإعلام الأخرى أمر ضروري لنجاح هذه التقنية )) (ص 126).
على أنَّ تقنية "الكذبة الكبرى" ليس اكتشافها ولا تطبيقها بفعالية امتيازاً لهتلر، فالواقع أن ممارسة هذه التقنية أمرٌ شائع سواء في الدول الدكتاتورية أو الديمقراطية. (( ويجب أن يكون الشكل الذي تقدَّم به الأنباء جذَّاباً … والجمهور في العادة لا يهتمُّ بالاستماع إلى التحليلات الطويلة حول صواب أو خطأ قضية ما، ولكنه يستجيب بسرعة للشعارات البسيطة حتى ولو لم يكن لها ارتباط وثيق بالقضية، ما دامت هذه الشعارات تشمل عبارات ذات محتوى عاطفي كالسلام والعدوان )) (ص 126). (( ويزداد تأثير الدعاية زيادة كبيرة عن طريق التكرار والثبات عبر مدةٍ طويلةٍ من الزمن، كما يزداد بإزالة المصادر الأخرى للمعلومات أو التشويش عليها )) (ص 127).
إن الدعاية تستند إلى عاملَيْن: عامل إيجابي، وعامل سلبي. العامل الإيجابي يتمثَّل في التقنية الفعالة في خطابها للمتلقي، والعامل السلبي يتمثَّل في القابلية الذهنية (الإسفنجية) للامتصاص لدى المتلقي واستعداده لتصديق المعلومات.
وللإيضاح يمكن ذكر مثلين حديثين من تداعيات حادث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية.
فبالنسبة للعامل الإيجابي: في اليوم الأول للحادث شحنت ذهنية المتلقي بالإيحاءات بأن مسلمين - ولا غيرهم - وراء تدبير وتنفيذ العملية المرعبة. وفي اليوم التالي غطيت شاشات التلفاز في الولايات المتحدة الأمريكية بصور الأخوين بخاري الطيارين السعوديين مع التأكيد بأنهما قادا طائرتين من طائرات الهجوم على مركز التجارة العالمي، ومبنى البنتاجون، ثم تبع ذلك الأخبار عن توصل الأجهزة الأمنية للتعرف على هويات تسعة عشر شخصاً المشاركين في تنفيذ العملية، وملأت صورهم وأسماؤهم الصحف، وشاشات التلفاز، وحوائط المطارات، مع طلب المعلومات ممن يعرف أي شيء عن أيٍّ منهم، وأكَّد الإعلام توصل الأجهزة الأمنية لمعرفة جنسيات أحد عشر شخصاً من هؤلاء بأنهم سعوديون.
ليس من اهتمام الكاتب ولا في نطاق قدرته أن يفترض هدفاً أو أهدافاً محدَّدة لهذه الإجراءات الدعائية، ولكن لو افترض أن من أهدافها وضع ضغط نفسي على المملكة العربية السعودية لينشأ لديها شعور بالذنب وتكون مستعدة للتكفير، ولو افترض أن من أهدافها تقوية ثقة المواطن الأمريكي بأجهزته الأمنية، وبحكمة القرارات التي سوف تتخذها حكومته للتعامل مع الحادث. فإن هذه الأهداف تحققت، فقد قفزت شعبية الحكومة بصورة عجيبة، وظهر اتحاد الشعب وإجماعه على الوقوف وراء الحكومة في أي قرار أو إجراء تتَّخذه مهما كان هذا القرار أو الإجراء ذا طبيعة تسمح باختلاف الرأي العام عليه، فيما قبل 11 سبتمبر.
ولم يضعف من هذا التأثير أن ينكشف بعد ذلك أن أحد الأخوين بخاري توفي قبل سنة، وأن الآخر لا يزال حياًّ يرزق، كما لم يؤثر في ذلك انكشاف أن ثمانية على الأقل من الأحد عشر سعودياًّ الذين اكتشفت الأجهزة الأمنية هوياتهم بأنهم ضمن الانتحاريين لا يزالون أحياء يتمتعون بحياتهم خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
على أنَّ الأمر الذي يحمل أكثر من دلالة أن الإعلام الأمريكي وغير الأمريكي - على خلاف العادة بالاهتمام باقتناص الخبر المثير، وليس أكثر إثارة من ظهور المنتحرين أحياء - لم يهتمَّ بهذه المعلومات الحقيقية المثيرة، بل تم تجاهلها إلى حدٍّ كبير.
وبالنسبة للعامل السلبي: فكمثال أذكر تجربة شخصية لي عندما كنت أتابع الأخبار عن الحادث الإرهابي المفزع يوم 11 سبتمبر. فقد تواترت منذ اليوم الأول مجموعة من الأخبار تصف الدرجة العالية من التقنية التي تم بها تخطيط وتنفيذ العملية، إذ كما قال السيناتور بات روبرتز: بذل جهد كبير في التخطيط ولم تغفل التفصيلات الدقيقة كالاعتبارات المناخية، واستعملت تكتيكات عالية التقنية sophisticated tactics في التنفيذ. وكما وصف ملحق مجلة التايم September IIII 2001: إن كل الطائرات المهاجمة نفذت بعنايةٍ تعديلات المسار بما في ذلك المناورة المدهشة جدا للرحلة رقم 77، حيث اتخذ الطيار الانتحاري مساراً منخفضاً ثم حرف الطائرة 270 درجة قبل صدم الجدار الغربي لمبنى البنتاجون. وكشفت الأخبار أن نائب الرئيس الأمريكي أخبر الرئيس أثناء تحليقه في الجو أن الـ lam enforcement and security agencies مقتنعون بأن طائرة الرئيس مستهدفة. وتأيد ذلك عند ما ذكر فيما بعد أن مساعدي الرئيس ذكروا كتفسير لتأخر وصول الرئيس إلى البيت الأبيض أنه كانت هناك أدلة معتمدة على استهداف طائرة الرئيس من قبل مدبري الخطة الإرهابية، وكان الأمر من الجدية بحيث إن الرئيس ونائبه أصرا على وجوب اتجاه طائرة الرئيس إلى قاعدة عسكرية آمنة بأسرع وقت ممكن، وإلى درجة أن محرري التقارير على ظهر الطائرة أمروا بعدم استعمال تلفوناتهم النقالة، بل بعدم إبقائها مفتوحةً حذراً من أن يستدل بالإشارات على موقع الطائرة.
ثم تواترت مجموعةٌ أخرى من الأخبار والصور وآراء الخبراء الأمنيين والسياسيين التي تؤكِّد أن وراء تدبير الخطة وتمويلها رجلاً يقيم على بعد سبعة آلاف ميل.
وقد تلقيت هاتين المجموعتين من المعلومات كما تلقاها غيري دون أن ألاحظ ضعف الانسجام بينهما، حتى سمعت تعليقاً لأحد المحلِّلين يلاحظ فيه أن القول بأن رجلاً محدود القدرات، تخضع - لمدَّة طويلة - نشاطاتُهُ واتصالاتُهُ لمراقبة ومتابعة أقوى الأجهزة الذكية: الأمريكية والإسرائيلية والهندية والروسية، وربما أجهزة أخرى يستطيع تدبير خطة إرهابية على درجة من الإحكام والتقنية العالمية بحيث تستطيع أن تهدِّد بجدية طائرة الرئيس الأمريكي أثناء تحليقها في الجو، يعني أن هذا السوبرمان لا بد أنه يملك قدرات ميتافيزيكية، حتى يبلغ هذا المستوى من الخطورة.

إن أهمية الدعاية والإعلام تظهر في الاستئثار بتشكيل الرأي العام الذي يفترض أن يجسِّد المصلحة الوطنية. (( وكما يقول دافيد هوم: "على الرأي العام تبنى الحكومة، وهذه القاعدة تنطبق على أكثر الحكومات استبداداً وعسكرية، كما تنطبق على أكثرها حرية وشعبية" )) (ص 50).
وبما أن الرأي العام يتأسس على المعلومات يلاحظ أنه بينما يطالب الراديكاليون (( بتوفير معلومات أكثر للجمهور، يذهب الآخرون الأقل راديكالية وبخاصة الدبلوماسيون منهم إلى حجبها في المسائل الخطيرة، وإلى تقديمها فيما عدا ذلك، وعلى شكل يجعل الجمهور يميل في الاتجاه المطلوب. وهذا كله يثير مشاكل الإرشاد. إن فكرة الديمقراطية لا تعني التزام القادة بالرأي العام التزاماً مطلقاً، وإنما تعني بل وتقتضي أحياناً أن يتولَّوا قيادة هذا الرأي )) (ص 51).
إن مصادر الصعوبة في تعيين المصلحة الوطنية ليست قاصرة على الدعاية والإعلام، بل إن قوى اللوبي للمصالح الخاصة وقوى الضغط مصادر أخرى لا يستهان بتأثيرها. (هل من المحتمل أن يسمح تجار الحرب لأنفسهم بالإفلاس؟)
لعل كل ما سبق يهدي القارئ إلى تقييم المصلحة الوطنية والقوة كأساس للعلاقات الدولية، وإلى مدى الثقة في ملاءمة هذا الأساس بخاصة في عصر انتشار أسلحة الدمار الشامل.
إن مما يعقد الأمر أن الغرب وهو يتبنى هذا المنهج في العلاقات الدولية يبدو أن طبيعته تستدعي بالضرورة وجود عدو له، فإذا لم يوجد سعى لخلقه. ما إن ظهرت بوادر انهيار الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة بين العملاقين حتى شغل الغرب نفسه بترشيح عدو بديل.
ولسوء حظ العالم الإسلامي فإنه كان أفضل مرشح..
إن هنتنجتون مثلاً لم يكن هو أول المفكِّرين الغربيين الذي رشح العالم الإسلامي ليكون طرف صراع الحضارات مع الغرب، بل إنه قبل ذلك وعند زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون للاتحاد السوفيتي قبل تفكُّكه كان حريصا على إقناع القادة السوفيت بأن روسيا ليست العدو الطبيعي للغرب، فهي تشترك مع الغرب في الثقافة والحضارة فضلاً عن الجغرافيا والتاريخ، وأن العدو الحقيقي لروسيا والعالم الحر هو الإسلام.
وصدرت تصريحات صريحة بهذا المعنى من قادة غربيين في أعلى المستويات من أمثال السكرتير العام السابق للحلف الأطلسي.
إن من المبرر جدا الأخذ بشهادة د. هوفمان الذي كان مدير استعلامات الناتو في بروكسل لحوالي أربع سنوات حيث يقرر: (( يضع جنرالات الناتو في حسابهم أن أكثر المواجهات العسكرية احتمالاً في المستقبل لن تكون بين الشرق والغرب ولكن الشمال والجنوب، فالإسلام هو العدو المتنامي المرتقب )) (ص 71).
إن القارئ المسلم قد يدهش من هذا، وقد يراه أمراً لا يصدق. أنى لهذا الرجل المريض - العالم الإسلامي المتخلف المنهك تحت وطأة عدد متنوع من الكوارث، ليس أهونها أن أغلب قياداته لأكثر من مائة سنة في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي أو التربوي أو العسكري قيادات علمانية وأدوات هي أجرأ على محاولة مسخ هويته وأكثر أثراً من قوى الغرب. كيف يمكن أن يعتبر هذا الرجل المريض نداًّ للغرب بحيث يستحق أن يعتبره الغرب عدوَّه المنتظر؟!
الحقيقة إن الإسلام وليس المسلمين ما يعتبره الغرب عدوا، وربما خطراً.
ولإيضاح هذه الحقيقة أستعير اقتباسين من مفكِّرين غربيَّين عنيا بدراسة هذه الظاهرة.
أولهما: المفكِّر النمسوي (ليوبولد فايس - فيما بعد - محمد أسد) الذي كتب في كتابه (( الإسلام على مفترق الطرق )) قبل ستين سنة تقريباً: (( فيما يتعلق بالإسلام لا نجد موقف الأوروبي موقف كره في غير مبالاة فحسب، كما هو الحال في موقفه من سائر الأديان والثقافات، بل هو كره عميق يقوم في الأكثر على صور من التعصب الشديد، وهذا الكره ليس عقليا فحسب، ولكنه مصطبغ أيضاً بصبغة عاطفية قوية، قد لا تتقبل أوروبة تعاليم الفلسفة البوذية أو الهندوكية، ولكنها تحتفظ دائماً فيما يتعلق بهذين المذهبين بموقف عقلي متزن مبني على التفكير، إلا أنها حالما تتَّجه إلى الإسلام يختل التوازن ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب حتى إن أبرز المستشرقين الأوربيين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام، ويظهر في بحوثهم على الأكثر كما لو أن الإسلام لا يمكن أن يعالج كما لو أنه موضوع بحث في البحث العلمي، بل على أنه متهم يقف أمام قضاته، إن بعض المستشرقين يمثلون دور المدعي الذي يحاول إثبات الجريمة، وبعضهم يقوم مقام المحامي في الدفاع، فهو مع اقتناعه شخصياًّ بإجرام موكله لا يستطيع أكثر من أن يطلب له مع شيء من الفتور اعتبار الأسباب المخفِّفة )) (ص 50-51).
وبعد ستين سنة تقريباً كتب د. هوفمان: (( لن يكون من العدل اتهام الثقافة الأوروأمريكية ذات المدخل الاستعماري الجديد بالعجز الكامل عن أي تسامح مع الأديان، بل بالعكس فقد يهتم أكثر الناس استنارة اهتماماً اجتماعيا ببعض الأديان كالبوذية والثيوسوفية، وفي الواقع يستطيع المرء في أوروبا أو الولايات المتحدة أن يتبع مرشده الروحي الهندي أو يمارس سحر الهنود الحمر الشاماني دون خطر أن يفقد عمله أو حياته طالما ليس هناك ما يمس العمل أو المؤسسة السياسية فلا ضير من اتباع ديانات غريبة، وأسوأ ما يقال في ذلك أنه شيء غريب … إلا إذا كان الدين المعني هو الإسلام، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي لا يشمله التغاضي اللطيف أو التسامح الجميل )) (ص 32). (( أصبحت إدانة الإسلام جزءاً لا يتجزَّأ من العقلية الأوربية )) (ص 35). (( سيكون وهما خطيرا أن نعتقد تلاشي الروح الصليبية … في الحقيقة لم ينته عصر الحروب الصليبية في أي زمان، اليوم ليس البابا من يدعو للحملة ضد الإسلام، ولكنه قد يكون مجلس الأمن بالأمم المتحدة يدعو للتدخل … لفرض حظر سلاح على دولة مسلمة ضحية العدوان، نعم، إذا سبرت غور النفس الأوربية ولو بخدش سطحي صغير لوجدت تحت الطبقة الرقيقة اللامعة عداء للإسلام، عقدة فينّا التي يمكن استدعاؤها في أي وقت، وهذا ما حدث بالضبط في أوروبا في العشرين سنة الماضية )) (ص 37). (( تظهر معاداة الإسلام حاليا في صور كثيرة: الإهمال، تطبيق معايير مزدوجة … لنبدأ بالإهمال … لأبسط الأمر جهل المرء بالإسلام وحضارته لا يعتبر في أمريكا أو أوربا نقصا في التعليم، يكيل الغرب بمكيالين، وهذا ظاهر للعيان، لنأخذ الإعلام الغربي كمثال. إذا هاجم إرهابي من خارج العالم الإسلامي هدفاً جاءت التقارير: "مقاتل أو محارب من الـ I.R.A. أو E.T.A. أو غير ذلك قام بـ …"، ولن نسمع مطلقاً: "متعصب كاثوليكي"، أو "متعصب اشتراكي"، حتى الهجوم بالغاز في مترو طوكيو عام 1995 نسب إلى راديكاليين. أما إذا ألقى شخص من الشرق الأوسط قنبلة غاز فينسب العمل لمسلم متعصب، حتى لو كان ذلك العربي مسيحيا أو بعثيا ملحداً … يبدو أن وسائل الإعلام [ في الغرب ] تشكو من قرون استشعار انتقائية خاصة عندما تلصق بالإسلام القسوة والفظاعة كما لو كانتا من مكوناته وكما لو كان للإسلام ارتباط بالعنف أكثر من أي دين أو مذهب … يترك الإعلام الغربي شهادات التعميد خارج اللعبة إلا إذا خصت المسلمين. لا يحلل نشاطهم السياسي على أساس دوافعه السياسية، ولكن كنتيجة لديانة شريرة. هل يريد أحد استثارة مقارنة تحليلية بين المسيحية والإسلام ليرى أيهما أهدر دماء أكثر؟ … حتى في المجتمع العلمي هناك معيار مزدوج، فمن الواضح خصوصاً في الولايات المتحدة في العقود الأخيرة وجوب توافق الأبحاث العلمية مع ما يعتبر سليماً أو صحيحاً سياسياً … يشعر المسلمون بالمرارة والسخرية عندما يجدون معياراً مزدوجاً في سياسة الغرب والأمم المتحدة، فيقولون باستهزاء عن القانون الدولي: إنه أشقر وعيونه زرقاء. لنأخذ مثلاً نظاماً عسكريا أحبط وصول أصوليين مسيحيين إلى السلطة بعد أن فازوا في الانتخابات، ليكن ذلك في هايتي مثلاً. ستتَّحد الدول ضدَّ الدكتاتور … لصالح الحكومة المنتخبة ديمقراطيا … إلا .. إلا إذا كان الفائز بالانتخابات حزبا أصوليا في الجزائر مثلاً سيكون … [ للدكتاتور ] … في هذه الحالة فرصة ليحظى بالتسامح عما يفعله من شر صغير، فالشر الكبير هو الإسلام في أي صورة )) (ص 38-41).

هل الموروثات الثقافية culture للغرب المشحونة بالعداوة والبغضاء والتحقير والتشويه للإسلام هي المسؤولة عن اختيار العالم الغربي الإسلام عدوَّه الحاضر؟ ربما كان ذلك سبباً، ولكن ليس كل السبب.
كما أن إلحاح الإعلام الغربي والأدبيات الغربية على تقديم الصورة النمطية الشوهاء للإسلام والمسلمين ربما كان نتيجة أكثر مما هو سبب.
ولعل النظرية التي قدَّمها أحد المفكرين تجد لها مبرِّراً بعد التأمل، وخلاصة هذه النظرية أن الغرب وإن كان لا يشعر بالندية للعالم الإسلامي من الجانب المادي، إذ الفجوة الهائلة بين القوة المادية للغرب والقوة المادية للعالم الإسلامي يستحيل في عقيدة الغرب تجاوزها إلا إذا وقف الغرب أجيالاً منتظراً العالم الإسلامي ليلحق به.
إلا أنَّه من الجانب المعنوي فالأمر يبدو مختلفاً، إذ إن الغرب يشعر فعلاً من وجه آخر بأن الإسلام يمكن أن يكون نداًّ منافساً، والشعور بالندِّيَّة يبعث الخوف، والخوف أساس منطقي للعداء.
إن الأمر لا يرجع فقط إلى القوة المعنوية التي يملكها الإسلام، بل أيضاً إلى نقط الضعف المعنوية الخطيرة التي تعاني منها الحضارة الغربية، فالحضارة الغربية تعاني من أزمة حقيقية ومحسوسة، لقد وصف تشرشل القرن العشرين بالقرن "الفظيع"، وعلق على هذا الوصف أحد المفكرين بقوله: (( من الذي يتتبع مسيرة هذا القرن ويتأمل تاريخه ولا يحكم عليه بالفظاعة؟! ليس من شك في أن الأزمة التي يعانيها الإنسان في العصر الحاضر لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسان، إنها أزمة تهدِّد الإيمان بالإنسان، هي أزمة علاقة الفرد بالطبيعة، وعلاقته بعمله، وعلاقته بغيره من الناس، وعلاقته بالنظام الاجتماعي. لاحظ شفيتزر في كتابه "الحضارة والأخلاق" عند كلامه عماَّ أسماه "مأساة النظرة الغربية إلى العالم": (( إن حضارتنا تمرُّ بأزمة حادَّة، ويرد الناس هذه الأزمة إلى الحرب، ولكن الحرب وما يترتَّب عليها ليست إلا ظاهرةً من ظواهر انعدام الروح الحضاري الذي نجد أنفسنا فيه، وانعدام هذه الروح راجع إلى عدم التوازن بين تقدُّمنا المادي وتقدُّمنا الروحي، إن أكبر خطر في رفع العناصر المادية فوق العناصر الروحية هو ما يؤدي إليه من أن كثيراً من الناس عن طريق هذا الانقلاب الكلي في حياتهم بدلاً من أن يصبحوا أحراراً يتحوَّلون إلى أناسٍ غير أحرار )).
ولا حظ مفكِّر آخر أن الواقع أنه ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى كاد الناس يجمعون على أن الإنسانية أشرفت على عصر جديد من عصور الحضارة، عصر أزمةٍ مفزعة شاملة قربت بين شعوب العالم لا بروح المحبَّة، ولكن بشعور الفزع الذي استولى على قلوب الناس، وظل هذا الشعور يتزايد وظلت المشكلات تتضاعف حتى آمن الكثير بقرب انتهاء الحضارة الغربية، وليس أدلَّ على ذلك من استعراض عناوين كثير من الكتب التي ظهرت بعد نهاية الحرب.
لاحظ كارل جاسبرز أن الثورة التكنولوجية هي الأساس المادي للكارثة الروحية: (( وإننا ندرك معنى انهيار المعايير الصحيحة، وندرك كيف يكون العالم قلِقاً حينما لا يدعو إلى تماسكه إيمان أو وعي اجتماعي )).
إن الأمر بوضوح بحيث يقرِّر فيلسوف لاديني، هو برتراند رسل، أنه (( لم يعد للمذاهب العقدية ولا القواعد التقليدية للأخلاق والسلوك سلطانُها الذي كان لها من قبل، وكثيراً ما يستولي الشكُّ على تفكير الناس - رجالاً ونساءً - فيما هو حقٌّ، وما هو باطل. وعندما يُحاولون أن يصلوا إلى رأي في ذلك يواجهون عقبة لا يطيقونها، إذ ليس هناك أمامهم هدفٌ معينٌ يسعون إليه، أو مبدأٌ واضح يهتدون بهداه … هناك فقط مجموعتان من العقائد أمام الرجل الغربي الحديث عندما يكون منهوكَ القوى الروحية: نظام روما، ونظام موسكو. وكلاهما لا يخلق مجالاً للرجل الحر )).
ويحدِّد د. هوفمان معاناة الرجل الغربي بـ (( فقدان المعنى، وغياب أي هدف أسمى للحياة … نقص روحي ينذر بتحويل الوجود الفردي إلى مهمة يائسة عديمة المعنى … يصاحب هذه الورطة روح تشكيكية بعيدة عن اليقين والاطمئنان، تأكد الناس أن المستقل لا يحمل ما يتوقَّعونه، تلا انهيار الشيوعية فترة قصيرة … وبدلاً من أن ينعم العالم بالسلام انتكس إلى قوميات وشوفينيات القرن التاسع عشر، وما يشبه من حروب مسعورة )) (ص 31).
هل يمكن للغرب أن يتجاهل أن الديانات التقليدية التي تتشبث بها في صورة أو أخرى شعوبُهُ أضعف من أن تكونَ نداًّ للإسلام، سواء من حيث الموثوقيَّة (القرآن لم يتغيَّر فيه حرف منذ أن تلاه نبيُّ الإسلام  أول مرة)، أو من حيث العقلانية، أو من حيث سلامته من المراجعة البشرية بين وقت وآخر - كما يحدث لديانات الغرب وكتبها المقدسة -، أو من حيث سهولة الإيمان بمصدره الإلهي؟
لندِّيَّة الإسلام تجاه الحضارة الغربية وجهٌ آخر، ربما كان أهمَّ، يظهر في فلسفة المنهج والنظرة العامة للحياة.
ولأترك لمفكِّر أوروبي درس الإسلام دراسة عميقة، ثم اعتنقه أن يقوم بهذه المقارنة:
لقد أشار هذا المفكِّر إلى تحذير النبي  المتكرِّر والملحِّ عن الدجال الذي يخرج في آخر الزمان ويصفه بأنه أعور يتمتَّع بقوى خفيَّةٍ خارقة للعادة، فيسمع ويبصر بهذه القوى ويسير في الأرض بطولها في وقت قصير، ويجعل الكنوز تظهر من تحت الأرض، يجيء بمثال الجنة والنار، فالذي يقول عنه جنة هو نارٌ، ويدعو القوم فيتبعونه فيتمتَّعون برغد العيش وتزهر لهم الحياة، ويدعو آخرين فيردُّون قوله فيصبِحون ممحلين ليس بأيديهم شيء يواجهون ضيق العيش وضنك الحياة، يدَّعي أنه ينزل المطر وينبت الزرع ويحيى ويميت ويدعي الروبية فيصدِّقه ضعاف الإيمان، أما أقوياء الإيمان فيقرؤون على جبهته "كافر" فيعرفون أنَّه ليس إلا وهما وخديعة يفتتن بها الناس.
ثم قال: (( إن مثل الدجال ينطبق على المدنية الصناعية الحديثة، إنها "عوراء، أعني أنها تنظر إلى ناحية واحدة من الحياة: الرقي المادي غافلة عن الجانب الروحي. وبمعونة أعاجيبها التكنولوجية تمكَّن الإنسان من أن يرى ويسمع على مسافات أطول جداًّ مما تمكنه قدرته الطبيعية … وأن يقطع مسافات لا نهاية لها بسرعة خارجة عن نطاق التصوُّر، إن خبرتها العلمية تنزل الغيث وتنبت الزرع، وتكشف من تحت الأرض عن كنوز لا تخطر ببال، ويعيد دواؤها الحياة إلى مَنْ يبدو كأنه يقضى عليه بالموت، بينما تبيد حروبها وأهوالها العلمية الحرث والنسل. إن تقدمها الماديَّ من القوةِ والبريقِ بحيث إن ضعافَ الإيمانِ آخذون في الاعتقادِ بأنَّها إلهٌ بنفسها، إلا أنَّ أولئك الذين ظلوا واعين لخالقهم يدركون بوضوح أنَّ عبادة الدجال تعني الكفر بالله … حقاًّ إن الإنسان الغربي قد أسلم نفسه لعبادة الدجال، لقد فقد منذ وقتٍ طويلٍ براءته، وفقد كلَّ تماسكٍ داخليٍّ مع الطبيعةِ، لقد أصبحتِ الحياة في نظرِهِ لغزاً. إنه مرتابٌ شكوكٌ. ولذا فهو منفصل عن أخيه، ينفرد بنفسه، ولكي لا يهلك في وحدته هذه فإنَّ عليه أن يسيطر على الحياة بالوسائل الخارجية، وحقيقة كونه على قيد الحياة لم تعد وحدها قادرةً على أن تُشعِرَه بالأمن الداخلي، ولذا فإنَّ عليه أن يكافحَ دائماً وبألم في سبيل هذا الأمن من لحظة إلى أخرى وبسبب من أنه فقد كل توجيه ديني وقرَّر الاستغناء عنه، فإنَّ عليه أن يخترع لنفسه باستمرار حلفاء ميكانيكيين، ومن هذا الاندفاع الثائر اليائس في تقنيته. إنه يخترع كل يوم آلاتٍ جديدة، ويعطي كلاًّ منها بعض روحه كيما تنافح في سبيل وجوده، وهي تفعل ذلك حقاًّ، ولكنَّها في الوقت نفسه تخلق له حاجاتٍ جديدةً ومخاوفَ جديدة وظمأً لا يروى إلى حلفاء جدد آخرين أكثر اصطناعية وتضيع روحه في ضوضاء الآلة الخانقة التي تزداد مع الأيام قوةً وجرأةً وغرابةً وتفقد الآلة غرضها الأصلي - أن تصون وتغني الحياة الإنسانية - وتتطوَّر إلى إلهٍ قائمٍ بذاته إلى صنمٍ مفترس من فولاذ، والظاهر أن كهنة هذا المعبود والمبشِّرين به غير مدرِكين أن سرعة التقدم التقني الحديث هي نتيجة ليس لنموِّ المعرفة الإيجابي فحسب، بل لليأس الروحي أيضاً، وأن الانتصارات المادية العظمى التي يعلن الإنسان الغربي أنه بها سيحقِّق السيادة على الطبيعة هي في صميمها ذات صفة دفاعيَّةٍ فخلف واجِهَتِها البرَّاقةِ يكمن الخوف من الغيب. إن الحضارة الغربية لم تستطع حتى الآن أن تقيم توازناً بين حاجات الإنسان الجسمية والاجتماعية وبين أشواقه الروحية، لقد تخلَّت عن آداب دياناتها السابقة، دون أن تتمكن أن تخرج من نفسها أي نظام أخلاقي آخر مهما كان نظرياًّ يخضع نفسه للعقل، وبالرغم من كل ما حققته من تقدم ثقافي فإنها لم تستطع حتى الآن التغلُّبَ على استعداد الإنسان الأحمق للسقوط فريسة لأيِّ هتاف عدائي أو نداء للحرب، مهما كان سخيفاً باطلاً، يخترعه الحاذقون من الزعماء … الأمم الغربية قد وصلت الآن إلى درجة أصبحت معها الإمكانات العلمية غير المحدودة تصاحب الفوضى العملية، وإذ كان الغربي يفتقر إلى توجيه ديني صادق، فإنه لا يستطيع أن يفيد أدبياً من ضياء المعرفة التي تسكبه علومه، وهي لا شكَّ عظيمة )). (The road to Mecca by M. Asad 4th ed. p. 293-295).
ثم كتب عن الإسلام بعد أن اعتنقه في كتابه (( الإسلام على مفترق الطرق )): (( إنَّ الإسلام على ما يبدو لي بناءٌ تامُّ الصنعة، وكلُّ أجزائه قد صيغت ليتمِّمَ بعضُها بعضاً ويشدَّ بعضها بعضاً، فليس هناك شيءٌ لا حاجةَ إليه، وليس هناك نقصٌ في شيءٍ. فنتج من ذلك كلِّه ائتلافٌ متَّزنٌ مرصوصٌ، ولعلَّ هذا الشعور من أنَّ جميعَ ما في الإسلام من تعاليمَ وفرائضَ قد وضعت موضعَها، هو الذي كان له أقوى الأثر في نفسي … سعيت إلى أن أتعلَّمَ عن الإسلام كلَّ ما أقدرُ عليه، لقد درستُ القرآن الكريم، وحديث الرسول عليه السلام، ودرست لغة الإسلام وتاريخ الإسلام، وكثيراً مما كتب عنه أو كتب في الردِّ عليه … هذه الدراسات والمقارنات خلقت فيَّ العقيدةَ الراسخةَ بأنَّ الإسلامَ من وجهتيهِ الروحية والاجتماعية لا يزال بالرغم من جميع العقبات التي خلقها تأخُّر المسلمين أعظمَ قوةٍ نهَّاضةٍ بالهمم عرفها البشر )) (ص 13-14).
إن من المنطقي أن يشعر الغرب بندِّيَّة الإسلام عندما يرى الحقيقة المعروفة: أنه الدين الأسرع انتشاراً على الأرض (National Geographic Jan. 2002 p. 76). وحين يلاحظ أنَّ غالبية من يعتنقونه - وبخاصة المفكِّرون وذوو الثقافة العالية - يكون اتصالهم به عن طريق مبادرة منهم، لا عن طريق تبشير الدعاة المحترفين، أو المنظمات والمراكز الإسلامية في الغرب. بل إن تجارب الكثير من المهتدين تدل على أنَّ هذه المراكز والمنظَّمات والدعاة قلَّما يكون لهم الأثر في اجتذاب الناس إلى الإسلام. وقد تكون معوقة لأسباب مختلفة لا يتسع المجال لذكرها.
ولعلَّ مما له دلالة لا ينبغي إهمالها أن الجبهة التي يركز الغرب عليها بالهجوم على الإسلام هي الجبهة المتعلِّقة بالمرأة، ومع ذلك فإنَّ عدد الشابات التي يجتذبهن الإسلام ربما كان أكثر من عدد الشباب.
إذا صحَّ أن إستراتيجية الغرب من الآن فمستقبلاً عداوة الإسلام، فلا شكَّ أن صدامات كثيرةً سوف تقع، وسوف تعاني شعوبُ الإسلامِ من المظالم أكثر مما تعاني الآن، ولكن الإسلام سوف لا ينهزم، بل المتوقع أن يزداد قوةً، نتائج عداوة الغرب للإسلام عسكرية أو غير عسكرية من شأنها أن تكشف الجوانب السلبية للحضارة الغربية، وتبرز وجوه الضعف فيها. وكما أنَّ هجوم الجراثيم على الجسم يحفز جهاز المناعة للمقاومة، فكذلك الصدمات التي سيوجِّهها الغرب للإسلام سوف تقوِّي جهاز المناعة فيه وتجعله أكثر قدرةً على المقاومة.
ومن ناحيةٍ ثالثةٍ فإن قادة التنوير والتغريب الذين ظلوا منذ عشرات السنين يؤدُّون أكبر خدمةٍ للحضارة الغربية في محاولة إحلال قيمها الثقافية بخيرها وشرِّها (كما عبَّر مرةً الدكتور طه حسين) محل القيم الإسلامية، سيشعرون بالحرج البالغ وهم يقفون في مربع مكشوف العداوة والظلم لشعوبهم وهوية أمتهم. ولا شكَّ أنَّ هذا سيضعف بدرجةٍ كبيرةٍ تأثيرهم الثقافي، وسيعزِّز أمل المسلم في قربِ تحقُّق القانون القرآني:
                 (التوبة: 32)،              (الصف: 8).
ربما يعتقد القارئ أن ما سبق استطرادٌ دعا إليه تداعي المعاني، ولكن في الحقيقة هو مقصود، والهدف منه أن يكون كالرسوم التوضيحية للنصوص المقتبسة التي استخدمت هنا لتوضح عن طبيعة منهج الحضارة الغربية في العلاقات الدولية، ويرجى أن يكون القارئ - بضمِّها ذهنياًّ إلى الاقتباسات المشار إليها - أقدرَ على فهمها وبصورةٍ أعمق.
ولهذا الهدف أيضاً فلعلَّ من المناسب إيراد حالةٍ تطبيقية للممارسة الغربية للعلاقات الدولية، وليس أنسبَ من حالة الحرب الأخيرة (التحالف الدولي - أفغانستان). إذ إن القارئ وقد عايش هذه الحرب فعلاً سوف يرى في التهيئة لها، وإجراءاتها وتداعياتها تطبيقات عملية لما تمَّ الحديث عنه نظرياًّ.
وعلى سبيل المثال: ليلاحظ القارئ التبريرات الأخلاقية التي قدمت للحرب حيث أفتى الفاتيكان بأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية التي قادت الحرب هي في حالة دفاع مشروعٍ عن النفس، وبما أنَّ هذه الفتوى لا تنطبق على الدول الأخرى المشاركة في التحالف إذ إن أياًّ منها لم تدَّع أن أحدَ مواطنيها قتل أو هدد بالقتل من قبل العدو. فقد كان التبرير الأخلاقي لهذه الدول أن الحرب (( حرب من أجل الحضارة، من أجل الديمقراطية، حرب الخير ضدَّ الشر )). أما رئيس الحكومة الإيطالية سنيور برلسكوني، وقائد القوات البرية في جيش التحالف الدولي الجنرال رشيد دستم فقد كان لديهما تبريرٌ أوسع نطاقاً وأكثر مرونةً: (( إنها حرب العالم المتحضِّر ضدَّ العالم غير المتحضِّر )).
والقارئ قطعاً سيستحضِر الاقتباس السابق: (( يزداد تأثير الدعاية زيادة كبيرة عن طريق التكرار والثبات لمدة طويلة من الزمن، كما يزداد بإزالة المصادر الأخرى للمعلومات أو التشويش عليها )) (ص 151).
عندما يلاحظ إلحاح الإعلام الغربي، وبالتالي الإعلام العالمي، وتكراره، وتأكيده على نسبة الاعتداء الإرهابي الذي تعرَّضت له الولايات المتَّحدة في 11 سبتمبر إلى التنظيم الذي يتَّخذ من أفغانستان مركزاً له، حتى أصبح لدى الناس قضيَّةً مسلَّمةً. وذلك بالرغم من أن مقتضيات أمن المعلومات - فيما يبدو - حالت دون ظهور أدلة الإدانة لدى الجمهور. ولكن على كلِّ حال، فإنَّ الحكومات المشاركة في الحرب قد اقتنعت بأن الأدلة التي قدِّمت إليها كافيةٌ.
وأما كتاب الصحف التي توزِّعها السعودية على متن طائراتها متيحةً لراكبٍ مثلي الفرصةَ الوحيدةَ للاطلاع على ما تنشره الصحافة، فقد كانوا من المؤمنين بالغيب، فلم يحتاجوا إلى أدلَّةٍ لكي يصلوا إلى برد اليقين، الأمر الذي جعلهم حين يستحضرون صفات الشهامة والنبل والمروءة والسماحة ورحمة الضعيف التي يدعيها العربي لنفسه في بعض الأحيان، ويضطرون إلى نقد قوى التحالف الدولي يصرُّون على أن يمرَّ هذا النقد على أرضٍ من اللعن والتحقير والسخرية والشماتة بالمجرمين الأشرار الإرهابيين الذين يقاومون على أرض أفغانستان الضربات العنيفة لقوى الاتحاد الدولي الظافرة.
وحين نحاول أن نعين المصلحة الوطنية لكل من المشاركين في التحالف الدولي، نواجه تماماً ما تحدثت عنه النصوص من صعوبات في هذه القضية.
لقد كانت المصلحة الوطنية المعلن عنها محاربة الإرهاب، ولكن الإرهاب ليس حدثاً جديداً في التاريخ يستوجب إعلان حرب عالمية. إن الخلايا الإرهابية، وحركات المقاومة التي تصنَّف انتقائياًّ على أنَّها حركات إرهابية، في كلِّ مكانٍ من العالم، وحتى في الولايات المتحدة نفسها. كان ينبغي أن تعتبر الخلية الإرهابية التي اغتالت الرئيس الأمريكي، وأو حاولت اغتيال الآخر، وأو توصلت إلى شفرة المعلومات الخاصة بطائرة الرئيس الثالث وهدفت إلى ملاحقته في الجو، وأو أطلقت جرثوم انثراكس تقتل الأبرياء، هذه الخلية أو الخلايا الإرهابية كان ينبغي أن لا تعتبر أقلَّ خطورةً من التنظيم الذي قامت بسببه الحرب.
ولكن ماذا لو تلمَّسنا المصلحة الوطنية المنشودة في النظرية التي قدَّمها أحد المحلِّلين في أحد مواقع الإنترنت، وحيث لاحظ هذا المحلل أنه بعد اجتياح الروس أفغانستان، واندفاع سيول اللاجئين الأفغانيين فراراً من القتل والتدمير إلى ما وراء الحدود، وظهور المقاومة الأفغانية للاحتلال تداعى الشباب من مختلف بلدان العالم الإسلامي للدفاع ضد الظلم والطغيان. وكان هؤلاء الشباب صفوة الشباب، ومن أعظمهم نبلاً، وأكرمهم أخلاقاً، وأصفاهم سريرة، وأصدقهم إخلاصاً. وهل أدل على ذلك من أن يترك شاب رغد العيش ولين الحياة، شابٌّ لم يسبق له رؤية الحرب والسلاح إلا في الأفلام، ويندفع مضحِّياً بحياته في سبيل مبدأٍ نبيلٍ: الدفاع ضد الظالمين وفي جانب المظلومين. وقد صدق هؤلاء الأبطال ما عاهدوا الله عليه من الجهاد في سبيله، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر. إلا أنَّ نهاية من ينتظر كانت مأساةً، فما إن وضعت الحرب أوزارَها أو كادت بهزيمة الطغاة، حتى عجَّ الإعلام الغربي، وصداه الإعلام العربي بنداء الكفاح ضد (( الأفغان العرب ))، هذا الوصف الذي ظلَّ في الإعلام تعبيراً يحمل كلَّ إيحاءات الجريمة والشر والعنف والإرهاب، وعاد الشباب من معارك الشرف والنبل والجهاد إلى بلادهم، فاستقبلوا في عددٍ من البلدان العربية في المطارات بالأصفاد والسوق إلى السجون، ربما مع شيءٍ من التعذيب، ولم يجرؤ آخرون كالشباب العراقي على الرجوع إلى وطنهم لعلمهم أنهم سوف يستقبلون بأحكام الإعدام، ربما بعد شيءٍ من التعذيب.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبروز المقاومة الشيشانية للاحتلال الروسي وكفاح الشيشانيين ضد مظالم استمرَّت عشرات السنين، اندفع الشباب المسلم لنصرة إخوانهم في الدين وأبلوا بلاءً حسناً، واعتقد الغرب أنَّ هؤلاء الشباب أو أكثرهم من أولئك الشباب الذين مرنوا على القتال والجهاد في أفغانستان، ثم وقعت البوسنة والهرسك ضحيةً لحرب ربما من أكثر الحروب وحشيةً وهمجيةً تولاها الصرب بمساعدةِ الدولِ الغربية، بعضها بالمساعدة الإيجابية بالإمداد بآلة الحرب، وبعضها بالمساعدة السلبية بحظر السلاح عن الدولة الضحية، فشارك مئاتٌ من الشباب المجاهدين في المقاومة، وحقَّقوا انتصاراتٍ حتى قيل إنهم مع إخوانهم البوسنيين كادوا يقلبون كفة القوة، وعند ذلك تدخَّل الغرب بمعاهدة دايتون، وحرص محرِّرو المعاهدة على أن تتضمن شرطاً صريحاً بإخراج المجاهدين المسلمين، وفعلاً خرجوا تتقاذفهم البلدان، وبقي عددٌ قليلٌ جداًّ كانوا حصلوا على الجنسية البوسنية وتزوَّجوا بوسنيات واختاروا البوسنة وطناً لهم يقضون فيه في هدوء آخر حياتهم. ولكن حتى هؤلاء الذين ربما لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين لم يرض الغرب حتى سحبت منهم الجنسية في سابقة غير إنسانية، ربما لم يجر لها مثيل في العالم الغربي على الأقل لمدة خمسين سنة مضت.
بعد انتهاء الاحتلال الروسي لأفغانستان، ووقوعها في فوضى الاختلاف على السلطة انتقل المقاتلون الذين ربما لم يكن لهم ملجأ في بلادهم إلى السودان، فلوحقوا هناك، ووقعت الضغوط على حكومة السودان لإخراجهم، وحتى بعد إغلاقها مراكز التدريب القتالية، فاضطر المقاتلون للرجوع إلى أفغانستان، وكانت قد نعمت بالاستقرار والأمن في غالب الأرض تحت حكم طالبان.
وفي أثناء كلِّ هذه المدَّة لم يوجه إلى التنظيم أي اتِّهامٍ بالتدريب على عملياتٍ إرهابية، وإنما كان الاتهام بالتدريب على عملياتٍ قتاليةٍ. وذلك حتى تاريخ اللقاء الذي أجرته إذاعة سي ان ان مع زعيم التنظيم وتهديده لمصالح أمريكا، ثم وقوع حادثي الانفجار في سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في نيروبي ودار السلام، الذين وجه إلى التنظيم الضلوع فيهما.
وانتهى المحلل إلى أن معنى ما سبق أنه قبل وقوع أي عملٍ إرهابي يتهم به تنظيم القاعدة كان الغرب مصمِّماً على خضد شوكة المجاهدين، عاملاً على تحجيم نشاطهم بأيِّ وسيلةٍ، ولو كانت بالحرب.
إذا صحت نظرية هذا المحلِّل، وصحَّ الافتراض بأن الإستراتيجية الغربية اعتبار الإسلام هو العدوَّ البديل للعملاق الشيوعي فهل يكون بعيداً أن ترى دول الغرب أن مصلحتها الوطنية تقضي بحرب (( الجهاد )).
وسواء صحَّت نظرية هذا المحلِّل أو لم تصح، فإنَّ مطابقتها على النصوص المقتبسة التي تتناول قضية المصلحة الوطنية كمرتكزٍ للعلاقات الدولية تجعل فهم هذه النصوص أيسرَ. (وهذا هو المطلوب).
وكما عبَّرت النصوص (( أنَّ المصلحة الوطنية في الصورة الذهنية لدى السياسي قد لا تكون هي المصلحة الوطنية الحقيقية )).
يلاحظ هنا أمران:
(1) أن فكرة الجهاد إذا كانت هدفاً للحرب، فإنَّ هذه الفكرةَ لم توجدها مراكز تدريب المقاتلين، ولم يوجدها نشاط المجاهدين، وإنما العكس هو الصحيح. فمحاولة القضاء على فكرة الجهاد بالقضاء على المجاهدين محاولة مشكوك في نجاحها.
إن المصلحة الحقيقية للغرب تجاه (الجهاد) إذا كانت تعتبره شيئاً مخوِّفاً أن تتعامل معه بعقلانيةٍ. ولهذا الغرض يجب أن تكون هذه المعاملة مبنيةً على علمٍ بحقيقة الجهاد، وحقيقة الجهاد بمعنى القتال في سبيل الله إنَّه كما يقرُّ علماء الإسلام وسيلةٌ لا غايةٌ، بمعنى أنَّه إذا لم توجد دوافعُهُ (كما ستوضح في الفصل الثاني) لا يوجد كدافعٍ.
(2) أن المصلحة الوطنية الحقيقية للغرب تتحقَّق بالتعايش السلمي مع الإسلام، وإذا كان الغرب يؤمن حقاًّ بتفوُّق الحضارة الغربية معنوياًّ وأنَّ طريقتها في الحياة هي نهاية التاريخ، فلماذا يفزع من أن يترُكَ لقانون التطوُّر الطبيعي الذي يقضي ببقاء الأصلح عند تنازُع البقاء رسمَ الطريق الأمثل للحياة البشرية؟
أما بالنسبة لصلة القانون الدولي والأخلاق بالعلاقات الدولية، كما شرحتها النصوص المقتبسة، فإنَّ المتتبِّع لظروف الحرب الأخيرة ومسيرتها وما ترتَّب عليها في ضوء المعلومات التي أفلتت من الحصار الإعلامي، وفي ضوء ما صدر من تصريحاتٍ عن قادة الحرب ورجال الدولة في جانب التحالف الدولي، المتتبِّعُ سيجدُ صوراً واقعيَّةً معبِّرةً أوضحَ تعبيرٍ عن معاني النصوص.
في حرب فيتنام وقعت انتهاكات للمعايير الخلقية الإنسانية ولقواعد القانون الدولي، أثارت الرأي العام العالمي، ولكنها كانت صادرة عن جنود أو ضباط ثانويين.
أما في حرب "التحالف الدولي - أفغانستان" فإن انتهاك القوات البرية والجوية في التحالف الدولي للمعايير الإنسانية وقواعد القانون الدولي والاتفاقات الدولية لم يصدر فقط عن القادة العسكريين، بل ساندته تصريحات رجال الدولة والسياسة. وكان موقف الإعلام الأمريكي عن المذبحة الفظيعة لأسرى طالبان في قلعة كيلا جانجى بحيث وصفه الكاتب والسياسي الكندي ستيفن جوانز بأن (( اتجاه الإعلام الأمريكي لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم )).
ولاحظت The Globe and mail في إصدارها 30 نوفمبر 2001 أن البحث في المعلومات الكومبوترية عن صحف الولايات المتحدة الأمريكية يظهر الغياب الكامل تقريباً لأي معالجة للقضية المشار إليها، وحتى المنظمات الدولية الإنسانية كان موقفها wishy washy كما وصف الكاتب الكبير داني تششتر منظمة حقوق الإنسان Human Rights watch في نيويورك. لقد هال هذا الوضع محرِّراً مثل روبرت فسك فكتب في الاندبندنت (29 نوفمبر 2001) مقالاً بعنوان: (( نحن الآن مجرمو الحرب ))، وأشار في هذا المقال إلى قول الرئيس الأمريكي الأسبق ترومان (بمناسبة محاكمة نوربمرج): (( إن إعدام شخص أو عقابه بدون أن تثبت إدانته في محكمة عادلة لا ينسجم بسهولة مع الضمير الأمريكي، ولن يذكره أطفالنا بالفخر )). وذلك بمناسبة الحديث عن تقديم الأسرى لمحاكم عسكرية سرية.
بيد أنه بعد خمسين سنة صار ما وصفه ترومان أمراً منسجماً بسهولة مع الضمير الأمريكي، وقد لا يذكره الأطفال الأمريكان بالفخر، ولكنهم لن يشعروا تجاهه بالخجل.
ما أردت أن أنبه إليه بما سبق أن السلوكيات التي صدرت عن قوات التحالف الدولي لا تعبر حوادث عرضية، وإنما تدل على ظاهرة تعبر عن منحنى في التطور الأخلاقي والإنساني لمنهج العلاقات الدولية في الغرب، مما يستحق أن يؤخذ في الاعتبار عند تقييم المنهج.
خلاصة ما سبق:
أنَّ هناك خصيصتين تطبعان منهج العلاقات الدولية في الحضارة الغربية (الحضارة المعاصرة):
أ - هشاشة القوة الإلزامية للقواعد القانونية المفروض أن تحكم العلاقات الدولية.
ب - هشاشة الأساس الأخلاقي الذي يرتكز عليه المنهج.
ولذا فمن الطبعي أن تكون العلاقات الدولية مؤسَّسةً في هذا المنهج على المصلحة الوطنية والقوة.
على أنَّا إذا رأينا أنَّ المصلحة الوطنية الحقيقية يصعب تعيينها، وأنَّه ليس من الضروري أن تكحم بمعايير موضوعية، وأنَّها قابلةٌ بصفةٍ فائقةٍ للمرونة والتكيُّف في يدِصانع القرار، وأنَّ للإعلام بالرغم من هشاشية صدقه وموضوعيته وخضوعه للأهواء والمصالح الخاصة الدورَ الأهمَّ في تعيين المصلحة الوطنية، وأنَّ القوة تحكم تعيين المصلحة الوطنية أكثرَ مما تحكم المصلحة الوطنية سلوك القوة.
عندما يستدعي القارئ إلى ذهنه الحقائق السابقة فسيكون قادراً على تقييم مدى سلامة منهج الحضارة الغربية في العلاقات الدولية، وصلاحية هذا المنهج لإبعاد شبح الفناء والدمار الذي يتهدَّد البشرية.

الفصل الثاني
العلاقات الدولية في الإسلام
(العدل) هو القاعدة الأساسية في تنظيم علاقة المسلم بغيره، ويشمل ذلك العلاقات الدولية - كما سنرى -. والعدل في هذا المجال - وكما تظهر نصوص القرآن والسنة - هو القيمة الأولى بين القيم الإسلامية، وفي القرآن ورد الأمر بالعدل والإشادة بالمتَّصفين به، والنهي عن الظلم والتشنيع على مرتكبيه في أكثر من ثلاثمائة وخمسين موضعاً. ويعبر عن العدل أحياناً بالقسط وإقامة الميزان أو بما يدل على هذا المعنى، كما يعبر عن الظلم بالبغي والعدوان والبخس والطغيان.
والعدل في الإسلام قيمة مطلقة ذات ميزان واحد يلتزم به المسلم كواجب أساسي في المنشط والمكره، وفي حالة الصداقة والعداوة، في القول والعمل، وفي الفعل والترك. قال تعالى:            •            •         (المائدة: 8).
قال المفسرون: المعنى: لا يحملكم بغض قوم يقاتلونكم في الدين على أن لا تعدلوا في معاملتهم.
ويشهد لهذا التفسير الآية الأخرى:   •                      •   •     (المائدة: 2).
ولم يكن أحد أعدى للمسلمين من الذين صدوهم عن المسجد الحرام وقاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم. (انظر أيضاً الآية 135 من سورة النساء).
والعدل مطلوب في القول والعمل:              (الأنعام: 152).
العدل هو الحد الأدنى في معاملة المسلم لغيره، ولكن المسلم مدعو وراء العدل إلى درجات أعلى: فإذا كان العدل يتحقق بالمعاملة بالمثل، فالمسلم مدعو في القرآن والسنة إلى الصبر والعفو ومقابلة السيئة بالحسنة والبر والإحسان.
قال تعالى:                      •      (آل عمران: 186).
وقال تعالى:                                         ••               •      (الشورى: 39-43).
وقال تعالى:  •          •        •           •       (البقرة: 109).
وقال تعالى:        (المؤمنون: 96).
وقال تعالى:                                 (فصلت: 34-35).
وفي وصف عباد الرحمن قال تعالى:        (الفرقان: 63).

وعلى القاعدة الأساسية - العدل تبنى أحكام العلاقات الدولية في الإسلام، سواء في حالة الحرب وفي حالة السلم، على التفصيل الآتي.

أولاً: في حالة الحرب:
يلاحظ في البداية من نصوص القرآن دلالتها على أن أشنع عمل للإنسان في علاقته بغيره (سفك الدماء، وإرادة العلو في الأرض، والفساد فيها).
قال تعالى:           (البقرة: 30).
وقال تعالى:                     ••      ••   (المائدة: 32).
وقال تعالى:        •        (الإسراء: 4).
وقال تعالى:           •       (البقرة: 205).
وقال تعالى:    •                       (الإسراء: 33).
وفي وصف المستحقين للجزاء الأخروي الحسن:                  (القصص: 83).
وقال تعالى:    ••        (هود: 85 والشعراء: 183).
وفي التشنيع على فرعون قال تعالى:  •         (يونس: 83 والدخان: 31).
وقال تعالى:  •                     (القصص: 4).
وقال تعال:             (البقرة: 27 والرعد: 25).
وفي ذم اليهود قال تعالى:                   (المائدة: 64).
وبالجملة فإن ذم القتل بغير حق والعلو في الأرض والفساد فيها ورد في القرآن في أكثر من مائة وعشرين موضعاً.
لكل ما سبق كان من الطبيعي أن تكون الحرب في الإسلام مكروهة في الجملة، ينبغي ما أمكن تفاديها، وفي المعنى جاء الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : (( لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا )) (متفق عليه). وكان من الطبيعي أن لا يسمح الإسلام بالحرب إلا في حالة الضرورة الشرعية، وفي هذه الحال تحكم الحرب مبادئ ترتكز على القيمة الأساسية (العدل).
تتخلص المبادئ التي تحكم الحرب في ثلاثة مبادئ تضمنها الآية الكريمة:                 (البقرة: 190).

المبدأ الأول: أن يكون القتال في سبيل الله
بأن يخلص القصد منه إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، فالمصلحة الشخصية أو القومية لا يبرر الحرب، بل تجعل الحرب غير شرعية في حكم الإسلام.
وأهمية هذا المبدأ تظهر من أن القتال أو الجهاد نادراً ما يرد في القرآن دون تقييده بأن يكون في سبيل الله، وأحياناً يكون مقروناً بالأمر بالتقوى.
و(التقوى) اصطلاح قرآني لا يوجد له مرادف في اللغة العربية، وربما لا يوجد في غيرها من اللغات، فهو يعني درجة عالية من الحساسية الخلقية، بأن يتصرَّف الإنسان وأوامر الله ونواهيه بين عينيه وأن يشعر بأن الله يراقبه في تصرفه ويراه، وأن الله إليه المآب والمصير.

ولكن من الناحية العملية متى يكون القتال في سبيل الله؟
لقد عرضت الآيات الآتية صوراً يمكن الاهتداء بها لتحديد (ما هو في سبيل الله)، وما يوجد به شرط إباحة الحرب على النحو التالي:
(أ) - رد العدوان:
قال تعالى:                   •   •     (البقرة: 194).
وقال تعالى:            •   (التوبة: 13).
وقال تعالى:         (الشورى: 39).
وقال تعالى:       (الشورى: 40).
وقال تعالى:            (الشورى: 41).
وقال تعالى:          •     (التوبة: 36).
وقال تعالى:      (البقرة: 191).
(ب) - الدفاع ضد الظلم وحماية المظلومين:
قال تعالى:        •                  (الحج: 39-40).
وقال تعالى:                (البقرة: 246).
وقال تعالى:                   (الممتحنة: 9).
وقال تعالى:                        (الحجرات: 9).
وقال تعالى:                                •  (النساء: 75).
وقال تعالى:       •        (الأنفال: 72 ).
(جـ) - الدفاع ضد الإفساد في الأرض:
قال تعالى:           •                                           (المائدة: 33-34).
وقال تعالى:     ••      (البقرة: 251).
وقال تعالى:     ••                   (الحج: 40).
(د) - القتال لحماية حق الإنسان في اختيار أن يكون الله هو إلهه، لا إله سواه.
وهذا الحق يقع على رأس حقوق الإنسان في الإسلام، لأنه الغاية من الحياة.
قال تعالى:         (الذريات: 56).
وقال تعالى:                            (آل عمران: 64).
وفد فهم المسلمون في القرون الأولى أن مهمتهم الكبرى إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، كما عبَّر عن ذلك الصحابي الجليل ربعي بن عامر في مفاوضات المسلمين مع الفرس، في حرب القادسية.
قال تعالى:                                            (البقرة: 217).
وقال تعالى:                            (البقرة: 191).
قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى:      : (( يعني الشرك بالله أشدُّ من القتل … وقد بينت أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار، فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يقتل مقيماً على دينه متمسكا عليه محقا فيه )).
وقال الإمام القرطبي في تفسيرها: (( أي: الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشدُّ من القتل )). وقال في تفسير      : (( قال مجاهد وغيره: الفتنة هنا الكفر… وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنة المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أي: إن ذلك أشدُّ اجتراماً من قتلكم في الشهر الحرام )).
ويلاحظ أنه لا خلاف بين التفسيرين، فمن فسَّر (( الفتنة )) بالشرك أو الكفر عنى النتيجة، ومن فسَّرها بتعذيب المسلم حتى يكفر عنى السبب.
وقال تعالى:           (البقرة: 193).
أخرج البخاري في تفسير هذه الآية عن نافع أنَّ رجلاً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه:          ؟ قال: فعلنا على عهد رسول الله ، وكان الإسلام قليلاً فكان الرجل يُفتن عن دينه، إما قتلوه وإما يعذبونه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة.

المبدأ الثاني: أن يكون القتال ضدَّ من يقاتل
قال تعالى:    •         •  •                                     (الأنفال: 60-61).
وقال تعالى:                   (البقرة: 193).
قال الإمام الطبري: عن مجاهد          يقول: (( لا تقاتلوا إلا من يقاتلكم )).
وقال في تفسير قوله تعالى:                 (البقرة: 190): عن سعيد بن عبد العزيز قال: (( كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: إني وجدت آية في كتاب الله:                ، أي: لا تقاتل من لا يقاتلك )). وردَّ الطبري على من قال بنسخ الآية بقوله: (( وأولى هذين القولين بالصواب القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز، لأنَّ دعوى المدَّعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكُّمٌ، والتحكُّم لا يعجز عنه أحدٌ )).
وقال تعالى:                (النساء: 90).
قال ابن كثير: (( أي: فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك )).
وقال تعالى:                      (النساء: 91).
فسَّر ابن كثير (( السلم )) بالمسالمة والمهادنة والمصالحة.
وقال تعالى:                    •                      (الممتحنة: 8-9).

المبدأ الثالث: عدم تجاوز ضرورات الحرب
وهذا المبدأ قيد على قاعدة "المعاملة بالمثل"، فلا خيار للمسلم في عدم الالتزام بالمعايير الأخلاقية الإسلامية في معاملة العدو، وإن كان العدو لم يلتزم بها. ولا خيار للمسلم في عدم الوقوف عند حدود الله، وإن كان عدوه المحارب تجاوز هذه الحدود، فإذا مثَّل محاربو المسلمين بقتلى المسلمين فلا يجوز للمسلمين معاملتهم بالمثل، وإذا قتل الأعداء نساء المسلمين وصبيانهم أو غير المقاتلين منهم فلا يجوز للمسلمين أن يقتلوا نساء الأعداء أو صبيانهم أو غير المقاتلين منهم.
وقد أفاض المفسرون عند تفسيرهم للآية السابقة:                 في ذكر ما ورد من النصوص عن الرسول  وخلفائه تطبيقاً لهذه الآية.
من ذلك ما روى مسلم عن بريدة أنَّ رسول الله  كان [ إذا بعث جيشاً ] يقول: (( اغْزُوا وَلاَ تغلوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع )).
وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشاً إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان … فقال: (( إنَّك ستجد قوماً زعموا أنَّهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا، إنهم حبسوا أنفسهم له … وإني موصيك بعشر: لا تقتلنَّ امرأةً ولا صبياًّ ولا كبيرا هرماً، ولا تقطعنَّ شجراً مثمراً، ولا تخربنَّ عامراً، ولا تعقرنَّ شاةً ولا بعيراً إلا لمأكلةٍ، ولا تحرقنَّ نحلاً ولا تفرقنَّه ولا تغلل، ولا تجبن )).
قال الطبري: عن يحيى الغساني قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن قوله تعالى:                 قال: فكتب إليَّ أنَّ ذلك في النساء والذرية، ومن لم ينصب لك الحرب منهم.
وعن ابن عباس في تفسير الآية: (( يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير، ولا من ألقى إليكم السلم وكفَّ يده، فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم )).
وروى الطبري عن مجاهد في تفسير قوله تعالى:                   قال: (( يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم )).
وقال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة   •           (المائدة: 2): (( معناها ظاهر، أي: لا يحملكم بغض قوم قد كانوا صدُّوكم عن المسجد الحرام … عن أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلما وعدواناً، بل احكموا بما أمركم الله من العدل في حق كل أحد … وهذه الآية كما سيأتي في قوله:   •       أي: لا يحملكم بغض قوم على ترك العدل، فإنَّ العدل واجبٌ على كلِّ أحدٍ لكلِّ أحدٍ في كلِّ حال )).
وقال الإمام القرطبي في تفسير الآية الكريمة   •      : (( دلَّت الآية أيضاً على أنَّ كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه … وأنَّ المثلة بهم غير جائزةٍ، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمُّونا بذلك فليس لنا أن نقتلَهم بمثله، قصداً لإيصال الهمِّ والحزن إليهم )).
وقال في تفسير قوله تعالى:          : (( قال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: هي محكمةٌ، أي: قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم )).
وقال عمر بن الخطاب: (( اتقوا الله في الذرية والفلاَّحين الذين لا ينصبون لكم الحرب )).
وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرَّاثاً.
ويدلُّ تاريخ الإسلام في كل العصور على أنَّ المسلمين الملتزمين طبَّقوا هذا المبدأ دون استثناء.

ثانياً: في حالة السلم
أبرز مظهر للعلاقات الدولية في حالة السلم المعاهدات.
وقد عني القرآن في زهاء ثلاثين موضعا منه بالتأكيد على وجوب وفاء المسلم بالعهد وتحريم الإخلال به.
على سبيل المثال قال تعالى:        (المائدة: 1).
قال ابن كثير: ((     قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني بالعقود العهود. وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك )).
قال: (( (والعقود) ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره )).
وعن ابن عباس [ في تفسيرها ]: (( لا تغدروا ولا تنكثوا )).
وقال تعالى:     •     (الإسراء: 34).
وقال تعالى:               •     (التوبة: 7).
وقال تعالى - في ذكر صفات الناجين -:        (المؤمنون: 8، والمعارج: 32).
وقال تعالى:      • •     (آل عمران: 76).
وقال تعالى:       (البقرة: 177).
وقال تعالى:          (الرعد: 20).
وقال تعالى - عن الناكثين -:                           (الرعد: 25).
وأكد القرآن أنه حتى في حالة ظهور شواهد نقض العهد من الطرف الثاني، واضطرار المسلمين الذين أبرموا العهد اضطرارهم بسبب ذلك إلى إنهاء العهد، فإنه لا يجوز لهم استغلال هذا الإنهاء لتحقيق مصلحة لهم على حساب الطرف الثاني، بل يجب أن يتم إنهاء العقد في وضع من التوازن بين الطرفين. قال تعالى:  •          •      (الأنفال: 58).
وروى الترمذي وأبو داود عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم. فجاء رجل على فرسٍ أو برذونٍ وهو يقول: (( الله أكبر، الله أكبر، وفاءٌ لا غدر ))، فنظروا فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: (( سمعت رسول الله  يقول: (مَن كان بينه وبين قومٍ عهدٌ فلا يشُدَّ عُقْدَةً ولا يحُلَّها حتى ينقضي أمدُهُ، أو ينبِذَ إليهم على سواءٍ) )). فرجع معاوية بالناس.
والعقود في الإسلام على العموم واجبة الاحترام، ويجب الدخول فيها بنية الوفاء بشروطها مهما تغيَّرت الظروف. ولكنَّ المعاهدات الدولية في الإسلام لها تميُّزٌ في هذا، فقد روى مسلمٌ في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن النبيَّ  قال: (( لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة، يُرْفَعُ له بقدر غدره، ولا غادرَ أعظمُ غدراً مِن أميرِ عامَّة )).
والفقهاء وهم يرون أن الجهاد يكون مع الأمير الصالح والفاسق، يذهب أكثرُهم إلى أنَّ الجهادَ لا يكون مع الأمير الذي لا يلتزم الوفاء بالعهود.
وعلى خلاف القانون الدولي في الحضارة المعاصرة فإن تغير الظروف لا يبرِّر نكث العهد، وحتى إذا عجز المسلمون في ظروف معينة عن الوفاء بالتزاماتهم يجب عليهم مراعاة التزامات الطرف الثاني.
ومن هذا الباب القصة المشهورة أيضاً عندما استولى القائد المسلم أبو عبيدة بن الجراح على حمص ثم اضطر إلى الانسحاب منها فردَّ الجزية التي أخذها من السكَّان، وقال: إننا أخذنا الجزية مقابل حمايتكم، وما زلنا الآن لا نستطيع أن نحميكم فقد وجب أن نردَّها.
والأمثلة كثيرة من هذا النوع في التاريخ الإسلامي.
فتغيُّر الظروف، والمصلحة القومية لا تبرِّر في الإسلام نقض العهد، كما لا يُبرِّره أن يرى المسلمون أنفسهم في مركز القوة تجاه الطرف الثاني. وقد ورد النص الصريح في القرآن يؤكِّد ذلك، قال تعالى:
                 •                     •    •       (النحل: 91-92).
ثم يقول بعد ذلك:                   (النحل: 95).
مما له دلالة أن نتذكَّر أن الآيات القرآنية نزلت بالتشديد على المسلمين بالوفاء بالعهد في وقت وفي بيئة لم تكن القاعدة فيهما الوفاء بالعهود، يقدم لنا القرآن صوراً لهذه البيئة في قوله:  •                        (الأنفال: 55-56).
وقال تعالى:                       •              •                  •            •      (التوبة: 7-10).
وقال عن اليهود:         (البقرة: 100).

وبالرغم من إيقان المسلمين بأنه لا خيار لهم في عدم الوفاء بالعهد تحت أي ظرف، وبالرغم من معرفتهم أن الطرف المقابل لا يحمل مثل هذا الالتزام، إلا أنهم كانوا - كما يظهر ذلك تاريخ الإسلام - يقبلون على إبرام العهد تفادياً للحرب كلما كان ذلك ممكناً بصرف النظر عن عدم تعادل الشروط.
ومعاهدة الحديبية (( بالرغم مما تضمنته من شروط تبدو للوهلة الأولى مجحفة في حق المسلمين ))، مثل بارز في هذا.
ومثل آخر بارز في العهد العمري بين المسلمين والفلسطينيين سكان إيلياء. فبعد انتصار المسلمين على الروم في معركة اليرموك الفاصلة، وهزيمة جيش أرطبون كانت فلسطين مفتوحة أمام جيش المسلمين ولم يكن شيء يحول بينهم وبين الاستيلاء على إيلياء عنوة، فلما عرض السكان إبرام معاهدة الصلح لم يتردَّد المسلمون في قبولها، بالرغم من اشتراط الفلسطينيين شرطاً غير عادي، وهو أن يحضر الخليفة نفسه - في سفر لمدة شهر - ليوقع المعاهدة، والذي يقرأ المعاهدة الآن خالي الذهن من ظروف إبرامها لا يتوقع أبداً أن تكون معاهدة بين جيش منتصر وجيش مهزوم.
ومن المناسب ذكر جزء من المعاهدة، فهي تجري هكذا: (( هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم … وعليهم أن يخرجوا الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن … ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله إلى الروم ويخلي بينهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم )).
ليتذكر القارئ انه وقت كتابة العهد المشار إليه كانت الحرب لا تزال قائمة وعلى أشدها بين المسلمين والروم.
هل منهج الإسلام في العلاقات الدولية واقعي؟
قد يخيَّل لشخص يعيش في هذا العصر أن منهج الإسلام في العلاقات الدولية وما يقتضيه من مبادئ حاكمة، منهج مثالي ليس قابلاً للتطبيق في عالم الواقع، ولكن يرد هذا أنه بالرغم من أن هذا المنهج كان يطبق من جانب واحد فقد طبقه المسلمون كما يشهد تاريخهم على مساحة واسعة من الزمان والمكان. صحيح أن تطبيق المبدأ الثاني من مبادئ الحرب لم يظهر بالوضوح الكافي بسبب أن حالة الحرب الدائمة في العالم كانت حينذاك هي القاعدة. وصحيح أن المبدأ الأول وجد الإخلال به عدة مرات بخاصة في الحروب بين الجماعات أو الدويلات الإسلامية، ولكن هذه الحروب لم تعتبر قط جهاداً ولا حروباً مشروعة لا من قبل الفقهاء الذين عاصروها ولا من قبل كتاب التاريخ اللاحقين.
ولكن المبدأ الثالث طبق باستمرار من قبل المسلمين، وربما لا يذكر التاريخ حالة واحدة تم الإخلال فيها من قبل المسلمين الملتزمين بأحكام الإسلام.
يوضح ما سبق ذكر بعض الأمثلة والمقارنات:
(1) - كما سبق أن ذكر كان المسلمون بعد وقعة اليرموك الحاسمة وهزيمة جيش أرطبون قادرين على الاستيلاء عنوةً على القدس. واستيلاؤهم عليها عنوة يعطيهم مزايا مادية أهم وأكثر مما لو فتحوها صلحا، ومع ذلك رغبة منهم في فتحها صلحاً فضَّلوا حصارها - وتكبَّدوا في ذلك خسائر مادية وبشرية - حتَّى قبل سكَّانها الصلح، وأبرمت معاهدةُ الصلح، بشروطٍ لا تُنبئ أبداً أنَّها كانت معاهدة صلح بين جيشٍ منتصرٍ وجيشٍ منهزمٍ.
فمثلاً تضمَّنت هذه المعاهدةُ - والمسلمون لا يزالون في حرب مع الرومان - تخييرَ قادة وجنود جيش الرومان بين أن يبقوا في القدس ويكون لهم ما لسكانها الفلسطينيين وعليهم ما عليهم، أو أن يلحقوا بجيش الروم. وفي هذا الحالة يضمن المسلمون حياتهم وأموالهم حتى يبلغوا مأمنهم.
ودخل جيش المسلمين القدس فلم يهرق دم، ولم ينهب مال، ولم يهدم معبدٌ. بل إنَّ النصارى حينما دعوا الخليفة للصلاة في كنيسة القيامة تكريماً له، امتنع عن ذلك معلِّلاً امتناعَهُ بخوفه مِن أن يمثل سابقةً فيعتاد المسلمون الصلاة في الكنيسة حتى يغلبوا النصارى عليها.
قبل انتصار المسلمين على الرومان وفتحهم القدس على النحو الذي ذكرنا بعشرين عاماً تقريباً انتصر الفرس على الرومان واستولوا على القدس. فكيف تمَّ ذلك، تذكر كتب التاريخ للمؤرخين الغربيين أنَّ المدينة أحرقت ونهبت، وجرت دماء النصارى السكان في مذابح مروعة، وأحرقت الكنائس، وأهين المكان الذي يعتقد النصارى أنَّ المسيح دُفِن فيه، وحملت كغنائم حرب النفائس والمقدَّسات، ومن بينها الصليب الكبير (True cross) الذي يعتقد النصارى أنَّ المسيح صُلب عليه. وقد احتفل رجالُ الدين الفرسُ ابتهاجاً بانتصارهم على رجالِ الدين النصارى. وساعد اليهودُ الفرسَ في النهب والمذابح بسبب عدمِ رضاهم عن سيطرةِ النصارى، ممَّا أوجب نقمة النصارى عليهم عندما انتصر الرومان على الفرسِ بعد بضعِ سنواتٍ.
(2) - تعتبر المستشرقة الألمانية الراحلة زيجريد هونكه من أوسعِ المستشرقين اطِّلاعاً على تاريخ الإسلام، وقد وصفت بعباراتٍ مؤثِّرةٍ انتصارَ الصليبيين على المسلمين، واستيلاءهم على القدس، فقالت: (( عقب وصول [ الصليبيين ] إلى هدفهم المنشود (( بيت المقدس )) طغت حماستهم فجرفت أمامها كلَّ السدود، وانطلقوا سيلاً بشعاً بربريا يأتي على الأخضر واليابس، وقد أجَّج ذلك صيامُهم ثلاثين يوماً حماسةً متعصبة ونذرا للرب تقربا. ولقي هذا كله ردَّ فعلٍ لدى سفاكي الدماء … من فرسان "الفرنجة" من فرنسيين ونورمان وجموعهم التي انحدرت في طرقات بيت المقدس تحصد الأرواح حصداً، لا تقع على إنسان إلا قتلته … رجالاً ونساءً وشيوخاً وولدانا. وتذكر مصادرُنا الغربيةُ ذاتها أن ذلك الحصاد الوحشي بلغ عشرة آلاف ذبيح. ويصف المؤرخ الأوروبي ميشائيل دارسيرر كيف كان البطريرك نفسه يعدو في زقاق بيت المقدس وسيفه يقطر دماً حاصداً به كلَّ من وجد في طريقه، ولم يتوقَّف حتى بلغ كنيسة القيامة وقبر المسيح، فأخذ في غسل يديه تخلصاً من الدماء اللاصقة بها، مردِّداً كلمات المزمور التالي: (( يفرح الأبرار حين يرون عقاب الأشرار، ويغسلون أقدامهم بدمهم، فيقول الناس: حقا، إنَّ للصديق مكافأة، وإن في الأرض إلها يقضي )) [ المزمور 58: 10-11 ]. أما الميدان الذي يتحلَّق قبة الصخرة والمسجد الأقصى الذي لجأ إليه معظم الأهالي المسلمين الهاربين هلعاً واحتماءً به، فقد تحوَّل تحت زحف الفرنجة المدمر … إلى حمام دماء خاض فيه مهاجمو النصارى حتى الكعبين، مواصلين الإجهاز على المسلمين. لقد كانت الحملة الصليبية الأولى … (1095م) بمثابة المقدمة الموسيقية الحزينة لواحدةٍ من كبريات مآسي العبث في تاريخ الإنسانية. لقد حفر ذلك اليوم حفراً يتأبى على المحو أبداً في ذاكرة التاريخ … ولئن كانت الحملة الصليبية الأولى قد انتهت لوقت مؤقت معلوم بالغلبة الساحقة لمقاتلي النصارى دفاعاً عن المسيح!، فإنَّها كانت في الوقت نفسه هزيمةً أخلاقيةً مهولة سجَّلها تاريخ الإنسانية بحروفٍ من الخزي … ولقد أيقظت تلك الحملة البربرية ما أيقظت في نفوس المسلمين في شتى بقاع العالم الإسلامي … ولن تزال تلك الحملة الصليبية الأولى بقعة عارٍ وخزيٍ لاصقةً بالغرب مشيرةً إليه بإصبع الاتهام )) (ص 21-22).
كتب جود فرى قائد الحملة على (القدس) إلى البابا يبشِّره بأنَّ خيولَ جيشِهِ ظلَّت تخوض الدماءَ التي كانت تسيل من أجسام الكفار (المسلمين).
وبعدَ عدَّة عقودٍ من السنين هزم صلاح الدين الأيوبي الصليبيين في موقعة حطين الحاسمة، وفتحت أمامه (القدس) فدخلها المسلمون منتصرين وأظهروا من ضروب السماحة والإنسانية وأخلاق الفروسية ما أجبر حتى المتعصِّبين من مؤرخي الغرب على الاعتراف به.
وفي سبيل المقارنة بين سلوك الصليبيين والمسلمين بهذه المناسبة كتبت زيجريد هونكه: (( نذكر هنا الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، الذي نشأ في الغرب تنشئة الملوك الشرفاء. فقد مرغ تلك السمعة الطيبة في العار، ودأب على تلويثها بشكلٍ مخزٍ دائماً أبداً، فبينما أقسم بشرفه لثلاثة آلاف أسير عربي أنَّ حياتهم آمنة فإذا هو فجأة منقلب المزاج، فيأمر بذبحهم جميعاً، ويحذو قائد الجيش الفرنسي حذوه سريعاً. وهكذا لطخ بفعلته النكراء وسفكه تلك الدماء سمعتَه إلى الأبد، وضيَّع ثمرة انتصاره في أذيال الخزيِ والعار. وعلى العكس من هذا عرفنا صلاح الدين الذي أخزى قوَّاد جيوش النصارى، فلم ينتقم قطُّ من أسراهم النصارى الذين كانوا تحت رحمته، رداًّ على خيانتهم وغدرهم وفظاعتهم الوحشية، التي ليس لها حدٌّ. ولقد أخزاهم صلاح الدين مرةً أخرى حين تمكَّن من استرداد بيت المقدس، التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبلُ بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحةٍ لا تدانيها مذبحةٌ وحشية وقسوةً، فإنَّه لم يسفك دمَ سكَّانها من النصارى انتقاماً لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضارباً المثل في التخلُّقِ بروح الفروسية العالية. على العكس من المسلمين لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزامٍ خلقي يفرض عليها أن تسمح لأولئك (( الكفار )) بممارسةِ حقوقهم الطبيعية … كما شعرت تلك الفروسية النصرانية بأنَّه ليس لزاماً عليها أن تلتزم بكلمة الشرف التي تعطيها لغير النصراني … والحقُّ أنَّ الفروق الحاسمة مع أتباع الملَّة الأخرى راسخةٌ في تفهُّم كلٍّ من الإسلام والنصرانية لطبيعته وفي اختلاف تفهُّم كلٍّ منهما للبشر )) (ص 34-35).
(3) - عقدت زيجريد مقارنة بين سلوك الصليبيين وسلوك المسلمين بمناسبة استيلاء الصليبيين على دمياط، ثم هزيمتهم على يد السلطان الكامل، فكتبت:
(( ليس الخيال وحده إذن هو الحافل بالشهادات القيمة في معاملة الخصم معاملة تخلو من التجني الظالم، وتقيمه موضوعيا، وتقدم له ما يستحق من احترام وتقدير، وتتيح للصداقة أن تنمو وتترعرع بين الخصوم … ومن الشواهد الدالة على هذا الموقف الأخلاقي أن أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية بعد عودته إلى وطنه على نهر الراين لم يجد بداًّ من تحرير رسالة إلى سلطان مصر الملك الكامل يعبر فيها عن مشاعره تعبيراً مؤثِّراً، وقد ترسَّخت في مخيلته المذابح الفظيعة التي أبيد فيها أهل دمياط بمصر جميعهم بناءً على أوامر البابا ومبعوثيه الكرادلة ورجال الكنيسة، وذلك بعد الاستيلاء على حصن دمياط بعد حصار طال.
لم يكن ذلك الألماني سوى عالم الفلسفة اللاهوتية (( اوليفروس )) من كولونيا على نهر الراين بألمانيا الذي بهره ما اكتشفه من المروءة والفروسية العربية التي أثبتها في شخصية السلطان الكامل، على الرغم من جميع الأهوال والفظائع التي اعتادها السلطان من قبل النصارى.
ولقد سجَّل ذلك الشاهد ما لمسه بعينه كما لو كان ذلك حدثاً سعيداً لا يمكن للعقل أن يتصوره. فقام بكتابة الرسالة التالية إلى السلطان الكامل عام 1221 … إذ أنه لم يقتص من الصليبيين العين بالعين والسن بالسن، وإنما أطعمهم في مسغبتهم مرسلاً إلى جيشهم المتضور جوعا كل يوم ثلاثين ألف رغيف ومواد غذائية أخرى، وكتب يقول:
(( منذ تقادم العهود لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك لم نعرفك مستبداًّ طاغية، ولا سيداً داهية، وإنما عرفناك أباً رحيماً شملنا بالإحسان والطيبات، وعوناً منقذاً في كل النوائب والملمات. ومن ذا الذي يمكن أن يشكَّ لحظةً في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله … إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقناهم مر العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعاً راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، وأسدوا إلينا كلَّ ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان )).
هنا كان ينبغي أن يقرع ناقوس، وأن تتجاوب لرنينه نواقيس أخرى، وإذا كان عربي قد قدم مثل هذا البرهان على السمو الإنساني والمروءة المتناهية، فإن ذلك ليس بدعاً ولا حدثاً مفرداً، فثمَّة شواهد أخرى في هذا الصدد )) (ص32-34).
(4) - وتعقد زيجريد هونكه مقارنة أخرى بين فتح المسلمين للأندلس وحكمهم لها، ثم استيلاء النصارى الكاثوليك عليها واضطهادهم للمسلمين واليهود والمذاهب الأخرى في المسيحية، فتقول:
(( ولا مراء أنَّ تاريخ الغرب نفسه يثبت بالبراهين العكسية الدامغة التي تدحض وتفند التشويهات التي ألصقت بالإسلام زورا، والتي تحفل بها كتب التاريخ، حيث تسم الإسلام ظلماً وعدوانا بأنه يشكل خطراً يهدد البشرية والحضارة الإنسانية. وحسبُك مثل واحد فريد في نوعه إبان تلك العصور، لتفنيد تلك التخرصات. ولك أن تقول: الوجه المشرق لتلك الميدالية الحالكة السواد، والذي أشرق على البشرية حقبة مباركة لم تكن بالقصيرة، وإنما قرابة ثمانية قرون، نعنى إسبانيا.
إن إسبانيا تحت حكم العرب مثال يبين أنه بينما كانت أوروبا الكاثوليكية دون جبال البرانس تقضي قضاءً مبرماً على كلِّ دينٍ آخر يجرؤ على الظهور إلى جانب دينها الكاثوليكي - بصفته الدين الأوحد للخلاص -، وذلك باتباعها سياسة التفرقة الصارمة إزاءَ غير النصارى، نرى أن النصرانية لم تُسْتَأصل ولم تَضِعْ تحت حكم العرب … كذلك اليهودية … تمتَّعت في ظلال الحكم العربي … لأول مرة بعد الشتات بمطلق الحرية إلى أن استعادت النصرانية الحكم في إسبانيا وطردت اليهود … فوق هذا كله، يبين مثال إسبانيا هذا أن تلك البلاد التي كانت قبل الحكم العربي تتسم بالفقر والخراب والاستعباد، قد استحالت إلى إسبانيا أخرى يرفرف الثراء والرخاء على كلِّ سكَّانها وتميزت بارتفاع مستوى كل طبقات الشعب وازدهار الحضارة والتمدُّن فيها وتقدُّمها في كافة العلوم والفنون … واستمرَّ ذلك خمسمائة عام، كما هو ثابت في تاريخنا بلا جدال، إلى أن زحفت إسبانيا النصرانية من الخارج فقوضت كل ذلك وحطمته تحطيماً … إن سماحة النفس العربية وتسامحها … تلك السماحة التي يراها الإسلام شيئاً مفهوماً بداهةً جعله يرتضي ويتقبل وجود النصرانية مطلقاً … إن تلك الحضارة الزاهرة التي غمرت بأشعتها أوروبا لمدة قرون تجعلنا نعجب أشدَّ العجب، إذ هي لم تكن امتداداً حضارياً لبقايا حضارات غابرة … أو أخذاً لنمط حضاري موجود، كما نعرف في الأقطار الأخرى … على أن التربة التي فوقها نمت أغصان الحضارة وبراعمها فجأة تحت حكم العرب أقفرت وظلت عقيماً، استشرى فيها الجدب ولم تتعهدها بالرعاية منذ ذلك الحين قوى حضارية خلاقة تذكر. إن العرب هم الذين أبدعوا إبداعاً يكاد يكون من العدم، هذه الروعة الحضارية الشامخة في إسبانيا تلك الجنة الفريدة الجمال لأساتذة فنِّ المعمار، والمغنِّين والمغنِّيات، والشعراء والشاعرات، والعلماء، بل جنة المرأة التي نسج الغرب حولها صوراً خيالية … غاية في الوحشية دون أن يكون له أدنى معرفة أو حتى إلمام طفيف ضحل بها )) (ص 52-54).
(( إن الشيء الذي يتأبى على فهم الكنيسة فهو دخول شعوب الأقطار المفتوحة في الإسلام أفواجاً بمحض إرادتها، دون مساعي إرساليات التبشير، ودون الإكراه في الدين. أجل، لقد كانت السماحة العربية والروح العربي وأسلوب الحياة العربي مما استحوذ على نصارى إسبانيا، وليس كما يزعم المبطلون زوراً عظيماً … بأنهم أرغموا على الإسلام خشية السيف … أما الإجهاز على السماحة والتسامح نهائيا في إسبانيا فقد تمَّ على أيدي الدويلات النصرانية التي اعتصمت في شمال إسبانيا، والتي أقصت العرب شيئاً فشيئاً إلى أن تمكَّنت من صدِّهم وطردهم، متوجة انتصارها باستعادتها عام 1492 ميلادية الدرَّتَين العربيتين غرناطة والحمراء. إذ لم يكن انتصار النصرانية يعني سوى طرد اليهود والمسلمين واضطهادهم وإكراههم على التنصير واستئناف نشاط محاكم التفتيش التي قامت بتعقب كل من يتخذ سوى الكاثوليكية دينا، والحرق العلني في احتفالات رسمية تحفُّها الطقوس والشعائر الكنسية لكلِّ من اعتنق الإسلام أو اليهودية.
وما إن دالت دولة العرب في إسبانيا حتى اندثرت معهم أزهى وأخصب حضارة ملكتها أوروبا في العصور الوسطى، وغرقت في بحر من الرعب وأتت فيه أمواج التعصب الديني على كل شيء وابتلعته ابتلاعاً. ولم تلغ محاكم التفتيش إلا في 1834 )) (44-45).
(5) - مثال حديث للمقارنة: سلوك المحاربين الصرب في البوسنة والهرسك الذين ارتكبوا أفظع الجرائم التي لم يستطع حتى الإعلام الغربي المتحيِّز أن يتجاهلَها. وقد تمَّ ذلك بالمعونة اللوجستية الإيجابية للصرب من بعض دول أوربا، وبحجب الإمداد اللوجستي عن المسلمين من قبل دول غربية أخرى، بل لقد تمَّ ارتكاب الجرائم بمعونة أو تواطؤ عناصر غربية في قوة حفظ السلام.
وبالعكس فإن المجاهدين المسلمين في البوسنة والهرسك، وإن كانوا محاربين أقوياء إلا أن التزامهم الخلقي حال دون أن يجد الإعلام الغربي من سلوكهم ما يخالف قواعد الشرف العسكري. ولقد حقَّقوا في النهاية انتصاراتٍ ربما كانت عاملا في مبادرة الغرب بوضع اتفاقية دايتون التي تضمن أحد نصوصها وجوب إخراج المجاهدين المسلمين من البوسنة والهرسك، وكذلك وقع.
وسلوك المجاهدين الملتزمين بالإسلام في الشيشان في حربيه الماضية والجارية مقارناً بسلوك الروس مثال آخر.
(6) - أما المثال الطازج فهو ما أظهرته المعلومات التي أفلتت من الحصار الإعلامي من سلوكيات القوات البرية والجوية في التحالف الدولي في حرب أفغانستان الجارية. لقد أظهرت المعلومات المشار إليها صوراً من السلوك لو نسبت لغير قوات التحالف الدولي المتحضِّر لوصفت بأنَّها همجيَّةٌ ووحشية وجرائم حرب.
ولو لم يكن الإعلام هالوكستيًّا بيد الدجال، ولو وجد إعلامٌ غير متحيِّز لربما صلحت صورة طالبان لتكون هي الصورة المقابلة، وعلى كل فإنه حتى الإعلام المتحيِّز لم يتَّهم جيوش طالبان في أوقات انتصارها باغتصاب النساء أو إحراق أسراهم بالديزل، أو إغراقهم، أو قصفهم إستراتيجيا بقاذفات القنابل أو تصيُّدهم بطائرات الهيلكوبتر أو العجن الإستراتيجي لقرى بكاملها حيث تختلط أجسام البشر بأجسام حيواناتهم وأنقاض بيوتهم وأثاثهم وتمسح من على الأرض مسحاً.
على أنَّ طالبان لو ارتكبت مخالفاتٍ لقواعد القانون الدولي أو المعاهدات الدولية لكان من السهل افتراض أنَّ هذه القواعد لم تخطر لها ببال وربما لم تسمع بها.
ولكن القادة العسكريين والمدنيين على السواء في جيش التحالف الدولي لا يجهلون هذه القواعد، وربما كان هذا ما أدى بجرمياه يورك أن يضع هذا السؤال:
The biggest [whopper] is that the vast majority of those who understand what the Geneva Conventions are, and what they say, just don’t care anymore. So who are the barbarians now? Are they those who don’t know better, or who do, and choose not to care?
مَن البرابرة الآن، الذين لا يعلمون عن اتفاقيات جنيف أو الذين يعلمون ثم لا يأبهون بانتهاكها؟

فيما سبق كان الحديث عن منهج الإسلام في التطبيق في حالة الحرب، أما في حالة السلم فإن المسلمين الملتزمين بالإسلام في كل زمان ومكان قد اعتبروا القوة الإلزامية للمعاهدات قوة مطلقة، وهذا بالطبع يختلف تماماً مع المنهج الغربي للعلاقات الدولية، إذ يحكم المعاهدة كما يحكم غيرها المصلحة القومية والقوة. فإذا كانت المصلحة القومية للدولة الحديثة انتهاك المعاهدة وكانت قادرة على ذلك بحيث لا تتوقع أيَّ جزاءٍ، فإنها لا تتردَّد في تلبية ما تقتضيه المصلحة الوطنية:
( أ ) - على سبيل المثال والمقارنة، كلا الدولتين إسرائيل والمملكة العربية السعودية وقعا الاتفاقية الدولية الخاصة بالملكية الفنية. ومع ذلك لا تضج الشركات الأمريكية من انتهاك حقوقها بموجب الاتفاق في أي دولةٍ بقدر ما تضجُّ من انتهاكها في إسرائيل. إسرائيل بالطبيعة صديقة لأمريكا وشريكة إستراتيجية. ولكنها كدولةٍ حديثةٍ لا تهتمُّ أجهزتها التنفيذية بحماية حقوق الملكية لدولةٍ أجنبيةٍ على حساب مصلحتها القومية في حدود استطاعتها. وبالعكس فإن الأجهزة التنفيذية في المملكة العربية السعودية تطبيقاً للاتفاق الدولية لا تحمي الحقوق الأمريكية الفنية بأكثر من حماية الولايات المتحدة الأمريكية لحقوق المملكة العربية السعودية فحسب، بل أكثر من حماية الأجهزة التنفيذية الأمريكية نفسها حقوق المواطنين الأمريكيين. والسبب أنَّ المسلم في المملكة العربية السعودية ينظر إلى نصوص المعاهدات كما لو كانت نصوصاً مقدَّسةً، لا يتصوَّر أنَّه يمكن التردُّد في تنفيذها.
وبصرف النظر عن حكمة أو عدم حكمة سلوك الأجهزة التنفيذية السعودية في الالتزام بما لا يلزمها قانوناً، إلا أنَّ المقصود (وهو المطلوب) الدلالة على الروح التي تحكم المسلم تجاه المعاهدات.
(ب) - وللمقارنة أيضاً، في حرب الخليج وقعت مجندة أمريكية أسيرة في يد العراقيين، فاهتمَّت إذاعة B.B.C. بالسؤال عن قواعد الإسلام التي تحكم الأسرى، بالطبع السؤال لا محلَّ له، لأنَّ حكومة العراق حكومة بعثيَّة علمانية، وعقيدة البعث لا محلَّ فيها لتحكيم الدين أي دين. فحكومة العراق بمقتضى الحال لن تبحث عن أحكام الإسلام لتطبقها على أسراها، ولا أدري بماذا كان الجواب على سؤال الإذاعة. ولكن الجواب الصحيح في حالة الدولة المسلمة التي وقعت على اتفاقيات جنيف الدولية التي تحكم معاملة الأسرى، سوف تلتزم كحد أدنى بما تنص عليه هذه الاتفاقيات، ثم من وراء ذلك ومن فوقه ستعامل الأسير وفق المعايير الخلقية التي يهدي إليها القرآن والسنة الصحيحة، وهي بالطبع أوفى من الحد الأدنى الذي تلزم به الاتفاقيات الدولية.
نقارب هذا المثل بمثل (( طازج ))، هو معاملة قوات التحالف الدولي لأسرى الحرب في أفغانستان. بالطبع لا نتوقع من اتفاقيات جنيف أن تسمح بقصف الأسرى، أو حرقهم بالديزل، أو إغراقهم بالماء المجمد، أو رميهم بالرصاص وهم مكتوفو الأيدي من الخلف، أو وهم يصلون، أو المعاملات اللاإنسانية الأخرى.
ولكن الأسوأ من ذلك أن الأمر لم يقتصر على انتهاك أحكام الاتفاقيات، بل تعدى إلى الجناية على نصوصها، إذ لكي يفر التحالف الدولي من نسبته إلى انتهاك الاتفاقيات الدولية أو نسبته إلى ارتكاب جرائم الحرب سمى المحاربين الذين أسروا وهم في حالة الدفاع ضدَّ الهجوم في المعركة الحربية والبرية إرهابيين ومعتقلين، مقرِّراً سابقة خطيرةً لإلغاء الالتزام كلياًّ بقواعد القانون الدولي والمعاهدات الدولية عن طريق تغيير الاسم والتلاعب بالألفاظ.
بالطبع ليس المقصود هجاء أحد، وليست هذه المقالة مجال هجاء، وإنما كان المقصود رد الحقائق المقلوبة والمشوَّهة إلى وضعها الصحيح.

الحقيقة أن المعاهدات محور ارتكاز في منهج العلاقات الدولية في الإسلام.
توضيح ذلك أنَّ المعاهدات يمكن أن تكون هي نفسها أساساً لعلاقة أيِّ دولةٍ تلتزم تطبيقَ الإسلام وتوقعها مع أيِّ دولةٍ أخرى، إذ أن القوة الإلزامية للمعاهدة في جانب الدولة المسلمة ليست هشةً، ولا قلقلة، كما شاهدنا في المعاهدات في منهج الحضارة الغربية. إذ سوف تظلُّ المعاهدة وشروطها نافذةً في جانب الدولة المسلمة، حتى لو تغيَّرتِ الظروف، وحتى لو ظهر فيما بعد أنَّ المصلحة الوطنيَّة للدولةِ المسلمةِ في انتهاكها، وكانت قادرةً على ذلك.
لقد طبق المسلمون الملتزمون بالإسلام منهج الإسلام في العلاقات الدولية في حالة الحرب وفي حالة السلم كما وصفنا، في كل وقت، وفي كل مكان - بالرغم من أن هذا المنهج كان دائماً يطبق من جانب واحد -. وذلك أكبر دليل على إمكانية تطبيقه عملياً.
لو تحوَّلت الدول الغربية إلى دول متحضِّرةٍ فعلاً، لارتضت الالتزام بتطبيق القانون ومعايير الأخلاق الإنسانية.
تذييل:
لا يفوت التنبيه إلى أن التأثير الثقافي الطاغي للحضارة الغربية على العالم الإسلامي جعل دول العالم الإسلامي في كثير من الأحيان تطبِّق المنهج الغربي في العلاقات الدولية، سواء فيما بينها وبين الغرب، أو ما بين بعضها البعض، وغابت في كثير من الأحيان عن الفكر الإسلامي المعاصر مبادئ المنهج الإسلامي، ولم يسلم من ذلك حتى الحركات والجماعات الداعية لتطبيق الإسلام منهج حياة.
والمجال لا يتَّسع للتفصيل وإيراد الأمثلة، وإنما المقصود التنبيه ليتذكَّر من تنفعه الذكرى.

الفصل الثالث
وبعد، فلم يكن الهدف من المقارنة السابقة هدفاً نظرياًّ، وإلا لكان هدفاً هيناً، وإنما يلتمس الكاتب هدفاً عملياًّ، هو أن يثور السؤال: هل يمكن أن يقدم المنهج الإسلامي - في العلاقات الدولية - العلاج الإيجابي لأزْمة الجنس البشري المعاصرة؟
بالرغم من سيادة الثقافة الطاغية لمنهج الحضارة الغربية - في العلاقات الدولية - إلا أن من الصعب افتراض أن هذا المنهج هو نهاية التاريخ.
إن انتشار أسلحة الدمار الشامل يجعل العالم أمام خيارين:
(أ) التهديد بالفناء المادي أو المعنوي أو كليهما، أو (ب) تغيير المنهج السائد في العلاقات الدولية. ولتغيير هذا المنهج لا مناصَ - فيما يبدو - من اختيار منهج مثل المنهج الإسلامي حيث تقوم العلاقات الدولية على أساس العدل المرتكز على أساس الالتزام الخلقي أو الديني.
إن هذه الفكرة البسيطة هي ما انتهى إليه فيما يبدو أغلب المفكرين الغربيين، وللتدليل على ما أقول أقدِّم فيما يلي عينة من الآراء لمشاهير من المفكرين الذين عاصروا الحربين العالميتين، وكما يلاحظ القارئ حرصت على أن تضم هذه العينة على التوالي: عالما طبيعيا، ومؤرخا، وفيلسوفا كاثوليكيا أوربيا، وفيلسوفا بروتستانتيا أمريكيا، وفيلسوفاً لا دينيا. راجيا أن تكون هذه العينة معبرة بصدق عن اتجاه عام للتفكير العاقل الحكيم في الغرب.
في سنواته الأخيرة كتب البرت اينشتاين:
(( لقد ربحنا الحرب، ولكنا خسرنا السلام … لقد وعد العالم - بعد الحرب - بالتحرر من الخوف، ولكن الخوف - بعد انتهائها - زاد في الواقع. لقد وعد العالم بالحرية والعدل، ولكننا لا نزال نرى قوى "الحرية" تصب النار وتقصف بالقنابل شعوباً لا لشيء إلا أنها تطالب بالحرية والعدل والاستقلال. وتدعم بقوة السلاح الأحزاب والأفراد الذين يحققون المصالح الأنانية لتلك القوى )).
(( لقد أوجدت التكنولوجيا وسائل للتدمير جديدة وفعالة، لم يعهد مثلها الإنسان من قبل، وهذه الوسائل حين تقع في أيدي أمم تدعي أن لها الحق في الحرية المطلقة للعمل تصبح تهديداً محدقاً بفناء الجنس البشري )).
(( إن وسائل الاتصال والإعلام حينما تتحد مع الأسلحة الحديثة فإنه يمكن حينئذ أن يوضع الجسد والروح كلاهما تحت سيطرة القوة الأقوى، ونكون حينئذ أمام مصدر آخر للخطر يهدِّد المجتمع الإنساني )).
وكتب: (( إن المجتمع الإنساني يجتاز الآن أزمة حقيقية، وقد انهار استقراره انهياراً شديداً، ومن نتائج مثل هذا الوضع أن لا يكترث الأفراد بمصير الجماعة، بل لعلهم أن يهدِّدوا هذا المصير … كنت أتحدَّث منذ وقت قصير - مع رجل ذكي متزن عن وعيد حرب عالمية أخرى قد تعرض فيما أرى - الجنس البشري لخطر الفناء، فقال - في برود وهدوء شديد -: "ولكن لماذا تنزعج من فناء الجنس البشري؟!" إني على يقين أنه قبل قرن واحد فقط ما كان يمكن أن ترد مثل هذه العبارة على لسان إنسان، إن هذه العبارة لا يمكن أن تصدر إلا عن شخص فقد الأمل في الحصول في نفسه على التوازن بعد أن حاول عبثاً أن يحصل عليه، إن هذا السؤال يعبر عن عزلة أليمة ووحشة ويأس يعاني منها - هذه الأيام - جمهور من الناس. فما السبب في ذلك، وهل هناك مخرج؟ … إن محور الأزمة في عصرنا يتعلق بالصلة بين الفرد والجماعة … إن موقف الفرد من الجماعة يحمل على تضخيم دوافعه الفردية في حين أن دوافعه الاجتماعية - وهي بالطبع أضعف - تتدهور شيئاً فشيئاً، وكل فرد مهما كان مركزه في المجتمع يشكو هذا التدهور، إن الناس يحسون - وهم سجناء أنانيتهم من حيث لا يعلمون - أنهم يعيشون في قلق وعزلة محرومين من الاستمتاع بالحياة الاجتماعية استمتاعاً عفوياًّ وبسيطاً لا تعقيد فيه، والواقع أن الإنسان لا يستطيع أن يجد لحياته - برغم قصرها - معنى إلا إذا أعطى من نفسه للمجتمع )).
ويرى البرت اينشتاين أن المخرج هو في الإيمان بالقيم الإنسانية، أو بالعودة إلى نوع من الدين، ويقول: (( إن الشخص المستنير من الناحية الدينية يبدو لي كأنه رجل حرَّر نفسه - على قدر ما يستطيع - من قيود أنانيته ورغباته الفردية، وشغل نفسه بالأفكار والمشاعر والآمال التي يتعلَّق بها لقيمتها التي تسمو على ذاته )). (( الرجل المتدين هو كذلك، لأنه على يقين من أهمية تلك الأهداف التي تسمو على الذات.. وهي أهداف لا تتطلب أساساً من المحاكمة العقلية، لأنها موجودة كأمر ضروري واقعي … والدين بهذا المعنى محاولة قديمة من الإنسان لكي يعي هذه القيم والأهداف.. وينشر آثارها على الدوام، فإذا تصورنا الدين والعلم بهذا التصور أصبح الخلاف بينهما مستحيلاً، لأن العلم إنما يحقق فيما هو كائن لا فيما ينبغي أن يكون، وتبقى القيم من الضروريات التي لا تدخل في نطاقه. أما الدين فلا يتعرض إلا إلى تقويم الفكر البشري والأعمال البشرية، وبالرغم من انفصال مجال الدين عن مجال العلم فإنه تقوم علاقات متبادلة قوية ويرتكز أحدهما على الآخر في بعض النواحي، فالدين قد تكون وظيفته تحقيق الهدف، إلا أنه يأخذ عن العلم بأوسع معانيه الوسائل الموصلة لهذا الهدف، والعلم لا يخترعه إلا أولئك المتشبعون حقا بحب الحق والحكمة، ومصدر هذا الشعور ينبع من الدين … ولا أستطيع أن أتصوَّر عالماً حقاًّ بغير الإيمان العميق بأن من الممكن أن تكون القواعد التي تطبق على عالم الوجود معقولة، ويمكن التعبير عن هذا الرأي بهذه الصورة: العلم بغير دين أعرج، والدين بغير علم أعمى )).
ويكتب أرنولد توينبي: (( إن التاريخ قد أعاد نفسه عشرين مرة تقريباً، وفي كل مرة توجد مجتمعات بشرية من النوع الذي ينتمي إليه مجتمعنا الغربي، هذه المجتمعات قد بادت، أو هي في دور الاحتضار، وحين ندرس تاريخ هذه الحضارات البائدة نجد ما يشبه النموذج المتكرر في طريقة انهيارها وتدهورها ))، (( إني لأعجب كيف يعمى عن حقيقة أن الحضارة الغربية ليست أقوى حصانة من الحضارات البائدة )). (( إذا نحن بحثنا عن العلة في تدهور الحضارات نجد أنه دائماً وبدون استثناء: الحرب أو نظام الطبقات أو كلاهما )). (( إن نظام الحرب ونظام الطبقات ليسا إلا انعكاساً للجانب السلبي من الطبيعة البشرية، والآثار الاجتماعية الناتجة عن هذه الطبيعة لم تضعف بسبب التقدم المشؤوم الحديث في معرفتنا التكنولوجية، بل تعاظمت وزاد خطرها فأصبح نظام الطبقات قادراً على تفكيك روابط المجتمع بشكل قاطع، كما أصبحت الحرب قادرة على إفناء الجنس البشري بأكمله )). (( إن المشكلات التي أحاطت بالحضارات الأخرى وقهرتها في النهاية قد بلغت اليوم ذروتها في عالمنا )).
(( إن علينا أن نواجه تحدياً لم يسبق لمن سبقونا أن يواجهوه فإما أن نقضي على نظامي الحرب والطبقات، وإما أن نشهر انتصارهما على الإنسان نصراً يكون هذه المرة نهائيا وحاسما )).

ويكتب جاك ماريتان: (( لقد أفصح عالم الإنسان الحاضر عن الشر وفاض به حتى حطم ثقتنا، كم من جريمة شهدناها لا يعوضها أي عقاب عادل… وكم من مواقف من الامتهان المذل للطبيعة البشرية… لقد اتجه العلم والتقدم نحو دمارنا، وكياننا أصبح مهدَّداً بالخطر من جراء التحلل لقوى الحكمة والأخلاق واللغة ذاتها قد انحرفت فأصبح اللفظ كأنما لا ينقل إلا خداعا، إننا نعيش - حقاًّ - في عالم كافكا )). (( إن القوة بغير هدف إنساني أصبحت وثناً يقود الحضارة المعاصرة إلى حافة الفوضى والانهيار )). (( إن روح الوثنية التي تشرَّبتها حضارتنا ساقت الإنسان إلى أن يجعل هدفه القوة، والقدرة على الكراهية في حين أن المثل السياسي الأعلى يجب أن يكون العدل )). (( إن كنا نود أن نمهد للسلام … في وعي الأمم فلن يكون ذلك إلا إذا اقتنعنا بأن السياسة الصحيحة هي أولاً وقبل كلِّ شيءٍ السياسة العادلة… على كل شعب أن يجاهد لكي يفهم نفسية الشعوب الأخرى وتطورها وتقاليدها وحاجاتها المادية والمعنوية، ويعترف بكرامتها ودورها التاريخي. وكل شعب لا يجوز له أن ينظر إلى مصلحته فقط، بل إلى الصالح العام لكل الشعوب… إن وضع المصلحة القومية فوق كل شيء وسيلة مؤكدة لفقد كل شيء، إن العالم الحر لا يمكن تصوره إلا بالاعتراف بأن الصدق هو التعبير عمَّا هو واقع، والصواب هو التعبير عمَّا هو عادل، وليس هو التعبير عمَّا هو نافع في وقت معين لمصلحة مجموعة بشرية معينة )). (( إن المساواة الحقة بين الناس تجعل التعصب العنصري والطبقي والطائفي والتميز العنصري جرائم ترتكب في حق الإنسان، كما تجعله تهديداً قوياًّ للسلام )).
(( الحقيقة الواقعة أننا فقدنا الإيمان بالإنسان ))، (( العقل يقتضينا أن نؤمن بالإنسان ما دام الإنسان جزءاً من الطبيعة، وفي الطبيعة - بالرغم من سيادة قانون تنازع البقاء - نجد أن السلام يتخلَّلها في أعماقها، والإنسان كجزء من الطبيعة لديه جوهر خَيْر في حدِّ ذاته، إن تطوُّر الكون عبارة عن حركة دائمة - بالرغم من انحرافها الدائم أيضاً - نحو صورٍ أسمى من الحياة، حركة تنتهي دائماً بالفوز النهائي للإنسانية … إن التقدم البطيء للجنس البشري هذا التقدم الذي يمر خلال سلسلة من المعاناة والألم، يدل على وجود طاقات عند الإنسان تجعل أي ازدراء للجنس البشري صبيانيا لا يستند إلى تفكير سليم )).

وكتب رينولد نيبر: (( إن الوضع في الحياة الجماعية للإنسان في الوقت الحاضر يدل على أننا حطمنا حياتنا العامة عن طريق القوى الجديدة والإمكانيات التي وضعتها في أيدينا المدنية والتكنولوجيا. وهذه الحياة المحطمة التي تظهر في بؤس العالم كله وقلقه هي حكم تاريخي موضوعي علينا، هي حقيقة الموت الذي ترتب على حياة الغرور التي تعيشها الأمم والشعوب، وهي بغير إيمان ليست إلا فناء )).
(( إن تاريخنا المعاصر - هو في واقعه - مثل ناصع للوسيلة التي يباغت بها الإله كبرياء الإنسان وغروره واستعلاءه، وللطريقة التي يوقع بها الحكم الإلهي العقوبة على الأفراد والشعوب الذين يرفعون أنفسهم فوق مستواهم )).
(( إن فرصة انتصارنا على عدونا تكون أقرب إذا نحن قلَّلنا من ثقتنا بما عندنا من طهارة … وفضيلة، إن غرور الأمم القوية وإيمانها بفضلها أشد خطراً على نجاحها في مجال السياسة من كيد الأعداء )).
(( إن الحياة الجديدة التي نحتاج إليها مجتمعين في عصرنا إنما تتحقق بقيام مجتمع يتسع لأن يجعل تعاون كل أمة مع غيرها - في هذا العصر التكنولوجي - أمراً محتَّماً وعدالةً متزنة اتزاناً دقيقاً ))، (( إن العامل الحاسم في إيجاد التماسك الاجتماعي في المجتمع العالمي هو القوة الروحية )).

وكتب برتراند رسل: (( إن خطر الحرب يبقى دائماً محلَّقاً فوق رؤوسنا )). (( ما دام نظامنا السياسي قائما كما هو، إنَّ من المؤكد أن الحروب العظمى سوف تقع بين الحين والحين، ولا مفر من حدوث ذلك ما دامت هناك دولٌ مختلفة لكل منها سيادتها، ولكل منها قواتها المسلَّحة، ولكل منها حكمها المطلق فيما يختص بمصلحتها وحقوقها في أيِّ نزاع ينشب )). (( الحرب الحديثة بغض النظر عن شدة فتكها أسوأ في كثير من الوجوه من الحروب التي وقعت في الماضي )). (( في الحروب المسلية المطمئنة التي وقعت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان المحاربون هم الذين يتعرضون فيها للآلام، أما في هذه الأيام فإن وقع الحرب يتزايد على المدنيين. وإن رجلاً بلغ من العمر مثل ما بلغت ليذكر ذلك الوقت الذي فيه كانت الحرب التي تصيب النساء والأطفال أمراً لا يقع في الحسبان، غير أن هذا العصر السعيد قد انتهى وفات )).
(( إن العالم يواجه كارثة محدقة، وهو يتساءل في حيرة: لماذا لا يلوح في الأفق مجال للنجاة من مصير مؤسف لا يرغب فيه إنسان؟! إن السبب الرئيسي في ذلك أننا لم نهيئ عقولنا للتعامل مع وسائلنا التكنولوجية وما زلنا نسمح لأنفسنا بطرق للتفكير ربما كانت تتلاءم مع عصر أكثر بساطة في وسائله التكنولوجية. فإن أردنا أن نحيا حياة سعيدة بوسائلنا التكنولوجية … فلا مناص لنا من نبذ بعض الآراء والاستعاضة عنها بغيرها، فنستعيض بالمساواة عن حب السيطرة، وبالذكاء عن الأعمال الوحشية، وبالتعاون عن التغالب، ونستعيض بالعدالة عن حب الغلبة وشهوة الانتقام )).

وبعد، فحتى لو قبلنا رأي المفكر الأمريكي الشهير جون موريس كلارك في الحضارة المعاصرة بأنها حضارة تخرت جذورها حتى لم تعد تستطيع حمل ثقل جذعها، وفروعه المنتشرة على مساحة واسعة، وأن القوة بغير هدف إنساني أصبحت وثناً يعبد ويقود الحضارة إلى حافة الانهيار، وأنه لا معنى أن نأمل - في عالم أسلحة الدمار الشامل - بقيام عالم آمن تسوده الحرية والديمقراطية، حتى لو قبلنا هذا الرأي فلا أقل من أن نقبل النتيجة التي انتهى إليها هذا المفكر من أنه: لا بدَّ من تنمية قدرتنا على التفكير السليم والعمل البنَّاء، إذ أن ذلك هو فرصتنا الوحيدة للكفاح بالرغم من سيف داموكليز المسلط على رقابنا.

في هذا السبيل ماذا يمكن أو ما يجب أن يعمل
أوَّلاً: بالنسبة للمسلمين.
لا حظ برتراند رسل أن (( الغرب أهدى للشرق مساوئه: القلق، وعدم الرضا، والروح العسكرية، والإيمان الغالي بالآلة. ولكن الدول القوية في الغرب تحاول دائماً صرف الشرق عن أفضل ما لدى الغرب: روح البحث الحر، والتعرف على الظروف التي تؤدي إلى الرفاهية التامة، والتحرر من الخرافة )).
كمثل على صحَّة ملاحظة رسل فإن الإرهاب الذي يعتبر الآن مرادفاً للفظ مسلم في لغة الغرب - كان ضمن هدايا الغرب للعالم الإسلامي. ألا نتذكر أنَّ أول مبنى عام تم تفجيره على سكانه في الشرق الأوسط (وهو فندق ديفيد في القدس)، وأن أول طائرة مدنية أسقطت في الشرق الأوسط (وهي طائرة الخطوط المصرية) كلاهما نفذا بأيدي أناس ينتمون لعالم الغرب المتحضِّر.
لكن ربما كان أسوأ هدايا الغرب للعالم الإسلامي في مجال السياسة تقديس الميكيافيلية وقبول المقياس المزدوج للعدل، والتسليم بمبادئ الغرب في العلاقات الدولية. وقد ساعد على ضعف جهاز المناعة الإسلامي ضد هذه الشرور، غلبة الشعور بالنقص الناشئ عن الانبهار بما لدى الغرب من قوى الفكر والتكنولوجيا، وبما استطاع الغرب أن يحقِّقه داخل مجتمعاته من الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة أمام القانون بالمقارنة بما ترزح تحته مجتمعات العالم الإسلامي - أحياناً بمساعدة الغرب - من تخلُّف، وظلم، واستبداد، وحرمان من الحرية، والعدل الاجتماعي، والقانوني.
غير أن العالم الإسلامي لم يكن في يوم من الأيام منذ أن بدأ تعرضه للغزو الغربي في ميدان الثقافة الشريرة مهيَّئاً لصحوة النائم، وإدراك الجانب السلبي للحضارة الغربية كما هو مهيَّؤٌ في الوقت الحاضر. ذلك أن الإنسان مفطور بطبعه على كراهية الظلم - إذا كان صادرا من غيره - حتى لو كان واقعاً على غيره، فكيف إذا كان هو الضحية؟!
وفي السنوات الأخيرة - وهي سنوات أصبحت فرص الوعي فيها أكبر - مرت المجتمعات الإسلامية بسلسلة من أشنع المظالم ظهرت في صورة من الوحشية والهمجية والتنكر لكل المعاني الإنسانية، وقد صدرت من العالم "المتحضر" وبمباركته مثلاً في فلسطين، والبوسنة والهرسك، والشيشان، بل إن ما كان الإعلام الغربي يصفه على حقيقته بأنه حركة ضد الظلم والاستعباد في تركستان الشرقية، وكشمير أصبح على لسان الساسة الغربيين إرهاباً يبرِّر التحالف الدولي القضاء عليه.
مَغْزَى ما سبق أن البيئة الفكرية في العالم الإسلامي مهيَّئة الآن للتعرف على الجانب السلبي للحضارة الغربية وإدراك خطر وخطل المبادئ السياسية الغربية في العلاقات الدولية. وأصبح المسلم الآن أكثر استعداداً للثقة بمنهج الإسلام وأنه طوق النجاة للعالم إذا أراد أن يتغلَّب على قوى الشر.
وإذاً، فعلى أهل الفكر والرأي أن يبذلوا أقصى جهد لتوعية الجماهير في العالم الإسلامي بأمرين:
1) المنهج الإسلامي في علاقة الإنسان بغيره، وأنه لا خيار للمسلم - إذا أراد أن يبقى مسلماً حقيقياًّ - إلا الالتزام بهذا المنهج والمبادئ التي تبنى عليه، وأن واجبه الديني في ذلك لا يقل عن واجبه في أداء العبادات من الصلاة والصوم والحج.
2) كشف حقيقة الجوانب السلبية للحضارة الغربية، والتوعية بتنائج هذه الجوانب الفكرية والعملية، والإلحاح على تعرية صورها الحقيقية ممثَّلة في الحوادث الواقعية، وفي تصريحات الساسة والمفكِّرين لا بقصد إثارة الكراهية ضد الغرب، وإنما إثارة الكراهية ضد المبادئ الشريرة في الثقافة الغربية.
وأبلغ أثراً من كل هذا أن يهتمَّ المربُّون بهذه النواحي، ويضمنوا مناهج الدراسة عناصر كافية للوفاء بهذا الفرض، ليس في مادة التاريخ والجغرافيا فحسب، بل في غيرهما من مواد الدراسة، ولا سيما دروس الدين.
ولا بد بعد ذلك وقبله من إنعاش روح الأمل لدى المسلم، وتذكيره بأن من مقتضى دينه الإيمان الذي لا يتزعزع بأن السلام ممكن على الأرض، وأنها سوف تملأ عدلاً كما ملئت جوراً، وأن نور الله - الذي تريد قوى الشر أو الإشراك أن يطفؤوه بأفواههم - لا بدَّ أن يتم:           ••    (سورة الروم: 6).

ثانياً: بالنسبة لغير المسلمين:
إذا كانت الحقيقة الواقعة كما يرى جاك ماريتان (( إن الغرب فقد الإيمان بالإنسان ))، فلا بدَّ لتهيئة العالم الغربي لقبول تغير منهجه السياسي اللاأخلاقي، أن يعاد إليه الإيمان بالإنسان كمطلب أولى للتغيير.
ويتشابه الفيلسوفان الكاثوليكي واللاديني في الحكم بإمكانية التغيير، وطريقه.
فبينما يؤكد ماريتان الكاثوليكي على ضرورة إنعاش الإيمان والأمل لدى الإنسان ويرى (( أنه في أسعد فترات التاريخ كان الشر يعمل في خفية لتحقيق أهدافه، وكذلك فإنه في أحلك العصور ظلمة يظل الخير على أهبة دائمة يعمل باستمرار لتحقيق انتصارات غير متوقعة وغير ظاهرة ))، ويرى (( التطور التاريخي … لا يتحقق في يوم واحد، فلا بدَّ من عامل الزمن ليتمكن العقل من السيطرة على الوسائل المادية المروعة التي وضعتها في أيدينا الثورة الصناعية التكنولوجية، ولا بدَّ من عامل الزمن لإنضاج الثورة الخلقية والروحية وبعثها من أعماق الخبرة البشرية )).
يرى رسل اللاديني (( أننا يجب أن نتعلم أن ننظر إلى الجنس البشري كأسرة واحدة ))، و (( إن التغيير العقلي المنشود شاقٌّ جداًّ، ولا يتمُّ في يوم واحد، على أنه إن أدرك المربون إلحاح هذا الهدف وعملوا له، وإذا أمكن بجهودهم أن ينشأ الصغار كمواطنين عالميين لا كأفراد في عالم من المتقاتلين الذين يعيشون على السلب والاستعباد، فإنه يمكن حينئذ أن نأمل في إنقاذ الجنس البشري من الهلاك العالمي الشامل الذي يهدِّدنا به السعي في سبيل تحقيق أفكار بائدة )).

إنه لمنطقي جدا الاعتقاد بأنه في عصر ثورة المعلومات والاتصالات تكون المسؤولية الأولى للعمل من أجل الخلاص من براثن الخطر المحدق بالفناء تقع على المفكرين وعلى المربين.
ومن أجل هذا الهدف جرؤ قلم متواضع على كتابة هذه الورقة.

الأكثر مشاركة في الفيس بوك