بين العرب والغرب
أ.د فرج معتوق
ما الذي يعتري العلاقة بين العرب والمسلمين من جهة والغرب اليهودي-المسيحي من جهة ثانية بين الفينة والأخرى ؟ لماذا نرى تلك العلاقة عرضة للتأزم بشكل شبه دوري ؟ أليس من الممكن بناء علاقات وئام وصفاء بين هذين الفضاءين الحضاريين الأساسيين ؟ وهل إن علاقة إنسانية عادية بينهما، كتلك التي تربط بين مختلف الدول والشعوب في عالمنا الحاضر، تحكمها المصالح المتبادلة وعلاقات الجيرة والقيم الإنسانية المشتركة، مستعصية إلى ما لا نهاية ؟ هل محكوم عليهما بالتصادم دائما ؟ وأخيرا وليس آخرا، ما السبب في هذا التأزم الذي لا يهدأ تارة إلا ليعود ويتراءى لنا تارة أخرى هنا أو هناك بسبب أو بغير سبب ؟
لسنا من المتشائمين الذين لا يرون في الدنيا شيئا جميلا أبدا ، لا ولا نحن من فصيلة المتفائلين السذج بدون قيد أو شرط… بل إننا نعتبر أنفسنا من المتطلعين إلى غدنا بكل تحفز وإقبال، و في نفس الوقت بكل حذر وتهيّب. كما إننا لا ننظر إلى “الآخر “، ونقصد هنا بالآخر، الطرف المقابل دينيا وحضاريا وثقافيا، نظرة ريبة وشك، أو نظرة ساذجة خرقاء، ولكن نظرة واقعية تتوسم الخير في الإنسان كما تتوقع أن يصدر عنه الشر ، وخاصة من لدن شريحة من النفعيين والمتكالبين على النفوذ وحب التسلط. وهذا الصنف من المتسلطين نجده بين ظهرانينا كما نجده بين ظهراني “الآخر”. وهي فصيلة من الآدميين لا تخلو منها أمة واحدة في كل زمان ومكان، حتى وإن كانت أمة محمد صلوات الله عليه. وأخيرا، نحن لا ننظر إلى الآخر نظرة احتقار ودونية، كما إننا في نفس الوقت، لا نعتبر أنفسنا أوحضارتنا أوديننا أقل شأنا من بقية الشعوب أو حضارات وأديان أمم وشعوب أخرى على كوكب الأرض. هذه المقاربة تنطبق على كل علاقات العرب مع الآخر سواء كان في آسيا أو إفريقيا أو أوروبا، أو أمريكا، وبوذيا كان أم هندوسيا، أو يهوديا-مسيحيا.
لا بدّ من التذكير بهذه المقاربة التي ينبغي اعتمادها كلما تطرقنا إلى علاقة العرب والمسلمين بالغرب، خاصة في هذه الأيام التي شهدت اهتزازا ولغطا وتجاذبات بعد مقتل سفير الولايات المتحدة في مدينة بنغازي الليبية يوم 11 سبتمبر 2012، وحادثة استباحة مبنى السفارة الأمريكية بالعاصمة التونسية في ظهر 14 سبتمبر 2012.
يجب أن نقول للمرة الألف وبكل مرارة أن هذين الحادثين المأساويين مثلا جريمة نكراء في حق السفير كريستوفر ستيفانس أولا، وفي حق الولايات المتحدة ثانيا، وفي حق الليبيين والتونسيين وأمل الثورات العربية والعرب والمسلمين جميعا، ثالثا. إذ ما ضر لوهبّ مئات الآلاف أو الملايين من المتظاهرين هبّة رجل واحد، وجابوا الشوارع في كامل بلاد المسلمين، بهدوء ولكن بتصميم، لينصروا نبيهم وليقولوا للعالم أجمع وللغرب بالذات بأعلى صوت ولكن بأرقى الأساليب، أن نبينا فوق كل اعتبار وأن المس من شخصه الكريم خط أحمر لا نسمح لأي كان بالاقتراب منه. لكن الرؤوس والتيارات التي كانت وراء الأحداث المأساوية التي جدت كانت دون هذا الأفق الرحب بكثير…
إن السفير كريس ستيفانس الذي قتل في بنغازي يعتبر من أصدقاء العرب والمسلمين القلائل ببلد العم سام. فهو ليس من المتطرفين المسيحيين المناصرين للصهيونية دون قيد أو شرط. ولا هو من المحافظين الجدد أنصار اللوبي اليهودي أو مجموعات الضغط العسكرية الصناعية التي لا ترى في العرب سوى آبار نفط ومن حولها إرهابيون أشرار ومتخلفون يجب تحييدهم ومحاربتهم إلى أن يتم إخماد صوتهم بلا هوادة ودون شفقة أو رحمة وبكل ما توصل إليه الإنسان الغربي من صناعة السلاح ووسائل الدمار، من قنابل اليورانيوم المنضد والفسفور وصواريخ كروز وتومهاوك وطائرات الشبح ستيلث والأف. 15 و16 والبي. 52… فهذا الرجل المنحدر من إحدى قبائل الهنود الحمر (قبائل الشينوكس تحديدا Chinooks) أبعد ما يكون عن عقلية الرجل الأبيض الأنحلوسكسوني “الواسب” الميالة إلى الفوقية والعنصرية والغطرسة. وهو ينحدر من أب محامي وأم مولعة بالموسيقى. ولد ببلدة صغيرة بكاليفورنيا تدعى “غراس فالاي”، وانخرط وهو في سن الشباب في قوات حفظ السلام “Peace corps” كدليل على تطلعه وانفتاحه على العالم الثالث. قام بعد ذلك بتدريس اللغة الأنجليزية بالمغرب الأقصى حيث تعرّف على العرب وحضارتهم التي أحبّها عن كثب. و قادته الصدفة أو الرغبة في رحلته الدبلوماسية إلى بلاد العرب من مصر إلى سوريا ومنها إلى العربية السعودية ثم إلى ليبيا. وكان شغوفا بتذوق الأطباق العربية الشهية كما كان يعشق التجوال في الشوارع والاختلاط ببسطاء الناس ومخاطبتهم بلغة الضاد وعلى وجهه ابتسامة عريضة. هذا الصديق للعرب، في زمن قل فيه الأصدقاء، هو اليوم في عداد الأموات. لقد سقط قتيلا على يد مجموعة من الجهلة والدهماء، لا ينتمون إلى العروبة إلا بالجنسية لأنهم فاقدون لأبسط الخصال العربية، فاقدون لقيم المروءة والفروسية وعرفان الجميل. ونفس الشيء يمكن أن يقال عما حدث بالسفارة الأمريكية بتونس يوم 14 سبتمبر. فهؤلاء الذين اعتدوا على حرمة سفارة أجنبية تؤمنها الأعراف والمواثيق الدولية كما تحفظها أخلاق الضيافة العربية، أساؤوا للرسول الأعظم أكثر مما نصروه، وتنكروا لرسالته التي تحث اولا وأخيرا على مكارم الأخلاق وخرجوا عن تعاليمه السمحاء التي ما انفكت تؤكد أن المسلم هو من سلم الناس من يده ولسانه. وبعد أن كان الغرب مدانا لتركه طوال عقود المجال مفتوحا أمام كل المهووسين والعنصريين ليسبّوا الإسلام والمسلمين وليغمزوا من حرمة نبيهم الكريم، وليبثوا سموم الحقد والكراهية دون أية ضوابط قانونية أو أخلاقية باسم حرية الصحافة وحرية التعبير، أصبح بعد حادثتي بنغازي وتونس هو صاحب الحق وهو المطالب بالقصاص. كل ذلك بفضل غباء وبدائية تلك المجموعات المتطرفة التي تدعي أنها تدافع عن الإسلام في الوقت الذي هي تسيء إليه.
لكن هل معنى ذلك أن الغرب بريء في هذا التصادم الأخلاقي ؟ وهل إنه نجح في الفصل بين ما هو عام وما هو شخصي في مفهوم المقدّس ؟ وهل توصل بوضوح إلى وضع الحد الفاصل بين الحرية وعدم المساس بمشاعر الآخر خاصة حينما يتعلق الأمر بالإسلام ؟ لا نعتقد ذلك.
إن مفهوم المقدّس قضية وجدانية لا تخضع لأي مبدإ قانوني وضعي، وإنما لمشاعر الأخوة والإنسانية والإيثارية والقدرة على احترام الآخر. كما نلاحظ من جهة أخرى أن الشعوب والحضارات لا تمتلك نفس النظرة للمقدس، إذ لكلّ مقدّسه. وما هو مقدس هنا ليس بالضرورة مقدس هناك. فالبقرة على سبيل المثال هي حيوان مقدس في الهند لا يجوز للهندوس أكلها. لكنها في سائر البلاد الأخرى تعتمد كركيزة من ركائز النظام الغذائي البشري وتشكل مصدر وجبة أساسية من البروتينات لدى معظم شعوب الأرض. نفس الشيء يمكن أن يقال عن اللائكية فهي شأن يعلو ولا يعلى عليه في الغرب وفرنسا بشكل خاص حتى حين تصطدم بالمقدسات الدينية. لكن بالمقابل يرى المسلمون في فرنسا وخارجها في شخص الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ركيزة أساسية من المقدس لديهم لا يحق لأحد أن يسخر منه أو يحط من شأنه. ولو فعل ذلك فهو يمس بحرية المعتقد ويخدش مشاعر كل مسلم حيثما كان بقطع النظر عن مدى تطبيقه وممارسته للشعائر الدينية من عدمه. بل يمكن أن نسحب هذا الشعور على سائر العرب من مؤمنين و لا أدريين و ملحدين، بل وحتى أحيانا من المسيحيين المخلصين لأوطانهم من أمثال الفلسطيني جورج حبش أو نايف حواتمة أو العراقي طارق عزيز أو الأمريكي من أصل فلسطيني إدوارد سعيد… ولذلك نتساءل: هل هو تصادم الرؤى بين نظرتين وبين حضارتين، بين الشرق والغرب ؟ ربما. لكن الأمر الأكيد أن مفهوم المقدس هو مسألة نسبية، وليس لكائن مهما كان أن يفرض على الآخر أو أن يختار مكانه ما هو مقدس وما هو غير مقدس لديه. وإنما يتعين على الجميع في هذا الباب احترام ذلك الخيار والامتناع عن خدشه أو النيل منه أو تحقيره. إن الصنيع الذي أتته مجلة “شارلي-إيبدو” وإدارتها عندما أعادت ما كانت اقترفته منذ عامين فنشرت مجددا الصور الكاريكاتورية التي تمس من شخص الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم هو أمر في قمة الاستفزاز إن لم نقل قمة العنصرية. هل هي فعلا حرية التعبير أم هي كلمة حق أريد بها باطل ؟ وإلاّ، فأي حرية تعبير تلك التي تستفز مليارا ونصف المليار من المسلمين، وتلهب العواطف وتتسبب في انطلاق عشرات المظاهرات الإحتجاجية وموت العشرات من الناس وتأجيج الحقد والكراهية بين الأمم والشعوب. إنها نفس الحركات الاستفزازية التي تعود عليها الغرب والتي تكررت بإلحاح في السنوات الأخيرة لتستهدف المسلمين في كل مرة، ولتحط من شأن الإسلام والمسلمين. هذه الأعراض المرضية إن دلت على شيء فإنما تدل على أن بعض الأوساط في الغرب، لئن شفيت من معاداة اليهود أومعاداة السامية كما تسمى في الغرب، فهي لم تشف من معاداتها للإسلام. ولئن أصبح القانون في فرنسا يجرّم التشكيك في معطى تاريخي يتفق المؤرخون حول وقوعه لكنهم يختلفون في تفاصيله، يتمثل في المحرقة اليهودية إبان الحرب العالمية الثانية، فإنه، تحت ذريعة حماية حرية التعبير، يحمي كل مجنون وكل عنصري يفيق ذات صباح ويعنّ له أن يكتب أو يرسم شيئا مقرفا ومشينا يغمز من الإسلام والمسلمين.
قد يكون للغرب الحق في أن يجعل من الأصولية اللائكية دينا جديدا له، وأن يسبّح بحمد الرأسمالية والليبرالية الخارجة من عقالها، وأن يتخذ من قوانين السوق آلهة له، وأن يسن القوانين التي تزج في السجن بكل من يناقش تفصيلا أو جزئية من رواية الهولوكوست، لكن ليس من حقه في أن يختار للشعوب الأخرى آلهتها أوأن يحدد لها ما هو مقدس وما هو مبتذل. وفي المقابل، من حق العقلاء على وجه هذه البسيطة المطالبة بمنع استهداف الرموز الدينية لكل البشر ومن بينها الرموز المقدسة لخمسة وعشرين مليون نسمة من المسلمين يعيشون بأوروبا ومليارا ونصف المليار مسلم على كوكب الأرض.