مبدأ التسامح بين الغياب والحضور
بقلم- محمد وقيدي
عاد الفلاسفة والمفكرون اليوم إلى التفكير في مسألة التسامح, علما بأن الأمر يتعلق باشكالية قديمة طرحت في صياغات متعددة حسب السياق الذي وجدت فيه , ونعلم بصفة خاصة ان هذه المسألة قد طرحت على فلاسفة العصر الحديث الأوروبي في اطار الصراعات والتحولات السياسية والدينية والفكرية التي كانت تعرفها أوروبا في ذلك الوقت, ونرى ان عودة الفلاسفة إلى التفكير في هذا الموضوع تعني وجود دواع جديدة لطرح مسألة التسامح, كما تعني أيضا ان هناك سياقات مختلفة تطرح فيها هذه المسألة, ولا ريب ان الفلاسفة الذين يفكرون اليوم في قضية التسامح يرون ان أفكارهم يمكن ان تلعب دورا في اشاعة هذه القيمة الأخلاقية السامية في عالم معاصر يبدو انه أصبح أكثر فأكثر في حاجة إلى حضورها. غايتنا الآن ان نقدم أفكارا أولية عن قيمة التسامح التي نرى أنها تهم عالم اليوم المليء بالمشكلات والصراعات والتناقضات. لا شك لدينا في ان التفكير في مسألة التسامح سيجعلنا نستحضر وجهات نظر الفلاسفة الذين فكروا في هذا الموضوع في العصور المختلفة وبصفة خاصة منذ القرن السابع عشر. فنصوص أولئك الفلاسفة بحيثياتها الخاصة بكل واحد منها ماثلة أمام كل من يريد ان يجدد التفكير في موضوع التسامح, غير ان تفكير الفلاسفة اليوم في هذه المسألة لا تغيب عنه كذلك مظاهر الوعي بالشروط الجديدة التي تُطرح فيها, وهذا ما يجعلنا نقول ان التفكير في مسألة التسامح قد يستعيد اشكالية قديمة, ولكنه يستحضرها من أجل التفكير في أزمة جديدة هي التي تعيشها الانسانية في العالم المعاصر. هناك في نظرنا وقائع مضادة للتسامح هي التي تدفع الفلاسفة اليوم إلى اثارة هذه المسألة, وليس غايتنا هنا الوقوف عند مجرد وصف تلك المضادات, بل التفكير في مبدأ التسامح بوصفه مبدأ أخلاقيا يسمح بتجاوزها, فالأمر يتعلق لدينا إذن بمبدأ أخلاقي يتعالى القائل به على الواقع ويتجه إلى تغييره, وما يدعونا إلى السير في هذا الطريق هو نظرتنا إلى الفيلسوف, ودوره في التفكير في القضايا المعاصرة له, فإننا لا نرى ان الفيلسوف يقتصر على تأمل الأحداث ووصفها, إذ ليس ذلك هو ما ينقص العالم المعاصر لتوازن مطلوب أمام مظاهر اختلال التوازن السائدة. فدور الفيلسوف في نظرنا هو النظر إلى المشكلات النظرية في عمقها, ومحاولة توضيح خلفياتها وأبعادها, ثم ابراز عواقبها على وجود الإنسان ومصيره, دور الفيلسوف, بتعبير آخر هو تحويل مستوى وعي الإنسان بالمشكلات المطروحة عليه من ضروراتها إلى التفكير في شروط تجاوزها والفيلسوف وهو يفكر في هذا الاتجاه يستجيب للمطالب المثالية التي يقتضيها التغيير, ولا يكتفي بمجاراة الشروط التي يفرضها الواقع المنافي لقيمة الإنسان وكرامته وحريته, حين يفكر الفيلسوف في التسامح فإن غايته لن تكون في نظرنا هي تأييد أفكار مسبقة محددة, بل تكون البحث بعمق في الموضوع المطروح والسير بالتفكير فيه نحو النتائج الأكثر جرأة وموضوعية في الوقت ذاته. تصبح غاية الفيلسوف النقدية عند التفكير في موضوع كالتسامح مزدوجة, إذ هي تسعى في نظرنا إلى تجاوز التشاؤم المحبط والتفاؤل غير المؤسس في الوقت ذاته, فقد يبدو الفيلسوف في الظاهر وهو يصف ما هو سائد في العالم المعاصر من مظاهر اللاتسامح, وكأنه يمهد الوعي الانساني للتشاؤم, غير ان الأمر ليس كذلك في نظرنا لأن ابراز الخلفيات العميقة طريق إلى تجاوز مضادات التسامح, ثم ان ما يسير في هذا الاتجاه هو البحث في عناصر الطموح إلى تجاوز الوضع القائم, أي تلك التي تسمح بالانتقال من عالم الصراع والعنف وارادة الهيمنة إلى عالم التسامح, وقد عمل الفلاسفة منذ القدم على صيغ نظن أنها ساهمت في تحريك مسار الانسانية نحو التغيير في فترات مختلفة. هكذا, إذن نبين ان التفكير في هذا الموضوع لا يقصد مجاراة فكرة شائعة بقدر ما يهدف إلى الحث على التأمل في قيمة انسانية عميقة نرى ان العالم المعاصر في حاجة إليها. طرحنا على أنفسنا, ونحن نفكر في موضوع التسامح, السؤال عن الاتجاه الذي يمكن ان نبدأ منه لمواجهة هذا الموضوع العائد الى مجال الفكر الانساني: هل ينبغي ان تكون البداية من الباحث في قول الفلاسفة واعتماد اشكاليتهم؟ هل من الواجب على العكس من ذلك, ان تكون البداية هي الوقائع الراهنة الداعية الى إثارة مسألة التسامح من جديد؟ نرى ان الاتجاهين متكاملان. فمن الأكيد انه لم يعد من الممكن اليوم التفكير في موضوع ما بطرحه في صيغته الفلسفية دون الاعتماد على اقوال الفلاسفة السابقة فيه, وهذا لأنها تكون واسطة وعاملا مساعدا على التفكير في الموضوع المطروح بوقائعه الجديدة ذاتها. فنحن لا نعرف جدة الوقائع الا بالنسبة لأفكار مؤطرة. لنقل ان العودة الى التفكير في موضوع التسامح جاءت نتيجة لتراكم مظاهر اللاتسامح في العالم المعاصر. لقد اصبح اللاتسامح يحيط بوجود الانسان ويستحث تفكيره في وضعه ومصيره. وقد غدا كل انسان يشعر انه في هذا العالم ضحية لعدم التسامح من هذه الجهة او تلك, او في هذا المستوى أو ذاك من مظاهر الحياة اليومية. اصبح كثير من الناس يشعرون ان انسانية اليوم بعيدة عن التسامح. وقد مس البعد عن التسامح حتى اقرب العلاقات وأكثرها حميمية. نلاحظ اليوم داخل كل مجتمع صراعا بين الاصول المختلفة المكونة له, وهو صراع يتخذ اشكالا متفاوتة من حيث عنفها, اذ قد تصل الى حد الانقسامات التي لا رجعة فيها للكيانات التي كانت موحدة من قبل. ولم تعد وحدة المجتمع وتعايش مكوناته مرجعية تستند اليها في فعالية الاصول الدينية والثقافية والفكرية والاثنية المختلفة. وما نلاحظه في هذا الباب ان المبادىء التي كان من الممكن ان تحرك الفعل الانساني في اتجاه التسامح قادت, على العكس من ذلك, الى الابتعاد عن هذا الطريق, لاحظنا ذلك ونحن نفكر في الحرب التي دارت في لبنان بين سنوات العقدين السابع والثامن من هذا القرن. ولاحظنا الامر نفسه في الصراعات التي مزقت وحدة المجتمع اليوغسلافي. التسامح علاقة بالغير, ولذلك فإن كل المبادىء التي تتعلق بالعلاقة مع الغير ينبغي ان تكون في خدمته وفي انسجام معه. غير ان ما نلاحظه هو ان مبادىء مثل حرية الشخص الانساني, وحقوق الانسان الفرد, وحقوق الاقليات, وحقوق جنسي النوع البشري وواجباتهما المتبادلة, وحق الاعتماد والتفكير والتعبير, والحق في الاختلاف, والحق في تقرير المصير, كان من الممكن ان تكون مبادىء في طريق التكامل مع التسامح. لكن مفارقة غريبة في العالم المعاصر جعلتها اساسا لكل الافعال الانسانية الذاهبة في غير ذلك الطريق, بل والمضادة له. نلاحظ اليوم ايضا سيادة اللاتسامح واللجوء الى العنف في حل المشكلات القائمة بين المجتمعات والامم. وقد قامت في هذا القرن حربان عالميتان مدمرتان تلتهما حروب جهوية اخرى فاق عددها المائة. وكان عدم التسامح وعدم قبول الغير من دعائم كل الحروب التي دارت ومن أسبابها العميقة. والملاحظ عند دراسة هذه الحروب ان المصالح الاقتصادية والسياسية قد تغلبت على كل تصور يأخذ بعين الاعتبار وجود الانسان وقيمته والحفاظ على وجوده واستمراره بوصفه قيمة أسمى. نلاحظ اليوم كذلك وجود ارادة الهيمنة على العالم لدى الدول الكبرى المتقدمة التي تملك قوة الصناعة والاقتصاد والسلاح, وتملك عبر ذلك كله قوة السياسة. وقد أصبحت ارادة هذه الدول واضحة عند بعض الأطراف التي غدت تؤول انطلاقا من موقعها القوي واللامتسامح مبادىء تقرير المصير وحقوق الانسان وحقوق الأمم في اختيار نظامها السياسي والمجتمعي. نلاحظ اخيرا لا آخرا سيادة العنف والارهاب بأشكال مختلفة ولغايات متباينة, تمارسه كذلك جهات مختلفة. مع كل ما لاحظناه نرى اليوم ان الحديث عن التسامح صادر عن جهات مختلفة قد تكون احيانا هي ذاتها التي تخرق مبدأه. فحين يحتد الصراع وتتغلب الرغبة في تحقيق المصالح وينشطر الانسان داخل الانسان الى حامل لمبدأ التسامح ومخترق في التطبيق له, تعيش الانسانية التسامح على مستوى التأويل فحسب. فلا أحد اليوم ينطلق من القول برفض التسامح, غير ان هذا المبدأ حاضر في الفعل والعلاقة الانسانيين عبر مظاهره المتباينة. اذا كنا قد بدأنا القول بأن مسألة التسامح قد عادت اليوم الى ميدان الفكر الفلسفي, فإننا نكتفى بناء على ما لاحظناه بالقول ان دور الفلسفة لا ينبغي ان يكون ابدا هو تبرير وجود مظاهر التسامح, وذلك لأن الدور الحقيقي للفلسفة سيغيب, اذ بالتبرير لن تتعالى الفلسفة عن الواقع بقصد تحقيق المثال, بل ستبحث فقط عن مكان للمفارقة. وإن ما على الفلسفة أن تفعله اليوم هو أن تساعد الفكر الإنساني أن يتجاوز هذه المفارقة, لا أن تنغمر هي ذاتها في شروط تلك المفارقة القائمة, هذا هو الذي ندعوه بالتعالي الإيجابي للفلسفة على الواقع, وهو التعالي الذي تلعب بفضله دوراً مأمولاً منها دائما أمام واقع تتنوع مظاهر أزماته.