التسامح وضرورته لقيام المجتمع

بقلم: د. محمد وقيدي

اكدنا أن وضع اشكال التسامح موضع نقاش فلسفي معاصر نابع في جانب من مظاهر اللاتسامح التي تسود وجودنا وتجعله صراعاً مستمراً مع الغير في مستويات متعددة من الحياة الانسانية: العلاقات بين افراد المجتمع, والعلاقات بين جنسي النوع البشري, ثم العلاقات بين الاصول العرقية المختلفة اذا كانت تكون مجتمعاً واحداً , والعلاقات بين الكيانات المتباينة لغوياً ومجتمعياً داخل مجتمع واحد بعينه, ثم بين الجماعات البشرية ذات العقائد والايديولوجيات المختلفة سواء داخل مجتمع واحد او عند الانتقال من مجتمع الى آخر, والعلاقات بين الحضارات والثقافات, والعلاقة بين الافكار المتعارضة في مجال التفكير والبحث... الخ. يبدو لانسان العالم المعاصر ان الصراع يحيط به من كل جانب, وانه مطلوب منه ان ينغمر فيه في اكثر من مجال. ويزيد من حدة الصراع في عالم اليوم ما حصل في هذا العالم ذاته من تقدم علمي وتقني سهل التواصل والاتصال, ولكنه سهل ايضاً انتقال الصراعات الحضارية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية الى مجال جغرافي واسع. واذا كان يبدو لكل انسان انه لا يمكن ان يعيش دون تسامح, لان هذا المبدأ هو الطريق الى تجاوز الاختلاف والسلوك بمقتضى القبول المتبادل, فإنه يبدو من جهة اخرى ان شروط حياة اليوم في اطار التوازن العالمي الحالي لا تسمح بالحياة دون ان يخوض الانسان صراعات يتجاوز بها ضرورة مبدأ التسامح. نعلم ان هناك من ينطلق اليوم من اعتبار الصراع مكوناً نفسياً للانسان. فإن هذا الكائن الذي يعتبر ذاته غاية اسمى من كل الغايات في الكون لديه ميل الى البناء والحفاظ على النوع, بقدر ما لديه في الوقت ذاته ميل الى الهدم والتدمير والعمل بمقتضى ما يقتضي ما يقضي على حياة نوعه او يخل بشروطها الواجبة, ولكننا مع اخذنا بعين الاعتبار لهذا التكوين المزدوج الذي يجعل الانسان يسير في سبيلين متعارضين بالنسبة له كفرد وكجماعة وكنوع, نقول بأن الانسان يتميز ايضاً بقدرته على التعالي عن تناقضه ذلك, فحياة الانسان باستمرار محاولة لا للتوفيق بين النزوعين السالفي الذكر فحسب, بل ايضاً لتغليب النزوع نحو البناء والحفاظ على النوع على النزوع نحو الهدم وتهديد حياة النوع. والتسامح هو الطريق الى هذا التغليب المطلوب والتعالي المرغوب فيه. يمكن ان نرى الفلاسفة يشيرون الى هذا التكوين المزدوج الذي يحمله الانسان في ذاته, والذي يجعل منه انسانا منشطراً. ولكن الفلاسفة كانوا باستمرار دعاة الى كل ما يضمن التعاقد بين الناس والتعايش بينهم. وكم فكر الفلاسفة في المدن الفاضلة التي تجعل الانسان يتعالى على مفارقة تكوينه. التسامح, اذن, ضرورة لقيام الحياة المجتمعية بما تتضمنه من اختلافات على صعيد العقائد والتصورات والافكار, ذلك ان الانسان يجد نفسه, وهو يحيا الاختلاف ويمارسه ويتشبث به في كثير من الاحيان, امام اختيارين, فإما ان يترك الناس الغلبة في نفوسهم لاختلافاتهم ويطبعونها بطابع الاطلاق, فتنعكس في افعالهم وتصورهم لعلاقتهم وممارستهم لها, وهذا ما سيجعل دور الاختلافات سلبياً, بل وقد يكون من دواعي تهديد الحياة الجماعية وتهديد حياة كل فرد, والقضاء على كل امكانية للتعايش مع وجود الاختلاف, واما الاختيار الثاني فهو اضفاء الناس للنسبية على عقائدهم وافكارهم, وهو ما يجعلهم يقبلون مع ايمانهم بها ان يكون لغيرهم الحق في الايمان بما هو مخالف لها, وهذه هي الحالة التي تسمح بامكانية التعايش مع وجود الاختلاف. لا تطرح مسألة التسامح في الواقع الا مع وجود الاختلاف فهذا الوضع هو الذي يستدعي التفكير في التعايش ويجعل الاختلاف مطلباً في السلوك والعلاقة على السواء. وليس التسامح في هذه الحالة مجرد حالة سلبية قد نعبر عنها بعدم الاكتراث, اذ يمكن لكل ذات فردية او جماعية الا تكترث بالغير وعقائده وتصوراته وما يصدر عنهما من سلوكات فالتسامح على العكس من ذلك وعي بعناصر الاختلاف واعتبار لوجودها وعمل بمقتضاها. انه اذن, فعل اخلاقي واع قد يكون فردياً وقد يكون جماعياً. لا يعني التسامح, من جهة اخرى, التنازل عما يجعل الذات مختلفة عن الغير, اذ سيكون بذلك موقفاً سلبياً, وسيكون لذلك ايضاً معنى سلبي لعلاقة الذات بما هو مختلف فيها ومميز لها على صعيد الفكر وقواعد السلوك, فالتسامح, كما قلنا, موقف اخلاقي واع وايجابي تتخذه الذات ازاء غيرها, ويكون فيه اعتراف منها بهذا الغير وبحقه في تصورات خاصة وقواعد خاصة للسلوك. ليس التسامح موقف ضعف للذات ازاء الغير وازاء ما يخصها, بل هو على عكس ذلك موقف قوة من حيث هو مرتبط بالاعتراف بالحق للذات وللغير. التسامح موقف حواري يرى به صاحبه ان الحوار فعال في الحياة المشتركة وسبيل لعيشها مع وجود الاختلاف فيها. التسامح هو الموقف الذي يرى ان المشكلات المرتبطة بالحياة الانسانية المشتركة (بين الافراد كما بين الجماعات والبلدان والثقافات) تجد طريقها الى الحل باتباع سبيل الحوار تاركة كل سبل العنف والصراع. هكذا, نعرف عبر التحديدات السالفة الذكر ما يتوافق مع التسامح وما يكون في موقع الضد معه, فهو يبتعد عن مجرد الاكتراث وعن التنازل, من جهة, دون ان يذهب من جهة اخرى في اتجاه العنف والصراع, انه يتوافق مع الوعي بضرورة التعايش الذي يكون الاختلاف فيه مقبولاً, ولذلك نراه متوافقاً مع البعد الديمقراطي للمجتمع مخالفاً لكل نزوع نحو الاستبداد والجوار سواء على صعيد العلاقات بين الأفراد والجماعات, او على صعيد العلاقات بين البلدان والحضارات والثقافات. التسامح موقف مضاد للهيمنة والارادة الساعية اليها, وهو على العكس من ذلك, مع العدل والمساواة في الحقوق والواجبات في الحياة المجتمعية او في العلاقة بين المجتمعات المختلفة, اي على صعيد المجتمع الواحد او على صعيد نظام العالم بأكمله, انه ليس موقفاً اخلاقياً فحسب, بل هو عبر ذلك موقف ثقافي وحضاري وسياسي من حيث هو محاولة لعقلنة الاختلاف وتكييفه تبعاً لضرورة التعايش مع وجوده. لا يظهر التسامح, اذن, بوصفه متخاذلاً من مشكلات الحياة على جميع الاصعدة التي ذكرنا انه يهمها, ولذلك فإن طابعه ايجابي لا سلبي. انه, كما يبدو لنا, موقف الذات التي تريد ان تكون فعالة في اضفاء الطابع الايجابي على الحياة المشتركة التي تحتمل ان يكون الانسان هو الغاية الأسمى فيها, بالقياس الى ما هو مختلف فيه والذي نضفي عليه النسبية. قادنا الحديث عن التسامح ومحاولة تحديد معناه الى تبين المجال الاساسي لانطباقه: الحياة الانسانية المشتركة, وهي تكون على صعيد الجماعة أو المجتمع الواحد, كما تكون على صعيد العالم بين بلدانه وحضارته وثقافاته المختلفة. يوجد التسامح حيث تكون هناك علاقة بين تصورين مختلفين أو بين موقعين مختلفين من حياة مشتركة. فالتعامل على هذا الأساس سياسة في مجال الحياة المشتركة من أجل احتواء الاختلاف وعدم جعله مصدرا للصراع أو للعنف الذي يدمر الحياة الانسانية. ينطلق التسامح في مجال انطباقه من الايمان بوحدة الانسان ووحدة قيمة رغم الاختلاف في العرف أو التكوين أو الاعتقاد أو الموقع أو الجهة, ورغم وجوده في موقف القوة أو الضعف. التسامح سلوك من السلوكات التي تنطلق من اعتبار الانسان غاية في ذاته بالنسبة لكل فعل انساني, وفي كل موقع يكون فيه الانسان, لأن حياته والحفاظ عليها واستمرارها هي الغايات المقصودة من كل فعل. وهكذا, فإن موقف التسامح ينطلق من نزعة انسانية واضحة أصبحت تجد صعوبة في انطباقها في عالم اليوم, أكثر من السابق, لأن الانسانية تعيش اليوم في عالم تسوده نزعة صراعية تستند الى ما أصبح الانسان يتوفر عليه من وسائل الصراع والتدمير المشجعة له فردا وجماعة على المضي في الطريق المضاد لمبدأ التسامح. فشروط اللاتسامح توجد وجودا ماديا وفعالا. ومبدأ التسامح مطروح اليوم على الاختلاف العرقي والديني والاختلاف في موقع القوة أو الضعف في العالم المعاصر, علما أن هذه الاختلافات كلها أصبحت تتحدث لغة السلاح والتدمير, بل وتستخدم بعض المبادىء السامية مثل مبدأ الحق والحرية وتقرير المصير لتؤسس عليها مواقف تتسم بعدم التسامح والبعد عن التواجد مع الغير المختلف في عالم واحد. إن ما نستفيده من الفلاسفة الذين سبق لهم التفكير في هذا الموضوع هو ابراز دلالة ظهور مفهوم التسامح لديهم وظهور دلالته العميقة. فنحن نعرف ان هذا المفهوم قد ظهر لدى فلاسفة العصر الحديث مثل جون لوك في زمن كانت الاختلافات الدينية فيه قد أصبحت أساسا لحدة في الصراع وقبول الذات الواحدة دون قبول الذات المختلفة وامكانية التعايش معا. وهذا ما يُظهر لنا ان هذا المفهوم قد نشأ لدى الفلاسفة القائلين به لتدبير تلك الصراعات, وأن هدفه الأسمى كان هو الحياة الانسانية المشتركة التي يكون فيها الانسان هو الغاية بغض النظر عن اعتقاداته وتصوراته. واذا كان من تطورات مفهوم التسامح الدعوة الى الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية, فإن الأمر كان من أجل ألا يقع شطط في المجال السياسي بين الدين. لقد تم اعتبار النص الديني أساسيا مع اضفاء النسبية على تأويلاته المختلفة, اذ ان ارتباط وحدة المرجعية الدينية بالسلطة السياسية من شأنه ان يقود الى ممارسة الاستبداد والعنف والهيمنة ومصادرة حق الاختلاف لدى الغير. يوجد التسامح, على العكس من ذلك, كامنا في الممارسة الاخلاقية والسياسية التي يكون فيها تباعد نسبي بين الممارسة السياسية في الحياة المدنية وبين الاختلاف في مجال التأويل الديني. التسامح هو السلوك الذي ينطلق من الوعي بأنه لا إيمان حقيقي بأي مبدأ أو معتقد مع الاكراه على تبنيه, لأن مثل هذا الموقف سيجعل الحياة الانسانية قائمة على العنف من جهة وعلى التظاهر الشكلي من جهة ثانية. هذا هو الاشكال الذي طُرح على كل المجتمعات التي سادتها عقائد دينية مختلفة. وقد طرح هذا الاشكال ايضا في حضارتنا الاسلامية حيث نجد مفكرين مسلمين يدعون الى مبادىء اخلاقية تسمح بالتعايش داخل المجال الواسع لهذه الحضارة بين التأويلات الدينية المختلفة للاسلام, ثم بين الاسلام وبين غيره من العقائد ان وجدت معه في المجال نفسه. وهو ما نجده مطروحا بالنسبة لنا اليوم عند التفكير في الأقليات الاسلامية خارج مجالها الطبيعي, أو عند التفكير في الجماعات غير الاسلامية في البلدان ذات الغالبية المسلمة. أين يوجد التسامح إذن؟ إنه يوجد كامنا في الذات التي تترك بداخلها مجالا لحياة الآخر. فهو يقتضي أن نعي بالآخر بوصفه مثيلا لنا في الحق نفسه الذي نتصوره لأنفسنا, وأن نفهم حرياته وحقوقه بوصفها امتداد لما نطلبه لأنفسنا. لكننا نرى في الوقت ذاته ان هذا الموقف ينبغي ان يكون عاما وشاملا بالنسبة للعالم المعاصر بأكمله. ذلك انه لا وجود للتسامح مع ارادة القوة والهيمنة وسيادة الطرف الواحد. فالتسامح حين يوجد, اعتراف بعوالم مختلفة. إن الذات التي تمارس القوة لا يمكن ان تطلب من غيرها ممارسة التسامح, لأن العنف الذي تمارسه على الغير لا يترك في ذاته مكانا للتسامح. التسامح في عالمنا المعاصر سير نحو سياسة تدبر وسائل القوة والهيمنة وتحويل الفكر والعمل الانساني نحو التعايش مع وجود اختلاف على أصعدة كثيرة. هذا مثال, ولكن ليس من وظيفة الفلسفة ان تكتفي بالوصف, فهي مصدر بوظيفتها لمثل هذه المثل التي تنطلق من وحدة الانسان ومن كونه غاية لكل تدبير اخلاقي سياسي. وما أكثر حاجة عصرنا الى وضع هذا المثال أمامه.

المصدر: http://www.albayan.ae/opinions/1999-02-18-1.1092761

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك