التسامح في الخطاب الفكري العربي

وليد خالد احمد

نبدو نحن العرب ظاهرياً ضد التعصب او التشدد، لكننا نشجع العنف اكثر من الرفق. فالحقد ساكن ذهني في بيئتنا، يُنتج عقولاً غارقة في التحريض المذهبي والطائفي والتطرف.... نمارس سياسة تصفية الحسابات عن كل ماضينا، عن استعمارنا من قبل الاوربي، وعن احتلال بعضنا لبعض، وعن اضطهادنا واستضعافنا من قبل المستكبر، وكأننا امة لا حول لها ولا قوة الا جلد ذاتها والقاء اسباب شدتها وتشددها على الآخر المختلف.
فهل نحن امة نسامح ونتسامح؟
 
 
 
هل استفدنا من تجارب التاريخ التي بنيت على اسس التسامح في العالم؟
وهل استفدنا من قيم الحداثة والتنوير ومبادئ ديننا المبني على قيم الرحمن الرحيم. الرحمن بما يعنيه من سعة واحتواء، الرحيم بما تدل عليه الكلمة من غفران ورحمة؟ هل كنا اكثر تسامحاً قبل حروبنا وهزائمنا؟ ام ان خيباتنا الوطنية وتجاربنا القاسية انستنا فعل التسامح؟
 
 
لقد ظهر مفهوم التسامح من حاجة المجتمعات الغارقة في الحروب والاقتتال الاهلي، وهو اعطى تقدماً باهراً للمجتمعات والمؤسسات في الغرب، وحرر الانسان من قيود الخوف. لقد ارسى مفهوم التسامح قوانين اكثر انسانية، وفرضت على الدول انماطاً جديدة من التفكير واعمال العقل لاستنباط مخارج تجنب البشرية العنف والتعصب.
 
ليس المطلوب ان (نتعلمن) كي نصبح اكثر تسامحاً، فهذه الفضيلة موجودة في بنية ثقافتنا ذاتها، لكن حاجتنا تبدو اليوم اكثر الى التسامح في ظل تصاعد الاصوليات، واندلاع الصراعات... على خلفية عوامل ثقافية، واختلاف الهويات والمذاهب والاديان....
ما زال العالم بحاجة لتثبيت ايمانه اكثر بالتسامح الذي اصبح عبارة عن نسق كامل من الحقوق، ومن الواضح اننا لم نتعلم كثيراً من تجاربنا، وان المسيرة الى ما بعد التسامح حافلة بالعقبات، حيث تبقى الخيارات محدودة ليعيش الناس بسلام في غياب الحوار والتسامح.
لقد كان فعل (تسَامحَ) متداولاً منذ زمن طويل في معرض الحديث عن الحرية الدينية. والتسامح مفردة لاتينية الاصل بدأ التداول بها في القرن السادس عشر واستخدمها قدامى الادباء الكلاسيكيين. وهي تعبر عن معنى (القبول) او (التحمل) المتصل بحرية المعتقد. ان الاختلاف الذي يعتبره البعض مصدراً للخطر، يستطيع ان يكون بفضل الحوار مصدر فهم اعمق لسر الوجود الانساني .
محددات المفهوم
عديدة هي المفاهيم المتداولة اليوم التي تحتاج الى تحديد دقيق لمعانيها ومدلولاتها… وذلك، لان استخدام هذه المفاهيم دون ضبط المعنى الحقيقي لها يساهم في تشويه هذا المفهوم على مستوى المضمون، كما انه يجعله عرضة للتوظيف الايديولوجي المتعسف، لذلك فان تحديد معنى المفاهيم المتداولة يساهم في خلق الوعي الاجتماعي السليم بها. ومن هذه المفاهيم التي تحتاج الى تحديد معناها الدقيق وضبط مضمونها الفلسفي والاخلاقي والاجتماعي… مفهوم التسامح حيث ان هذا المفهوم متداول اليوم في كل البيئات الايديولوجية، ويتم التعامل مع هذا المفهوم ولوازمه الثقافية والسياسية باعتباره ثابتة من ثوابت المجتمعات المتقدمة... لذلك، وبعيداً عن المضاربات الفكرية والتوظيفات الايديولوجية المتعسفة، نحن بحاجة الى ضبط المعنى الجوهري لهذا المفهوم وتحديد مضمونه وجذوره الفلسفية والمعرفية وبيان موقعه في سلم القيم والمبادئ الاجتماعية.
تجمع قواميس اللغة ومعاجم الفلسفة والسياسة والتي تقدم مفهوم التسامح بمعناه الاخلاقي، على انه- موقف فكري وعملي قوامه تقبل المواقف الفكرية والعملية التي تصدر من الغير، سواء كانت مواقفه مخالفة للآخر، اي الاعتراف بالتعدد والاختلاف وتجنب اصدار احكام تقصي الاخر. بمعنى اخر، التسامح هو احترام الموقف المخالف.
ولانه مفهوم ملتبس- كما سيتضح- فقد اثار تداعيات مختلفة سواء على النطاق الفكري او على صعيد الواقع العلمي، خصوصاً ان الحديث عنه قد كثر في السنوات الاخيرة، كونه واحدا من المفاهيم المستحدثة في اللغة العربية.
ولتحديد ووصف دلالة مفهوم التسامح، نشير الى ما يقابله في اللغة الانكليزية Toleration، وحين نتناول فعل التسامح لممارسته او تطبيقه فغالباً ما يتم استخدام Tolerance.
ويدرج قاموس اكسفورد، مفردتي Toleration و Tolerance، في معان متداخلة احياناً او مختلفة احياناً اخرى. اما بخصوص نظرية التسامح او عقيدة التسامح، فقد وجد الفرنسيون قديماً مقابلها Tolératisme.
ويرجع تاريخ التسامح الاصطلاحي في موطنه الاوروبي الى اكثر من ثلاثة قرون، لكنه لم يتخذ صيغته النهائية الا في افق فلسفة التنوير التي صاغها مفكرون من امثال جون لوك و فولتير وكانط وجان جاك روسو وغيرهم...
وظل المفهوم من حيث نشأته بوصفه مفهوما مقترنا بمحاولة تقريب المسافة بين المذاهب الدينية المتصارعة التي ترتب على تصارعها، والتصعب لكل منها، حروب دينية مدمرة، واشكال اضطهاد غير انسانية، ظلت تعانيها اوروبا لوقت طويل. ولذلك بقي مفهوم التسامح دائراً في الدائرة الدينية بالدرجة الاولى، مقترنا بالنزعة العقلانية التي سعت الى وضع الافكار والمعتقدات والمسلمات القديمة موضع المساءلة، وذلك في نوع من اعادة الاعتبار الى العقل ومنحه المكانة الاولى في المعرفة وصياغة القيم الفكرية على السواء.
وعندما انتقل المفهوم الى الثقافة العربية مع اواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ظل دائراً في الافق نفسه، وظلت الصراعات الطائفية التي ادت الى حروب اهلية، هي الاصل في نقل المفهوم والدافع التكويني الى صياغة او اعادة انتاجه عربياً.
ولم تستخدم الثقافة العربية كلمة التسامح التي نستخدمها في هذه السنوات مقابل كلمة التعصب وانما استخدمت كلمة التساهل مقابلا لمفردتي Toleration و Tolerance، اللتين لا فارق كبيراً بينهما، وتدلان في سياقهما الثقافي الذي ينقل عنه على الكيفية التي تعامل بها المرء مع كل ما لا يوافق عليه، فلا يعاديه لمجرد اختلافه وانما يتقبله بوصفه لازمة من لوازم الحرية التي يقوم بها معنى المواطنة في الدولة المدنية الحديثة، ولكن الترجمة السابقة المستخدمة الآن لم تستمر طويلاً، فقد اثر عليها اللاحقون ترجمة الاصل الاجنبي المتحد في الانكليزية والفرنسية وغيرهما من اللغات الاوروبية الحديثة بكلمة التسامح التي شاعت ترجمتها اليوم، واغلب الظن ان السبب في ذلك يرجع الى ان الجذر اللغوي للترجمة العربية (سمح) يقترب من الدلالة الاجنبية، ويرتبط بمعاني العطاء والرحابة والصفح ولين الجانب والتساهل على السواء.
 
* دلالة المفهوم وتاريخيته
تؤكد دلالات مفهوم التسامح الشائعة والمعاصرة معاني اوسع بكثير من المعنى الديني المحدد الذي ارتبطت به في اصل نشأتها. وكان ذلك في موازاة انتقالها من الافق الدلالي الديني الى الافق المدني وارتباطها في الافق الاخير بالعديد من الدوائر المتشابكة اجتماعياً وثقافياً وسياسياًوابداعياً... والنتيجة ان اصبحت دلالات التسامح قرينة حق المغايرة والاختلاف بوصفه حقاً اساسياً من حقوق الانسان، وحقيقة راسخة من حقائق الوجود في كل مجاليه... واصبحت دلالات التسامح اكثر اتساعاً في مجالات ممارساتها واكثر تنوعاً في توازي دلالاتها، خصوصا تلك التي تشير الى تقبل وجود الآخر المختلف ومجادلته بالتي هي احسن، والانطلاق في المجادلة من مبدأ المساواة الذي لا يرى (الآخر) ادنى او اقل، لانه (آخر) مختلف اومغاير.
استمر مفهوم التسامح فاعلاً في الحضارة الغربية التي لا يزال واحداً من مفاهيمها الثابتة ولكنه مر بمرحلتين في اتساع دائرته وتعدد دلالاته:
المرحلة الاولى- سلبية من وجهة نظر نقاده الذين سعوا الى ان يستبدلوا بالمفهوم آخر غيره.
المرحلة الثانية- مرتبطة باعادة النظر الى المفهوم وتوسيع حدوده الدلالية.
واول ما واجه المفهوم من انتقادات سلبية، انه مفهوم مرتبط بنزاع يهيمن فيه طرف اقوى على طرف اضعف، وذلك وضع يدفع الاضعف الى ان يطلب من الاقوى ان يسمح له بحق الوجود بما لا ينقض مكانه الاقوى او ينقله من حال التراتيب الى حال التكافؤ. ودليل ذلك، ان المفهوم ظل وسيلة الاقلية الدينية او الطائفية في الدفاع عن وجودها الذي سعت الى اقرار شرعيته من الاغلبية او الطائفة الاقوى. ولذلك ظل المفهوم في اصل نشأته وتأصيله مبنياً على ثنائية الاقوى والاضعف او الاعلى والادنى... ولا تفارق ثنائية التراتب  ثنائية السعي من المقموع لدى القامع او الادنى لدى الاعلى.
لكن مفهوم التسامح تغيرت دلالته تغيراً تدريجياً وكان لابد ان يحدث ذلك مع شيوع الافكار الديمقراطية في موازاة شعارات الثورة الفرنسية التي رفعت ثالوث الحرية والمساواة والعدالة والتكافؤ... وكانت النتيجة ان تحولت ثنائية التراتب الى ثنائية التكافؤ في الصياغة التصورية للمفهوم واقترانه بعد توسيع دلالته واكتسابه دلالات جديدة باساسين لم يفارقهما الى اليوم:
 
 
 
الاساس الاول- معرفي لا يفارق الايمان بنسبة المعرفة والتسليم بأنه مامن احد او فئة يمكن ان يحتكر المعرفة او يتوهم كحال المعرفة بالقياس الى غيره كأنه هو وحده قادر على القول الفصل الذي لا يأتيه الباحث من أي جهة او مكان، ويعني ذلك شيئاً اقرب الى ما كان يذهب اليه ديكارت من ان العقل اعدل الاشياء توزعاً بين الناس، كما ان المعرفة شركة بينهم ولا تتقدم الا بجهودهم جميعاً دون تمييز الا على اساس من درجة رغبة المعرفة وشغف تطويرها. ونسبية المعرفة هي الوجه الآخر من الصفات الملازمة للبشر الذين ينتجونها حتى في مدى المعرفة الدينية التي لا توجد مستقلة عن عقول البشر الذين يتلقونها فهماً  وتفسيراً وتأويلاً، ولا يفارق كلا الامرين احترام العقل الذي لا يعرف لنفسه حداً او حقيقة نهائية في اكتشاف العالم وذلك جنباً الى جنب احترام العلم الذي لا يكلف عن التقدم بتضافر جهود البشر فيه، وذلك في مدى جهد الاضافة اليه.
 
 
الاساس الثاني- سياسي اجتماعي تتقوم به معاني الحرية والمساواة في الدولة المدنية الحديثة، فهو اساس لا يفارق شروط ما يترتب على المواطنة في الدولة الحديثة سواء من حيث هي تعاقد يقوم على احترام حرية الفرد في ممارسة حقوقه الطبيعية والمدنية، وحقه في التعبير عن نفسه وعن افكاره في كل مستوياتها الاعتقادية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والمسافة بين احترام الحرية وحق المخالفة مسافة جد واهية، تدني بطرفيها الى حال من الاعتقاد خصوصاً في تأكيدها التسامح في علاقة الفرد بفكر غيره وابداعه او علاقة الدولة بالفرد، فكراً وابداعاً، فضلاً عن علاقة المؤسسة الدينية بالفرد في داخل الدولة المدنية. واذا لم يكن للمخالفة او المغايرة او المباينة معنى مع غياب التسامح فلا معنى لمبادئ الحرية او المساواة او التكافؤ في غياب معنى المواطنة الذي يكفل للفرد حقوقه في الدولة بلا تمييز بينه وغيره على اساس من الدين او الجنس او العرق او اللون او حتى الثروة.
 
كان العديد من مفكري التنوير العربي قد فهموا الكثير من الابعاد الايجابية للمفهوم، فأكدوا ضرورة الدولة المدنية بوصفها الفضاء الذي يعيش فيه التسامح ويتزايد، بل يجد من يصونه ويرعاه ويحميه داخل منظومة حقوق الانسان المعترف بها في الدولة المدنية. وترتبط بهذا التأكيد فكرتان متلازمتان في تفكيرهم:
اولاهما- انه لا وجود للتسامح الا مع تقبل مبدأ الحرية وممارسته في كل مجالاتها وفي كل مستوياتها ومعانيها.
ثانيهما- الايمان اللامحدود بقدرة العقل على الوصول الى المعرفة بذاته وقدرته النهائية على تطورها الى مدى لايحده حد.
والايمان بالعقل يعني الايمان بالعلم الذي يتبادل معه الوضع والمكانة فيغدو كلاهما وسيلة لقرينة ودعماً له في صعود سلم التقدم الذي لا نهاية له او حاجز، اعني التقدم الذي لا يمكن ان يتحقق الا بالخطوة الاولى التي تقترن فيها استنارة المجتمع بانوار العقل التي تقتضي على ظلمات الجهل، ويناقض فيها التسامح التعصب الى ان يقضي عليه فيحل الانفتاح محل الانغلاق، وقبول الاختلاف محل رفضه، وتستبدل الثقافة العلم بالخرافة، والعقل بالنقل، ومن ثم التقدم بالتخلف. 
 
هكذا تباعد مفهوم التسامح عن الدائرة الدلالية التي تقترن بالتراتب وتمركز في الدائرة الدلالية المحيطة بمركز المساواة والتكافؤ، واصبح التسامح قرين التقبل الايجابي للاختلاف. والايمان بالحضور الطبيعي للمغايرة على مستوى الفرد والجماعة والمجتمعات على السواء. ويعني ذلك مجادلة الآخر بالحسنى في مدى الاختلاف الفردي دون تخل عن الايمان بالمساواة والتكافؤ، وانه ما من طرف على خطأ مطلق او على حق مطلق، كما يعني محاورة افراد الجماعة بعضهم بعضاً دون تعال من فئة او تمييز ضد اخرى على اي اساس او من اي منطلق. ويعني اخيراً الحوار الخلاق بين الثقافات والحضارات من المنظور الانساني القائم على ثراء التنوع البشري المقترن بالتعددية والمغايرة والاختلاف، وذلك من منظور يرد مستقبل البشرية الى الاعتماد المتبادل بين دولهما، خصوصا في المشكلات التي لا يمكن ان تنهض بها دولة واحدة مهما بلغت قوتها، او ثراؤها، واضف الى ذلك منظور احلال الحوار محل الصراع، والتعاون محل الانانية، وحوار الحضارات والمجتمعات محل تسامحها، بلا فارق في مدى القضاء على التعصب والاستغلال والتمييز، فذلك وحده هو السبيل الى مستقبل افضل للبشرية(8). 
 
فكرة التسامح
ان فكرة التسامح، تعني القدرة على تحمل الرأي الاخر، والصبر على اشياء لا يحبها الانسان ولا يرغب فيها بل يعدها احيانا مناقضة لمنظومتة الفكرية والاخلاقية، وذلك ان قبول مبدأ التسامح وفكرة التعايش يعني تجاوز سبل الانقسام الذي يقوم على اساس الدم او الرابطة القومية او الدين او الطائفة او العشيرة او غيرها من الناحيتين النظرية والاخلاقية على اقل تقدير.
ومبدأ التسامح يعني التعايش على نحو مختلف، سواء بممارسة حق التعبير عن الرأي او حق الاعتقاد او حق التنظيم او الحق في المشاركة السياسية... وهي المحور في فكرة حقوق الانسان التي تطورت منذ الثورة الفرنسية عام 1789م، وقبلها الدستور الاميركي عام 1776، وذلك بتأكيد حق كل فرد بان لا يكون هناك قيد حريته اذا احترم حريات الآخرين وحقوقهم ولم يعتد عليها.
ان قبول التعايش والتسامح يعني الموافقة على ما هو مشترك حتى وان كان في نظر الآخر غير اخلاقي او ربما اقرب الى فكر الشر ان لم يكن شراً بالفعل. وبهذا المعنى فان مبدأ التسامح هو فكرة اخلاقية ذات بعد سياسي وفكري ازاء المعتقدات والافعال والممارسات، ونقيض فكرة التسامح هو اللاتسامح، اي التعصب والعنف ومحاولة فرض الرأي ولو بالقوة(9).
وبما ان الحاجة تدعو اليوم لمواجهة ما يتصف به عصرنا من مواقف وسلوكيات تميل الى التطرف وتمارس العنف- كما فترات عديدة من التاريخ البشري- الى بعث الحياة في القيم الانسانية السامية واخصابها ونشرها، فقد يكون من المناسب التدقيق في مفهوم التسامح الذي ينتمي اصلاً الى سجل الفضائل ومكارم الاخلاق التي تمتدح في سلوك الشخص وينصح بالتحلي بها، وذلك بطرح العلاقة بين التسامح وكل من الدين والايديولوجيا والسياسة والفلسفة.
 
*التسامح في الخطاب الديني
ان الحاجة الى التسامح، بمعنى عدم الغلو في الدين الواحد وسلوك سبيل اليسر، سبيل (التي هي احسن) من جهة واحترام حق الاقليات الدينية في ممارسة عقائدها وشعائر دينها دون تضييق او ضغط من جهة اخرى، حاجة تفرض نفسها بحكم تعدد الممارسات الدينية داخل الدين الواحد وتعدد الاديان داخل المجتمع الواحد، هذا التعدد الذي هو ظاهرة انسانية حضارية لا يمكن تجاوزها ولا القفز عليها، وبالتالي فالتسامح هنا يعني التخفيف الى اقصى حد ممكن من الهيمنة المقصودة او غير المقصودة التي يمارسها مذهب الاغلبية داخل الدين الواحد، ودين الاكثرية داخل المجتمع الواحد.
هناك بطبيعة الحال ما يوصف بالاصولية ونحن نفضل استعمال مفردة التطرف، ونقصد به التطرف في الدين او باسمه او ضده اياً كان الدين، وما دمنا بصدد التدقيق في المفردات والمفاهيم، فقد ينبغي التنبيه هنا الى ان الاصولية ليست مرادفة للتطرف، يكون المرء اصولياً ولا يكون متطرفاً يستعمل العنف لفرض قناعاته. على ان مفهوم الاصولية لا يعني الشيء نفسه في جميع الثقافات، فالاصول في الاصطلاح الاسلامي هو العالم المتخصص في اصول الفقه. واصول الفقه كما يعرّفه الاصوليون انفسهم هي القواعد التي يتوسل بها الى استنباط الاحكام الشرعية من الادلة، فهو اذن علم منهجي ينظم الاجتهاد، اي يضع القواعد لانتاج التعدد والاختلاف في الفقه.
اما الثقافة الفرنسية، فهي لم تعرف هذا المفهوم الا مؤخراً (الاصولية- Intérisme) وقد انتقل اليها من الانكليزية (Fundamentalism) حيث تعني المفردة –النزعة التي تدعو الى التطبيق الحرفي للدين، وهناك حركات دينية متطرفة في انحاء مختلفة من العالم ولكنها لا توصف جميعها بالاصولية.
ومهما يكن، فالتطرف في الدين سواء عبرنا عنه بالاصولية او بلفظ آخر، هو نقيض التسامح، على انه ليس التطرف الديني هو وحده الذي يعاني منه العالم اليوم رغم انه يعم فعلاً مختلف بلدان العالم.
ان العالم يشهد اليوم تيارات وحركات وتوجهات متطرفة ليست دينية بل منها ما هو لا ديني بالمرة، تيارات متطرفة تهدد في عالم اليوم امن الانسان وسلامته واطمئنانه على مصيره وبالتالي تعتدي على حقوقه، حقه في الوجود، وحقه في امتلاك خصوصيته خاصة به، وحقه في اختيار طريق مستقبله، مثل التطهير العرقي الذي مورس في البوسنة والهرسك جهاراً ويمارس سراً في انحاء عديدة من بلدان العالم(10)..
 
* التسامح في الخطاب الفلسفي
الواقع ان مفهوم التسامح غائب في الخطاب الفلسفي عموماً سواء تعلق الامر بالفلسفة العربية او الفلسفة اليونانية او بالفلسفة الاوروبية الحديثة والمعاصرة- باستثناء خطاب سياسي لاهوتي انتجه بعض فلاسفة القرن السابع عشر في ظروف معينة- ان تاريخ الفلسفة شهد مذاهب كثيرة ومتنوعة في الاخلاق. وهناك من الفلاسفة من ركزوا جهدهم الفلسفي او قصروه حصراً على ميدان الاخلاق، ومع ذلك فنحن لا نجد في قاموس مصطلحاتهم مفهوم التسامح الانادراً وبصورة عرضية في الغالب.
ان سجل القيم الاخلاقية التي حللها الفلاسفة والتي تتسلسل من الخير والحق والواجب والفضيلة والعدالة، الى الرحمة والشفقة والاحسان والايثار، نادراً ما نعثر فيه على مفهوم التسامح كقيمة اخلاقية فلسفية، واذا غاب المفهوم فمن الطبيعي ان تغيب الفلسفة التي تؤسس نفسها عليه(11).
ان السبب- في هذا الغياب- هو ان التسامح ليس مفهوماً اصيلاً في الفلسفة، بل هو يقع بين الفلسفة والايديولوجيا. الدليل على ذلك هو ان هذه المفردة لم تدخل الفلسفة من باب الفلسفة نفسها بل من باب الفكر الذي يعبر عن الصراع الاجتماعي او يحاول التخفيف منه، وبعبارة اخرى، باب الايديولوجيا. ولذلك، بقي مفهوم التسامح موضوع تشكيك واعتراض ولم يقبل في رحاب الفلسفة الا بامتعاض ومع كثير من التسامح والتساهل(12).
 
* التسامح في الخطاب السياسي/ الايديولوجي
التسامح في هذا المجال، فعلى الرغم من الاصوات التي ترتفع هنا وهناك لتعلن نهاية الايديولوجيا ونهاية التاريخ... الخ، فان الواقع يكشف يوماً بعد يوم عن الطابع الايديولوجي لهذه الاصوات من خلال ما ينشر به من اراء ونظريات تكرس ما اصبح يوصف اليوم بـ (الفكر الاحادي) او (الوحيد) الحامل للواء العولمة على الصعيد الاقتصادي والهادف الى فرض هيمنة فكرية ايديولوجية على العالم كله، اضف الى ذلك التبشير بما يسمى (صراع الحضارات) وهي دعوى ترمي صراحة الى تعبئة الغرب كحضارة لا بل كمصالح ضد حضارات اخرى، وفي مقدمتها الحضارة الصينية والحضارة العربية الاسلامية(13).
اما في ميدان السياسة فلا بد اولاً وقبل كل شيء من ارضية ديمقراطية صلبة قوامها احترام الحق في الاختلاف والحق في التعبير الديمقراطي الحر.
ويأتي التسامح بعد ذلك ليعني تمكين الاقلية السياسية او الدينية او الاثنية من الحضور في المؤسسات الديمقراطية لا بناءً على قوتها التعددية وحسب بل بناءً ايضاً وبالخصوص على حقها في ان تكون ممثلة تمثيلاً يمكنها من اسماع صوتها وممارسة حقها المشروع في الدفاع عن مصالحها(14).

المصدر: http://www.alnaspaper.com/inp/view.asp?ID=7747

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك