تاريخنا... تصنعه أيدينا

عبد الله بن بجاد العتيبي

 

لا يمكن لأمة ان تغفل عن تاريخها أو تحاول تجاهله لانه كما يعبر بعض المثقفين "من يتناسى التاريخ يتناساه الواقع والمستقبل" ونحن اليوم أحوج ما نكون لان نعيش في خضم الواقع لنبني مستقبلنا على أسس متينة.

ليس صحيحاً ان تاريخنا مصبوغ بصبغة واحدة ولون واحد وخيار واحد، بل تاريخنا مثله مثل باقي التواريخ مليء بالألوان والخيارات، ونحن فقط من بيده الخيار في اختيار اي الالوان يناسبنا ويحقق طموحاتنا.

لقد كانت المدارس الفكرية والثقافية متعددة لحد الإفراط على طول خارطة التاريخ الطويلة، بين أقصى اليمين وأقصى الشمال، وخصوصا في اللحظات التاريخية التي كانت الامة فيها مشعلا للحضارة في العالم كله، والخيار بأيدينا اليوم لكي نختار اي الالوان نريد، وهل نستمر في ظلمة الاسود القاتم والأحمر القاني أم نختار الابيض الناصع من خلال المنظومات المتشابكة حد التناقض في ثنايا هذا التاريخ الحافل العظيم.

لنا ان نرى اليوم صورة رسمت لفقيه مثل ابن تيمية في اذهاننا على أنه فقيه التشدد والخيارات الغالية والمواقف المتشنجة من الآخرين في نصوص ملأ البعض أعيننا وآذاننا بها لأنها تشكل دعماً غير محدود لخياراته السوداء ومواقفه القانية.

ولكن هذا الفقيه والمفكر يمتلك صورة أخرى لا تقل حضورا في خطابه عن الصورة السابقة ولكنها غُيِّبت بشكل منظم منذ أمد غير قريب، لخدمة أهداف فكرة وحركة تبحث لها عن متكأ وموطئ قدم في التاريخ.

ان هذا الفقيه الحنبلي يمتلك أفكاراً تسامحية ومواقف تيسيرية تتجلى في كثير من أقواله واختياراته ولعل الوقوف على جزء يسير منها يعطي الفكرة بعدا واقعيا أكبر.

فها هو في التكفير يقول: (هذا مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية) الفتاوي

229/3.ويقرر ان المخطئ معذور سواء كان خطؤه اعتقاديا أم عمليا: (وإني أقرر ان الله قد غفر لهذه الامة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية) الفتاوي

229/3.ولذلك فهو لا يكفر علماء الجهمية والحلولية فضلا عن عوامهم حيث يقول: (كنت أقول للجهمية من الحلولية النفاة، الذين نفوا ان الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم انا لو وافقتكم كنت كافرا لاني أعلم ان قولكم كفر، وانتم عندي لا تكفرون لانكم جهال وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له) الرد على البكري

494/2.وقد بنى مثل هذا الموقف المتسامح والمتفهم للآخر على إدراكه العميق ان (الامور المعلومة بالضرورة عند السلف والائمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة عند بعض الناس) درء التعارض

27/7.وهو ما يعني ان الحقيقة في العقيدة والاحكام أمر نسبي إضافي، وهو ما صرح به بقوله: (التحقيق ان كون الشيء قطعيا أو غير قطعي أمر إضافي) الفتاوي

354/22.وهو يبني على مثل هذا مواقف متسامحة من جهود علماء الأمة المخالفين للحنابلة من الشيعة والمعتزلة وغيرهم، حيث يقول عن ابن أبي الحديد العالم الشيعي الكبير (وكان ابن أبي الحديد البغدادي من فضلاء الشيعة المعتزلة المتفلسفة) درء التعارض

161/1.ويقول عن عمرو بن عبيد كبير المعتزلة وأولهم (فعمرو بن عبيد وأمثاله لم يكن أصل مقصودهم معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم) الفتاوى

446/17.ولا يكتفي بهذا فحسب، بل يتجاوزه إلى الثناء على جهود العلماء المخالفين من الشيعة والجهمية في الدعوة إلى الله: (وقد ذهب كثير من المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من ان يكونوا كفارا) الفتاوى

96/13.ونجده عقلانياً كبيراً حين يرجح الدليل العقلي القطعي على الدليل السمعي الظني، ويرجح بين الدليلين الظنيين من الجهتين (بل الواجب ان ينظر في عين الدليلين المتعارضين فيقدم القطعي منهما أو الراجح ان كانا ظنيين سواء كان هو السمعي أو العقلي) درء التعارض

137/1.وحين نرى اليوم كيف يحاول خطاب الغلو ان يثبت ان الموقف من الدول الكافرة لا يكون إلا بالإسلام أو القتال أو الجزية، ويحاول ان يلغي الهدنة من الفقه الإسلامي زاعما نسخها أو أنها يجب ان تكون مؤقتة، فإننا نجد ان ابن تيمية نفسه ينبري داعية للسلام العالمي حيث يقول: (ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: ان الهدنة لا تصح إلا مؤقتة فقوله مع أنه مخالف لاصول أحمد يرده القرآن وترده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر المعاهدين) الفتاوى

140/29.وما هذا إلا غيض من فيض من خيارات هذا الفقيه المتسامحة، فكيف لو جمعناها واستعنا بما فيها من علم وفقه وبصيرة، ثم كيف لو أضفنا إليها أقوال كبار الفقهاء والعلماء في التاريخ الإسلامي التي تكسب الأمة تسامحاً واعتدالاً ووسطية هي أحوج ما تكون إليها في خضم سعيها الملهوف خلف ركب الحضارة وبناء الإنسان في أمتنا.

ان تاريخنا هو خيارنا ومستقبلنا هو خيارنا، ولنا ان نختار من ذاك ما نبني به هذا، ولنا ان نقتل هذا على عتبات محراب ذاك، والخيار لنا فأي الطريقين أهدى وأنفع واجدى!!.

ان صياغة خطاب جديد للأمة يحاول إعادة قراءة تاريخ الأمة على المستوى السياسي والفقهي والعقدي والاجتماعي، لهو أمر شاق دون شك، ولكنه في الوقت ذاته أمر ملح غاية الإلحاح، فقد اثبتت الخطابات التقليدية فشلا ذريعا في ضبط المجتمع وتحريك الامة نحو الحضارة والسيطرة على النزوات الفردية والعنفية هنا وهناك.

نحن اليوم أحوج ما نكون لصياغة ذلك الخطاب الجديد وثماره دانية لقاطفها، لم تزل تلوح للباحث في ثنايا النصوص المقدسة والسيرة النبوية المطهرة وأقاويل الصحابة والسلف، وسلسلة لا تكاد تنتهي من أقوال واختيارات ومواقف علماء كبار على طول تاريخ الامة الزاخر، وما نرجوه اليوم ان البوادر الأولى لصياغة هذا الخطاب بدأت تؤتي ثمارها من خلال حضور خطاب إسلامي محلي قوي يطرح ويعالج وينتقد كثيرا من السائد والمألوف والخاطئ، ولا ننسى ان طريق الالف ميل يبتدئ بخطوة واحدة وقد بدأت الرحلة، وكلنا أمل الا تقف حتى تصل إلى غايتها.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2003/06/09/article21147.html

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك