القابلية للعنف
لقد حدثنا المفكر الجزائري مالك بن نبي قبل ما يقارب النصف قرن عن "القابلية للاستعمار" وهي الفكرة التي حاول ترسيخها ونشرها، ليلغي بها مشجب الاستعمار وجبروته الذي ينسب إليه آنذاك أنه يعيق نهضة الأمة - وما أشبه الليلة بالبارحة -، وما ذاك إلا أن الفكرة السائدة آنذاك كانت تلقي باللائمة على الآخر المستعمر مما يجعل الحل بيده، وفكرة مالك تنحي باللائمة على الذات، حيث يجب أن يبدأ الحل وحيث تملك الأمة الخيار، وهذا هو ذات المنهج الرباني المتكرر في كثير من النصوص، (وما أصابك من سيئة فمن نفسك)، (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم).
وقد سرت هذه الفكرة "القابلية للاستعمار" في ثنايا خطابات عدد من المفكرين من أمثال علي شريعتي الذي حاول أن يحدثنا عن القابلية للاستعباد والاستبداد، محاولاً من طرف خفي دمج فكرة مالك بن نبي "القابلية للاستعمار" وفكرة الكواكبي في "طبائع الاستبداد"، ليخرج لنا فكرة "القابلية للاستعباد".
إن الأزمات التي تعتور الأمم على مستواها الفكري والسياسي لا تكاد الأمم تنفك منها إلا بالفكرة المصوغة بشكل صحيح، ذلك أن الفكرة المصوغة بشكل مغلوط توصل بالتأكيد لنتيجة خاطئة تترتب عليها أولويات خاطئة، وحين تصاغ بشكل صحيح فإنها توصل للحل الصحيح والنتيجة الصحيحة، تماماً كما فعل مالك بصياغته الذكية لفكرته، حيث نقل الاهتمام من منطقة انعدام التأثير إلى منطقة التأثير والفعالية.
وحين نتحدث اليوم عن العنف كنتيجة لأفكار معينة وظروف متداخلة فسيكون من الخطأ أن نغفل عن سؤال كبير وملح، هو لماذا العنف؟
سيقول البعض: بسبب الظلم الخارجي، كما قيل من قبل في زمن مالك، ولكننا لا نستطيع أن نقتنع بذلك ونحن نرى الكون كله من حولنا مليئاً بالظلم الخارجي، مما يطرح سؤالاً لا يقل أهمية عن سابقه ألا وهو: لماذا لم يحدث عندهم ما يحدث عندنا؟ ولماذا نحن فقط الذين نجدع أنوفنا نكاية بالخصم!!، لماذا نحن فقط نحرق أوطاننا ونفجر وحدتنا ونفرق كلمتنا ونمنح الذرائع تلو الذرائع لكل غريب قوي متربص بنا؟؟
أحسب أن شيئاً من تلمس الجواب يكمن في "القابلية للعنف" في ثقافتنا المحلية، حيث تختلط الأفكار الصحيحة بالسقيمة ببعض الموروثات الشعبية اضافة لبعض المعطيات السياسية لتعطينا مزيجاً متداخلاً وغريباً يمتلك أكثر من غيره مكان الصدارة في قيادة أفكارنا وتحركاتنا ومواقفنا.
لقد جاء القرآن بخطاب استقلال قوي للأمة ككل ولأفرادها بشخوصهم وأفكارهم، حيث لا تبعية ولا ذلة ولا خنوع ولا تقليد، في سلسلة من المفاهيم القرآنية التي تركز على عزة الأمة ورفعتها وعزة المسلم ورفعته ونحو ذلك من المفاهيم المقاربة.
وقد جاء التاريخ الإسلامي زاخراً بالمواقف الشجاعة والجريئة لعلماء وحكام وقادة عسكريين ومقاتلين أشاوس ونحو ذلك، وقد جاءت الشيم العربية بكثير من قيم الإباء، ورفض الضيم والظلم والذل، وقد جاءت بعض الخطابات الإسلامية المتأخرة لتصوغ من هذا الخليط فكراً يرفض كل آخر ويقصي كل مخالف مهما كانت درجة مخالفته، ويمتلىء يقينا بامتلاك الحقيقة خالصة له من دون العالمين، وجاءت - كذلك - جماعات إسلامية حديثة بآليات جديدة تكون كفيلة بترسيخ تلك المفاهيم وقصرها على أتباعها دون بقية الأمة، حيث الولاء للجماعة والغربة معها واعتزال المجتمع المسلم، الذي تعتبره جاهلياً وكافراً، والانخراط في كهف تلك الجماعات وأيديولوجياتها المعتمة وأنفاقها التي لا تنتهي، حيث تستطيع هناك أن تقنع أتباعها أن الأمة ليست سوى مجموعة من الكائنات الحية لا خلاص لها إلا بالموت، إما لأجل أفكارها كما هو حال رجال الجماعة، وإما ضحايا لشجاعة وتفاني هؤلاء الرجال في تطبيق فكرهم المنحرف، حيث يجاهد الجميع للموت، ولا يكاد يجاهد أحد للحياة!
إن مثل هذا الخليط الفكري مع غيره من الأفكار الموازية والمساندة يشكل الماء الذي يلين عجينة شباب الأمة حتى تتشكل لديهم بشكل خطير "القابلية للعنف" خصوصاً في ظل انسداد الأفق السياسي عن أي مجال للمشاركة الشعبية في ظل أحداث كبرى تكاد تعصف بالجميع.
إذاً "فالقابلية للعنف" ليست سوى مجموعة من الأفكار الثقافية والاعتقادات القلبية والآليات الحركية اضافة إلى ظروف سياسية واقتصادية تمنح ما يكفي من المناخ لتخمير العجينة!
وتحت هذا الرباعي تندرج عناصر متفرقة يجدر بالباحث المهتم والدارس المصلح أن يخضعها للنقد المباشر والصريح لتفكيكها من أجل إعادة تشكيل الفكر والاعتقاد والتفاعل الاجتماعي بشكل يضمن للأمة الوحدة والألفة والتسامح، بهدف صفها خلف مشاريع التنمية والنهضة وإعادة الأمة لتكون مشاركاً في صناعة الحضارة في العالم بدلاً من أن تظل مستهلكاً لها، لا تلبث أن تحوله الأفكار السابقة إلى جندي مجيد في هدم المعبد على عباده والحضارة على البشرية كلها.
المصدر: http://www.alriyadh.com/2003/06/13/article21071.html