التسامح وعلاقته بالثقافة المعاشة

التسامح وعلاقته بالثقافة المعاشة

 

يوسف أبا الخيل

 

التسامح يعني في ما يعنيه أن يتسامح الفرد تجاه من يخالفونه الرأي، بحيث يرى أن من حق الأفراد الذين يشاطرونه هموم الحياة أن يتعاملوا مع رؤاهم الدنيوية ومعتقداتهم الدينية بما يتفق وقناعاتهم بالقدر الذي يعترفون له بهذا الحق، ويأتي التسامح الديني على رأس أجندة التسامح حيث يشكل الأساس الذي ينبني عليه التسامح بكافة صوره، ذلك أن مجرد إحساس الفرد بحرية الآخرين تجاه عقائدهم وأديانهم التي يعتبرونها جسر الخلاص الأخروي لهم، يجعله يشعر أن ثمة حاجة ماسة من باب أولى للتسامح تجاه المجالات الأخرى وخاصة الدنيوية منها.

ولتوطيد أرضية مناسبة للتسامح فلابد من أن يكون الأساس الثقافي الذي يشكل رؤية المجتمع للعلاقة مع الآخر (أياً كان هذا الآخر سواء أكان من داخل الديانة أم من خارجها) يحتوي في مضمونه ما يؤسس لمثل تلك العلاقة التسامحية، وتأسيساً على ذلك المبدأ، فإن أية محاولة لتدشين قيمة التسامح في مجتمع ما على الرغم من أن المعطيات المحورية لثقافته العامة لا تحمل في طياتها مضمون تلك القيمة يجعل من تلك المحاولات مجرد جهود وعظية لا تؤتي أُكُلها المرجوة منها نسبة لتناقضها في أذهان العامة والمستهدفين مع ما تستبطنه الثقافة المعاشة.

إذاً العلاقة التسامحية تظل قائمة في الأساس على ما تختزنه ذاكرة المجتمع الثقافية من رؤية للمخالف، فإذا كانت تلك الرؤية قائمة ومدشنة على حق المخالفين (بمن فيهم المخالفون في الدين) في التعايش مع ما يعتقدونه، ظلت الأرضية مُهيَّأة لقبول الآخر والتسامح معه حتى وإن اعترى ذلك المجتمع ما يمكن أن يعتريه من تغيرات سلبية في هذا المجال من قبيل عدم التسامح مع المخالف تحت وطأة ظروف معينة، إذ لا يلبث ذلك المجتمع أن يتراجع عما اعتراه من ظروف طارئة أدت به لأن يمس حق المخالف لأن الجذر الثقافي لا يقوم إلا على التسامح مع المخالفين، وتصبح الظروف التي مر بها المجتمع وأدت بصورة أو بأخرى إلى الإضرار بالمخالف مجرد تغيرات ظرفية ومحاصرة بوقتها حتى وإن بدت متجهة اتجاهاً حاداً في بعض الفترات، ذلك أن المعين الثقافي الذي يقتات عليه أفراد ذلك المجتمع لا يسمح بالاندماج مع تلك التغيرات الجديدة.

العكس أيضاً صحيح فالمجتمع الذي لا تقوم ثقافته على التسامح مع المخالفين ربما تمر به ظروف طارئة (طويلة أو قصيرة - داخلية أو خارجية) تجعله يحاول ما استطاع إقناع أفراده بفضيلة التسامح وأنها أصل ديني لا مزايدة عليه، ولكن لأن الزاد الثقافي العام المغذي للأذهان والقائد والموجه للأفراد والمجتمع على حد سواء لا يتوافر في مضمونه ومخزونه على أية جذور أو روافد لدعم هذا التوجه الجديد ، بحيث يظل هذا التوجه ( التسامح المنشود) مجرد حدثٍ مستجيب لظرفٍ جديد ضاغط لا يلبث المجتمع مع انقشاع غيمة ذلك الطارئ أن يرجع إلى الأصل الذي تبرمج عليه وأسس بناءً على معطياته علاقته مع الآخر المخالف.

الحضارة الغربية المعاصرة مثلاً تتميز من ضمن ما تتميز به بالعلاقة التسامحية العجيبة التي تربط بين كافة المختلفين في كافة مناحي الحياة وعلى رأسها ما يختص منها بعلاقة الإنسان بخالقه، وهذه الحضارة المدهشة كانت ولا زالت مدينة لفلاسفة التنوير الأوروبيين من امثال فولتير وجان جاك روسو وديدرو وديكارت وكانط وليبيتنزوغيرهم، والذين أسسوا لفلسفة التسامح وإطفاء جذوة التعصب الديني القائم على تصور خط خلاص روحي وحيد، ولم يكن لجهود أولئك الفلاسفة أن تعطي ثمارها المرجوة منها لو أنهم تركوا التراث الكنسي الكاثوليكي اللاهوتي على حاله بما يحتويه من بؤر التعصب الديني وجذوره واعتمدوا فقط على أسلوب الوعظ المجرد القائم على تبيان فضائل التسامح مع المخالفين، ولكنهم اتجهوا في المقام الأول إلى ذلك التراث فنقدوه نقداً علمياً تشريحياً استخرجوا بواسطته كافة المراكمات الثقافية البشرية المؤسسة للانغلاق والتعصب، وقاموا بدلاً من ذلك بتبيئة القيم الإنسانية الرفيعة في صلب الثقافة المؤسسة، وذلك بأن أوجدوا نماذج وأصولاً دينية تراثية تدشن لتلك القيم الإنسانية ثم قاموا بتبيئتها وزرعها في جذور ثقافتهم مما أدى في النهاية وبعد جهود جبارة وتضحيات جسام وبعد زمن مرهق وطويل إلى أن تتوطد الثقافة الغربية والتراث الديني منها على وجه الخصوص على أسس راسخة من التسامح جرى تبيئتها على أسس سليمة ومقبولة من الجماهير لتكون تلك القيم أصلاً في الثقافة الحضارة الغربية وليست قيماً ظرفية مؤسسة على أمنيات ومواعظ كاستجابة لراهن ضاغط لا يلبث الاجتماعي مع رحيله إلا الرجوع إلى الاستزادة من ذلك الزاد التراثي ربما بشكل أكثر حدة مما سبقه لكون الشعور واللاشعور قد خامره شك في وجود مؤامرات على ذلك التراث الحاضن لمفردات العنف خلال تلك الفترة الطارئة التي أُضطر فيها المجتمع إلى البحث عن أية بادرة وقتية لإيقاف سيل العنف الهادر.

من هذا المنطلق فإن مما يحسب للمؤتمر الإسلامي الذي عقد مؤخراً بالعاصمة الأردنية دعوته الجادة إلى اعتماد أسلوب عدم تكفير أتباع المذاهب الإسلامية المعروفة من منطلق أن لكل مذهب رؤيته الدلالية والاستنباطية فيما يذهب إليه، ولكن تلك الدعوة على أهميتها نسبة لأهمية المجمعين عليها في ذلك المؤتمر وهم من خيرة علماء الأمة تبقى ناقصة بل وعديمة الجدوى ما لم تصاحبها جهود مساندة ومؤثرة نحو المبادرة بنقد ما تحتويه كتب العقائد لكافة المذاهب الإسلامية التي أسست أتباعها على بنية تكفير صلبة وحادة، نقد يتجه نحو إزالة ما علق بالأصول الإسلامية من تراكمات جدلية وكلامية كانت استجابة لظرفيات سياسية بالدرجة الأولى أرّثت تكفيراً وتبديعاً وتفسيقا وتبديعاً بين كافة متمذهبيها، وأعطت كلاً منهم اليقين القطعي بأنهم بما يتوفرون عليه من زاد مذهبي يمثلون الطائفة الظاهرة المنصورة التي لا يضرها من خذلها أو خذَّلها حتى تلقى ربها وإن عضت على أصول الشجر حفاظاً على دينها!!! وهو في الحقيقة حفاظٌ على أدبيات مذهبها وليس دينها في الأساس، أقول مالم يبدأ مجهود فكري من هذا القبيل فلن تكون توصية مؤتمر عمان الأخيرة إلا إضافة وعظية فقط لا تلغي الأصل المذهبي العقدي الذي تتمذهب عليه كافة الطوائف المدعوة لأن تتسامح مع غيرها، ولعل في المحاولة الجادة التي بدأها البعض من نقد لبعض كتب العقائد خير داعم ومساند لمثل هذا المشروع الذي بدونه لن يكون لمثل تلك الدعوات من صدى مؤثر غير ما يمكن أن تحدثه الاستجابة الظرفية المؤقتة للأحداث، ثم لا تلبث الجموع أن تعود أدراج الرياح إلى حيث تتمذهب وتؤسس علاقتها مع الآخر(المسلم بالذات)، بل إنها لن تكون في حاجة للعودة أساساً للقناعة المذهبية لأنها لم تغادرها في الأساس.

 المصدر: http://www.alriyadh.com/2005/07/27/article84059.html

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك