التعددية خيار لا مناص منه

التعددية خيار لا مناص منه

 

يوسف أبا الخيل

 

التعددية خيار لا بد منه بعد أن أصبحت واقعاً لا خيار آخر متاحاً للمرء أو المجتمع الناظم لمجموع الأفراد للتعامل معه أو الهروب إليه، يأتي ذلك بعد أن تشابكت العلاقات الاجتماعية وتسهلت بفضل الثورة الإعلامية بحيث أصبح ما يحدث في أي بقعة في أي طرف من أطراف هذا العالم يأتي للطرف القصي منه بلمح البصر وربما قبل أن يرتد الطرف إلى الناظر، من لا يستطيع مثلاً البوح بمكنونه من الآراء والمعتقدات والتأويلات في ما هو متاح أمامه من وسائل التعبير يستطيع على اثره البوح به في ما هو متاح من وسائل أخرى أصبحت في متناول اليد، ومن غير العسير على المرء أن يستنتج أن خيار اعطاء الفرصة للآراء المخالفة أن تظهر على السطح في وضح النهار وأمام الملأ وفي كافة ما هو متاح من وسائل التعبير خير وأجدى وأنجع علاجاً للمضطرب منها من رحلة أثيرية أو عنكبوتية يقوم بها من حُرم حرية التعبير عنها طالما أنه سيجد في النهاية مخرجاً وفرجاً لما يستكن في صدره وما يشاغله من استشكالات أو رغبة في التماهي مع ما يؤمن به أو يعتقده.

هذه التعددية التي بدأت إرهاصاتها واقعاً في حياة المجتمعات - ومجتمعنا ليس بدعاً منها - مع الأخذ بالاعتبار أن حواملها الإعلامية تنذر بالمزيد والمزيد من تطورات تقنية جذرية مما ينذر معه الأمر بحلول واقع يصبح فيه أمر التحكم في تلك الآراء وظهورها للناس من المتعذر فيه، خاصة وأن هذا التحكم نفسه أصبح من الصعوبة بمكان بحيث تصبح إتاحة الفرصة للآراء المخالفة في الواقع والمكان المعاش أجدى من عدم إتاحة الفرصة بما سيترتب عليه من تعقيد الأمر حيالها باعتبار أن المنع سيقلب الظن إلى قطعي والرأي إلى معتقد يُعقد القلب عليه، لا شك في ضرورة خضوعها إلى ضوابط من أهمها وعلى رأسها عدم إتاحة الفرصة للعنف لأن يطل برأسه بأي شكل من الأشكال، سواء أكان ذلك العنف قولاً أو عملاً، بحيث يندرج في إطار ذلك الإيمان الكامل بأنه في الوقت الذي فيه للجميع الحقُّ في إبداء ما يعتقدونه من آراء، فإن الحرية في ذلك تنتهي أو تقف حيث تتجاوز أو تعتدي على حرية الآخرين الذين يملكون ذات الحق في التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم، مع ضرورة التزام الجميع بضابط رئيسي يعتبر هو الغاية من التعددية نفسها ألا وهو الحفاظ على السلم الاجتماعي والسياسي بما يحقق الأمن والسلام والاطمئنان لكافة من يعيشون في المجتمع الناظم لتلك الجموع التي ترتجي التعددية أو تلك التي أصبحت التعددية خيارها الوحيد الذي لا مفر منه.

وللتعددية بصفتها نابعة من حرية الضمير الذي يعطي صاحبه الحق في أن يتعايش مع معتقداته بحرية وسلام في ذات الوقت الذي يجب أن يعتقد فيه أن للآخرين ذات الحق الذي أعطي له للتعايش مع معتقداتهم أصلٌ مؤسس في الإسلام نص عليه القرآن الكريم في أكثر من موضع بصفته حقاً لا يخضع لأي تقنين أو نسف ما دام صاحبه ملتزماً بالضوابط المتحكمة فيه والضامنة لسلميته، منها قوله تعالى: {لا اكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي} ومنها أيضاً {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ومنها أيضاً {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً} وهنا يتبين أن الفصل في قضايا العقائد متروك لله رب العالمين باعتباره تعالى علام الغيوب ومن ضمن علم الغيب الموكول له سبحانه علم ما تخبئه الضمائر وما تستهدفه وما ترتجيه. ولعل من الشواهد الحديثة على عدم نجاح القسر على اتباع آراء أو معتقدات معينة حتى ولو كانت على مثل الإسلام العظيم الدين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ما حملته الأنباء مؤخراً من قيام كثير من الأرمن في تركيا بالرجوع إلى دياناتهم التي كانوا عليها قبل المجازر التي ارتكبت ضدهم في عهد السلطنة العثمانية (1915/1917)، إذ يقدر معدل من يرجعون إلى ديانتهم الأصلية سنوياً في اسطنبول وحدها بعشرين شخصاً كان آباؤهم وأهلوهم ومن على قيد الحياة منهم قد اعتنقوا الإسلام إذ ذاك خوفاً من المجازر العثمانية، وفي هذا تكمن عظمة الإسلام في تركه الحرية الدينية مفتوحة للشخص بحيث انه حين يدخل الإسلام إلى قلبه فإنه يدخله عن قناعة تامة وهو ما يؤخذ لغوياً من لفظة العقيدة نفسها بأنها ترمز لما انعقد قلب الإنسان عليه ولا يتم مثل هذا الانعقاد إلا برضى واطمئنان وقناعة الضمير.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2005/12/14/article115184.html

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك