ثوب التسامح

ثوب التسامح

 

يوسف أبا الخيل

 

أفتى الدكتور علي جمعة والذي يشغل منصب مفتي الديار المصرية قبل مدة بجواز قيام المسلم المقيم في البلاد غير الإسلامية ببيع الخمر والاتجار به حيث يقيم هناك، وقد أثارت تلك الفتوى ولا تزال العديد من ردود الفعل تجاهها، وقد كانت أغلب تلك الردود والمداخلات رافضة تماماً لتلك الفتوى باعتبار أن الخمر محرمة في شريعة الإسلام ولا يجوز للمسلم بناءً على ذلك الاتجار بها بيعاً أو شراءً.

لن أقوم هنا باستعراض أدلة القبول أو الرفض لتلك الفتوى فذلك ما غطاه الكثير من المقالات التي أعقبتها، ولكني سأقوم باستعراض الأساس المعرفي (الإيبيستيمولوجي) الذي انطلق منه من نادى بجواز بيع المسلم الخمر في البلاد غير الإسلامية، حيث ظن الكثيرون أن ذلك السماح متى ما اتكأ على دليل أو قول لأحد الأئمة أو تخريج لأحد المذاهب الإسلامية فسيعتبر دليلاً على ما يحتويه التراث الإسلامي (المراكمات الاجتهادية البشرية) من سعة وقدرة على التعايش مع الظروف المتغيرة ومن ثم توافره على مساحة تسامحية أكبر من تلك التي يتهمه خصومه فيها بضيق أفقه تجاه كافة مكونات التسامح والتعدد، حيث سيتبين لنا من استعراض الأساس المعرفي الذي انطلق منه من قال بجواز بيع المسلم الخمر في البلاد غير الإسلامية أنه لا يعبر إلا عن تشدد وضيق بالمخالف بل واعتبار غير المسلم لا قيمة له في أي شأن من شؤون الحياة.

وللتعرف على أصل هذه المسألة يجدر بنا العودة إلى جذرها الأصلي الذي انطلقت منه، وهو في الأساس اتجاه في المذهب الحنفي يجيز للمسلمين التعامل بالربا مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية، وهو اتجاه لم يكن القصد منه التسهيل على المسلم الذي يعيش في بلاد غير إسلامية كما فهم الكثيرون من فتوى الدكتور على جمعة، وإن كان هذا ربما ما قصده المفتي نفسه، وإنما هو اتجاه ينطلق من أساس معرفي عقدي مفاده تقسيم الأرض إلى دار إسلام ودار حرب، واعتبار سكان دار الحرب حربيين وأموالهم طبقاً لذلك الفهم غير معصومة نسبة لعدم عصمتهم دماءهم في الأساس وبالتالي - وفقاً للرأي الحنفي - فلا تنطبق التشريعات المالية الإسلامية على التعامل المالي مع أولئك الحربيين، ومن ثم يجوز التعامل معهم بالربا انطلاقاً من أن هذا المال الذي يجري فيه الربا يعتبر حلالاً للمسلمين يجوز لهم أخذه بكافة الطرق بما فيها الربا، باعتبار أن أخذه بالربا يعتبر أخذاً برضا من صاحب المال غير المسلم بينما يجوز أخذ ذلك المال حتى عن طريق القوة وبالتالي فمن باب أولى يجوز أخذه عن طريق التراضي كما في حال التعامل بالربا.

والمستند الذي يجب أخذه بالاعتبار - وفقاً للحنفية - عند التعامل بالربا مع غير المسلمين هو مكان التعامل لا التعامل نفسه، فإذا تم التعامل في دار الحرب فيجب إسقاط كافة التكييفات التشريعية المالية الإسلامية لأن المسلم يكون لحظتها أمام مال حلال يجوز له أخذه بأي طريقة كانت، وبالمثل فقد نُظِر إلى الفروع الأخرى بما فيها بيع الخمر ولحم الخنزير على أنها حلال أيضاً قياساً على التعامل بالربا على اعتبار أن ذلك سيؤدي إلى الحصول على المال الذي بين أيديهم، والذي هو في الأصل حلال للمسلمين، وهناك تفريعات واستدلالات كثيرة ذكرها الأحناف للتدليل على صواب ما يرونه ليس المجال مناسباً لاستعراضها، بقدر ما المهم أن نعرف من أين انطلقت فتوى جواز بيع الخمر من قبل المسلمين لغيرهم في البلاد غير الإسلامية، إنها تنطلق من التفريع العقدي لتلك الثنائية القديمة وهي دار الإسلام "وهي كافة بلاد المسلمين" ودار الحرب "وهي كافة البلاد غير الإسلامية" وهي نفس الثنائية التي تنطلق منها اليوم منظمة القاعدة في تكييف علاقاتها مع العالم بما فيها العالم الإسلامي، والخطورة في مثل ذلك التوجه أو الأساس المعرفي الذي بنى عليه الأحناف استدلالهم أنه يربي معتنقيه على الخبث وسوء الطوية والخيانة والكذب بل وسرقة المال والغش فيه على اعتبار أن ذلك جائز في التعامل مع غير المسلمين، وغني عن الذكر ما لمثل هذا الاعتقاد من آثار سلبية طويلة المدى على من يعيشون في البلاد غير الإسلامية اليوم إذاهم تماهوا مع مثل هذا الفكر، حيث سيجعلهم في النهاية ضحايا للشك بهم ومن ثم مراقبتهم بشكل ربما يختلف عن غيرهم على اعتبار أنهم غير أمناء في التعامل مع مخالفيهم في الدين، والغريب أن توجد مثل تلك التخريجات المذهبية المتشددة في الوقت الذي يقرأ فيه مخرجوها قول الله تعالى في القرآن (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)وقوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) وقوله تعلى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) وقوله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) فرغم أن قريشاً كانوا مشركين وفوق ذلك قاموا بصد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن المسجد الحرام وهي جناية عظيمة، إلا أن الله تعالى أمره بالعدل معهم، وهو عدل في كافة مظاهره بما فيها أو على رأسها العدل في الأمور المالية، يدعم ذلك قوله تعالى في الآية الأخرى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) وغني عن البيان أيضاً أن هذا الفكر الذي اتكأ على ذلك الأساس المعرفي المتفرع من نظرية الدارين أو الفسطاطين لن يكتفي أفراده في نظرتهم التكفيرية بغير المسلمين - أفراداً ودولاً - بل ستشمل تلك النظرة كافة من يخالفونهم تفسيراتهم للدين، وبالتالي فسيعتبرونهم من أولئك غير المعصومي الدم والمال الذين إذا لم تسمح لهم الظروف القائمة بقتلهم فلا أقل من التعامل معهم من باب أنه يجوز غشهم والكذب عليهم وإبطال كافة المحاذير الإسلامية في التعامل معهم، ألم يقل قائلهم (إنه يجوز الكذب لنصرة الدين) فالدين الذي يقصده صاحب هذا القول هو تفسيرات وتأويلات معينة للنصوص لا يوافقه عليها آخرون، ومن ثم فهؤلاء الآخرون غير مسلمين يجوز الكذب عليهم كما تجوز خيانتهم وغشهم والتعامل معهم بسوء لأنهم غير معصومي الدم ومن باب أولى أنهم غير معصومي المال، هذا هو الأساس المعرفي للقول بجواز بيع المسلم الخمر في البلاد غير الإسلامية، وهو - كما نرى - أساس يدشن لكافة مظاهر التطرف والعنف مع المخالف، وإذا كنا نريد استئصالاً لكافة تلك المظاهر فلنبدأ في نبش الأصول المعرفية التراكمية وتعريتها وصولاً إلى النصوص الأصلية التي تدشن لكافة مظاهر التسامح مع المخالفين بما فيها حفظ أنفسهم وأموالهم.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2006/03/12/article137522.html

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك